• لو أراح اللهُ قلبها ومنَّ عليها بالبال الرايق لرجحت كفةُ رزقها على رزق الخلايق ، لابدَّ من مغصة وجع في قلب " غديّة " . هذا ما تردد على لسان نسوةِ شارعنا ، وهنَّ يتلذذنَ سرًّا بوجع خالتي " غدية " التي ألهبتْ قلوب شباب الحيّ ورجاله بعينيها الواسعتين الحانيتين وضفيرتيها العريضتين الّلتين يتأرجحُ حريرُهما الأسودُ يمينًا ويسارًا ، وهي تتبخترُ في مشيتها كما يتبختر الخيل في " طلعة المحمل " ، فيُسرعُ كلُّ منهم إلى أبيه متوسِّلًا أن يزوجه هذه الخمرية الرجراجة ، ولو اضطرَّ لرهن البيت وبيع النحاس والفخَّار.
*** حين تأخذ " غدية " حمامَها اليومي تفكُّ ضفيرتيها .. تدعكُ جسدها ببطن " اللُّوفِ " الأحمر ، تغسلُ شعرها بصابون عطري حتى ينساب على ظهرها كأدهم الخيول ، تدعكُ بطن قدميها بالـ ( حُكَّانة ) الحمراء ، ترتدي قميصها الكتاني النيلي ، تجلس على الحصيرةِ بين يدي أمّها لتمشّط لها شعرها وتضفّره . كانت أمها في كلّ مرة تقوم وتقعد وهي تحاول أن تحبسَ هذا الحرير الأرعنَ في ضفيرتين ، و كلَّما استعصى عليها الشعرُ وراغ من أصابعها هددتْ الجنَّ بآية الكرسي إنْ لم يغض بصره عن الصبيةِ ويفلت شعرَها .
*** عيونُ نسوةِ الحيِّ عيونُ نارٍ على غديّة ، ففي هذا النهار المشهود عجزتْ عن فكِّ ضفيرتيها ، استغاثتْ بأّمِّها التي أيقنت أنّ واحدة من بناتِ الجّنِّ نهشتها الغيرةُ فعقّدت لها الضفيرتين .
تزاحمت الجاراتُ على الباب ، أرسلن في طلب الشيخ رمَّاح ، الماهر في التَّعزيم على الجنِّ وفكِّ السحر وإبطال " الرَّبط " ، أسرع مهرولًا في مَداسه الترابيّ الكالح وجلبابه المتواضعُ الذي لم يخفِ وسامته وجمالَ عينيه السوداوين اللامعتين . كان رغم شبابه الغضّ - كما قال عجائزُ الحيّ - إذا حدقت امرأةٌ في عينيه شُدِهتْ وانجذبت مترنّحةً ، مما أودع الله فيهما من معاني الرجولة و نفحاتٌ الفروسية ، فيقطّب رمَّاحُ ما بين حاجبيه مفتعلا انشغال البال والاستغراق في التعزيم ، يعمدُ إلى تطويح رأسه يمنة ويسرة وهو يرددُ وِرْدَهُ حتى تسحبَ المرأةُ عينيها ، ويرتد إليها أملُها خاسئا وهو حسير .
**** رمَّاحُ ، حين رأى غدية ، ظنّ أنَّ الجنَّ قد اختطفوه في واديهم لتصدِّيه لهم بالعهود السليمانية السبعة ، وأسلموه إلى جنية فاتنة لتذيقه عذاب العشق ثأرا لعشيرتها ، فترك عينيه لأوّل مرة في عين امرأةٍ ، تتحركان جيئة وذهابا في مقلتيها ، فنفذتْ إلى قلب" غدية " رسائلُ رجولته في اللحظة التي أدركتْ أنها مستّه مسّا لا يبرأ ، التهبت وجنتاها ، قطَّبتْ ما بين حاجبيها في دلال وهي تعبثُ في كلّ ضفيرة من ضفيرتيها في انفعالٍ ، وحين طلبَ منها ، مرتبكًا ، أن تدير ظهرها ليقرأ على الضفيرتين ، أدركَ في الحال أنّه لن يقوى على فكِّ عقدتهما ، أخذه دوارٌ ، فهو للمرة الأولى مُبدَّدُ القُوى ، عاجز ٌعن دخول أرضِ الاستغراق والغياب التي تفتح أبوابها بقراءة الأوراد ، شكا إلى أُمّها هياجَ الجن من تبختر ابنتها وتثنيها ، وفي الأيام التالية شكا إلى أُمّها ما فعلته " غديّة " في قلبه ممَّا يفوق كيدَ الجانّ ، توسّلَ إليها أن تزوجّها له ، خفقَ قلبُ " غدية " ، أشاحت أمُها عن توسّله ، قالت في جفاءٍ إنّ جمال ابنتها يؤلمُ القمرَ ولابد أنْ يُثمَّن بحمولةٍ من الذهب . صرخَ أبوه ساخرًا إنَّه يعجزُ عن مصاهرةٍ الأقمار.
كان صوت " رمّاح " يتهدجُ بالتوسّل إلى أبيه كل ليلة ، فالأقمار لا تنتظر في السماء كثيرا مادام في الأرض من يتربص بها ، لكنَّ القمرَ زُفَّ إلى أول سحابة ممتلئة ، وخُطبتْ غديّة إلى أوّلِ خاطبٍ ثريٍ .
**** بدا " رمَّاح " شاردا أول الأمر لا يرد التحية ، ثم مبتسما في ذهولٍ وشرود ، ثم متلفّتا حواليه متوجسا ، ثم مُهرولًا في الطرقات تسبقُه ضحكاتُه المجنونة . قالَ واحدٌ من ( العارفين ) إنَّ رمَّاح حين خرجَ يناجي غدية في وقتٍ متأخر من الليل ، وهو يضمُّ صورتَها التي يحتفظ بها في جيب " الصّديري ، تصدَّى له كلبٌ ضخم ، حدَّقَ في عينيه ، فتراجعَ " رمَّاحُ " إلى الوراء ، تقدَّمَ الكلبُ خطوةً ، تراجعَ " رمَّاحُ " خطوتين ، تقدَّم الكلبُ ، ازدادَ ضخامةً حتى اضطَّر " رمَّاح " إلى الاحتماء بالجدار ، فقال رمَّاحُ وهو يحمي وجهه بيديه : امش ...
داسَ الكلبُ على صورة " غدية " التي سقطتْ من يديه و قال له : امش إنت ...!
كان يحلو لبعض الأطفال أن يسأله عن قصته مع الكلب ، كان يصفق بكفّيه قائلا : قال لي إمش ..مشيت من مكاني .. وتركت له كل شئ .
يستغرق في نوبات ضحك مفزعة ، يهرول في الشارع ، والأطفال خلفه يصخبون...!
**** أقسم الحكيمُ المداوي أنَّ رمّاح سيشفى إذا ألقوا على عينيه ضفيرتي غدية ، سارعتْ في غفلةٍ من الجميع بقصِّهِما ، ألقتهما على كتفيه وهي تقسمُ أنّ شعرها لن يقع على كتف رجلٍ غيره ، نظرَ إلى عينيها وبكى . صارت غدية كلَّما طالت ضفيرتاها تَقُصُّهما ، تريحهما على كتف رمَّاح ، تنتظرُ في شوقٍ مجهدٍ أن ينتفضَ وعيه ويقرأ على الضفيرتين وِردَه ، لكنه كان يضع خده عليهما ، يشمّ عبيرهما ، يحدقُ في السماء مرة ، وفي الأرض مرة أخرى ، وكأنه يقيس المسافة بينه وبين القمر...!
####
من مجموعتي القصصية " جبال الكحل " ، من إصدارات اتحاد كُتّاب مصر 2020م
www.facebook.com
*** حين تأخذ " غدية " حمامَها اليومي تفكُّ ضفيرتيها .. تدعكُ جسدها ببطن " اللُّوفِ " الأحمر ، تغسلُ شعرها بصابون عطري حتى ينساب على ظهرها كأدهم الخيول ، تدعكُ بطن قدميها بالـ ( حُكَّانة ) الحمراء ، ترتدي قميصها الكتاني النيلي ، تجلس على الحصيرةِ بين يدي أمّها لتمشّط لها شعرها وتضفّره . كانت أمها في كلّ مرة تقوم وتقعد وهي تحاول أن تحبسَ هذا الحرير الأرعنَ في ضفيرتين ، و كلَّما استعصى عليها الشعرُ وراغ من أصابعها هددتْ الجنَّ بآية الكرسي إنْ لم يغض بصره عن الصبيةِ ويفلت شعرَها .
*** عيونُ نسوةِ الحيِّ عيونُ نارٍ على غديّة ، ففي هذا النهار المشهود عجزتْ عن فكِّ ضفيرتيها ، استغاثتْ بأّمِّها التي أيقنت أنّ واحدة من بناتِ الجّنِّ نهشتها الغيرةُ فعقّدت لها الضفيرتين .
تزاحمت الجاراتُ على الباب ، أرسلن في طلب الشيخ رمَّاح ، الماهر في التَّعزيم على الجنِّ وفكِّ السحر وإبطال " الرَّبط " ، أسرع مهرولًا في مَداسه الترابيّ الكالح وجلبابه المتواضعُ الذي لم يخفِ وسامته وجمالَ عينيه السوداوين اللامعتين . كان رغم شبابه الغضّ - كما قال عجائزُ الحيّ - إذا حدقت امرأةٌ في عينيه شُدِهتْ وانجذبت مترنّحةً ، مما أودع الله فيهما من معاني الرجولة و نفحاتٌ الفروسية ، فيقطّب رمَّاحُ ما بين حاجبيه مفتعلا انشغال البال والاستغراق في التعزيم ، يعمدُ إلى تطويح رأسه يمنة ويسرة وهو يرددُ وِرْدَهُ حتى تسحبَ المرأةُ عينيها ، ويرتد إليها أملُها خاسئا وهو حسير .
**** رمَّاحُ ، حين رأى غدية ، ظنّ أنَّ الجنَّ قد اختطفوه في واديهم لتصدِّيه لهم بالعهود السليمانية السبعة ، وأسلموه إلى جنية فاتنة لتذيقه عذاب العشق ثأرا لعشيرتها ، فترك عينيه لأوّل مرة في عين امرأةٍ ، تتحركان جيئة وذهابا في مقلتيها ، فنفذتْ إلى قلب" غدية " رسائلُ رجولته في اللحظة التي أدركتْ أنها مستّه مسّا لا يبرأ ، التهبت وجنتاها ، قطَّبتْ ما بين حاجبيها في دلال وهي تعبثُ في كلّ ضفيرة من ضفيرتيها في انفعالٍ ، وحين طلبَ منها ، مرتبكًا ، أن تدير ظهرها ليقرأ على الضفيرتين ، أدركَ في الحال أنّه لن يقوى على فكِّ عقدتهما ، أخذه دوارٌ ، فهو للمرة الأولى مُبدَّدُ القُوى ، عاجز ٌعن دخول أرضِ الاستغراق والغياب التي تفتح أبوابها بقراءة الأوراد ، شكا إلى أُمّها هياجَ الجن من تبختر ابنتها وتثنيها ، وفي الأيام التالية شكا إلى أُمّها ما فعلته " غديّة " في قلبه ممَّا يفوق كيدَ الجانّ ، توسّلَ إليها أن تزوجّها له ، خفقَ قلبُ " غدية " ، أشاحت أمُها عن توسّله ، قالت في جفاءٍ إنّ جمال ابنتها يؤلمُ القمرَ ولابد أنْ يُثمَّن بحمولةٍ من الذهب . صرخَ أبوه ساخرًا إنَّه يعجزُ عن مصاهرةٍ الأقمار.
كان صوت " رمّاح " يتهدجُ بالتوسّل إلى أبيه كل ليلة ، فالأقمار لا تنتظر في السماء كثيرا مادام في الأرض من يتربص بها ، لكنَّ القمرَ زُفَّ إلى أول سحابة ممتلئة ، وخُطبتْ غديّة إلى أوّلِ خاطبٍ ثريٍ .
**** بدا " رمَّاح " شاردا أول الأمر لا يرد التحية ، ثم مبتسما في ذهولٍ وشرود ، ثم متلفّتا حواليه متوجسا ، ثم مُهرولًا في الطرقات تسبقُه ضحكاتُه المجنونة . قالَ واحدٌ من ( العارفين ) إنَّ رمَّاح حين خرجَ يناجي غدية في وقتٍ متأخر من الليل ، وهو يضمُّ صورتَها التي يحتفظ بها في جيب " الصّديري ، تصدَّى له كلبٌ ضخم ، حدَّقَ في عينيه ، فتراجعَ " رمَّاحُ " إلى الوراء ، تقدَّمَ الكلبُ خطوةً ، تراجعَ " رمَّاحُ " خطوتين ، تقدَّم الكلبُ ، ازدادَ ضخامةً حتى اضطَّر " رمَّاح " إلى الاحتماء بالجدار ، فقال رمَّاحُ وهو يحمي وجهه بيديه : امش ...
داسَ الكلبُ على صورة " غدية " التي سقطتْ من يديه و قال له : امش إنت ...!
كان يحلو لبعض الأطفال أن يسأله عن قصته مع الكلب ، كان يصفق بكفّيه قائلا : قال لي إمش ..مشيت من مكاني .. وتركت له كل شئ .
يستغرق في نوبات ضحك مفزعة ، يهرول في الشارع ، والأطفال خلفه يصخبون...!
**** أقسم الحكيمُ المداوي أنَّ رمّاح سيشفى إذا ألقوا على عينيه ضفيرتي غدية ، سارعتْ في غفلةٍ من الجميع بقصِّهِما ، ألقتهما على كتفيه وهي تقسمُ أنّ شعرها لن يقع على كتف رجلٍ غيره ، نظرَ إلى عينيها وبكى . صارت غدية كلَّما طالت ضفيرتاها تَقُصُّهما ، تريحهما على كتف رمَّاح ، تنتظرُ في شوقٍ مجهدٍ أن ينتفضَ وعيه ويقرأ على الضفيرتين وِردَه ، لكنه كان يضع خده عليهما ، يشمّ عبيرهما ، يحدقُ في السماء مرة ، وفي الأرض مرة أخرى ، وكأنه يقيس المسافة بينه وبين القمر...!
####
من مجموعتي القصصية " جبال الكحل " ، من إصدارات اتحاد كُتّاب مصر 2020م
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.