د. كاميليا عبد الفتاح - غديّّة.. - قصة قصيرة

• لو أراح اللهُ قلبها ومنَّ عليها بالبال الرايق لرجحت كفةُ رزقها على رزق الخلايق ، لابدَّ من مغصة وجع في قلب " غديّة " . هذا ما تردد على لسان نسوةِ شارعنا ، وهنَّ يتلذذنَ سرًّا بوجع خالتي " غدية " التي ألهبتْ قلوب شباب الحيّ ورجاله بعينيها الواسعتين الحانيتين وضفيرتيها العريضتين الّلتين يتأرجحُ حريرُهما الأسودُ يمينًا ويسارًا ، وهي تتبخترُ في مشيتها كما يتبختر الخيل في " طلعة المحمل " ، فيُسرعُ كلُّ منهم إلى أبيه متوسِّلًا أن يزوجه هذه الخمرية الرجراجة ، ولو اضطرَّ لرهن البيت وبيع النحاس والفخَّار.

*** حين تأخذ " غدية " حمامَها اليومي تفكُّ ضفيرتيها .. تدعكُ جسدها ببطن " اللُّوفِ " الأحمر ، تغسلُ شعرها بصابون عطري حتى ينساب على ظهرها كأدهم الخيول ، تدعكُ بطن قدميها بالـ ( حُكَّانة ) الحمراء ، ترتدي قميصها الكتاني النيلي ، تجلس على الحصيرةِ بين يدي أمّها لتمشّط لها شعرها وتضفّره . كانت أمها في كلّ مرة تقوم وتقعد وهي تحاول أن تحبسَ هذا الحرير الأرعنَ في ضفيرتين ، و كلَّما استعصى عليها الشعرُ وراغ من أصابعها هددتْ الجنَّ بآية الكرسي إنْ لم يغض بصره عن الصبيةِ ويفلت شعرَها .

*** عيونُ نسوةِ الحيِّ عيونُ نارٍ على غديّة ، ففي هذا النهار المشهود عجزتْ عن فكِّ ضفيرتيها ، استغاثتْ بأّمِّها التي أيقنت أنّ واحدة من بناتِ الجّنِّ نهشتها الغيرةُ فعقّدت لها الضفيرتين .
تزاحمت الجاراتُ على الباب ، أرسلن في طلب الشيخ رمَّاح ، الماهر في التَّعزيم على الجنِّ وفكِّ السحر وإبطال " الرَّبط " ، أسرع مهرولًا في مَداسه الترابيّ الكالح وجلبابه المتواضعُ الذي لم يخفِ وسامته وجمالَ عينيه السوداوين اللامعتين . كان رغم شبابه الغضّ - كما قال عجائزُ الحيّ - إذا حدقت امرأةٌ في عينيه شُدِهتْ وانجذبت مترنّحةً ، مما أودع الله فيهما من معاني الرجولة و نفحاتٌ الفروسية ، فيقطّب رمَّاحُ ما بين حاجبيه مفتعلا انشغال البال والاستغراق في التعزيم ، يعمدُ إلى تطويح رأسه يمنة ويسرة وهو يرددُ وِرْدَهُ حتى تسحبَ المرأةُ عينيها ، ويرتد إليها أملُها خاسئا وهو حسير .

**** رمَّاحُ ، حين رأى غدية ، ظنّ أنَّ الجنَّ قد اختطفوه في واديهم لتصدِّيه لهم بالعهود السليمانية السبعة ، وأسلموه إلى جنية فاتنة لتذيقه عذاب العشق ثأرا لعشيرتها ، فترك عينيه لأوّل مرة في عين امرأةٍ ، تتحركان جيئة وذهابا في مقلتيها ، فنفذتْ إلى قلب" غدية " رسائلُ رجولته في اللحظة التي أدركتْ أنها مستّه مسّا لا يبرأ ، التهبت وجنتاها ، قطَّبتْ ما بين حاجبيها في دلال وهي تعبثُ في كلّ ضفيرة من ضفيرتيها في انفعالٍ ، وحين طلبَ منها ، مرتبكًا ، أن تدير ظهرها ليقرأ على الضفيرتين ، أدركَ في الحال أنّه لن يقوى على فكِّ عقدتهما ، أخذه دوارٌ ، فهو للمرة الأولى مُبدَّدُ القُوى ، عاجز ٌعن دخول أرضِ الاستغراق والغياب التي تفتح أبوابها بقراءة الأوراد ، شكا إلى أُمّها هياجَ الجن من تبختر ابنتها وتثنيها ، وفي الأيام التالية شكا إلى أُمّها ما فعلته " غديّة " في قلبه ممَّا يفوق كيدَ الجانّ ، توسّلَ إليها أن تزوجّها له ، خفقَ قلبُ " غدية " ، أشاحت أمُها عن توسّله ، قالت في جفاءٍ إنّ جمال ابنتها يؤلمُ القمرَ ولابد أنْ يُثمَّن بحمولةٍ من الذهب . صرخَ أبوه ساخرًا إنَّه يعجزُ عن مصاهرةٍ الأقمار.
كان صوت " رمّاح " يتهدجُ بالتوسّل إلى أبيه كل ليلة ، فالأقمار لا تنتظر في السماء كثيرا مادام في الأرض من يتربص بها ، لكنَّ القمرَ زُفَّ إلى أول سحابة ممتلئة ، وخُطبتْ غديّة إلى أوّلِ خاطبٍ ثريٍ .

**** بدا " رمَّاح " شاردا أول الأمر لا يرد التحية ، ثم مبتسما في ذهولٍ وشرود ، ثم متلفّتا حواليه متوجسا ، ثم مُهرولًا في الطرقات تسبقُه ضحكاتُه المجنونة . قالَ واحدٌ من ( العارفين ) إنَّ رمَّاح حين خرجَ يناجي غدية في وقتٍ متأخر من الليل ، وهو يضمُّ صورتَها التي يحتفظ بها في جيب " الصّديري ، تصدَّى له كلبٌ ضخم ، حدَّقَ في عينيه ، فتراجعَ " رمَّاحُ " إلى الوراء ، تقدَّمَ الكلبُ خطوةً ، تراجعَ " رمَّاحُ " خطوتين ، تقدَّم الكلبُ ، ازدادَ ضخامةً حتى اضطَّر " رمَّاح " إلى الاحتماء بالجدار ، فقال رمَّاحُ وهو يحمي وجهه بيديه : امش ...
داسَ الكلبُ على صورة " غدية " التي سقطتْ من يديه و قال له : امش إنت ...!
كان يحلو لبعض الأطفال أن يسأله عن قصته مع الكلب ، كان يصفق بكفّيه قائلا : قال لي إمش ..مشيت من مكاني .. وتركت له كل شئ .
يستغرق في نوبات ضحك مفزعة ، يهرول في الشارع ، والأطفال خلفه يصخبون...!

**** أقسم الحكيمُ المداوي أنَّ رمّاح سيشفى إذا ألقوا على عينيه ضفيرتي غدية ، سارعتْ في غفلةٍ من الجميع بقصِّهِما ، ألقتهما على كتفيه وهي تقسمُ أنّ شعرها لن يقع على كتف رجلٍ غيره ، نظرَ إلى عينيها وبكى . صارت غدية كلَّما طالت ضفيرتاها تَقُصُّهما ، تريحهما على كتف رمَّاح ، تنتظرُ في شوقٍ مجهدٍ أن ينتفضَ وعيه ويقرأ على الضفيرتين وِردَه ، لكنه كان يضع خده عليهما ، يشمّ عبيرهما ، يحدقُ في السماء مرة ، وفي الأرض مرة أخرى ، وكأنه يقيس المسافة بينه وبين القمر...!


####

من مجموعتي القصصية " جبال الكحل " ، من إصدارات اتحاد كُتّاب مصر 2020م




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى