لم أكن شيوعياً، ولم تكن تربطني بالأحزاب الشيوعية رابطة قوية، فغالباً لم أتفق مع هذه الأحزاب أيديولوجياً وسياسياً، وخصوصاً في مواقفها من حركات التحرّر وعلاقاتها التبعية بالاتحاد السوفييتي وملحقاته. منذ بداية تشكل وعيي السياسي، وأنا في عتبة العشرينات من عمري، كنت مرتاباً في تلك العلاقات التبعية، والانصهار في الرؤى السياسية لموسكو. في تجربتي في حركة المقاومة الفلسطينية، رأيت دائماً أن على حركات التحرّر الوطني في العالم، ومنها حركة التحرر الفلسطينية، أن تكون حذرةً من أن يصيبها في علاقاتها بالمعسكر الاشتراكي ما أصاب تلك الأحزاب الشيوعية التي فقدت هويتها الوطنية، وهرولت في كل مرحلةٍ سياسيةٍ، وراء ما تطلبه منها موسكو. ومع ذلك، ربطتني علاقات صداقة ومودة، وإعجاب أحياناً، ببعض الرفاق الشيوعيين، في كل بلدٍ عشت فيه أو زرته.
في لبنان وبعد التحاقي بثانوية المقاصد في مدينة صيدا، وكنت في الخامسة عشرة، كان محي الدين حشيشو، الأستاذ الطيب في تلك المدرسة، أول شيوعي أتعرف إليه، وقد أسرني بالود والطيبة والتعاطف مع التلاميذ الفلسطينيين الذين التحقوا بالمدرسة، لأن مدارس وكالة الغوث (أونروا) في تلك الفترة الزمنية، لم تقدّم خدمات تعليمية ثانوية للفلسطينيين، وكنا مجبرين على التسجيل في المدارس الخاصة، لأن المدارس الرسمية اللبنانية لم تكن تقبل التلاميذ الفلسطينيين. كان الأستاذ محي الدين حشيشو، ابن صيدا وأحد مناضليها، مثالاً في النضال للصغار أمثالنا. كنا نحسّ أحياناً أنه يتعامل معنا رفاقاً حزبيين، كاملي النمو والنضج العقلي. ومع ذلك، لم تبلغ درجة تأثرنا بأفكاره حدّ التفكير بالانضمام إلى حزبه الشيوعي. كانت المقاومة الفسطينية المسلحة، التي بدأت انطلاقتها في الأردن تسحرنا، وتشعرنا بالفخر والاعتزاز، نحن الفلسطينيين الذين نعيش في المخيم.
بعد سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وحلفائه من الكتائب اللبنانية، على مدينة صيدا إثر اجتياح 1982، خطف عملاء إسرائيل الأستاذ محي الدين حشيشو من مدينته الأثيرة، واختفى ولا يزال مختفياً. كان اختفاء أستاذنا ومثالنا الشيوعي من الفواجع الكثيرة، التي خبرناها في الدرب الصعب والطويل.
في ليل بيروت، الذي يمتزج فيه الجدل السياسي بالثقافي، بالعبث بالمتعة، بالأحلام المحبطة والطموحات المنكسرة، والذي تتشكل فيه غيتوات خاصة، مطارحها الحانات والمقاهي، كانت "حانة نايا" أبو إيلي الشيوعي الأبدي، والمقاتل السابق في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، أحد الغيتوات المفتوحة لكل الحاملين أحلامهم المنكسرة في ليل بيروت الشقي. كانوا يأتون من بلادٍ مهزومةٍ وأحزابٍ مهزومةٍ وأفكار مهزومة، وكان أبو إيلي الشيوعي الأبدي صامتاً يقدّم لهم الشراب والأكل، وحين يطمئن إلى عمق جرح في روح أحدهم، يبتسم تلك الابتسامة التي تبعث نوعاً من المسرّة والأمان إلى سيرورة الأمل، وهو بلا أمل.
لم أعرف "نايا" عندما كنت أسكن في جمهورية الفاكهاني. كانت لي مطارحي الأخرى في ليل بيروت. كان الغيتو، حيث تسكن روحي عند البارون سركيس الأرمني في حانة "شي أندري"، وعندما كانت تضيق السبيل أمام الحلم وهزائمه، كنت أذهب إلى حانة نايا. أنظر إلى صور غيفارا ولينين وماركس وأنغلز وكاسترو والشيخ إمام وكمال جنبلاط وستالين وزياد الرحباني وفيروز، والمجهولين والمعروفين من شهداء أفنوا أعمارهم في الهرولة وراء أحلامٍ مستحيلة، والتي تزدحم بهم الجدران الضيقة للحانة، مثل زقاق في مخيم، والسقف الواطئ كفجيعة متوقعة. أنظر إلى هذا كله، ولا أجد سلاماً ولا أمناً، فكل هذا الخليط الشاذ من الصور كان يعكس كل الغموض والتشظي الفكري وأوهام التعلق بوهم خارج الواقع، سوف يؤدي، في النهاية، إلى ما نعيشه اليوم. كان نايا عندما يخاطبني بما هو عزيز الى قلبه "يا رفيء"، أحس كم من الألم يحمله هذا الشيوعي الأبدي، حين يلفظ مفردة رفيق التي أتلفها غموض المعنى وتقلباته وكوارثه.
مات أبو إيلي قبل ثلاث سنوات، وظلت بندقيته "سيمينوف" أيقونة هالكة، وحائرة على الحائط.
في لبنان وبعد التحاقي بثانوية المقاصد في مدينة صيدا، وكنت في الخامسة عشرة، كان محي الدين حشيشو، الأستاذ الطيب في تلك المدرسة، أول شيوعي أتعرف إليه، وقد أسرني بالود والطيبة والتعاطف مع التلاميذ الفلسطينيين الذين التحقوا بالمدرسة، لأن مدارس وكالة الغوث (أونروا) في تلك الفترة الزمنية، لم تقدّم خدمات تعليمية ثانوية للفلسطينيين، وكنا مجبرين على التسجيل في المدارس الخاصة، لأن المدارس الرسمية اللبنانية لم تكن تقبل التلاميذ الفلسطينيين. كان الأستاذ محي الدين حشيشو، ابن صيدا وأحد مناضليها، مثالاً في النضال للصغار أمثالنا. كنا نحسّ أحياناً أنه يتعامل معنا رفاقاً حزبيين، كاملي النمو والنضج العقلي. ومع ذلك، لم تبلغ درجة تأثرنا بأفكاره حدّ التفكير بالانضمام إلى حزبه الشيوعي. كانت المقاومة الفسطينية المسلحة، التي بدأت انطلاقتها في الأردن تسحرنا، وتشعرنا بالفخر والاعتزاز، نحن الفلسطينيين الذين نعيش في المخيم.
بعد سيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي، وحلفائه من الكتائب اللبنانية، على مدينة صيدا إثر اجتياح 1982، خطف عملاء إسرائيل الأستاذ محي الدين حشيشو من مدينته الأثيرة، واختفى ولا يزال مختفياً. كان اختفاء أستاذنا ومثالنا الشيوعي من الفواجع الكثيرة، التي خبرناها في الدرب الصعب والطويل.
في ليل بيروت، الذي يمتزج فيه الجدل السياسي بالثقافي، بالعبث بالمتعة، بالأحلام المحبطة والطموحات المنكسرة، والذي تتشكل فيه غيتوات خاصة، مطارحها الحانات والمقاهي، كانت "حانة نايا" أبو إيلي الشيوعي الأبدي، والمقاتل السابق في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، أحد الغيتوات المفتوحة لكل الحاملين أحلامهم المنكسرة في ليل بيروت الشقي. كانوا يأتون من بلادٍ مهزومةٍ وأحزابٍ مهزومةٍ وأفكار مهزومة، وكان أبو إيلي الشيوعي الأبدي صامتاً يقدّم لهم الشراب والأكل، وحين يطمئن إلى عمق جرح في روح أحدهم، يبتسم تلك الابتسامة التي تبعث نوعاً من المسرّة والأمان إلى سيرورة الأمل، وهو بلا أمل.
لم أعرف "نايا" عندما كنت أسكن في جمهورية الفاكهاني. كانت لي مطارحي الأخرى في ليل بيروت. كان الغيتو، حيث تسكن روحي عند البارون سركيس الأرمني في حانة "شي أندري"، وعندما كانت تضيق السبيل أمام الحلم وهزائمه، كنت أذهب إلى حانة نايا. أنظر إلى صور غيفارا ولينين وماركس وأنغلز وكاسترو والشيخ إمام وكمال جنبلاط وستالين وزياد الرحباني وفيروز، والمجهولين والمعروفين من شهداء أفنوا أعمارهم في الهرولة وراء أحلامٍ مستحيلة، والتي تزدحم بهم الجدران الضيقة للحانة، مثل زقاق في مخيم، والسقف الواطئ كفجيعة متوقعة. أنظر إلى هذا كله، ولا أجد سلاماً ولا أمناً، فكل هذا الخليط الشاذ من الصور كان يعكس كل الغموض والتشظي الفكري وأوهام التعلق بوهم خارج الواقع، سوف يؤدي، في النهاية، إلى ما نعيشه اليوم. كان نايا عندما يخاطبني بما هو عزيز الى قلبه "يا رفيء"، أحس كم من الألم يحمله هذا الشيوعي الأبدي، حين يلفظ مفردة رفيق التي أتلفها غموض المعنى وتقلباته وكوارثه.
مات أبو إيلي قبل ثلاث سنوات، وظلت بندقيته "سيمينوف" أيقونة هالكة، وحائرة على الحائط.
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com