محمد الراوي - وردة راعية الغنم

(1) ولما ابتسمت لي نبتت في جرحى وردة

كنت أحاول أن أتجنب الألم ..
لكن الألم لم يحاول مرة واحدة أن يتجاهلني .
تمنيت في لحظات الشدة أن أحيا وأعيش متخليا عن جسدي..
ولكن كيف أعيش شفافا بين الناس وهم لا يرون إلا كل متجسد؟

في يوم من أيام الألم ، كنت أنتظر طلوع الشمس من وراء زجاج النافذة. في الحقيقة كنت أنتظر منذ وقت طويل، وأنا أزحف واقفا داخل حجرتي وفقرات ظهري تشدني إلى أسفل حتى الركوع، فأشعر بالحريق وهو يلتهم أعصابي فأعلق ساقي في الهواء فيما أنا أحاول أن أبحث عن أقرب جدار أستند إليه، كاتما صرخة الألم التي لا أود أن يسمعها أي إنسان قريبا منى .
السماء سوداء ونجومها مطفأة، فعيناي تعجزان عن رؤية الضوء في كل مرة تهاجمني فيها الآلام الأعصاب حينما تضغط عليها فقرات ظهري. لا الليل يريد أن يذهب ولا الشمس تريد أن تطلع .
هل الشمس تطلع عندما يستيقظ الناس ؟
أم أن الناس تستيقظ عندما تطلع الشمس ؟

في يوم من أيام الألم نمت، لكنى استيقظت قبل حلول الفجر ورأيت أمامي أفكاري مكتوبة على ظلام حجرتي. كانت أفكارا رائعة مكتوبة بلغة رهيفة وجميلة ، تسطع كأنها نور، وان كانت حزينة . وددت لو كان بقربي قلم وورقة حتى أسجل هذه اللحظة، في نفس الوقت كنت عاجزا عن الحركة بعيدا عن فراشي فآثرت الانتظار حتى الصباح محتفظا بهذه الأفكار بين جفوني .
في الصباح تذكرت آلامي التي استيقظت معي، أما أفكاري فقد أصبحت ذكرى نسيت معظمها وان كان أثرها ما يزال يملأ وجداني كما تملأ الدموع عيني . لم تكن دموع الألم ولكنها دموع الشعور بالعجز،فالألم النفسي هو الذي يدفعني أكثر إلى البكاء . ولم اكتشف خلال رحلتي في الحياة أن هناك كثيرا من المواقف والمشاهد تجعل عيني تدمع ، أحيانا ما أجهش بالبكاء، ولم أعرف حتى الآن أسباب ذلك . كنت أشعر بالخجل في المرات الأولى التي كان يباغتني فيها البكاء، لكنى تعودت فيما بعد أن أتحكم في شعوري بالخجل وأن أطلق لعيني البكاء ..هكذا .
قال الجراح: كنت ستفقد السيطرة على البول لو تأخرت أسبوعا واحدا عن إجراء العملية.
بعد ساعات..أصبح في جسدي جرح.
ـ الألم الجسدي لا يقتل حتى لو فقدت بعض أعضائك..قال الجراح.
ـ الألم النفسي يقتل لأنه يقضى على كل أعضائك..جسدك..قال الجراح.
أصبحت محصورا داخل جسدي وداخل حجرتي، ولم تستطع كتبي التي تحيطني من كل جانب أن تخرجني من شعوري المؤلم بهذا الحصار ، وهو في نفس الوقت شعور بالعجز . كانت كتبي تناديني من مكانها فوق الرفوف ومن فوق المكتب، لكن بلا جدوى فالحصار الشامل أذى كنت أعيش فيه أيامي امتص قواي الروحية والجسدية وكاد يقتل رغبتي في الحياة..فما بالك بالكتب والكتابة رغم أنى أتمنى ألا أموت وهناك ما أرغب في قراءته.


خرجت إلى الشارع بخطوات متعثرة. كنت أسير ببطء ثم أتوقف ناظرا حولي وأنا أتساءل مع نفسي هل سأعود إليك واثق الخطوة..أم ؟ عندما هممت بالصعود فوق الرصيف وجدته مرتفعا أو هكذا خيل إلىّ. لي مواقف مع الأرصفة..ففي أوج محنتي جلست مرارا على الأرصفة عندما كانت تخونني قدرتي على السير، ومن قبل تعثرت في رصيف فانكفأت على وجهي وسمعت من يقول ( اسم الله عليك) فبكيت ولم أعتدل إلا بعد فترة . لم أشعر من قبل أن الرصيف يشكل عقبة بالنسبة إلى تحركاتي في أي مكان..فما بالك بأرصفة هذه الأيام .
انتظرت طويلا أمام الرصيف، سرت أمامه جيئة وذهابا لعلني أجد ثغرة أصعد منها إليه لكن بلا جدوى، ولأول مرة في حياتي مددت يدي لأحد المارة أطلب منه أن يعينني على صعود الرصيف . شعرت في البداية بالخجل والعجز والرغبة في البكاء، لكن بعد صعودي إلى الرصيف فرحت وابتسمت..فها أنا فعلت شيئا بمعاونة إنسان آخر، إنسان لا أعرفه ، إنسان ما كان يلفت نظري وأنا أسابقه لأرتقى الرصيف والوصول إلى غرضي .


خرجت صباحا إلى الشمس، تدثرت بسترة ثقيلة وخرجت إلى الشمس في فناء البيت. لم يكن هناك أي أحد لذلك خرجت إلى الشمس وتحركت ذهابا وجيئة في الأمتار القليلة الممتدة أمامي محاولا أن أتغلب على صلابة ساقي وآلامها .
فيما أنا أحاول كتم إحساسي بالألم ، مرت من أمام مدخل البيت فتاة سمراء ذات عنق ملفوف طويل، كان ظهورها في حد ذاته حدثا كبيرا إذ لا أحد يعبر من هذا المكان في هذا الوقت المبكر . التفتت نحوى فاعتبرت أن هذه الالتفاتة نوع من التحية العفوية. وفيما أنا انتظر أن تواصل سيرها البطيء مبتعدة عن مكاني إذ بي أفاجأ بها تدخل فناء البيت وتتجه نحوى .
تجمدت في مكاني منتصبا دون حركة اللهم إلا عينان شرهتان تركزت فيهما حب الحياة رغم الانكسار. ولما تفرست الفتاة في ملامحي المعذبة ابتسمت ولوحت لي بالسلام، فكتمت آهة ألم كادت تخرج من فمي لأرد لها التحية وأنا أحاول الابتسام .
قالت : هل أنت مريض ؟
قلت : إنني في طريقي للشفاء..تفضلي ..من أنت؟
ـ لم أرك منذ زمن طويل، كنت أراك عند خروجك في مواعيد تكاد تكون محددة..
ـ كنت تريني! إن وجهك ليس غريبا عنى، لكن لم يسبق لي التعرف بك ..تفضلي .
ـ إنك لم تر وجهي .. هذا لا يهم ..الست الأستاذ محمد الراوى؟
ـ ومن أين عرفت اسمي؟
ـ إن الذي يتكلم أمامي هو الكاتب محمد الراوى ..لقد عرفت اسمك لما رأيتك ، أقصد صورتك المنشورة في الجريدة التي تكتب فيها .
ـ هل أنت تقرئين هذه الجريدة؟
ـ كل شهر ..ولما رأيتك عرفت اسمك ..
ـ هل أنت تسكنين قريبا من هنا ؟
ـ لا..إنما آتى إلى هنا صباحا في الوقت الذي تكون أنت فيه خارجا من البيت.
ـ لكنني لم أرك من قبل ..على الأقل كنت ستلفتين نظري بوجودك في الشارع .
ـ كنت الفت نظرك، وكنت أنظر إليك دون أن تشعر بي .
ـ كيف لا أشعر بنظراتك وليس في طريقي أحد إلا أنت ..غير معقول ..تفضلي .
قالت وهى تبتسم : يا أستاذ محمد ما الذي يلفت نظرك يوميا عند خروجك؟
ـ لا أحد ..لا شئ سوى البيوت والبحر.
ـ أليس هناك أي شئ آخر ؟
ـ أي شئ آخر ..لا شئ سوى قطيع من الغنم وراعية ترتدى جلبابا أسود وتغطى وجهها بلثام لا أرى منه سوى عينيها ..
قالت : أنا تلك الراعية .
قلت صائحا : معقول ..أنت راعية الغنم ..أين رداؤك الأسود وأين هذا اللثام الذي يغطى رأسك ووجهك..وأين قطيع الغنم ؟
ـ أنا اليوم في أجازة، وعندما أكون في أجازه لا أرتدي تلك الملابس كما ترى، ولا أصحب قطيع الماعز معي ..لقد أتيت هذا الصباح وحدي عسى أن ألقاك فقد ساورتني الشكوك بأنك في محنة أو مرض وجئت لأتحقق من ظنوني .
ـ وماذا وجدت؟
ـ لقد تحقق إحساسي فأنت فعلا مريض وهذا سبب كاف لاختفائك طوال الفترة الماضية رغم أنك لم تنقطع عن الكتابة في الجريدة .
ـ أنا آسف لأني لم أتعرف عليك من البداية ..
ـ كيف حالك الآن وما الذي كان يؤلمك ؟
ـ قبل أن أحكي لك أود أن أقول لك أن الذي يراك في تلك الملابس لن يتخيل أنك أنت التي تقفين أمامي بملابس أنيقة ووجه مريح وشعر أسود ناعم ..اسمحي لي يعنى ..
ـ وماذا أيضا ؟
ـ ثم إنك تقرئين..
ـ يا أستاذ محمد أنا معي ثانوية عامة وفضلت أن أرعى الغنم مع أسرتي، أنا لا أعمل في وظيفة هذا إذا كانت هناك وظيفة موجودة..هيا أحكي لي ما كنت تشكو منه..
ـ كنت أعاني من غضروف لعين في ظهري ، أجريت عملية وعانيت كثيرا من الألم الجسدي والشعور بالعجز، لكن هذا لم يعد مهما الآن فالألم الجسدي لا يقتل إلا إذا استولت مشاعر العجز على الروح ..الألم النفسي هو الذي يقضى على الروح ويخرجها من الجسد..
ـ أية آلام نفسية يا أستاذ محمد؟
ـ هل تريدين أن تعرفي كل شئ عنى من أول لقاء؟
ـ رغم أنى أتحدث معك للمرة الأولى إلا أنه ليس اللقاء الأول ..
ـ محنة قديمة مضى عليها الزمن وأخشى أن تعود هذه الأيام ..نحن الكتاب عندنا مرض يصل لحد أن يأكل المريض لحم أخيه نيئا ..أكاد أكف عن الكتابة ..
قالت تقاطعني : إنك تبكى يا أستاذ محمد..
ـ لم يعد البكاء يخجلني ..هل أنا أبكى ؟
اقتربت منى قائلة : هل تسمح لي يا أستاذ ..
وفيما أنا أنظر إليها متسائلا اقتربت منى وقبلتني في خدي قبلة رقيقة سريعة..
ـ أتركك الآن وسأراك مرة أخرى .
ناديت عليها وهى تعطيني ظهرها، وحينما التفتت نحوى صحت : لكن ما اسمك أنا لا أعرفه ؟
ـ أسمي وردة .
عدت إلى حجرتي واستلقيت في فراشي دون ألم ، ولما أفقت من نومي رأيت وردة تنبت في جرحى .


( 2) دخلت وردة مكتبتي..فتعطرت الكتب برائحة العشب

في صباح يوم من الأيام تناولت فطوري ثم دخلت إلى المكتبة ومعي فنجان من القهوة المضبوطة صنعتها على نار هادئة. فتحت باب الشرفة الأرضية التي تطل على الحديقة الخلفية. كان الجو جميلا ، أحسست بالانتعاش بعد أن شعرت بالهواء البارد يتسلل إلى حجرة المكتبة .
قلت في نفسي لا بد أن أنجز شيئا من أعمالي الكثيرة التي تراكمت على مكتبي خلال مرضى وإجراء عملية الغضروف . أمامي كتاب قرأت نصفه يجب أن أنتهي منه وأكتب عنه مقالا، وبعض الموضوعات الأخرى التي في حاجة إلى مراجعة .
وفيما أنا مستغرق في الكتابة ، تسللت إلى أذني أصوات أعرفها جيدا..إنها حوافر المعيز على إسفلت الطريق وقد أخذت في الاقتراب من حديقة بيتي ..إذن فوردة هنا. لم أرها منذ الزيارة الأولى التي مضى عليها أسبوعان تقريبا.
يبدو أن القافلة توقفت أمام باب الحديقة ، فلم أسمع إلا مأمآت المعيز في الخارج. قمت وفتحت الباب فرأيت وردة في رداء الرعاة وعينيها من خلف لثامها الأسود تبتسم لي، فأيقنت أن مهما كانت ملابسنا نحن البشر مختلفة فان للابتسامة المعنى نفسه. أشرت لها بذراعي بأن تدخل إلى الحديقة فهزت رأسها متسائلة، فقلت لها بصوت تسمعه: تعالى يا وردة أدخلي .
فتحت وردة باب الحديقة ودخلت ولكنها لم تدخل وحدها فقد تبعتها قافلة المعيز مندفعة نحو العشب الذي يكسو أرض الحديقة . أشارت بيدها ووجهت كلمة إلى القطيع لم أفهم معناها ثم اقتربت من باب البيت فدعوتها للدخول. ترددت برهة ثم وكأنها قررت فتبعتني إلى الصالة ومنها إلى حجرة المكتبة .
بدخول وردة إلى المكتبة تغير المشهد تماما واتخذ أبعادا غريبة ومدهشة لم أكن أتوقعها . وقفت وردة وسط الحجرة وهى تتطلع إلى رفوف الكتب التي وصلت إلى سقف السقف، وقفت بردائها الرعوي الأسود المزين بمربعات سوداء محاطة بخطوط بيضاء وتتناثر على الثوب ورود ضاربة إلى الحمرة ، فيما بدت عيناها الواسعتان مكحلتين من فوق طرف اللثام الذي يلتف حول رأسها .
بدخول وردة إلى المكتبة تغير كل شئ في عيني وامتص كيانها الطبيعي كل ما تحتفظ به الكتب من بريق المعرفة المحفوظة بداخلها وانتشرت رائحة العشب الطازج المندى المنبعث من ملابسها وجسدها فيعطر الجو برائحة جميلة نقية. اختلط علىّ الأمر، وفيما هي تدور ببطء شديد حول الجدران المحملة بالرفوف المثقلة بالكتب ، تساءلت عما إذا كانت وردة شخصية حقيقية أم هي من نسيج الخيال ، شخصية روائية تفرض نفسها لأكتب عنها. يبدو أنى أنا الذي أصبحت سجين خيالي فأحول كل ما أعيشه من واقع إلى خيال ، وكان للواقع هذه المرة ثقل يفرض نفسه حتى على أعظم الأفكار والتخيلات .
عندما انتهت وردة وهى صامتة من تفحص المكتبة واجهتني قائلة ..
ـ لم أر في حياتي مكتبة بهذا الحجم .
لاحظت شفتيها من خلف اللثام وهى تكلمني وعيناها مثبتتان في عيني، يبدو أنها أدركت ذلك فمدت يدها وأنزلت اللثام إلى صدرها فظهر وجه وردة الذي أعرفه ورأيته أول مرة في الشرفة .
قالت وردة ـ عندي بعض الكتب والمجلات ..أقصد كان عندي منها أعدادا غير قليلة..
قلت لها ـ تقولين كان فأين ذهبت الكتب والمجلات ؟
ـ التهمتها المعيز..أقوم في الصباح لأطعمها فأجدها منهمكة في أكل الكتب والمجلات ، حتى لو أخفيتها فإنها تشم رائحتها فتبحث عنها حتى تعثر عليها.
ـ كان يجب أن تحتفظي بالكتب في حجرتك، في أي مكان أمين.
ـ يا أستاذ إن المعيز تكاد تعيش معنا وانتقالها من الحوش إلى الغرفة التي أنام فيها يعتبر شيئا عاديا لا مشكلة فيه.
صمتت قليلا ثم واصلت: كيف حالك الآن؟ أراك في حال أحسن..
ـ الحمد لله لقد انتهت الأزمة وأمارس نشاطي بشكل طبيعي..لماذا لا تجلسين؟
ـ لأنك واقف ..
ـ لنجلس معا على هذين المقعدين..

تواجهنا، تذكرت لوحات محمود سعيد التي أعلق بعضها في مكتبتي خاصة لوحة “ذات الهفهاف” أو ” ذات الرداء الأزرق” ، لكنهن كن نساء بلديات ولسن بدويات أو رعاة غنم كوردة التي تجلس أمامي رغم أنه ليس من المعتاد أن نرى بدوية تجلس على مقعد . فاجأتني وهى تقول لي: أنت تتفحصني يا أستاذ محمد..
قلت مضطربا : إنني مأخوذ بوجودك في مكتبتي، في عالمي الخاص جدا يا وردة .
ـ لا تتضايق منى..
ـ بالعكس يا وردة أنا سعيد جدا,,لكنى كنت أقارن بين وردة التي زارتني أول مرة بثوب عادى ووردة التي أمامي بثوبها الذي يعطيها طابعها الخاص .
قلت لها بعد لحظة صمت قصيرة : لم يسعني الوقت لأتعرف جيدا على وردة الأولى فإذا بوردة الثانية تظهر لي .
ـ هل تحب أن تتعرف أكثر على وردة الأولى.. إذا رغبت في ذلك فسأحقق رغبتك الآن..
ـ الوردتان عندي سيان فلكل وردة رائحتها وهيئتها ولكن كيف ستحققين رغبتي الآن إذا أردت أن أرى وردة الأولى ؟
ـ لو سمحت أغمض عينيك ومن الأفضل أن تستدير إلى الناحية الأخرى للحظة وسأريك وردة الأولى حسب رغبتك .
ولما فعلت وأعطيتها ظهري سمعت حفيف ثوبها واحتكاك خفها في قدميها على السجادة وحبات الخرز في عقدها الملتف حول رقبتها الطويلة وأساورها العاجية في ذراعيها وهى تتلاطم ببعضها البعض، ثم صوت ضربات من يديها على أجزاء من جسمها. سمعت صوتها يقول لي : استدر ..لقد انتهيت .
ولما واجهتها وجدت أمامي وردة التي رأيتها في حديقة البيت بجلبابها الذي كانت ترتديه أول مرة فيما عدا شعرها الذي التصق برأسها وغير مهيأ للاستقبال من تأثير اللثام الذي كان يلتف حول رأسها ويغطى وجهها وينسدل على صدرها .
قالت لي وأنا أنظر إلى هيئتها الجديدة: الآن أصبحت حريصة عند خروجي أن أرتدي هذا الثوب من أجلك..أقصد لربما ألقاك صدفة .
رأيت حمرة الخجل تسرى في وجنتيها فقطعت عليها الإحساس بالحرج وقلت لها ـ هذا جميل..لكن ما أدراك بأني أريد دوما رؤية هذا الثوب..إن ثوب الرعي الذي تحت قدميك أحبه أيضا فهو يشعرني بأني مع وردة راعية الغنم كما هي في ذهني .
ارتسمت ملامح الحزن على وجهها فخشيت أن أكون غير موفق في كلامي معها
قالت ـ إنك تفضل ثوب الرعي ..سألبسه ثانية من أجلك .
قمت من مقعدي واقتربت منها قائلاـ لا تكوني حساسة إلى هذا الحد..إنك موجودة أمامي وهذا يكفيني سواء كنت بهذا الثوب الذي عليك أو هذا الثوب المخلوع ..أرجوك يا وردة .
فابتسمت وفوجئت بكفها يلمس كفى لمسة سريعة .
قالت ـ لا تعتب علىّ يا أستاذ.. محمد..فأنا إذا أردت شيئا أقول أريد وإذا أردت أن أفعل شيئا أفعله دون تردد.
وردة تحدثني عن نفسها :
إحنا ناس بسطاء وهذا لا يعنى أننا فقراء فليس كل بسيط فقير هل توافقني على هذا يا أستاذ..محمد؟ ممكن تقول إن حياتنا بسيطة نكتفي بالضروري الذي يناسب حياتنا في كثير من الظروف مثلا ليس عندنا حجرة لكل واحد في العيلة إنت عندك حجرة مخصصة للكتب وحجرة نوم أو اثنين وحجرة صالون وأنتريه إنني أعيش في بيت من حجرتين ممكن تقول حجرة للبنات وواحدة للصبيان والأم والأب يناموا في الحجرتين حسب الأحوال وهذا لا يتوفر إلا للناس البسطاء المستريحين لأن فيه ناس غيرنا يعيشون في حجرة واحدة في الحوش تعيش معنا أكثر من عشرة معزات وخروف غير الحمار وعشة الفراخ والبط كلهم في الحوش .
لا تزعل منى يا أستاذ ..محمد أنا محظوظة لأن معي الثانوية العامة معظم الأولاد في الكفر عندنا لا يكملون تعليمهم بعض الناس بيقولوا علينا لصوص وخائنين وبعضهم بيقولوا علينا ناس نوَر ونور يعنى حرامية لسنا رقاصين ولا مغنيين مثل بقية الغوازي والغجر إحنا بدو أصلنا عرب لكننا مصريين كان لازم يا أستاذ محمد تعرف كيف نعيش الكاتب الذي يكتب في كل شئ لازم يعرف كل الحياة يمكن إحنا لا فأنتم لا تعرفون كثيرا عن حياتنا ولا كيف نعيش تعرفون المظاهر فقط إحنا نعيش قريب منكم قل يا أستاذ..محمد كم مرة ذهبت إلى كفرنا لترى وتعرف ما لا تراه ولا تعرفه تعجبك وردة راعية الغنم لكنك لا تدرى كيف تعيش لا تزعل منى البدو لما يتكلموا لا يعرفون اللف ولا الدوران وأنا عارفة إن كلامي لن يزعلك .

أخذت أستمع إلى وردة منجذبا أكثر إلى كلامها ورنته المحببة في أذني التي تمتزج فيها اللهجة البدوية باللهجة البلدية والصعيدية. توقفت وردة عن الكلام وأخذت تتنصت وهى تقترب من باب الشرفة التي تطل على الحديقة الخلفية ..
قالت ـ ألا تسمع؟
ولفتت انتباهي وهى تشير إلى الخارج. رأيت المعيز في الحديقة الخلفية منكسي الرؤوس يلتهمون ما يجدونه في الأرض من حشائش وغيرها من الفضلات.
قالت ـ إن نوسة تناديني .
ـ نوسة..من هي نوسة التي تناديك يا وردة؟
ـ نوسة ألا تعرفها..إنها معزتي المحببة والتي لا تفترق عنى أبدا..إنها قلقة لغيابي وتناديني.ألا تسمعها ؟
كنت أسمع من حين لآخر صوت مأمأة المعيز في الخارج لكنى لم ألحظ شيئا غير عادى. اقتربت وردة من باب الشرفة ورفعت ذراعها فإذا بمعزة صغيرة تصعد الدرج وتقف على الجانب الآخر من الباب وأخذت تمأمىء بصوت رفيع حاد. التفتت وردة إلى قائلة : هل تسمح لي بإدخالها إلى المكتبة ؟
ـ هل تريدين إدخال هذه المعزة إلى هنا ؟
هزت رأسها بدلال مبتسمة .
ـ إذا كانت هذه رغبتك فإنني أحققها لك مثلما فعلت معي منذ قليل وأشرت إلى ثوبها الأسود الذي ما زال ملقيا على الأرض بجوار المقعد الذي كانت تجلس عليه.
أشارت وردة إلى المعزة نوسة وأفسحت لها لتدخلها إلى المكتبة فكفت نوسة عن المأمأة وهى ترفع رأسها الصغير وترمقني وتهز ذيلها القصير هزات سريعة ، وعندما عادت وردة للجلوس رقدت المعزة نوسة عند قدميها محملقة في ألوان السجادة المفروشة على الأرض .
رأت وردة ديوان لنزار قباني فوق المكتب فتناولته وقلبت في صفحاته وهى تقول
ـ إن قصيدة بلقيس لنزار قباني هي أول قصيدة أقرأها لنزار والتي نشرتها في الجريدة..أعرف نزار من أغاني نجاة الصغيرة ..كنت صغيرة في ذلك الوقت وكانت الأغاني العاطفية تثير أحاسيسي في داخلي..لا أعرف ما هي لكنى كنت أحلم بها كثيرا وكنت أحتفظ بهذه الأحلام لنفسي لكنى بعد ذلك بسنوات تعرفت على قصائد نزار بصوت كاظم الساهر وهو يغنيها فتلقيتها بأحاسيس مختلفة أكثر فهما ونضجا.
ـ وقصيدة بلقيس ..بلقيس الراوى ..هل أعجبتك ؟
ـ تأثرت جدا بقصيدة بلقيس رغم أن بالقصيدة كلاما عن العرب وهذا لا يصح في قصيدة عاطفية أقصد يا أستاذ رومانسية .
ثم أضافت : هل هي أختك ؟
ـ من ؟
ـ بلقيس الراوى ..
ـ كنت أتمنى..اسم الراوى منتشر في الجنوب العراقي وفى جنوب مصر ..والمفروض أن تكون قصيدة بلقيس رومانسية ، لكن ظروف مقتل بلقيس زوجة نزار جعلت من القصيدة شيئا آخر غير الرومانسية التي تتعلق بمشاعر الرجل نحو المرأة التي يحبها .. حقيقة أن نزار كتب كثيرا من الأشعار العاطفية والخاصة بالمرأة بالتحديد لكن الأحداث الكبرى في وطننا العربي وما يفعله الصهاينة بالفلسطينيين جعله يخاطب العرب بأشعار غاضبة مؤلمة، كان شاعرا غيورا على وطنه..أنت لم تقرأى قصائده ..أليس كذلك؟
قالت وردة ـ أنا قرأت قصيدة بلقيس كاملة في الجريدة أما قصائده عن المرأة فلا أعرف منها إلا التي تحولت إلى أغاني
ـ سأعطيك بعض دواوين نزار التي تكلم فيها عن المرأة والعرب أيضا، وخلال الشهور القادمة سوف انشر لنزار قصيدته الثانية التي كتبها عن بلقيس واسمها 25 وردة في شعر بلقيس .
قالت وهى تشير إلى نفسها ضاحكة : لماذا لا تكون قصيدته 26 وردة في شعر بلقيس ؟
أضافت وردة : هذا ما كنت أريده منك..ليس بالنسبة إلى نزار فقط بل للشعراء والأدباء الآخرين..أنا لم أشتر كتبا منذ فترة طويلة، فقط المجلات وبعض الصحف .
ـ بشرط أن تحرصي عليها بعيدا عن معيزك
ملأت وردة المكتبة بضحكتها فظهرت أسنانها بيضاء كالفل .
وردة تكشف لي سرا :
قالت لي وردة: منذ سنوات كنت تلميذة في الأولى ثانوي، وفى المدرسة قالوا لنا ذات يوم أن أديبا سوف يزور المدرسة ليحدثنا عن الأدب والمجتمع أو الواقع لست أذكر تماما . انضم عدد كبير منا في قاعة اللقاءات بالمدرسة وكان الأديب يجلس على منصة صغيرة ومعه ناظرة المدرسة ومدرس اللغة العربية، حدثنا الأديب عن الأدب وأنواعه والدور الذي يقوم به في المجتمع ثم تكلم عن أشهر الروايات التي كان أبطالها نماذج إنسانية لها مواقف تدعو إلى الحب والخير بين البشر وكيف تحولت بعض هذه الروايات إلى أفلام ناجحة في السينما .
واصلت وردة حديثها قائلة : قامت تلميذة ووجهت إلى الأديب سؤالا عن بطلات الأفلام الرومانسية أقصد العاطفية سألته التلميذة لماذا تكون بطلات الأفلام من الجميلات دائما، الفتاة غير الجميلة لا تظهر أبدا كبطلة، لماذا تتجنب السينما ظهور فتيات لا يتمتعن بالجمال في قصص الحب مثلا؟ أليس هن إناثا؟ أليس لهن نفس المشاعر والأحاسيس؟
قلت لوردة مقاطعا : وبماذا أجاب الأديب على سؤال هذه التلميذة؟
ـ قال الأديب أن السينما فن وصناعة واستثمار في نفس الوقت وأن السينما بقدر ما تهتم بالفن تهتم بالربح أو بإيراد شباك التذاكر، وقال أن الجمال نسبى ولم نكن نعرف ما هو النسبي في ذلك الوقت لكننا فهمنا معنى الكلمة عندما قال أن جمال المظهر ليس هو كل شئ لأن التآلف والعشرة والشخصية الإنسانية لها دور كبير في ظهور جوهر الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة ، وان الأعمال الأدبية تراعى وتهتم بهذا الجانب في الإنسان من ناحية القيم ، وفرق لنا الأديب بين الشكل والجوهر رغم أن معظم البنات كانوا لا يقرؤون إلا قصص الحب والمغامرات .. هل وجعت دماغك ؟
ـ لا أبدا ..وشئ جميل أن تتذكري كل هذه التفاصيل وكأنها حدثت في هذه الأيام ..
ـ ما هو رأيك يا أستاذ..محمد إذا سألتك هذه التلميذة هذا السؤال بعد هذه السنين بطريقة أخرى ..هل توافق؟
ـ أوافق يا وردة..يبدو أن هذه التلميذة ذكية جدا ونبيهة .قولي سؤالك..
ـ هل تكون الفتاة محبوبة من الرجل لأنها جميلة أم تكون جميلة لأن رجلا يحبها ؟ أرجو أن أعرف رأيك ..
ـ أنا مع الرأي الثاني، فالفتاة تكتسي بالجمال إذا كانت في حالة حب..مهما كانت
قالت وهى تبتسم: رأيك قريب جدا من رأى الأديب ورغم هذا فإن التلفزيون والسينما يفعلان العكس .
ـ دعي التلفزيون والسينما جانبا وضعي نفسك مكان أي فتاة في نفس الحالة ثم اسألي مشاعرك واكتشفي حقيقة أحاسيسك.. ستجدين أن كل شئ جميل من حولك..حتى أنت..أقصد الفتاة .
ـ أستاذ محمد ..دعني هذه المرة أقول لك محمد دون لقب..إني أكشف لك سرا..إن التلميذة التي سألت هذا السؤال كانت أنا ..
قلت وأنا أبتلع المفاجأة : إنك زكيه جدا ..وشجاعة .. كنت أسأل نفسي كيف تحتفظين بهذه التفاصيل حية في ذاكرتك ..
ـ المهم أنى حظيت بتقديرك لهذه الفتاة التي سألت الأديب ..
ـ ولم يتغير تقديري بعد أن عرفت أن هذه الفتاة هي أنت ..
ـ هل تسمح لي بكشف سر آخر ؟
ـ هل هناك سر آخر ؟ إنه يوم الأسرار .. هيا قولي ..
ـ والأديب كان هو أنت ..
وقفت مذهولا ولم أستطع الكلام لفترة طويلة كنت خلالها أحاول أن أسيطر على نفسى، وكانت هي قد نكست رأسها إلى قدميها التي ترقد بجوارها معزتها نوسة .
قلت لها ـ هل معنى هذا أنك كنت تعرفين من أنا قبل أن تريني لأول مرة والتي لم تكن المرة الأولى ؟
هزت رأسها المنكس بنعم دون أن تنظر إلىّ ..
ـ وهل معنى هذا أنك تتبعتني طوال هذه السنوات منذ كنت تلميذة في أولى ثانوي ؟
هزت رأسها المنكس بنعم دون أن تنظر إلىّ وسمعت كلمة نعم هامسة من شفتيها ..
ـ وهل معنى ذلك أنك ..ولم أكمل لأنها هزت رأسها بنعم وقالتها خافتة ..
قامت فجأة من مقعدها وأمسكت بإذن المعزة نوسة وطلبت منى أن أسمح لها بالرحيل . كان علىّ أن التزم الصمت وأن أنفذ رغبتها. تقدمت خطوة نحو باب المكتبة فأشرت لها ناحية ثوب الرعي الملقى على الأرض والذي كادت تنساه في مكانه علامة على وجودها.
طلبت منى أن أستدير فاستدرت وسمعت نفس الأصوات التي سمعتها عندما كانت تخلع ثوبها ، وعندما انتهت من ارتدائه قالت وهى تمسك المعزة نوسة من أذنها: هيا.رأيتها وهى تعيد لثامها فوق وجهها ناظرة في عيني نظرة عميقة . أفسحت لها الطريق وقدتها إلى باب البيت فخرجت مسرعة دون أن تلتفت تجاهي وقافلة المعيز تهرول في إثرها .

(3) الجمال هو أن تصفح عن كل شئ لأن الشمس تسطع

رأيت وردة مشنوقة على فرع شجرة وجسدها مدلى إلى أسفل والهواء يعبث بثوبها الرعوي وقد طار لثامها وشعرها في الجو ،ورأسها منكس مفتوحة العينين ، والمعزة نوسة أسفل الشجرة تتطلع إلى وردة وتبكى .
ـ من الذي شنقك يا وردة ؟
قالت ـ أنـا ..
ـ ولماذا شنقت نفسك يا وردة ؟
قالت ـ بعد أن عرفت بأني غير جديرة بك ..
ـ هل هذا كان شعورك يا وردة ؟
قالت ـ هو شعوري عندما انصرفت من عندك في المرة الأخيرة.
ـ لكنه لم يكن شعوري ..
قالت ـ إذن لماذا لم تقلها لي بعد أن حكيت لك حكاية الأديب والتلميذة..أنت لم تقلها .
ـ أقولها لك الآن يا وردة ..
قالت ـ قل ..ها أنا معلقة أمامك ..
ـ أحبك ..هيا تخلصي من الحبل واهبطي .
قالت ـ يا محمد.. أنا مشنوقة .. يعنى ميتة .
قمت من النوم مفزوعا . كانت الشمس لم تطلع بعد. أخذت أحملق في الظلمة الخفيفة التي تملأ حجرتي،وأنفاسي تتلاحق وقلبي يدق كأني كنت أجرى لمسافات طويلة.لم أستطع النوم وانتظرت قلقا حتى ظهرت شمس الصباح ساطعة فقمت وأعددت سيارتي عازما على البحث عن بيت وردة في الكفر الذي تقطن فيه . هذا المكان ليس بعيدا ، فهو يقع على أطراف الجانب الآخر ، لكن ذهابي إليه يعتبر عبورا من عالم إلى عالم آخر . إذن فإلى العالم الآخر الذي اجتازت السيارة شارعه الوحيد الممهد، لتدخل فى متاهة من الطرق المدكوكة ،أو التي دكتها أقدام البشر سواء كانت حافية أو بأحذية .
رغم أن المكان يبدو لي طبيعيا ، وهو موجود في أمكنة كثيرة في أي مكان في العالم ،إلا أنه يبدو غريبا.والغرابة تنبع من تشابه هذه الأمكنة على شكل معين وصورة لا تختلف هنا أو هناك. بيوت قصيرة متلاصقة تشترك في الأسطح،سواء كانت هذه البيوت من الطوب الأحمر أو الحجارة أو الطوب اللبن أو الصفيح والجريد..تواجد أعداد من الحمير والمواشي والمعيز والتي مهما ابتعدت فهي تعرف بيوتها وزرائبها ، نخيلات قليلة لا يعلم أحد من زرعها في هذا المكان ، عجلات مركونة إلى الجدران وسيارتان قديمتان لكنهما تعملان،كشك صغير من الخشب يبيع الحلويات للأطفال وعلب السجائر والمعسل وبواكى صابون الغسيل ، حبال ممتدة من جدار إلى جدار عليها ثياب متنوعة مغسولة منذ قليل ، أسلاك كهرباء تدخل البيوت من أي مكان أو معلقة في الأسطح ..أصوات أكثر من راديو ..عالية ، وبعض أجهزة التلفزيون يستدل عليها من الإريال المزروع فوق الأسطح وأصوات ناس تختلط ببعضها البعض فلا تصل إلى الأذن إلا طنطنة هي مزيج من لهجة أبناء الصعيد وأبناء البلد ولكنها مصطبغة بلهجة بدوية واضحة .
دخلت بسيارتي حتى نهاية الكفر ولم يتبق أمامي إلا بيتان أو ثلاثة فتوقفت قريبا منها وأنا أتأمل المكان من وراء زجاج السيارة حتى رأيت امرأة ترتدى وتتلفح بعباءة وطرحة سوداء كانت تتجه ناحيتي ولما اقتربت منى سمعتها تقول لي ..
ـ أهلا بالأستاذ محمد ..زارنا النبي .
نزلت من السيارة وسلمت عليها وأنا أسأل نفسي كيف عرفتني بهذه السرعة وهى لم ترني من قبل ؟ لا بد أن وردة تتكلم عنى كثيرا مع أمها . انفتح أحد الأبواب الخشبية في سور البيت الأخير وخرج منه ثلاثة أولاد وبنت ،فالتفتت الأم ناحيتهم وقالت ..
ـ هؤلاء أخوات وردة . فابتسمت لهم .
قالت الأم ـ وردة موجودة خلف البيت أترك السيارة هنا واذهب إليها ، سأجهز لك الشاي حالا .
عندما أصبحت خلف البيت فوجئت بشجرة تشبه تماما الشجرة التي ظهرت في الحلم ووردة مدلاة من عنقها في أحد فروعها . كنت أتطلع إلى أعلى الشجرة بفروعها المورقة الكثيفة لكنى عندما هبطت بنظري إلى جذعها رأيت وردة هناك . في البداية لم أعرفها ، كل ما رأيته فتاة تجلس على الأرض وتسند ظهرها إلى جذع الشجرة ، وكانت تترنم بكلمات أغنية لا أعرف ما هي،وسرعان ما اكتشفت فيها وردة.
أحست بوجود إنسان قريبا منها فنظرت تجاهي ولما عرفتني ابتعدت بظهرها عن جذع الشجرة وكادت تهم بالوقوف لولا إشارة منى بأن تبقى كما هي وتقدمت خطوات نحوها . كانت ترتدى سروالا طويلا ملونا يصل حتى قدميها وطرفاه مزينان بكرانيش من نفس القماش ،وترتدى من أعلى سترة من لون آخر شبه سوداء وقد بدا رأسها عاريا إلا من شريط أصفر اللون لا يحجب شعرها مربوط اسفل عنقها من الخلف . كانت إنسان آخر ،بل بدت لي شخصية أخرى غير وردة التي ترتدى الثوب العادي،وغير وردة التي ترتدى عباءة الرعاة. كتمت ملاحظتي في نفسي حتى لا أتسبب في إزعاجها أو توترها وحتى لا تقع في حيرة أيهن أفضل !
حاولت وردة للمرة الثانية أن تقف وهى تبتسم خجلة،فلم تكن تتوقع أن آتى إلى هنا أو أن أبحث عن بيتها في الكفر الذي تعيش فيه ..ولولا وجود البيت على أطراف أراض بور تلتصق بصحراء واسعة وغير آهلة بالسكان لقامت خجلة وجرت من أمامي .
لكن إلى أين تذهب ؟وها أنا أرى المعزة نوسة تظهر من خلف جدار البيت وقد رأتنا وأخوتها الأربعة مختلفي الأطوال والأحجام يرقبوننا من خلف الحائط وهو يبتسمون .
لم يكن هناك كلام بيننا فقد اكتفت بتوجيه نظراتها إلى عيني مباشرة ،تلكما العينان السوداوان الواسعتان ، ثم تعود لتخفضهما إلى حجرها،ثم ترفعهما بعد لحظات قصيرة مما جعلني أقرر أن أجلس بجوارها تحت الشجرة وأسند ظهري على جذعها مثلها
قالت ـ لا تجلس على الأرض ستتسخ ملابسك .
ـ ولماذا أنت لا ؟
قالت ـ لقد تعودت على ذلك ..
ـ كيف حالك ؟ كنت قلقا على غيابك
قالت وهى تنظر في عيني ـ صحيح ..صحيح يا محمد ؟
ـ صحيح.. بالأمس قمت مفزوعا من النوم ، لقد رأيتك معلقة على هذه الشجرة .
قالت ـ معلقة ..في أي شجرة ؟
ـ هذه الشجرة التي نجلس تحتها .. لقد رأيتها في الحلم كما هي الآن ..ورأيتك مشنوقة على فروعها .
قالت ـ لذلك جئت تبحث عنى ..هل هذا حقيقي ؟
ـ كنت أنتظر طلوع الشمس بفارغ الصبر خاصة إنك اختفيت أياما كثيرة .
قالت ـ والله يا محمد أنا مبسوطة لأنك تقول هذا الكلام ولأنك أتيت إلى هنا من أجلى قم معي لأريك أمي وأخوتي .
ـ لقد قابلتها جاءت وسلمت على قبل أن أنزل من سيارتي وهى التي عرفتني بمكانك هنا
قالت ـ إنها تعرفك لقد وصفتك لها ورأت صورتك في الصحيفة ثم إنها تعرف لون سيارتك .
ـ ماذا كنت تقولين لها ؟
قالت ـ أنت تريد أن تعرف كل شئ ..
ـ يهمني ذلك ..
وقفت وأخذت تنظف ملابسها من الخلف تزيل تراب الأرض العالق بها . والشمس في الصباح تتسلق سطح الأرض فتتعلق أشعتها الذهبية بأغصان الشجرة فنشعر بدفء محبب فوق وجهينا . أقبلت أمها تحمل في يدها صينية عليها كوبان من الشاي ، تتحرك وراءها قافلة الغنم متجهة إلينا .
قالت الأم ـ أريد أن تشرفنا بزيارة البيت
قاطعتها وردة قائلة ـ البيت من الداخل لا يليق بالأستاذ محمد
ـ لماذا تقولين هذا الكلام ؟ البيت هو البيت مهما كان يا وردة .
عرفت من نظرة الأم أنها تبتسم من وراء طرحتها .أعطتنا ظهرها وابتعدت عنا .
ـ ماذا تقول أمك عنى ؟
قالت وردة ـ إنها تقدرك جدا فقد حكيت عنك الكثير..اطمئن فهي فرحانة بزيارتك لنا .
ـ تقصدين زيارتي لك ..
قالت وهى تهز رأسها ـ يعنى !
سألتها ونحن نشرب الشاي: لماذا تغيبت في الأيام الماضية ، ألم يعد عندنا عشب لغذاء الغنم ؟!
قالت ـ سافر أبى إلى مرسى مطروح فبقيت أرعى الغنم بجوار البيت ..أحيانا أمي وأخوتي يحتاجونني .
ابتعدنا عن الشجرة فقالت : هل تريد أن تذهب إلى البيت أم إلى..وأشارت ناحية الأرض البراح التي تلتصق بالصحراء
قلت لها : نمشى في هذه الأرض الواسعة فقد زهقت من البيوت .

(4) صباح ساطع وقبلة في الشمس

أعطينا ظهورنا إلى البيت والشجرة والبيوت الأخرى واتجهنا إلى الخلاء وقافلة الغنم معنا . كانت الرمال الرخوة تجعل خطواتنا قصيرة ، وكنا أحيانا نجد أنفسنا نرتفع مع التلال العالية ثم نهبط إلى اسفل مع انحدارها حتى تكاد تخفى عنا كل شئ إلا السماء.
هنا توقفت وقلت لها : ما رأيك يا وردة نقعد هنا فلا نرى إلا الشمس والسماء فوقنا . قالت :نقعد ..فقرفصت على بقعة من الرمال المتماسكة وجلست بجوارها وتوقفت المعيز بجوارنا وهى تنظر حولها وتمأمىء فلا أعشاب في الأرض ولا خضرة في الأفق . فقط كانت المعزة نوسة هي التي اقتربت وأقعت بجوار وردة . خفتت الأصوات ،بل ابتعدت إلا من أصوات السيارات التي تعبر الطريق الرئيسي الذي لا يبعد كثيراعن مكان جلوسنا .
كانت الشمس ساطعة مفروشة على الرمال دون أن تؤذينا رغم أنى لاحظت بثورا ملتمعة من العرق فوق جبهتها وعلى عنقها وهذا دليل على توترها رغم أنها تبدو بتصرفاتها أمامي طبيعية جدا،بل اكثر من طبيعية تثير دهشتي :
ـ تبدين اليوم جميلة يا وردة أكثر من أي يوم آخر .
قالت ـ الشمس هي الجميلة اليوم ..يا محمد . وأدارت وجهها خجلة .
أقول في نفسي إن وردة ليست إنسانة عادية وأتذكر قولها لي بأنها إذا أرادت أن تفعل شيئا فإنها تفعله دون تردد ، وأحيانا اسأل نفسي السؤال القديم: ماذا يحدث يا محمد لقد اختلط الخيال بالواقع وضيعت حياتك فوق الخط الذي يفصل بينهما . أنت لا تعيش كما يعيش الناس ، وإذا ما أتيحت لك الفرصة لأن تعيش تسحب نفسك إلى الداخل وتقول أنا روائي ..أهلا وسهلا بالروائي ..هل تظل طول حياتك تنخع من خيالك ومن حياة الناس قصصا وروايات وأنت فاضي مخوخ ..ياما هنا وياما هناك .. وإذا ما أتاك الواقع حيا دافئا لا يرفضه إنسان تظن نفسك تحلم أو تتخيل ..يا أخىعش أو روح فىداهية ومت.
وجدت نفسي أقول لها وأنا أتكئ على جانبي بجوارها : تكونت صورة في ذهني لهذا المشهد الذي نحن فيه الآن أريد أن أكتبه في رواية اسمها قبلة في الشمس، يعنى المشهد به قبلة
قالت ـ لك أن تتخيلها
قلت ـ في الواقع أشياء لا ينفع فيها التخيل
قالت ـ حاول أن تكتبه من خيالك..أنت تستطيع ذلك
قلت : إنه مشهد بلا رواية يعنى صورة فقط وهى في حاجة إلى حكاية أو قصة .
قالت : اعمل لها حكاية ..أنا أساعدك وأحكى لك ..لكن قل لي ما هو هذا المشهد ؟
قالت بعد فترة تأمل :أنا خيالية يا محمد ..وممكن أساعدك ليس في الكتابة لكن في الحكايات ..
كان في كلامها عفوية وأحسست بأنها تتكلم بحماس دون أن تدرك طبيعة العقبات التي من الممكن أن تواجه روائي مثلى .
قلت : الخيال وحده لا يكفى .. الكتابة يا وردة بدون الواقع لا تسوى شيئا .
قالت : أنت تحيا كما أي إنسان .. لكنك تستطيع الكتابة..لقد قرأت لك..إنك تستطيع أن تكتب عن أي شئ .
قلت : لكنني يا وردة لا أستطيع في كل مرة أن أعيش الواقع الذي أكتب عنه ..إن الواقع أكبر من حياتي وما يحدث في الواقع قد لا يحدث لي كله .
قالت: احكي لي عن المشهد وسترى .
قلت: في المشهد فتى وفتاة يستلقيان في مكان ما يشبه هذا المكان لا ناس ولا حركة ولا سيارات ، فقط هما والشمس فوقهما ، يميل الفتى برأسه على الفتاة المستلقية بجواره ويقبلها في فمها .
قالت بصوت خافت متردد: هل هذا هو المشهد؟ ألم يكن بين الفتى والفتاة ارتباط و إحساس بالحب مثلا ؟
قلت: طبعا يوجد ، لكنه ارتباط عاطفي ، وقد سميت هذا المشهد ب [ قبلة في الشمس ]
قالت: وهل هذا المشهد الذي في ذهنك من الواقع؟
قلت: قد يكون من الواقع ولكنى لم أجرب أو أر هذا الواقع .
قالت: واقعك أنت مثلا ..
قلت: لا.. لم يحدث لي هذا في الواقع ..لكن من الممكن تخيله ..ومن الممكن أن يحدث .
قالت بعفوية : كيف .. يعنى ؟
وضعت يدي على كتفها القريب منى ودفعتها برفق على الرمال ، مدت ذراعها تحاول أن تمسك بيدي لكنها لم تكمل المحاولة، ارتخت واستراح رأسها فوق الرمال . لم تكن هادئة تماما كما كنت أعتقد ، فقد رأيت عرقا ينتفض في رقبتها الطويلة وثمة رعشة في فخذيها . عندما انحنيت فوقها شممت رائحة العشب البرية فيما كانت عيناها تومضان في عيني مترقبة فقد كانت الشمس في عينيها المفتوحتين . وقبل أن تمس شفتي فوق شفتيها أمالت رأسها فجأة فذهبت قبلتها للشمس *

(5) رغم كل ماكتبته عنك ياوردة..فمازال الذي بيننا سرُ!

بعد أن عرفت وردة انتابني إحساس عميق بأني لم أعرف جيدا طبيعة تفاصيل العالم الذي أعيش فيه..فأنا واحد من البشر الذين يعيشون على سطح الأرض ..ناسا وأسماء وأماكن وبيوت وشوارع وأشجار وعادات وتقاليد لا أعرف عنها شيئا.
بعد أن عرفت وردة شعرت بالخيبة وبأن كل شئ سيفوتني بلا رجعة أنى لم أعرف كل شئ كما يجب مهما كان صغيرا، بل لا أعرف شيئا في الأساس . شعرت أيضا بأني سأغادر هذه الحياة وكأني لا عشت ولا تفرجت ، وأن تجاربي وخبرتي وثقافتي لم تكن إلا في أضيق الحدود . هل أستطيع أن أعوض ما فاتني؟ أظن الإجابة:هيهات..هيهات ، فكل شئ راح وانقضى وكأني أغادر حياتي بخفي حنين كما يقولون .
كانت هذه الأفكار والأحاسيس تراودني بعد كل لقاء مع وردة وكان لا بد لي من مقاومة هذه الأحاسيس حتى لا أستسلم لها قبل الأوان الذي لا أعرف أين هو ولا متى يكون موعده . تلك الأحاسيس جعلتني دون شعور في بادئ الأمر أن أتمعن في كل شئ أصادفه وكأني لن أراه بعد ذلك أبدا ،وأن أتعرف وأتحدث مع كل إنسان أصادفه وكأني لن أراه بعد ذلك أبدا، وأن أجوب الأماكن والشوارع التي لم أزرها أو سرت فيها كثيرا متفحصا طبيعتها وتكوينها وشكل الحياة فيها، فأكتشف كم هي زاخرة بالحركة التي تعنى أن هنا حياة سواء تمثلت في الأشياء أو البشر أو الحيوان أو الطير ،أو الشجر الأخضر ، وجدت نفسي أستمع برهافة إلى الأصوات مهما كان مصدرها حتى لو كان رنين تليفون ، قبل أن يأتى الصمت الكبير .
لقاء مع وردة في شارع السوق:
ذات يوم كنت أسير وحيدا في شارع السوق المزدحم بالناس ، على جانبيه اصطفت الحوانيت والباعة على الأرصفة ،وكنت أتوقف أمام الفترينات الزجاجية لأتفرج على محتوياتها المعروضة في نفس الوقت الذي كنت أتفرج فيه على الناس بداية من وجوههم حتى أقدامهم وإن كانت عيناي تتوقفان أكثر على وجوه الفتيات والنساء بصفة عامة ،وأقول في نفسي فكل شئ جميل هنا ، لا يوجد شئ قبيح على الإطلاق ، فالقبح قد يكون جمالا مخفيا ، قد يكون كنزا مخبأ عن العيون التي لا تراه حتى لو كان الكنز يتواري وراء غلالة شفافة ..فالعيون لا ترى كل شئ .
خرجت من الشارع يلفني الدوار واتجهت كعادتي إلى كشك الصحف والمجلات والكتب في شارع آخر. تباطأت خطواتي بالقرب منه تجذب عيني المجلات الملونة ورصات الكتب المتنوعة . قلت لنفسي ها أنت تعود كعادتك دائما إلى الكتب.. لا فائدة منك ..لا تنس نصيبك من الدنيا التي تدور من حولك وأمام عينيك فلن تعوضك الكتب عنها مهما كانت قيمتها.
كان بعض المارة يتوقفون ليلقوا نظرة على المطروح أمامهم ، منهم من يشترى ومنهم من يسأل عن ثمن مجلة أو كتاب ، حتى جاءت ثلاث فتيات يرتدين عباءات سوداء متشابهة تزينها خطوط من المشغولات الذهبية تنتشر على الصدر وتنزل إلى أسفل لتغطى عرض العباءات ، وكن يضعن على رؤوسهن غلالات شفافة لا تخفى شعورهن المسرحة جيدا وحلقانهن الملونة المدلاة ، ويضعن قليلا من الروج على شفاههن . كن متماثلات متشابهات حتى في الطول، وكن يبتسمن ويتضاحكن أحيانا وفى يد كل واحدة محفظة صغيرة. توقفن أمام المجلات بالقرب منى .
ألقيت نظرة عليهن فيما كانت إحداهن تتصفح إحدى المجلات وتتحدث مع الفتاة القريبة منها . على الفور تذكرت وردة فمعظم فتيات البدو ترتدين عباءات عند خروجهن للتنزه أو شراء بعض احتياجاتهن ودائما يكون هذا في الليل . أخذت أتفحص قامتهن ووجوههن حتى استقر بصري على وجه إحداهن فلاحظت أنها تشبه وردة وتأكدت من ذلك عندما وجدت أن رقبتها طويلة مثل وردة. قلت لنفسي لعلها قريبتها أو إن سلالة البدو تتميز بملامح متقاربة. انتظرت قليلا بجوارهن في انتظار أن تواجهني هذه الفتاة القريبة الشبه من وردة، وعندما أصبح وجه هذه الفتاة في مواجهتي ، وكانت تتحدث مع البائع بخصوص المجلة ، رأيت فيها وجه وردة ولولا ابتسامتها لي لظللت متشككا في كونها وردة .
اقتربت منى دون أن تمد يدها ..
قالت ـ ألم تعرفني ؟
قلت ـ لم أرك من قبل بهذه الملابس .
قالت ـ ووجهي .. ؟
قلت ـ رأيت فيه وردة ولكنى تحفظت في لفت نظرك .
قالت ـ كنت أسير وراءك أنا وصديقاتي منذ كنت تتفرج على الفترينات .. هناك.
قلت ـ دائما تفاجئيني يا وردة ..
قالت ـ سامحني لن أتكلم معك أكثر من ذلك.. ما رأيك لو انتظرتني غدا صباحا أمام البيت.. سنمر عليك أنا و..
قلت وقلبي يرقص ـ ستجدينني في انتظارك أنت و ..
أومأت برأسها والتفتت إلى البائع واشترت منه المجلة وابتعدت مع صديقتيها وغابوا عن أنظاري وسط زحام الشارع .
مع وردة والمعيز والحمار على الشاطئ :
عدت إلى البيت قبل منتصف الليل ، وعندما دخلت المكتبة لأقرأ لم أستطع أن أستوعب ما أقرأ ، إذ كان وجه وردة الجديد يغطى صفحات الكتاب ولم يكن هذا حالي . معنى هذا أن أنتظر حتى طلوع الصباح لألتقي بوردة كما وعدتني . حاولت النوم دون جدوى، وكلما أغمضت عيني رأيت وردة تحدثني وتبتسم لي. شفتاها تتحركان ولا أسمع صوتها، إنما كانت نبرات الكلام تصل إلى أذني وكأنها تمتمات تهز وجداني وتثيرني فارتخى جسدي ولم أعد أشعر به حتى رأيت نورا من خلفها جَّسد قامتها وهيئتها ، ولما فتحت عيني رأيت ضياء الشمس يسطع من خلف زجاج النافذة فقمت من فراشي قائلا لنفسي ها هي لحظة اللقاء المرتقبة قد أتت .
ارتديت ملابسي وأنا أشرب الشاي مع البسكويت وأسرعت خارجا من البيت متوقفا بالقرب من باب الحديقة متطلعا إلى بداية الشارع في انتظار أن تظهر وردة مع قافلة المعيز كعادتها دائما . لم أنتظر طويلا ولم يخب ظني إذ رأيت قافلة المعيز تعبر طرف الشارع بعد ذلك ظهرت قامة وردة حيث اخفت المعيز ساقيها ،ولأول مرة رأيت الحمار يسير بخطى متهادية خلف القافلة متتبعا مسارها نحوى .
قالت وردة حينما اقتربت من مكان وقوفي ـ صباح الخير ..
قلت لها بابتسامة عريضة مرحبة ـ صباح الورد ..هل تأتين إلى الداخل ؟
قالت ـ ما رأيك لتأتى معنا إلى البحر..هذا يوم البحر فالمعيز والحمار في حاجة إلى الرمال المبللة بندى الصباح ..إنه حمام طبيعي نذهب إليه كل أسبوع ..
قلت لها ـ سأذهب معكم .. هيا إلى البحر .
سرت مع وردة وسط قافلة المعيز والحمار يهز أذنيه الطويلتين راضيا، متجهين جميعا إلى شاطئ البحر الرملي الذي يقع في آخر الشارع ،فالبحر قريب من بيتي أراه من نافذتي والشرفة العلوية . كانت رمال الشاطئ تلتمع بفعل أشعة شمس الصباح التي تعكسها الرمال المبللة بندى الفجر . اخترقنا طريقنا وهبطنا إلى الشاطئ . توقفت المعيز والحمار للحظات يتشممون رائحة الهواء المنعش فيما كانوا يتطلعون إلى أفق البحر . كنا نشعر بتيار الهواء وهو يرتطم بأجسامنا .
قرفصت فوق حجر مغروس في الرمال وجاءت وردة وفعلت مثلى على حجر مقابل لكنها أعطت ظهرها إلى البحر وأصبحت في مواجهتي .
قلت ـ لا تعطى ظهرك إلى البحر ..
قالت ـ أنـت بحْـري ..
أسدلت نقابها ليرتخي على صدرها فظهر وجهها نضرا ملتمعا. لم أستطع الرد بسرعة ..(أنت بحْرى) تعبير جميل لم يخطر على بالى . استراحت المعيز فوق الرمال وكانت تضغط بطونها في الرمال الرطبة الدافئة في آن، فيما كان الحمار يتمشى على طول الشاطئ وهو يتأمل حافته المطلة على ماء البحر .
قالت وردة وهى تشير نحو الحمارـ هل تعرف ماذا يفعل ؟ إنه يبحث عن مكان مناسب لحمامه الأسبوعي .
قالت ـ راقبه وسوف تعرف ..
قلت ـ وأنت كيف تأخذين حمامك على الشاطئ ؟!
ضحكت بصوت مرتفع ثم قامت واقفة..كانت قريبة منى وفيما كانت تستدير ناحية البحر هب الهواء فألصق عباءتها بجسدها الذي ارتسم أمام عيني لأول مرة ، فإذا به متناسقا جميلا .
قالت وهى تلملم عباءتها من حولها ـ سأريك كيف آخذ حمامي على شاطئ البحر .
وفيما كانت تخطو بعيدا عنى اعترضتها دفقه مفاجئة من الهواء فارتفع ذيل العباءة فإذا بها لا ترتدى سروالها الطويل كعادتها ففاجأني تناسق جسدها البديع للحظة ثم اختفى . فكت لثامها ونزعته فطار في الهواء ثم استقر على الرمال ، وبأصابع يديها الاثنتين أخذت تمشط شعرها وتحرره من أثر ضغط لثامها عليه، فهب شعرها بفعل أصابعها وهبات الهواء منتشرا بلا انتظام حول رأسها ووجهها ، وكنت أتطلع مأخوذا لهذا المشهد وأنا أرى وجها جديدا لوردة برأس وشعر متحرر .
قالت ـ هل رأيت كيف آخذ حمامي ؟
وانطلقت تجرى حافية على الشاطئ بعد أن تخلصت من مداسها وهى ترفع ذراعيها إلى أعلى فجاء الهواء وأمسك بطرف عباءتها ودفع به إلى أعلى فاشتبك طرف العباءة برأسها من الخلف فرأيت للحظة عمودين مخروطين وكأنهما بوابة لعالم مجهول ملئ بالأسرار وكانا يشبهان قطعتين من صخور الشاطئ التي ما زال موج البحر يغسلهما منذ آلاف السنين وبان سروالها الداخلي ولفت نظري أن لونه كان أخضر ناصع الخضرة يضم في إحكام ردفيها السمراوين وسألت نفسي لماذا الأخضر. أدركت لحظتها أن ملابس البشر مهما كانت في بساطتها أو تواضعها أو كثرتها لا تستطيع أن تخفى جمال الجسد الإنساني.
حكايتي مع حمار وردة :
أخذتني الحمية فقمت وجريت في إثرها يجتاحني شعور غريب بحاجتي إلى التخلص من ملابسي التي أراعى فيها التناسق الذي يليق مع مكانتي وتخلصي في نفس الوقت من كل تحفظاتي وتقاليدي التي نشأت عليها كانسان موضوع في خانة محددة في النسيج الاجتماعي لأنطلق إنسانا حرا في استطاعته أن يمرغ نفسه في الرمال أو التراب أو الماء وله القدرة على الطيران إذا أراد أن يبتعد عن الأرض. هكذا أثرت في تصرفات وردة وأنا أحاول اللحاق بها وشمس الصباح تلهو معنا على الشاطئ . توقفنا وكلانا يلهث وقد نشطت أطرافنا ولمعت عيوننا. تلاقت يدانا في ضمة حارة وسحبت وردة يدها برفق وأشارت ناحية الحمار ..
قالت ـ هذا ما يحب الحمار أن يفعله كلما جاء إلى هنا.
كان الحمار ينام على الرمال يحك ظهره فيها وقوائمه الأربعة مرفوعة إلى أعلى ومن عينيه يطل شعوره بالاتعاظ .
قلت ـ كم هو جميـل ..
قالت ـ ما هو الجميل ..إنه حمـار
قلت ـ إنني أحب الحمير ..انظري كيف يتصرف على طبيعته.. هل يعرف أننا نطلق عليه اسم ( الحمار) ولماذا نعتبره شتيمة أو إهانة . أنا قرأت كثيرا عن الحمير وفى مكتبتي كتاب قديم مؤلفه واحد أجنبي يحكى عن الحمار حكايات مدهشة لكنها واقعية وتدل على أنه حيوان ذكى وليس غبيا . إن الحمار يفهم وقابل للتعليم وهو الحيوان الوحيد من نوعه الذي يصبر على المكاره ولا تستفزه التفاهات ويقابل الاعتداء عليه بالاستسلام وتحمل الآلام .
قالت ـ إنك تقترب منى..أقصد من أحاسيسي نحو الحمار ..الحمير كلها
قلت ـ إنني أراقبها كلما رأيتها ..رأيت مرة حمارا يبكى ، كانت دموعه تسيل من عينيه ..إنه حيوان هادئ وصبور جدا ويحتمل المشاق أكثر منا .. ليتني ..
قالت ـ ماذا ستقول .. توقف ولا تكمل ..
قلت ـ هو كائن..وأنا كائن..وإذا كان الله قد وهبني عقلا فيجب أن أقدر هذا الحيوان حق تقدير ..أليس كذلك يا وردة ؟ لقد شعرت قبل أن أرى هذا المشهد بأني أرغب في أن أخلع ملابسي وأمتزج بهذا العالم من حولي وأن أمرغ نفسي في الرمال مثلما يفعل حمارك .. أنا ترددت وأحجمت ..وأنت انطلقت على الشاطئ وقد تخلصت من القيد الذي يلف رأسك وسلمت نفسك للفضاء والهواء وهو يفعل ما فعله لأنه يدرك أكثر منا أنها الطبيعة التي تتيح نفسها لكل الكائنات ونحن ندرك ذلك لكننا لا نفعـل .
قالت ـ ثقافة يعنى .. ثقافة على البحر ..
قلت ـ لا أقصد.. بل إني أناقض نفسي الآن ..أهو شعور مؤقت لا أدرى..لكنى لا أخفى عليك فمنذ عرفتك وهذه الأفكار والأحاسيس تهاجمني بشدة فلم أعد أستسلم لقراءاتي مثلما كنت قبل أن أعرفك ..يبدو أنى أحطم نفسي..
قالت ـ لا تقل هذا يا محمد ..إنني أحترمك قبل أن أحبك واحترامي لك كان بسبب ثقافتك ورؤيتك للإنسان والحياة ..لا أستطيع أن أقول أكثر من هذا لأنني إنسانه غير مثقفة مثلك ..
كان الحمار قد انتهى من حمامه الأسبوعي فهب واقفا على قوائمه الأربعة انتفض عدة مرات ليتخلص من الرمال العالقة به واقترب منا مطأطئا رأسه .
قالت ـ هل جربت ركوب الحمير ؟
قلت ـ لا.. لم أركب حمارا طول حياتي ..
قالت ـ ما رأيك في نزهة على البحر فوق ظهر الحمار..
قلت مندهشا ـ أنا أركب حمارا ! أليس في هذا تسخيرا أو إهانة له ؟
ضحكت وردة بصوت عال وهى تميل رأسها إلى الخلف ..
قالت وهى تتحسس رقبة الحمار ـ هيا تعالى واركب .
قلت ـ إنه دون سرج أو لجام أمسك به ..
قالت ـ لا تنزعج إنني أركبه دائما دون سرج أو لجام ..
قلت ـ لأنك متعودة على ذلك يا وردة ..أما أنا ..
قالت ـ حاول..واسمع ما أقوله لك ..أولا إن حماري هذا يحبك ، فهو يعرف شعوري نحوك..ثانيا إذا أردت مثلا أن تجعله ينحرف بك إلى اليمين فاضرب بيدك على رقبته برفق من ناحية الشمال ..وإذا أردت الناحية الشمال فافعل العكس ، وإذا أردت أن يسير بسرعة فاضرب بساقيك برفق على بطنه من الجانبين .
قلت ـ عظيم ..وكأنك تدربينني على قيادة سيارة ..
قالت ـ ما أقوله لك هو طريقة قيادة حمار ولا تقل أهمية عن قيادة سيارة .. هيا قف فوق هذا الحجر وأصعد إلى ظهره ..سوف أمسكه لك .
صعدت فوق الحجر واقتربت منى وردة ومعها الحمار حتى كاد يلتصق بي وأشارت لي برفع ساقي لركوبه ونصحتني بأن أجلس على الثلث الأخير من ظهر الحمار والميل قليلا حتى أتمكن من رقبته. فعلت مثلما قالت ونجحت بعد محاولتين لركوب الحمار لكنى فضلت أن أستقر في منتصف ظهره لأتمكن من رقبته لزوم القيادة .
ضربت وردة بيدها على فخذ الحمار فتحرك وأنا فوقه وأخذ يسير بتمهل على طول الشاطئ ، وكنت أسمع من خلفي ضحكات وردة، ولما أحسست بأني ابتعدت عنها أردت أن أعود إليها فضربت بكفي على الجانب الأيسر من رقبته فتحول إلى اليمين كما قالت لي وهذا شئ مدهش إنه يفهم بالإشارة ، ثم ضربة أخرى من اليسار ليصبح رأسه تجاه وردة التي بدت على مسافة ليست بالقريبة، فرفعت يدا واحدة ألوح بها منتصرا، فأخذت تصفق لي مشجعة وتقفز في الهواء . وفى غمرة انفعالي أحسست بأني على وشك السقوط فضغطت بساقي على بطن الحمار الذي فهم إشارتي خطأ فإذا به يسرع بي تجاه وردة ، ولما أردت أن أجعله يهدئ من سرعته تذكرت أن وردة لم تذكر لي ماذا أفعل في هذه الحالة ، فانحنيت على رقبة الحمار واحتضنتها لكن بلا فائدة فقد أخذ جسدي ينزلق رويدا رويدا إلى جانب حتى وجدت نفسي مطروحا على الرمال والحمار يكمل مشواره إلى حيث تقف وردة ويدها تضغط على بطنها غارقة في الضحك.
بقيت مستلقيا على الرمال وأنا أبادلها الضحك واستلقت على الرمال قريبا منى قلت لها : انك لم تذكري لي كيف أهدئ من سرعة الحمار أنا أعرف كيف أفعل ذلك بالسيارة ، لكن الحمار لا ..
قالت ـ ولماذا جعلته يسرع بك؟
قلت ـ خطأ منى فقد ضغطت على جانبيه دون أن أدرى ..
قالت ـ لكن ما رأيك في ركوب الحمير ؟
قلت ـ رائع وأحسن من الشيفورليه ..وسيكون أروع إذا أحسنت قيادتها .. أرجوك يا وردة أن تواصلي تدريبي في المرات القادمة ..
قالت ـ ماشى الكلام يا محمد ..
قلت لها وقد استسلمنا للرمال من تحتنا والشمس الجميلة من فوقنا : إنك يا وردة لم تذكري لي شيئا عن صديقاتك ..
قالت ـ أي صديقات تقصد؟
قلت ـ الفتاتان اللتان رأيتهما معك مساء أمس .
قالت ـ رأيتهما مساء أمس ..أين رأيتنا ؟ ومتى ؟
قلت وقد اعتدلت بجذعي ناحيتها ـ أمام كشك الصحافة ..إنك لم تعرفيني بهما ..
قالت ـ هل تحلم أم تتخيل رواية جديدة يا محمد ؟
قلت ـ لقد كلمتني وقلت لي إنك تسيرين ورائي منذ كنت في شارع السوق واتفقنا على موعد في هذا الصباح .. وهذا قد حدث .
قالت وهى تبتسم ـ يبدو أن سقوطك من فوق الحمار أثر فيك.. أنا لم آخذ منك أي موعد للقاء في الصباح..كما إني لم أخرج من البيت مساء أمس ..إن لقاءنا صباح اليوم كان صدفة كالعادة ، لقد جاء صدفة .. صدقني يا محمد ..وكانت كما ترى صدفة جميلة .
ركزت عينيها في عيني ولم أعرف ماذا أقول لها وما زال حديثها يرن في أذني..فمن الصادق أنا أم هي ؟ كان شعرها مبعثرا فوق رأسها ، أشم رائحتها مع رائحة البحر ، وكانت المعيز والحمار تحيط بنا وهى تهز ذيولها مبتهجة بشمس البحر ومياهه المتلألئة
التفت إليها وقلت صاغرا : فعلا يا وردة ..إنها من أجمل الصدف في حياتي *


حمار وردة

( 6 ) للحـب وقت .. وللقيـام وقت

قبل حلول الفجر فتحت عيني فجأة فوجدت نفسي نائما فوق كومة من القش مفروشة على الأرض .كانت وردة تنام على جنبها بجواري وتعطيني ظهرها وطرف قميصها الداخلي مرفوع حتى منتصف الفخذين فيما بدت ذراعاها العاريتان السمراوان مضمومتين إلى صدرها وقد انفلت نهداها من مكمنهما. الشيء العجيب أنى صحوت من النوم وأنا أفكر، هكذا دون مقدمات ،ويبدو أنى كنت أفكر طوال الليل وعندما استيقظت تشككت فيما أراه مما دفعني إلى وضع يدي على الكتف العاري لوردة النائمة بجواري فتأكدت أنها حقيقية وموجودة وليست حلما ،فأنا وهى نائمان فعلا في هذا المكان فوق قش لين ورائحة العشب والقش تملأ المكان .
منعت عن ذهني استعادة كافة وقائع الليل ولم أسأل نفسي كيف جئت معها إلى هذا المكان ..فقد كانت مغامرة كبرى لم أقدم عليها بعاطفتي فقط،ولكنى فعلت ذلك أنا ووردة كمغامرة حياة كبرى ،رغم أنها بالنسبة للإنسان العادي ليست مغامرة كبرى . قلت في نفسي مارس أفكارك وحياتك بعيدا عن جدران حجرتك الأربعة وبعيدا عن رفوف الكتب وإلا فلن تكتشف مباهج الحياة وعذابها في نفس الوقت .
هذه الأفكار طبعا لم أتحدث عنها مع وردة،إنما كانت تدور في رأسي وتمتزج بأفكاري التي تغيرت كثيرا منذ عرفت وردة. فقد فتحت لي أبوابا على الحياة لم أكن أعرفها ،وكانت هي تصارحني بأني غيرت من نظرتها إلى نفسها وتقول لي دائما بأنها اكتشفت نفسها على يدي .
تحركت وردة ونامت على ظهرها وجذبت قميصها حتى أسفل قدميها فأغمضت عيني متظاهرا بالنوم ،وإذا بها ترفع رأسها وتنظر نحوى ولما وجدتني نائما ارتفعت بظهرها وأخذت تنفض القش الذي تعلق بقميصها وفى خفة سحبت عباءتها الملقاة بجوارها على القش وارتدتها وهى قاعدة. في الليل كنت أشم رائحة القش الذي تحتي وأشم رائحة العشب المنبعث من وردة،وكنت أشم رائحة المعيز التي تتسلل من الحاجز الخشبي الذي يفصلنا عنها ..يبدو أننا استولينا على المكان الذي تنام فيه المعيز التي أسمع حركتها الآن من خلف الحاجز وقد استيقظت وهى تمأمىء مأمآت قصيرة خافتة .
تسلل ضوء الفجر وبدأ نور الصباح يكشف محتويات المكان الذي لم يكن إلا جدران من ألواح الخشب وأرض مفروشة بالقش . وقفت وردة وهى تجذب أطراف العباءة من فوق ردفيها لتنزلق على جسدها حتى القدمين وأخذت تنظر من بين الثغرات المنتشرة بين الألواح الخشبية ،أحضرت كيسا من القماش وأخرجت منه مشطا وقطعة مرآة مكسورة ثم جلست بجواري وهى تتطلع إلى وجهها في المرآة وتمسح بشرتها السمراء بيدها ثم أخذت تسرح شعرها لينسدل طويلا على كتفيها وظهرها . وضعت وردة المرآة والمشط في الكيس بعيدا عن المكان الذي ننام فيه ثم رقدت ثانية على القش بجواري وحركت كفها فوق وجهي ففتحت عيني ..
قالت ووجهها يكاد يلامس وجهي ـ صباح الخير ..الشمس طلعت .
قلت مبتسما ـ أحلى صباح يا وردة.
قالت ـ اعمل حسابك ستعود سائرا على قدميك إلى مكان سيارتك .اتكأت على ذراعى وصعدت فوقها وأنا أضمها إلى صدري
قلت ـ ليتني أبقى ..أين أنا ؟ هل تسمعين دقات قلبي .. قبلت كفيها .
ـ انزل من فوقى
ـ لا ..
ـ هل تعرف ماذا يحدث لي الآن ؟
أمسكتنى من كتفي محاولة أن ترميني من فوقها وأخذت ترفس بقدميها
ـ ضع يدك على قلبي..فوضعت كفى
ـ لا ليس هنا ..وأشارت إلى نهدها قائلة إن القلب تحته
دسست كفى أسفل النهد فشعرت بدقات قلبها العنيفة المتلاحقة
ـ ستطلع روحي بين يديك..
ـ وان نزلت فستطلع روحي أنا ..
أطلقت ضحكة مكتومة وقربت فمها من أذني وأخذت تغنى لي بلهجة بدوية :
يا قلب وايش متعبـك
يا قلب وايش شـقيك
يا قلب اللي سـقى عود القنا
يسـقيك ..
قلت ـ الله ..وماذا تخبئين عنى أيضا يا وردة ؟
قالت ـ سأرقص لك رقصة بدوية من غير مزيكة .
الرقص على القش :

قامت وردة حافية القدمين فوق القش ،هزت رأسها بقوة فتراجع شعرها الطويل إلى ظهرها ،مدت ذراعيها إلى الأمام ودبت بقدميها على القش فإذا بجسدها يتموج من أعلى رأسها حتى أطراف قدميها، تمايلت يمينا ويسارا ثم انحنت أمامي حتى وصل رأسها إلى مستوى بطنها فانكفأ شعرها الطويل أمامها متدليا على الأرض مخفيا وجهها،سمعت صوتها وهى تتمتم بشفتيها إيقاعات تساعدها على أداء حركاتها .
أدارت رأسها يمينا ويسارا ثم في شكل دائري في حركات سريعة من عنقها فانتشر شعرها من حولها وتصاعد إلى أعلى مشكلا مروحة صنعت دائرة عريضة فوق رأسها وكادت أطراف شعرها تمس وجهي وهو يشق الهواء من حولنا فيصدر أزيزا وصفيرا . اعتدلت وردة ببطء وفردت قامتها فباح ثوبها عن ليونة عظامها وتناسق أجزائها . أعطتني ظهرها وهى تحافظ على أدائها وما تزال تتمتم بشفتيها محركة رأسها ومن ورائه شعرها الطويل الذي بدى كمروحة تدور بسرعة في فراغ المكان فلا أرى سوى اسطوانة سوداء ملتمعة تحلق في فراغ المكان .واجهتني وهى تبطئ من سرعتها فيهبط شعرها تدريجيا حتى يعود إلى مكانها خلف ظهرها .
قعدت وردة بجواري متلاحقة الأنفاس وعروق رقبتها تنبض بشدة وكنت أحس بحرارة وجهها الذي يسرى فيه الدم فامتزجت سمرة بشرتها بلون الدم الأحمر .
قالت ـ هل تعرف ..عندما نظرت من ثقوب الجدار واجهتني عيون المعيز وهى تحاول أن تعرف لماذا نحن هنا وماذا نفعل ..خصوصا المعز نوسة .
تمازحنا بعض الوقت ثم قمت متأهبا للانصراف. ذكرتني وردة بالطريق الذي يجب أن أسير فيه وحيدا .ودعنا بعضنا البعض خير وداع على أمل اللقاء لكنى قبل أن أخرج قلت لها ـ هل تقبلين أن تكوني معي صباح غد من دون معيز؟ عندي رغبة شديدة في الذهاب إلى سيناء وزيارة الموقع الحصين، أقصد الموقع الذي كان حصينا في خط بارليف. سأذهب بمفردي على كل حال إذا لم تأت معي .
قالت ـ لقد حكيت لي عن هذا الموقع ..أنت تذهب إليه كثيرا..فلما الآن تفعل ؟
قلت ـ تعودت أن أذهب إلى هذا الموقع في سيناء منذ انتهاء حرب أكتوبر..يجرفني الحنين إليه ويناديني دائما بالزيارة .
قالت ـ ما الذي جعلك تتذكره الآن؟
قلت ـ هكذا أنا ..فللحياة وقت وللحب وقت ولاستعادة ذكرى الذين ضحوا من أجل أن نعيش هذه اللحظات وقت ..
قالت وهى تهز رأسها ـ يا سلام ..كلام جميل موزون.
قلت مكررا ـ هل تأتين معي أم أنت مشغولة ؟
قالت ـ لم أذهب إلى هناك أبدا ،شاهدت سيناء مرة واحدة، عبرت إليها بالمعدية أنا وأسرتي لكنى كنت طفلة صغيرة في ذلك الوقت .
قلت ـ إذن فأنت لم تر النفق أبدا ..
قالت ـ لا ..لم أره سمعت عنه فقط كما سمعت وقرأت في المدرسة عن عيون موسى .
قلت ـ إذا أتيت معي سترين عيون موسى بعد زيارة الموقع الحصين إياه .
قالت ـ لماذا تسمونه الموقع الحصين؟
قلت ـ نحن لم نطلق عليه هذا الاسم ، الإسرائيليون هم الذين سموه بهذا الاسم..ظنوا أن موقعهم هذا غير قابل للاختراق فخرقناه . كان ضمن تحصينات خط بارليف الذي دمره جنودنا في حرب أكتوبر وهذه قصة أخرى سأكملها لك عندما نكون هناك وتشاهدين الموقع بنفسك .
قالت ـ شوقتني ..سأذهب معك..انتظرني صباحا عند البحر..
قلت ـ وحـدك ..
قالت وهى تودعني مبتسمة ـ وحدي ، إلا إذا كان عندك عربة لوري تكفى المعيز !
الطريق إلى سـيناء :
في صباح اليوم التالي جاءت وردة .كانت ترتدى جيبه رمادي طويلة وبلوزة في لون السماء طويلة الكم وكوتشى رمادي وأساورها العاجية الملونة التي لا تتخلى عنها أبدا كان شعرها مفروطا يتطاير فوق جبينها ووجهها فيما انسدل بعضه على كتفيها و ظهرها. ولو رآها أحد من السكان الذين تمر عليهم كل يوم مع قافلة المعيز لما تعرف عليها أحد منهم .
ركبت السيارة بجواري ولوحت بيدها قائلة بفرح :
ـ هيا إلى الموقع الحصين وعيون موسى ..واعمل حسابك الرجوع دون تأخير حتى أعشى المعيز قبل أن تنام ،واشرح لي كل شئ وكل مكان تمر عليه بالسيارة .
قلت ـ أول مرة تركبين معي في السيارة .
قالت ـ وأنت ركبت حماري لأول مرة ..يبقى خالصين .
قلت ـ لكن حمارك أوقعني من فوقه .
قالت ـ لم يقصد ..أنت أعطيته إشارة غلط ..عموما المسامح كريم ..فهو يحبك.
بعد أن تحركت بالسيارة مسحت وردة كتفي بيدها قائلة :
ـ هل أليق بك ؟
كانت وردة تفاجئني كثيرا بأسئلة أعجز عن الإجابة عليها بسرعة ..
قلت لها ـ كنت أعتقد قبل أن أعرفك بأن حياتي انتهت عند هذا الحد وأن كل ما سيأتي هي أيام مكررة مملة لكن بعد أن عرفتك أحسست بأني كنت مخطئا وأن حياتي تبدأ من جديد بشكل لم أكن أتصوره..فأنا الآن غيري منذ ظهورك وسؤالك عنى في أول لقاء ..
دسَّت ذراعها في ذراعي التي أقود بها السيارة وضغطت عليه قائلة :
ـ وضعت عيني عليك من يوم حضورك لمدرستنا..أنت الذي أعطيتني الثقة في نفسي عندما قلت أن ملامح الإنسان ومكانته الاجتماعية لا دخل له في الحب الحقيقي ..
قلت وأنا أواصل سيرى بالسيارة ـ أنت أجمل من رأيت ..
قالت ـ لا تبالغ..فأنا لست جميلة إلا في نظرك..
قلت ـ حتى هذا يكفيني وزيادة ..فأنت عالمي وللناس عالمهم .
سرت بمحاذاة قناة السويس حتى نهاية حوض الدرس ثم انحرفت شمالا لأدخل قرية عامر ثم مزلقان قرية عامر وانحرفت يمينا في طريق الإسماعيلية متجها إلى النفق .
رغم أنى كنت أسير بسرعة متوسطة داخل النفق إلا أن وردة كانت تطلب منى أن أسير ببطء أكثر أو أتوقف، وكان هذا طلبا مستحيلا. لم تكتف وردة بالنظر من نافذة السيارة وهى تتطلع إلى جسم النفق: الأرضية الجدران السقف . أخرجت نصف جسدها من النافذة عدة مرات وتطاير شعرها كالبيرق في الهواء،وكنت أجذبها من ثوبها إلى الداخل طالبا منها أن تكتفي بالمشاهدة وهى في مقعدها.
كانت مبهورة وسعيدة وكانت تقول : هذا جميل وعظيم لم أكن أعرف أن في بلدي مثل هذا النفق ،لا بد أنهم تعبوا في إنشائه كثيرا جدا . أقول لها : نحن الآن تحت مجرى القناة يا وردة . كنت أشرح لها قصة إنشاء النفق بعد حرب أكتوبر وكيف تم إقامته بأيدي مصرية وتمويل بعض الدول الصديقة التي تؤمن بالتنمية للشعوب ليتم التحام الوطن بسيناء الحبيبة ،ولتمد مصر أياديها الخصبة من قارة إفريقيا لتبسطها على جزء عزيز من أرضنا في قارة آسيا .
خرجنا من الطرف الشرقي للنفق وانحرفت السيارة يمينا منطلقة إلى الموقع الحصين. تراءت لنا في الطريق على الجانب الغربي منطقة الجناين بلونها الأخضر ثم قلب السويس ولاحت مداخن مصانع البترول والتماعات من خليج السويس ثم ظهر ممر القناة ومنطقة بور توفيق وسرعان ما توارت ليظهر مدخل القناة ومساحات مائية شاسعة التي عاودت الاختفاء وراء الكثبان الرملية التي أحاطتنا من الجانبين حتى وصلت إلى المنطقة التي يوجد فيها الموقع الحصين الذي لا يظهر لمن يسير في الطريق السريع الذي يخترق صحراء سيناء ،إلا إذا انحرف يسارا وصعودا على ممر مطروق فوق هضبة يقع في قلبها الموقع الحصين .
الموقع الحصين المحطم :
توقفت بسيارتي أمام الموقع على أرضية رملية مدكوكة منحدرة من أطرافها . وحينما واجهت وردة الموقع وهو تفتح عينيها عن آخرهما التصقت بي وأمسكت بذراعي وهى ترتعد . كان الموقع الرئيسي يتوسط عددا من المواقع الأخرى تحيط به.كانت أصغر قليلا تنتشر حول منخفض في أعلى الهضبة . وكانت سقوف المواقع عبارة عن مكعبات كبيرة من الأسلاك السميكة يصل ارتفاعها إلى أربعة أمتار تحتوى على كميات هائلة من الزلط والصخور الضخمة وترتكز على قضبان حديدية .
كانت في مواجهة الموقع الحصين فتحتان كبيرتان متجاورتان تطل منهما ماسورتان ضخمتان تبدو عليها آثار التدمير الشديد. قلت لوردة :هذان المدفعان هما اللذان كانا يقصفان مدينة السويس ..أدخلي معي إلى الموقع لتشاهدي تفاصيل هذا المكان .
التففنا حول الموقع ودخلنا من الخلف خلال دهليز صخري مدعم بالقضبان الحديدية. سرنا في ممره الطويل الشاحب الضوء حتى دخلنا إلى المكان آذى نصب فيه المدفعان اللذان ارتكزا على قضبان السكة الحديدية،وكانت على الفتحة التي تطل على الخارج أبواب حديدية سميكة تنفتح أتوماتيكيا عندما تطلق المدافع قذائفها وتنغلق بعد انسحاب المدافع إلى الداخل ، ذكرني هذا بفيلم أسمه مدافع نافارون .
ـ كل هذا تم تدميره ..
قالت وردة ـ إنه شئ بشع
قلت ـ هذه المدافع هي التي كانت تقصف مدينتنا ..
كانت وردة تتحسس الفولاذ الذي تعرجت سطوحه بفعل قوة تدميرية كبيرة ،وكانت تنظر إلى القضبان وقطع الحديد والأسياخ المتناثرة في المكان . سادت لحظات طويلة من الصمت وأنا أراقب وردة وهى ترفع ذيل جيبتها وتتخطى الحفر والأشياء المبعثرة على الأرض تمسح بعينيها المكان آذى يشبه القبو.وكان موقع المدفع الثاني مماثلا للموقع الذي كنا فيه . تجولت في المكان وذهبت إلى الموقع الآخر وكنت أتابعها حتى لا تضل الطريق في هذه المتاهة التي تخترق بطن الأرض .
سألتني وردة عما يشبه الحجرات الضيقة المتلاصقة. قلت لها أن هذه الحجرات أماكن استبدال الجنود والراحة والطعام والشراب ،كانت بداخل هذه الحجرات مولدات كهربائية وخزانات مياه وثلاجات ..عندما جاءوا إلى هنا اعتقدوا أنهم لن يبرحوا هذا المكان أبدا وكانت عقيدتهم مخطئة يا وردة فقد تركوه أقصد من كتب لهم الحياة .
قالت وردة متسائلة ـ كيف تم تدمير هذا الموقع الحصين ؟ لا بد أن جنودنا استخدموا الدبابات والمدافع الثقيلة حتى يدمروه .
قلت لها ـ سوف تندهشين إذا قلت لك أن قواتنا اقتحمت هذا الموقع في نفس الوقت الذي اقتحمت فيه خط بارليف على طول خط القنال، وأن الاقتحام تم بواسطة جنودنا بعد أن حاصروا الموقع واقتحموه بصدورهم وكان الالتحام وجها لوجه وهذا ما يخافه الصهاينة أن تلتحم مباشرة مع الجندي المصري .
قالت وردة وهى تضع يدها على ماسورة المدفع الملتوية ـ تقصد أن الطائرات لم تدمره قبل أن يقتحموا الموقع ؟
قلت ـ لقد انطلقت طائراتنا إلى داخل سيناء بعد أن تركت الموقع رهينة في أيدي قواتنا التي دمرته بسواعد أبطالها .
أمسكت وردة من ذراعها في طريق خروجنا وأنا أقول لها ـ تعالى معي سأريك مكانا آخر، موقع صغير في أعلى التل لكنه كان يقوم بدور خطير.
خرجنا من الموقع الحصين وعدنا إلى مكان السيارة . أشرت إلى تبه عالية على الجانب الآخر يستخدم الصاعد إليها درجات من الأحجار المنحوتة ، تسلقناها وكانت الرمال منذ أيام الحرب قد طمست الأحجار ولم يتبق إلا ممر رملي يؤدى إلى موقع صغير على شكل قبة مدعمة بالأسمنت المسلح والصخور غاطسه في بطن الرمال ولا يظهر أعلى التبة إلا فتحة مستطيلة مدعمة بقضبان حديدية محطمة ،تلك كانت تحمل المنظار المكبر الذي يوجه به الصهيوني مدافع الموقع تجاه أي مكان يريدون قصفه .
في البداية كانوا يقصفون شركات البترول..انظري يا وردة .. ألا تلوح لك من بعيد المداخن ودخانها ..إنك ترينها بالعين المجردة..ألا تلوح لك المدينة بكل تفاصيلها وإن كانت تبدو ككتل متراصة .. من هنا كانوا يقصفون بيوتنا ويهددون حياتنا ..لكن كل ذلك قد ذهب ..
كنا قد أحنينا جسدينا حتى ندخل إلى هذا المكان الضيق . أدخلنا رأسينا في الفتحة المستطيلة المخصصة للمنظار المكبر الذي لم يعد موجودا.كان الهواء يلفح وجهينا من فتحة المراقبة وكان الهواء يصدر صفيرا وهو يخترق ثقوب الموقع .
قلت لوردة ـ حان وقت العودة .
قالت ـ ألن نذهب إلى عيون موسى كما وعدتني ؟
قلت ـ سنأتي إلى هنا مرة ثاني من أجل عيون موسى .
قالت ـ إذن اتركني قليلا هنا .. إنني أرى من هذا المكان الحياة كلها وهى تستمر .
وقفت خلفها محتضنا جسدها وأنا أقول لنفسي للحب وقت وللقيام وقت .

( 7 ) يا حبيبي ..دعني أتكلم حتى تعرفني أكثر

منذ صغرى عرفت أن لي أمَّين ، وكان هذا الإحساس طبيعيا جدا بالنسبة لي لأني منذ تفتحت عيناي كنت أرى رأسين تطلان علىّ وأنا في فراشي : رأس المعزة الأسود ورأس أمي .
فيما بعد أفهمتني أمي أن المعزة هي التي تولت إرضاعي أما هي فكانت تقوم بالباقي ، فتقبلت هذا الوضع دون دهشة لأنه كان تحصيل حاصل . بعدها بسنوات قالت لي أمي أنها مرضت خلال حملها بي وقد منعها المرض من إرضاعي من ثديها حينما ولدتني، وقد أقسم أبى بأن لا ترضعني امرأة غير أمي وإلا فالطلاق .
لم يكن في مقدورنا أن نشترى الألبان المجففة المعبأة في علب. حل أبى المشكلة وأحضر معه ذات مساء معزة لها ثدي منتفخ بحلمتين وسلمها لأمي قائلا لها أن ترضعني من لبنها. ربطت أمي المعزة بجوار فراشي وكنت كلما صرخت من الجوع تقوم أمي بحلب المعزة وترضعني من لبنها .
رأت أمي المعزة وهى تقترب منى وتشمني ، ورأتها وهى تحرك أذنيها الطويلتين وتباعد بين ساقيها الخلفيتين عندما أصرخ فقطعت أمي الرباط الذي يقيد المعزة بفراشي، لكنها أعادته عندما رأت ذات مرة المعزة وهى تحاول الصعود فوق فراشي وقطرات اللبن تتساقط من حلمتيها في محاولة منها لإرضاعى، ولم تقطعه مرة أخرى إلا عندما استطعت الوقوف على قدمي والنزول من فراشي واقفة .
عندما تعلمت السير على قدمي داخل البيت كانت المعزة تسير بجواري كظلي ، وعندا كنت أخرج إلى الشارع كانت المعزة تسير ورائي ككلب ، ولا تنام إلا إذا رأتني استسلم للنوم . ولما كبرت ودخلت المدرسة القريبة من بيتنا كانت المعزة تنتظرني بالباب عند دخولي وأجدها في انتظاري عندما أخرج من باب المدرسة واقفة بجوار حمار صديقتي عزة الذي كان يصحبها في ذهابها ورجوعها من المدرسة مثل معزتي تماما .
كلما حملت أمي كان المرض يعاودها ، ذلك المرض الذي يمنعها من إرضاع الوليد، فكان أبى يأتى بمعزة جديدة للمولود الجديد حتى امتلأ بيتنا بالمعيز خاصة بعد أن تناسلوا داخل حوش البيت . ذات يوم خرج أبى من البيت ولم يعد إليه أبدا .
من هنا دخلت المعيز حياتي قبل أي إنسان آخر سوى أمي وأخوتي، وكنت أعامل المعيز على أنهم أخوتي ، جزء من الأسرة التي تعيش في البيت ، فهو بيت الجميع ، وكان من الطبيعي أن أصير فيما بعد راعية غنم ما دمت أفعل ذلك في البيت ، ولم يكن أحد يعلم بهذه العلاقة العائلية سوى صديقتي عزة التي كانت تسكن قريبا من بيتنا وتزورني كثيرا ، والتي زاملتني في سنوات الدراسة حتى الإعدادية ثم توقفت عن الذهاب إلى المدرسة وأكملت أنا المرحلة الثانوية.
في السنة الأولى من دراستي في الثانوية كان سني ستة عشر عاما ، ورغم إني كنت أحب المدرسة وأحصل على درجات عالية في كل المواد،إلا أنى كنت أشعر بالغربة وأنى وحيدة. كنت أقضي وقتي في مكتبة المدرسة في فترات الراحة وتعودت على قراءة الكتب مهما كانت موضوعاتها حتى لو لم أفهم معناها أو ماذا تقول . في طريق عودتي من المدرسة كنت أمر يوميا على بائع الصحف لأطالع عناوينها وأتصفح الكتب المطروحة للبيع وأختار الكتاب الذي يناسب سعره مصروفي الضئيل .
كنت طويلة القامة طويلة العنق، أسير مفرودة، وكانت البنات في المدرسة يطلقون علىَّ اسم الغزالة الشاردة ، وعندما أسألهن لماذا غزالة شاردة؟ يقلن هكذا.لأنك كالغزالة..زرافة صغيرة ..لك لهجة مختلفة وتحبين دائما أن تكوني بعيدة عنا . في حصص العربي كانت المدرِّسَة وبنات الفصل يبتسمن في استمتاع بقراءتي في كتاب المطالعة بصوتي البدوي .
ذات يوم أعلنت المدرسة عن لقاء أدبي وثقافي مع كاتب سيزور المدرسة، حرصت أن أكون أول الموجودات، وكنت أول مرة أرى محمد الراوى وجها لوجه وهو الكاتب الذي التقى بنا في المدرسة ليحدثنا عن الأدب والمجتمع. سمعت عنه من قبل ككاتب يعيش في بلدي السويس لكنى لم أره شخصيا من قبل ولا لاحظت صورته التي كانت تنشر أحيانا في الصحف المحلية، ولم تكن عندي فكرة عما يكتبه وينشره في الصحف .
كانت المحاضرة غير عادية بل كانت شيقة، استطاع الكاتب محمد الراوى بلباقة وجاذبية أن يشجعنا على إبداء رأينا والدخول معه في حوارات متنوعة عن الكتَّاب والروايات والأفلام المأخوذة عنها ، معنى الجمال والفن والأدب ورسالته تجاه الحياة والمجتمع ، كلام جميل جديد لم نسمعه في قاعة المحاضرات من قبل ، خاصة عندما تكلم عن جمال الشكل والمظهر والذي هو ليس كل شئ .
أحسست أنى قريبة منه ، من أفكاره ومن طريقته المؤثرة في الكلام التي لم أجدها عند المدرسات والمدرسين الذين يدرسون لنا . كان يتكلم معنا بملامح وجهه كلها، كانت عيناه تسابقان كلامه في التعبير مما يدفعنا نحن البنات لأن نرهف آذاننا أو أذني أنا على الأقل، بل لقد رأيت عينيه في لحظة تومضان كشعلة ثم سرعان ما تمتلئا بالدموع ورددت بيني وبين نفسي أنه يتكلم بدموعه أيضا ! والشيء الغريب أن من يرى محمد الراوى قبل أن يتكلم سيكتشف فيه شخصية مختلفة عندما يتكلم من الصعب أن يتخلص من تأثيرها عليه .
التقت عيناه بعيني مرارا وهو يتكلم وكدت أتصور أنه يوجه لي الكلام بصفة خاصة، لكنه كان يجول بعينيه المعبرتين بين وجوه البنات في القاعة واللاتي تشابهن في ملابسهن الموحدة فلا يميزهن سوى رؤوسهن، لكنى أدركت أن تكرار اصطدام عينيه بعيني مرارا يرجع إلى أنى كنت صاحبة أعلى رأس فوق مستوى رؤوس البنات في قاعة المحاضرة، حتى عندما سألته عن العلاقة بين جمال الشكل والفن وكنت أقصد جمال البنت أو المرأة ، ركز عينيه على وجهي وطلب منى أن أكرر السؤال ففعلت فابتسم ابتسامة رقيقة قائلا : لهجتك مختلفة ..فتطوعت مجموعة من زميلاتي البنات قائلات في صوت واحد ( إنها بدوية ) ..ولم يهتم بمعرفة اسمي .
أشعر بأن في داخلي بنتا أخرى غيري، بنتا ترفض كل شئ في حياتي ، هذه البنت التي في داخلي تفكر وتهتم بأشياء لا أفكر أنا فيها كثيرا، ولا أركز عليها اهتمامي، لكنها تفاجئني بها فأنصت إليها وابتلع كلماتها خوفا أن يسمعها أحد قريب منى وأنا أكلم نفسي .
هذه البنت الداخلية هي التي جعلتني اختار الوحدة والانفراد ، وهى التي دفعتني للقراءة حتى أفهم أفكارها ورغباتها ..بنت جريئة.. أنا لم أكن خجولة ، أفتح عيني الاثنتين في وجه من يحدثني ولا أتردد، أفعل ما أفكر في فعله ، أقول ما أريد أن أقوله..لعل هذه الصفات بعض صفاتها .
أنا أقول بنتا ولا أقول فتاة مثلها ، أنا أرى البنت في مكانة أقل من المرأة ، المرأة عندي كائن أفضل وأشمل لأن البنت تظل بنتا فترة من العمر أما المرأة فتظل امرأة طول العمر وقد أكون متأثرة بأمي ومواجهتها للحياة بعد اختفاء أبى .
في لقائنا مع محمد الراوى كانت الفتاة التي بداخلي هي التي سألت سؤالها بلساني. لماذا الحب يكون دائما من نصيب الفتاة الجميلة في الأفلام التي نشاهدها ؟ هل المشاعر تتجزأ ما بين الجميلة وغير الجميلة ؟ . هل أستطيع أنا أن أسأل مثل هذا السؤال؟ كنت أسمع صوتي بأذني وأنا أتكلم في نفس الوقت الذي كنت أسأل نفسي سؤالا آخر لم يسمعه أحد غيري، هل أعتقد أنى بنت غير جميلة حتى أسأل هذا السؤال ؟
هذا ما اربكني وكأني كنت أتهم نفسي وأعترف بأني لست جميلة، رغم أنى لم أعامل نفسي والآخرين كذلك على إني فتاة غير جميلة، فأنا وردة بملامحها المألوفة، ما عدا ذلك لم التفت إليه ولم يشغلني فهو جزء منى أيا كان إلا عندما التحقت بالمرحلة الثانوية وأطلقن علىّ زميلاتي البنات اسم الغزالة الشاردة وأخذن يصفن لي قامتي وهن يتحسسن جسدي بأيديهن ويقلن لي : مقاييسك شكل تانى..ماذا تأكلين؟ وأرد عليهن مبتسمة دون صوت مسموع وأنا أحاول أن أتخلص من حركة أيديهن على جسمي(لبن المعيز) .
كنت فتاة مغلقة المشاعر تجاه الفتيان حتى اللحظة التي رأيت فيها الكاتب الذي كان عمره أكثر من ضعف عمري ، تلك اللحظة التي شعرت فيها دون مقدمات بارتباك في دقات قلبي وأنفاسي المتلاحقة .. هل هي مشاعر الإعجاب بشخصيته؟ مشاعر جديدة لم أجربها من قبل ولا أتصور وجودها، لكنها بداخلي وتهزني ، كانت هذه المشاعر سبب ارتباكي فأنا لا أعرف ماذا أفعل رغم كل ما كنت أسمعه من البنات وهن يثرثرن في أوقات تجمعهن خارج الفصول. شعرت بالخوف فأنا بطبعي كتومة قليلة الكلام رغم عدم وجود أسرار في حياتي كالتي تبوح بها البنات في المدرسة .
بعد انتهاء المحاضرة وخروجنا من القاعة ، ظهر الكاتب محمد الراوى على السلالم الداخلية في طريقه إلى مغادرة المدرسة مصحوبا بالست الناظرة وعدد من المدرسات والمدرسين وهم يودعونه . وجدت نفسي أسبقه إلى الحوش بالقرب من بوابة الخروج وفى خاطري أن ألقى عليه النظرة الأخيرة قبل غيابه عن عيني .
عندما اقترب منى التقت عيناه بعيني فابتسم .
بادرني قائلا ـ البدوية ..
مددت له يدي فاحتوى كفى في كفه برفق قائلا ـ سؤال ذكى..انك تشاهدين التلفزيون والسينما كثيرا ..لكن هل تقرئين ؟
قلت له بعد لحظة صمت ـ إنني أقرأ في مكتبة المدرسة وعندي في البيت كتب ومجلات.
قال ـ هل قرأت لي شيئا ؟
قلت وأنا أشعر بالإحراج ـ أعرف انك تكتب في الجريدة لكنى لا أتابعها ..ولم أقرأ كتبك.
قال لىـ إذن تابعي الجريدة أنا أكتب فيها كل شهر ..وهناك رواية لي بأكشاك الصحافة اسمها الزهرة الصخرية حاولي قراءتها .
اكمل مبتسما ـ أرجو أن تعجبك ..
رددت بيني وبين نفسي ـ لماذا لم تسمها الوردة الصخرية ؟
قال وهو يتحرك نحو البوابةـ ماذا تقولين ؟
قلت ـ سأحصل عليها اليوم وسأقرأها ..
ولما أردت أن أسأله عن عنوانه أو أين أجده كان قد خرج إلى الشارع واختفى .
للمرة الثانية لم يسألني عن اسمي ..
عدت إلى البيت وفى حقيبتي روايته الزهرة الصخرية .
ربما لم استوعب كل ما قاله وهو يجيب عن سؤالى، لكنى اختزنته في رأسي واستعدته كلمة كلمة بعد أن اختليت بنفسي في فراشي أنا والكتاب وغطيت وجهي ، فأنا لا أحب أن يراني أحد وأنا أفكر أو سرحانة .
ما زلت أشعر بملمس كفه عندما احتوت كفى وأنا أتطلع إلى عينيه . ملامحه عادية وشعر رأسه منزاح إلى الخلف ، وجه عادى غير مميز ، وجه لا يجذب من أول نظرة لكنه يكون إنسانا آخر إذا تكلم ، شخصية أخرى أكثر جاذبية وسحرا. لا أمد يدي بالسلام لكل من يقابلني ، فالسلام باليد ملامسة ، والملامسة بالنسبة لي تعبير عن الإحساس الداخلي ، أن ينتقل إحساسي إلى جسم الآخر ليشعر به ، هكذا تربيت وتعلمت وتعودت منذ كنت طفلة صغيرة ، فالمعزة التي أرضعتني كانت تلحس وجهي وقدمي في حنان بالغ ، وعندما كانت أمي تحملني إلى الحمام عارية بين ذراعيها كانت المعزة تلحس جسدي الصغير وتلعق قطرات الماء فوق بشرتي وعندما تعلمت المشي في البيت كانت تحتك بي وفى الشارع أيضا ، وعندما كبرت كانت حفيدتها المعزة نوسة ترافقني إلى الحمام وتفعل مثلما فعلت جدتها التي هي كانت أمي .
حينما مددت يدي بالسلام إلى محمد كنت أعبر عن رغبتي في ملامسته ، في وصاله، هكذا كان شعوري، ربما كان السلام في نظره مثل بقية الناس ..أن الكف في الكف مجرد سلام، لكنه عندي أكثر من ذلك .
تمنيت أن يكون اسم الرواية الوردة الصخرية، أخذت أقرأ فيها بشغف وكأنه لقاء بيني وبينه، المكان غريب ومدهش لم يسبق لي قراءة شئ مثل هذه الرواية، كانت الروايات التي قرأتها تتحدث عن الحب والأحلام ، لكن هنا شئ مختلف ، المكان قرية فوق جبل، أحداث خيالية لكنها تبدو حقيقية في نفس الوقت ، سألت نفسي كيف يفكر محمد وهو يكتب مثل هذا الكلام ، كيف يتخيل ؟ هل رأى هذه الأماكن من قبل ؟
كانت بطلة الرواية اسمها قمره عثرت فيها على صورتي فقد كانت سمراء طويلة القامة مثلى تعيش في أرض صحراوية أو صخرية ، تلك الفتاة التي التقى بها إسماعيل بطل الرواية في القرية أعلى الجبل .كنت أود أن أكون قمره .
هزتني مفاجأة غريبة ومدهشة جعلتني أعتقد أن لقائي بمحمد الراوى كتبه القدر في حياتي ولم يكن صدفة حتى لو تأخر هذا اللقاء طوال السنوات التي مرت به، وكان يجب أن يتأخر اللقاء حتى أكون قد ولدت وكبرت وصرت أنثى مؤهلة للقائه وحبه.. كأنه صوت يأتى من المستقبل يقول إنه لك وأنت له رغم أنى لا أعرف مكانه أو عنوانه وقد لا يبقى في حياتي سوى هذا اللقاء القصير عند خروجه من المدرسة .
لا يا وردة ..فالسطور التي قرأتها في الرواية تقول غير ذلك ، هيا ردديها بصوت مسموع واسمعي الصوت الذي يناديك والذي لن يسمعه أحد غيرك يا وردة : إننا لا نعيش هنا وحدنا، الخراف والماعز تشاركنا هذه الأرض ، في البيوت والشوارع والأحواش والمزارع ، إنها أكثر منا عددا ، تخرج إلى رزقها معنا في الفجر وتعود مع حلول الليل لتنام ، تألفنا ونألفها ، تعرفنا واحدا واحدا بأسمائنا وأصواتنا..إذا التقيتم بها لا تهشونها ، قدموا إليها حزمة برسيم أو حفنة من الحبوب ..
أليست هذه مفاجأة مدهشة يا وردة؟ لماذا المعيز بالذات في هذه الرواية ؟ ما أجمل هذه الجملة ، أن نعامل الغنم معاملة إنسانية ، ما الذي أوحى إلى محمد بهذه النظرة التي أسرت قلبي ؟ إذا كان الأدب يفعل ذلك فهو أدب إنساني عظيم ، ولا أعرف أن أعبر عن عظمته إلا بإحساسي .
لماذا قابلت محمد الراوى صدفة ليقول لي بالصدفة أقرئي رواية الزهرة الصخرية ثم يختفي دون أن يعرف إني سأصير راعية غنم ؟ !

( 8 ) لم أحلم أبدا بأن ذلك قد يحدث

منذ لقائي به أول مرة لم أفعل شيئا سوى التفكير فيه، أحيانا بشكل مركز خاصة عندما قرأت روايته الزهرة الصخرية وعثرت فيها على الفتاة السمراء الممدودة القامة القريبة جدا من نفسي ، وأحيانا أخرى أفكر فيه بصورة مشوشة خاصة عندما مرت الشهور شهرا وراء شهر دون أن أراه ، لكن الأثر الذي تركه في نفسي لم ينمح أبدا فقد وجدتني أقرأ كثيرا بعد أن أنهيت دراستي الثانوية.
كنت أتابع الكتب والمجلات الأدبية واحرص على قراءة الجريدة التي يكتب فيها وأنا اسأل روحي أين هو الآن؟ .
كان لقائي الثاني به بعد سبع سنوات من اللقاء الأول في المدرسة عندما كنت طالبة في السنة الأولى ثانوي، فتاة سنها ستة عشر عاما لا تعرف الفرق بين نظرة الإعجاب والحب من أول نظرة . لكنى أحسست بعد مرور الزمن أن اعرف الفرق بين الإعجاب والحب لكن مشاعري تجاوزت كل هذا، فلم أعد أتوقف لأسأل نفسي عما إذا كان الذي أشعر به إعجابا أم حبا، كان هوسا مفاجئا، أشياء وأحاسيس كانت مخزونة في نفسي ولا أعرف لها اسما انفجرت فجأة بداخلي فقلبت كل شئ في حياتي .
كنت أعود إلى روايته لأقرأ المشاهد التي تظهر فيها قمرة، فلم أعرف نفسي إلا بعد أن تعرفت عليها في صفحات الرواية، خاصة ذلك المشهد الذي مزق فيه إسماعيل رداء قمره فكشف عن جسدها الأسمر الصخري والوشم الذي يلف جسدها بطنا لظهر، رأيت في جسد قمره جسدي وأنا عارية..فكيف رآه دون أن يراه؟!
بعد أن أنهيت دراستي بقيت في البيت ، فقد كان استمراري في التعليم حتى نهاية الثانوية يعتبر استثناء بالنسبة لما يحدث لمعظم البدويات عندنا ، وسواء واصلت الفتيات تعليمها وهو لن يتجاوز المرحلة الثانوية أو توقفن عن الاستمرار في المرحلة الإعدادية أو الثانوية ، فليس لهن أن يفكرن في مواصلة التعليم أو العمل في وظيفة .
وكان علىّ أن أتفرغ تماما لرعاية أخوتي في البيت ورعاية المعيز في معيشتها. وهكذا وجدت نفسي راعية أخوة داخل البيت وراعية غنم خارج البيت. صنعت لنفسي عدة عباءات أرتديها عند خروجي مع المعيز راعيت فيها إذا كانت سوداء أن أزينها بزهور ملونة أو خطوط صفراء أو حمراء وأخفى شعري ومعظم وجهي بلثام لا يظهر سوى عيني وجزء من الجبهة وحافة مفرق الشعر التي كنت أتعمد لإظهارها وهذا من حقي .
عثرت عليه صدفة في مكان قريب من المكان الذي أعيش فيه. عندما رأيته لم أصدق أنه هو الذي يسير أمامي ، كدت أندفع نحوه لأحتضنه صائحة أين كنت إنني أفكر فيك ليل نهار وأبحث عنك منذ سنوات ؟ هل سيصدق كلامي ؟ بل هل سيتذكرني ؟ هل سيعرفني وأنا أقود المعيز في الشارع مرتدية هذه العباءة السوداء ووجهي الذي يختفي وراء لثام يغطى رأسي وصدري كله ؟ هل سيتذكر الطالبة البدوية التي تحدث معها للحظات منذ سبع سنوات ؟
كان يسير بالقرب منى تفصلني عنه أمتار قليلة ، لم الفت انتباهه بل كان يتطلع إلى المعيز دون أن ينظر نحوى وكأني غير موجودة ، لم يفعلها أبدا ، لم يلحظ عيني وأنا أتفرسه من خلف اللثام الذي كان يخفى انفعالي. لاحظت أن وجهه ليس هو الوجه الذي فكرت فيه وحلمت به سنوات طويلة ، بدا أمامي رجلا آخر لست على علاقة به..أقول علاقة ؟ أي علاقة ؟ أي علاقة يا وردة؟ ها هو أمامك الذي كنت تبحثين عنه طوال الشهور الطويلة الماضية، هل نسيت وجهه؟ هل لم تعد أذنك تتذكر صوته الذي جذبك إليه وشقلب حالك ؟
رغم إني كنت أرى صورته في الجريدة كل شهر حتى حفظت ملامحه إلا إني فوجئت بإنسان آخر غير الذي احتفظ به في ذاكرتي، بدا لي أكبر سنا ، وجه مرهق ربما، تقطيبة ملامحه لا تشجع أن يقترب منه إنسان . أحسست فجأة أنى كنت متوهمة ، وأن المشاعر التي عصفت بي منذ سبع سنوات ذابت في لحظات . سألت نفسي كيف أظل معلقة فى الوهم طوال هذه السنين ؟
عاودت النظر إليه يساعدني اللثام في إخفاء وجهي ، عيناي فقط هما اللذان يتفرسان في سحنته وأنا أحاول أبحث فيها عن ذلك الأديب الذي سحرني بكلماته وآرائه وأسر مشاعري وفجر في كياني أحاسيس لم أتخيل يوما أنها بداخلي .
عرفت المسكن الذي خرج منه ..مسكن أعبر من أمامه كل يوم تقريبا ولا أعرف كيف لم انتبه إلى ذلك . كان قد ابتعد عنى واستدار مع انحناءة الشارع واختفى كما اختفى ذات يوم منذ سبع سنوات بعد خروجه من باب المدرسة . اقتربت من المسكن الذي خرج منه ، له بوابة خشبية وممر مزروع من الجانبين ينتهي عند أول سلمتين يؤديان إلى باب البيت ، تحيط المسكن حديقة يبدو عليها الإهمال .
أتذكر أنى دخلت هذا المكان وأن الحمار والمعيز قد أكلت من العشب إلي ينتشر بغزارة في واجهة الحديقة بالمدخل ،وكانت سيارته، بالتأكيد سيارته، تقف تحت مظلة من جذوع الأشجار ومشمع سميك مثبت فوقها .. سيارته صغيرة لونها أخضر . رغم الشك الذي ملأ صدري صممت أن أمر كل يوم على بيته حتى أتأكد من مشاعري التي عشتها سبع سنوات إن كانت وهما أو نزوة ، أم هي شئ آخر يجب أن أحافظ عليه طول حياتي ، وحتى أبرئ ذمتي منه ولا أعود إلى التفكير فيه..فليس من المعقول أن يكون هذا حالي وهو لا يشعر بي على الإطلاق .
بعد هذا اللقاء تعمدت أن أمر على مسكنه كل يوم بقافلة المعيز، أحيانا كنت أراه خارجا من بيته بالسيارة وأحيانا أخرى كنت أراه سائرا على قدميه ، وكان كعادته يلقى بنظرة عابرة إلى قطيع المعيز ولا يلتفت نحوى، ولعله يقول في نفسه هذه الراعية بلا ملامح أو هذا الشيء الذي يبدو كخيال المآته لكنه متحرك .
ذات يوم عندما تأخر ظهوره تلكأت أمام بوابة حديقته متظاهرة بمراقبة المعيز وهى تلتهم فروع الأشجار المدلاة من سور حديقته الخارجية . لم يظهر محمد بينما ظلت سيارته تحت مظلتها ساكنة صامتة. تكرر ذلك المشهد عدة أيام دون أن أراه فشعرت بقلق وشك من نوع آخر.. أين محمد؟ هل هو بالداخل أم غير موجود بالبيت المغلق النوافذ ؟ مما جعلني عصبية المزاج أعامل المعيز بقسوة وأدفعها بقدمي وأنا أشتمها ولم تكن هذه عادتي في معاملتي لها .
ظل غائبا عن عيني أكثر من أسبوع، وفى يوم وجدت نفسي اقترب من بوابة الحديقة وفى نيتي أن أدخل وأطرق عليه الباب . دخلت وأغلقت البوابة خلفه حتى لا تدخل المعيز ورائي ، لاحظت أن باب البيت غير مغلق تماما وجزء من الصالة يبدو لي من خلال المساحة الصغيرة التي كشف عنها الباب ، ولاحظت أثناء تراجعي السريع إلى الخلف أن نافذة في الدور العلوي مفتوحة وزجاجها مغلق .
في صباح اليوم التالي قلت لأمي
ـ لن أسرح بالمعيز اليوم ، سأزور صديقة لي مريضة .
نظرت أمي ناحيتي ولم تتكلم. رأتني وأنا أبدل ملابسي وأرتدى الجيب والبلوزة التي لم أرتديهما منذ شهور كثيرة .
قالت أمي ـ هل تذهبين بهذه الملابس ؟
نظرت إلى صورتي في المرآة شبه المعتمة المعلقة في الحائط وأخذت أمشط شعري وأفرده على كتفي فظهرت لي وردة التي لم أرها منذ زمن طويل فابتسمت وأنا أتطلع إلى وجهي في المرآة .
علقت أمي ـ ما الذي يحدث لك في هذا الصباح؟ أنت مضطربة وتبتسمين بلا سبب..ركعت على الأرض ومددت ذراعي تحت السرير أبحث عن حذاء الخروج ، تنفست بعمق عندما وجدته، دسست قدمي في الحذاء وقبل أن أخرج من البيت دخلت حوش المعيز وقبلت المعزة نوسة التي كانت في انتظاري ففهمت أني لن أصحبها إلى الخارج هذا الصباح ، لا هي ولا باقي القطيع . لوحت لأمي دون كلام قبل أن أبتعد لكنى سمعتها تقول : والله زمان !
رأيت مقعدا من الخيزران على بسطة الشرفة الأرضي وباب البيت مفتوح، ترددت في الدخول فواصلت سيرى حتى نهاية الشارع وأنا التقط أنفاسي ثم عدت ثانية لأفاجأ به يتجول في الشرفة مرتديا روب لونه أزرق يصل لحد ركبتيه ، من بعيد بدا لي نحيفا أو هزيلا يسير بصعوبة وببطء في فراغ الشرفة ، تشجعت ووقفت أمام البوابة فالتفت نحوى ..
دفعت الباب ودخلت إلى الممشى متجهة إليه وقلبي في قدمي بينما كان هو واقفا في انتظاري دون أن يعرف من أنا . كان يبتسم وبدت ابتسامته كظل شاحب فوق شفتيه .
قال لي حينما اقتربت منه ـ أهلا وسهلا ..تفضلي ..
صعدت السلمتين ووقفت في مواجهته وأنا أتأمل في وجهه ، وبذلك كنت قد اجتزت أصعب خطوة أقدمت عليها في حياتي من الاقتراب منه وكأنه حلم أخاف أن يتلاشى إذا انتبهت إلى نفسي .
قال بتردد ـ أهلا وسهلا ..تفضلى ..
ـ هل أنت الأديب محمد الراوى؟
ـ نعم أنا ..تفضلى ..
ـ جئت أطمئن عليك..لم أرك منذ أيام كعادتك وأنت تخرج من البيت..
ـ آه ..لا بد أنك من الجيران رغم إني لم يسبق لي رؤيتك..تفضلى ..
ـ كنت قلقة فجئت أطمئن عليك ..
ـ جميل أن تفعلي هذا ..أن أجد إنسانا يسأل عنى .. كنت مريضا والآن أصبحت في حال أحسن .
سألني ـ هل تسكنين في هذا الشارع؟
ـ أنا لا أسكن هنا..كنت أراك صباح كل يوم وأنت خارج..
ـ لكنى لم أرك أبدا عند خروجي ..هذه أول مرة أراك فيها
قلت له وأنا أشعر بالألم في قلبي ـ ألا ترى أحدا أبدا ؟
ـ إني أعرف الجيران فردا فردا لكنى لم يسبق لي رؤيتك ..
ـ كنت أراك كل يوم يا أستاذ محمد ..
ـ كيف يحدث هذا دون أن أراك ..أرجوك أنا آسف قد تكون ذاكرتي ..
لاحظت أنه ينظر إلى المقعد فأحسست أنه يشعر بالتعب ..
قلت ـ يمكنك أن تجلس يا أستاذ محمد..أنت ما زلت متعبا ..
ـ في الحقيقة نعم ..لكنى لا أشعر بالآلام الآن..أسعدني سؤالك عنى ..لكن من أنت ؟
تركته ينظر إلى وأنا واقفة أمامه قريبة منه إلى حد لم أكن أحلم به ، فكرت في نفسي ليته يقبلني . لاحظت الشعر الأشيب المتبقي في منتصف رأسه والأخاديد التي تنتشر في وجهه ، بدا لي كرجل عجوز لولا ابتسامته وحيويته التي تطل من عينيه وصوته الذي تعرفت عليه منذ سبع سنوات ..
ـ ماذا كنت ترى في الشارع يا أستاذ محمد عند خروجك ؟
ـ لا أحـد ..
ـ لا أحـد ..
ـ فعلا لا أحد ..لو رأيتك مرة واحدة لتذكرتك..أنت آنسة لطيفة ..أنا آسف ..
ـ طيب ..أي شئ آخر كنت تراه في الشارع عند خروجك..
ـ لا شئ كما قلت لك ..ربما راعية غنم ومعها قطيع من المعيز وأحيانا حمار وهذا لن يهمك ولا يهمني ..
ـ أنا راعيـة الغنم يا أستاذ محمد..
قال وهو يشهق مشيرا إلى ملابسي وهيئتي ـ راعية غنم !!
في لحظة قررت ألا أراه بعد هذا اللقاء ..وفى اللحظة التالية عدت عن قراري وأنا أسمع صوته العفوي وأرى في عينيه الرغبة في إطالة الحديث معي ..إنه يشعر بالوحدة .
هل تحول إحساسي إلى إشفاق عليه ؟
قلت وأنا أقترب منه أكثر ـ جئت لأطمئن عليك وأتمنى لك الصحة .
وجدت نفسي أقبله في خده ..وأعطيته ظهري ..
قال لي وأنا أهبط السلمتين ـ لكن ما أسمك ؟
توقفت فجأة في مكاني وظهري إليه : ياه ..أخيرا يا محمد تسألني عن اسمي ..
بعد سبع سنوات تسألني أنا البدوية عن اسمي . لم ير ابتسامتي التي زينت وجهي..
استدرت إليه في ابتهاج قائلة ـ وردة ..اسمي وردة .

قبلته في وجهه لأن ملامسة اليد لم تكن تكفى للتعبير عن مشاعري نحوه في تلك اللحظة..فقد عادت صورة محمد الراوى كما عرفته منذ سبع سنوات ، كما عدت إليه في صورة أجمل هذا إذا كان يراني جميلة ، واختفت كل الهواجس التي عانيت منها وكادت تفصل ما بيني وبينه ..وإذا كنت أقول إنني أفعل ما أريد فعله فها أنا أفعل ما لم أكن أفكر فى فعله .. وكان هذا أقل شئ أعطيه له !
بعد أسبوع من لقائي به اشتقت إلى رؤيته، وفى الحقيقة لقد كدت أزوره في اليوم التالي، ولو فعلت ؟ ماذا سيقول عنى وماذا سأقول عن نفسي ، رغم هذا فقد اتهمت نفسي بالكذب على نفسي ولماذا أحبس رغبتي في صدري بل كياني وكأنها لم تكن..كأنه باب يعرف لأول مرة كيف يكون مفتوحا ، والأبواب المغلقة إذا عرفت حلاوة أن تكون مفتوحة فلن ترضى بأن تكون مغلقة وكأنها تخرج من حكم بالسجن لسبب لا تعرفه إلى نور الحياة..هكذا وجدت حياتي تحت ضوء الشمس الذي لا يساويه ضوء آخر ..وهكذا كنت أرى الدنيا وهى مغمورة بهذا الضوء المفرح البهيج .
ارتديت للمرة الثانية نفس الجيب والبلوزة اللتين زرته بهما ومن فوقهما ارتديت عباءة الرعي واللثام وأخذت معي المعيز في جولتي اليومية وذهبنا إليه . عند باب الحديقة توقفنا وخيل إلىّ أن المعيز توقفت من تلقاء نفسها . فوجئت به يفتح الباب ويخرج إلى الشرفة الأرضية وهو يتطلع إلينا مبتسما في فرح، لوح لي بيده وسمعته يناديني باسمي:
يا وردة ..تعالى يا وردة ..ويدعوني إلى الدخول قائلا ..
ـ سمعت صوتكم من مكتبتي بالداخل وأنتم تقتربون من البيت ففتحت الباب ..تعالى يا وردة ..أدخلي لتشاهدي كيف أعيش 0
دخلت المعيز مهرولة إلى الحديقة الأمامية وقد أحنت رقابها لتقضم العشب المنتشر في الحديقة وتوجهت أنا إليه . أحسست من نظرته أنه كان ينتظرني ويتوقع حضوري في كل يوم مضى منذ لقائي على الشرفة، عيناه تقولان ذلك وأكثر دون أن يتكلم ، ليته يتكلم ويقول لي لقد أوحشتني يا وردة ..لماذا لا يفعل هه ؟!
لما كرر دعوته إلى الدخول أحسست أنه في حاجة إلىّ وهذا ما دفعني إلى الدخول .
ـ إني أقرأ لك في الجريدة ..قرأت لك رواية الزهرة الصخرية منذ سبع سنوات ..إنها رواية بديعة ومدهشة يا أستاذ محمد ..
ـ أنت تقرأين؟ ..كيف حصلت عليها؟..لم أكن أتصور ..آسف ..
ـ لولاك لما قرأتها ..فأنت الذي قلت لي أن أقرأها..إني أحب القراءة منذ كنت في المدرسة وأحببتها أكثر بعد أن رأيتك ..
ـ ولماذا لم تكملي تعليمك يا وردة .. خسارة ..
ـ هكذا شاءت الظروف ..
كانت أحاسيسي أقوى من عاطفته، لكنى شعرت أثناء لقائي به في مكتبته بأن عواطفه ساخنة رغم تحفظه وحذره في التعبير عما يشعر به تجاهي ، بل لقد لمست جانبا مدهشا في شخصيته عندما رأيت أن أشياء كثيرة تثير دهشته وكأنه ما زال طفلا يكتشف الأشياء من حوله ويتعامل معها كما يفعل الطفل . اعترف لي بأنه لا يتذكر الفتاة البدوية التي رآها ضمن طالبات المدرسة منذ سبع سنوات وإن كان يتذكر زيارته للمدرسة ضمن زياراته لمدارس أخرى .
في المكتبة كشفت له عن وجهي وخلعت عباءتي التي أرعى بها غنمي ، أمام رفوف المكتبة تلامست معه، كنت أضع كفى على ذراعه وكتفه من حين لآخر وهو يستعرض لي محتويات المكتبة وأنا مأخوذة ، انتهزت الفرصة لأقترب منه لحد التلامس ولما رأيته مستمرا في حديثه لي عن الكتب دون أن ينتبه للمساتي ومشاعري واجهته وألصقت صدري بصدره، اتسعت عيناه من الدهشة وقبل أن يفيق منها قبلته في شفتيه فضمني إلى صدره فسمعت زغرودة طويلة تسرى في جسدي .

رأته عزة ابنة عمى عندما زارنا في المنطقة التي نسكن فيها، يومها قالت لي عزة ونحن نجلس تحت النخلة خلف البيت ..
ـ إنه كبير عليك ..هل جننت يا وردة ؟
ـ إنك ترينه من الخارج كما يبدو لعينيك..لم تسمعيه وهو يتكلم معنا في أيام المدرسة ..انظري إليه بقلبك بمشاعرك إذا كان عندك مشاعر ..
أي قلب يا وردة وأي مشاعر ؟
ـ إذا دق قلبك بقوة عندما ترينه وتسمعينه فأنت تحبينه حتى لو كان عمره أكبر من عمرك ثلاث مرات .
ـ ولماذا لم يدق قلبك لمن هم أصغر وأجمل منه ؟
ـ لأن قلبي لا يدق بقوة عندما أراهم ..
وفى المساء حدثتني أمي قالت :
ـ يا بنتي ماذا جرى لك؟ إنك تحبين رجلا في عمر والدك ..
ـ وأين هو أبى يا أمي ..أبى الذي تركنا وأختفي من حياتنا ؟
ـ إذا كنت معجبة بعلمه وأدبه فهذا لا يدفعك إلى حبك له كأنك تنتقمين من والدك الغائب.
ـ كلكم تقولون عليه كبيرا وأنا لا أراه كذلك سواء كنت أحببته بديلا عن أبى الغائب أو أحببته لشخصيته وثقافته ..إنه إنسان رائع يا أمي وستحبينه كما أحبه ..
ـ أخاف عليك يا بنتي مما أنت فيه ..ما الذي غيرك بهذا الشكل؟ هل تفكرين في الزواج منه ؟
ـ زوجة عمى أصغر منه بعشرين سنة ..
ـ يعنى أنت تفكرين في الزواج منه ..
ـ أنا لم أفكر أبدا في الزواج منه..
ـ طيب ..ماذا تريدين منه؟ وما نهاية علاقتك به ؟
ـ لا أريد منه إلا شيئا واحدا وهو ألا يغيب عن عيني ولا يهم ما يحدث بعد ذلك .

يراودني دائما مشهد إسماعيل وقمره في رواية الزهرة الصخرية عندما مزق رداءها وانكشف جسمها الأسمر في لون الصخر، ذلك المشهد الذي رأيت فيه نفسي . انتابتني فكرة مجنونة لو نفذتها سأعرف ماذا ستكون مشاعره لو وضعت نفسي مكان قمره عندما مزق ملابسها رغم أن ثوبها لم يكن سوى قطعة ملابس صغيرة تستر بها نفسها ، هكذا كانت عادة الناس في الزهرة الصخرية ، هل أنا مجنونة ؟ هل من الممكن أن يقوم محمد بدور إسماعيل معي بدلا من قمره؟ أليس هو الذي تخيل هذا المشهد وكتبه؟ ألم يذكر مرة في كتاباته أنه لا يفرق بين الخيال والواقع عندما يكتب ؟
ونفذت الفكرة ..

( 9 ) صديقي العزيز..أحبك مثل حبي لوردة

أتكلم معكم بصفتي حمار وردة لامؤاخذة،وردة التي تعرفونها جميعا ..حقيقة أنا ليس لي لا في العير ولا في النفير ، قد يكون لي في النعير والنهيق لكنى وجدت نفسي أبادر بالكلام وكان من المفروض أن تتكلم المعيز ولست أنا لامؤاخذة، لكنها معيز على أية حال ، وقد أقنعوني بأني أستطيع أن أعبر عن مشاعرهم ومشاعري أحسن منها .. من المعيز يعنى ..
قبل أن أتكلم عن وردة أحب أن أعطيكم فكرة عن شخصي المتواضع لا مؤاخذة ، فأنا ولدت فوجدت نفسي حمارا ، وظلت أمي ترعاني حتى وجدت نفسي في بيت وردة. كان أبى يعمل في مواسم الحصاد في نقل حزم البرسيم من الغيطان، لكنه في الأساس كان حمار سبخ لا مؤاخذة وهذا ليس عيبا فمن سينقل السبخ سوى الحمار ، وكانت ميزة أبى في عملية نقل السبخ أنه يستطيع أن ينقل السبخ من مكانه حتى الأرض الزراعية عدة مرات في اليوم الواحد بل ولعدة أيام أخرى إن لزم الأمر دون أن يقوده أو يركبه أي إنسان، فقط في المرة الأولى التي يحتاج فيها إلى دليل من موقع السبخ حتى مطرح الأرض الزراعية ليصبح بعد ذلك مسئولا مسؤولية كاملة وبمفرده عن إنجاز العملية رايح جاى دون مساعدة إنسان.
أما أنا فالحمد لله لم أعمل في نقل السبخ لأن الأرض في المنطقة التي تسكن فيها وردة وأسرتها كانت أرض رملية وسكانها لا يهتمون بالزراعة التي تحتاج إلى سبخ ويكتفون بزرع النخيل والأشجار ذات الظل الوارف وهى قليلة على أية حال .
أنا أقول هذا الكلام لأن الناس تعتقد أن حمار السبخ هو أوسخ لامؤاخذة حمار على وجه الأرض .
فى أيام شبابي، كانوا في بيت وردة فرحين بي فاشتروا لي طقم و لجام ولكن مع مرور الشهور والسنين راح الطقم وراح اللجام وأصبحت عاريا دون أي إكسسوارات . ولى كل الفخر بأن وردة هي الوحيدة التي كانت تركبني من صغرها حتى الآن فأصبح ظهري مطيعا لها، بل إني أكون منشرحا ومغتبطا حينما أشعر بمقعدتها اللينة فوق ظهري وساقاها متدليتان على الجانبين ويديها على رقبتي .
لذلك فإني أقول لكم أنكم لن تعرفوني الآن إذا رأيتموني في الطريق بالصدفة، لكن ربما تعرفوني إذا كانت وردة تركبني لأنكم تعرفون وردة .
أنا أعرف كل شئ عن وردة رغم إني لم أكن في الصورة وشبه غائب في حكايتها، لا أحب الكلام ولا البحلقة في الأشياء التي لا تخصني وكلكم تعرفون أن الحمير دائما تنظر إلى الأرض ومن النادر أن تروا حمارا ينظر إلى أعلى ،دائما رقبته مدلاة إلى حيث الأرض، صامتا قنوعا حكيما في رد فعله تجاه من يسخر منه أو يؤذيه، رغم أنكم تتهمونه بالغباء سامحكم الله . أما عن الرفس فهو أقل شئ يفعله للدفاع عن نفسه وقت الضرورة أو ليعلن عن رأيه فيما يحدث له .
إن الحمار يمتاز بأنه أكثر الحيوانات بكاء وأعتقد أن بعضكم رأوا حمارا أو أكثر وهو يبكى من الألم ودموعه تسيل على وجهه، وهذا طبع الحمير كلها ولا أدعى هذه الصفات لنفسي فقط.
سلالة الحمير أصيلة وكانت موجودة ومستأنسة من قبل وجود الفراعنة، لكننا في الأصل لم نكن وحوشا، حتى البغال التي تدعى أنها سلالة أفضل منا ، لم تكن موجودة في الأساس في عصر الفراعنة لأنها ظهرت فقط عندما التقت سلالتنا نحن الحمير بسلالة الأحصنة ، هي صدفة وحيدة في تاريخ الكائنات عندما عشق حصان حمارة فأنجبا بغلا !
هذا الكلام يجعل عيني تدمع لأنه يذكرني بمأساتي ..فأنا أعيش في بيت وردة منذ عشرين عاما وأكثر وحتى هذه اللحظة التي أتكلم فيها إليكم لم تفكر وردة ولا أحد في أسرتها بإحضار حمارة من أجلى ..حقيقة هي أسرة على قد حالها لكن ثمن الحمارة ليس كبيرا إلى الحد الذي يحرمني من أن تكون لي حياتي الطبيعية ..حتى الجيران يمنعون حماراتهم من الاقتراب منى أو الكلام معي ، فقط صديقي حمار عزة بنت عم وردة ، لكنه عندما أذهب للقائه يخفى حمارته في الحوش ويخرج لي وحده .
رغم هذا فإني رضيت بحظي وبحياتي في بيت وردة وإن كنت أموت غيظا وأنا أتفرج على هذا التيس ابن الكلب وهو يتعامل مع أكثر من عشرين معزة في العشة أو في حوش البيت الذي امتلأ بأولاده .
شعرت أن الدنيا تغيرت من يوم دخول صديقي العزيز الأستاذ محمد الراوى في حياتنا. كنا وردة والمعيز وأنا نمر على بيته يوميا سواء توقفنا بسبب دخول وردة بيت الأستاذ أو استمر سيرنا حتى آخر صف البيوت عند شاطئ البحر. وأنا فاهم إن وردة تتعمد غصب عنها يعنى أن لا تمر على الأستاذ كل يوم حتى لا يزهق منها ،وفى أي يوم نمر أمام البيت دون أن نتوقف ألاحظ أن وردة كانت تلتفت برأسها إلى الخلف ناحية البيت الذي لم نتوقف عنده .
كنت أحس أن وردة نفسها في الأستاذ لا مؤاخذة ، وكنت ألاحظ أن الأستاذ ماسك نفسه، وعامل اعتبار لوضعه وشخصيته ، رغم إني أشعر في أوقات كثيرة إن شخصيته مرحة وبسيطة ولم نشعر باختلاف كبير بيننا وبينه .
تعلمت من تصرفات وردة والأستاذ محمد كيف يتحكم الإنسان في مشاعره ويحبسها ..في البداية، بداية العلاقة يعنى، كانت وردة تدخل بيت الأستاذ وننتظرها أنا والمعيز في الحديقة ، وكن الحظ أن المعزة نوسة حبيبة وردة تختفي فأعرف أنها مع وردة والأستاذ في حجرة المكتبة . كانت وردة في معظم الحيان تخرج إلينا ومعها كتاب أو مجلة ، وقبل أن تقترب من باب الحديقة الخارجي الذي يطل على الشارع كانت تخفى وجهها المتورد وعينيها المفتوحتين على الآخر وراء اللثام .
حقيقي إن وردة تأثرت بالأستاذ جدا، ورغم طبعها في الأصل هادئ وتحب الوحدة إلا إنها بعد معرفتها به كانت تتركنا في الخلاء وتقعد على الأرض قريبا منا إما سرحانة أو تقرأ في الكتاب الذي أخذته منه .
حتى معاملتها لنا في البيت أو في الشارع أو في الخلاء كانت تعاملنا برقة وحنية. وردة نفسها رقيقة لكن رقتها زادت بعد ظهور الأستاذ في حياتنا ، ونحن المعيز وأنا يعنى مبسوطين جدا جدا .
والشيء العجيب بالنسبة لي على الأقل إن الصورة تغيرت..فبدلا من أن تخرج وردة من بيت الأستاذ ومعها كتاب أو مجلة ، بدأت تخرج ومعها الأستاذ محمد ذات نفسه..لا ليوصلها إلى باب الحديقة الخارجي ..لا..لكن ليسير معنا في موكب جميل، وردة بلبس الرعي واللثام والأستاذ بالقميص والبنطلون وأحيانا بجاكت أو بلوفر ..والمدهش أن الأستاذ كان يبدو عليه الانشراح والانبساط وهو يسير بجوار وردة وسطنا أو أمامنا ونحن من خلفهما حسب الأحوال ..لا يبدو عليه خجل ولا حرج ودائما مشغول بالكلام مع وردة ولا يوقفهما إلا وصولنا إلى شاطئ البحر .
لا فرق عنده بين الكرسي أو الأرض والرصيف وكوم الطوب أو الرمل، كل مكان عنده يصلح للقعود . لكن عندما ذهب معنا وردة وأنا والمعيز إلى البحر لنأخذ حمامنا الأسبوعي تحت الشمس لفت نظري شئ غريب فقد لاحظت أن الأستاذ محمد وهو معنا على الشاطئ كان كمن يرى البحر لأول مرة رغم أن البحر قريب من بيته ويستطيع أن يراه من شرفته ونوافذه..كان ينظر إلى البحر وكأنه يكتشفه لأول مرة .
ولا أنسى أول مرة يذهب فيها معنا إلى شاطئ البحر بعد أن طلبت منه وردة ذلك فقد كانت شمس الصباح ناعمة تداعب حرارتها أجسامنا أنا والمعيز دون مضايقة أو تأفف وكانت أجسامنا تمتص أشعة الشمس لتسرى في أحشائنا وعروقنا لتجعلنا نشعر بالمرح والرغبة في النطح والقفز واللعب والتمرغ على رمل الشاطئ بالنسبة لي ..
فأجمل لحظة أنتظرها كل أسبوع هو يوم ذهابنا إلى شاطئ البحر لأستلقي بظهري على الرمال وأرفع سيقاني الأربعة إلى فوق ثم ممارسة الرمح على رمال الشاطئ لمسافات طويلة رايح جاى أستنشق هواء البحر المنعش وأذناي الطويلتان منتصبتان تلتقطان صوت البحر الذي يختلف تماما عن صوت الناس وصوت العربات والضجيج المزعج الذي يملأ الشوارع والذي يجعلني أدلدل أذني إلى أسفل لكن دون فائدة .
وكما لفت نظري الأستاذ محمد وهو معنا على الشاطئ لفتت نظري وردة بتصرفاتها، حقيقة إنها تشاركنا مرحنا ولعبنا على الشاطئ لكن في وجود الأستاذ محمد أول مرة تغيرت تصرفات وردة ..فقد خلعت اللثام فظهر وجهها سافرا وتركت شعرها يطير في الوسع ولم تهتم بعباءتها وتركتها ليفعل بها الهواء ما يشاء فرأى الأستاذ محمد ما لم أره أنا من جسم وردة طول حياتي معها.
أعرف أن وردة تحب الأستاذ، وأنا أحب الأستاذ لأن وردة تحبه وهو يحبها وأعتقد أنه يحبني ، وقد ركبنى في ذلك اليوم ونحن على شاطئ البحر بتشجيع من وردة عندما قال لها أنه لم يركب حمارا من قبل، وشرحت له كيف يقود حمارا وللأسف فقد سقط من فوق ظهري على رمل الشاطئ بسبب سوء فهم منى ومنه لكننا ضحكنا جميعا رغم أنهما لم يشاهدا ضحكتي لأن البشر لا يتصورون أن الحمار ممكن يضحك مثلهم ولأن الحمار عندما يضحك يبدو قبيح الوجه فيظن من يرى الحمار وهو يضحك أنه يتثاءب .
البنت عزة جذابة فعلا لكنها خفيفة تحب تبص للشبان وتقف أمام بيتها طول النهار تبحلق في الرايح والجاى، تمشى في الشارع وكل حاجتها بترقص عكس وردة إلا إذا سارت في الشارع لا تلتفت لإنسان كان ولا يبدو منها سوى عيناها من خلف اللثام اللهم إلا إذا كانت مع الأستاذ محمد فهي تتحول إلى إنسان آخر تختلف عما تعودناه من طبيعتها طول عمرنا معها .
في يوم من الأيام كنت أتجول آخر النهار وراء بيت وردة فوجدتها تقعد مع عزة بنت عمها على الأرض تحت النخلة التي تحب دائما القعود تحتها قبل مغيب الشمس. سمعتهما تتحدثان وكان صوت عزة أعلى من صوت وردة . رفعت أذنى في الهواء لأسمع ما تقولان ليس تلصصا عليهما ولكن خوفا على وردة من كلام البنت عزة المعووج .
سمعت عزة تقول لوردة ضاحكة ـ يا عيني على الحب
ـ أنت لا تعرفين عنه أي شئ
ـ أعرف انه جعلك حلوة..أكثر حلاوة
ـ اختشى يا عزة.عينك مكشوفة
ـ من الذي يختشى.أنت أم أنا ؟
ـ أنا لا أختشى من شئ راضية عنه
ـ راضية عن إيه؟
ـ لن أقول لك لأنك لن تفهميني
ـ رأيتكما في الليل داخلين العشة
ـ لم يحدث ..انت واهمة من وقوفك طول النهار والليل أمام بيتكم
ـ يوم سفر أمك وأخوتك..إذا غاب القط العب يا فأر
ـ فأر يدخل صدرك
ـ يا ريت ..
استمر الكلام بين وردة وعزة بصوت لم أسمعه رغم إني كنت قريبا منهما مطأطئ الرأس ناظرا إلى الأرض . فجأة سمعت طرقعة من ناحيتهما ،التفت بسرعة فرأيت ذراع وردة مرفوعا ويبدو أنها ضربت عزة بقوة على خدها، ولا أعرف ما الذي جعل وردة ترد بهذا الشكل ومن الذي علمها ضرب الأقلام،لكن لا بد أن ما سمعته أثارها وجعلها تضرب عزة ابنة عمها على وجهها بالقلم .
تمنيت في هذه اللحظة أن يكون الأستاذ محمد موجودا لا ليصلح ما بينهما فقط ولكن ليكتب عن هذا المشهد الذي حدث بالقرب منى ..أليس هو كاتبا وعنده كتب مليئة بالحكايات ؟
قامت عزة واقفة مفزوعة من المفاجأة وهى تضع راحة يدها فوق خدها المضروب وتنفست في انفعال جعل جسمها كله يهتز وقالت لوردة كلاما سريعا سمعته ولم أفهمه، ثم تركتها بخطوات سريعة غير مضبوطة ناحية بيتها . بعد ذلك رأيت وردة تدفس رأسها بين ركبتيها المرفوعتين ويهتز جسمها فعرفت أنها تبكى بشدة .
وردة بنت حساسة وليست عنيفة لكن أنا أعرف ما الذي سمعته من عزة وأثارها ..هو سبب واحد لا يوجد غيره ..لأن وردة وعزة طول عمرهما حبايب من أيام الولادة مثل أختين ، لكن عزة تفرق عن وردة في كلامها وجرأتها فهي لا تخجل من أشياء كثيرة بعكس وردة .
أرى وردة تفتح الكتب وتنظر فيها وقتا طويلا حتى تعلمت أن الذي يفعل ذلك فهو يقرأ، وأرى وردة تفتح مجلات أوراقها أكبر وتقلبها من حين لآخر وعرفت أن هذه المجلات التي هي أكبر من الكتب بها صور تتفرج عليها وردة .
في أحيان كثيرة عندما نكون في جولة رعى في الخارج أو في حوش البيت أرى وردة تقعد صامتة ولا تتحرك مثل بعضنا لا مؤاخذه فأعرف أنها تفكر ..رغم أننا نحن الحمير أو المعيز لا أظن أننا نفكر عندما نقف صامتين أو راقدين على الأرض لأننا مخلوقات غير مفكرة في الأصل..
لكن ممكن نعبر عن أوجاعنا بالأصوات أو الدموع وممكن نعبر عن سعادتنا بالقفز والنطح والبرطعة ، وفى أحوال قليلة ممكن نعبر عن غضبنا بالرفس أو العض وممكن نعبر عن خوفنا بالهروب .
الأستاذ محمد كان من النوع الذي تميل إليه وردة لذلك أحبته . لكن عزة لا تعرف هذه الأشياء ولا ترى في الأستاذ محمد مثلا إلا شيئا واحدا أنه كبير في السن ولا يصلح .
وهى لا تقرأ في الكتب ولا تتفرج في المجلات وتبحلق في الشبان أمثالها ولا تفكر إلا في شئ واحد لا مؤاخذة .. يعنى ممكن تتصرف في نفسها كأنها معزة مثلا .
سبب واحد لا يوجد غيره جعل وردة تفقد أعصابها وتضرب عزة على وجهها بالقلم ..سبب واحد أنا أعرفه وهو العشة . أنا أعرف أن عزة رأت الأستاذ ووردة عند العشة في الليل لأنها واقفة ليل نهار أمام باب بيتها ، لكنها لم تر أي شئ خلاف ذلك وكل ما قالته من خيالها .
أنا في الحقيقة شفت وكان هذا في اليوم التالي من سفر أم وردة وأخواتها تاركين وردة لترعانا لحين عودتهم . كنت أحس بأن شيئا سيحدث لم يحدث من قبل ،فالأستاذ جاء من قبل إلى وردة في البيت ولم يدخله وسلم على أمها التي قدمت له الشاي وهو قاعد مع وردة تحت النخلة ، لكن تلك الزيارة كانت في اليوم التالي من سفر أمها وأخواتها وكانت الزيارة في الليل .
في صباح ذلك اليوم أخرجتنا وردة من العشة وأخذت تنظفها وتقلب القش وتسويه ولم تجعلنا ندخلها حتى صباح اليوم التالي ، وفى الليل جاءت وردة ودخلت إلى العشة ومعها الأستاذ وأغلقت الباب لغاية الصبح .
أنا شفت والمعيز شافوا فالعشة حيطانها وسقفها من جذوع الأشجار وألواح الخشب وممكن العين تشوف وممكن أي نور يدخل من الفتحات والشقوق ، ولولا إني حمار لحدثت في الأمور أمور .
شفت مرة واحدة ولم أكررها لأني أحب وردة ..كانت نائمة على القش غاطسه فيه وكان الأستاذ معها ..
سألت نفسي هل الحب يفعل كل ذلك بالإنسان ؟






أعلى