الفصل الأول
ج١
من روايتي
بعيدا عن ضجيج العالم
استيقظت "أمل" بعد منتصف الليل على صوت ارتطام باب المنزل، أصغت بتوجس لصوت خطى مرتبكة في الشارع، فنهضت دون أن تثير ضوضاء أو جلبة، وتفقدت المنزل فوجدته ساكنًا، وأيقنت أن ولدها "جواد" قد خرج، فتساءلت : إلى أين؟ فالوقت قد تجاوز منتصف الليل!
وارتدت ملابسها على عجلة، ثم هرعت بحثا عنه، لكنها لم تستطع الابتعاد أكثر، لاسيما ورشقات الرصاص البعيدة في ازدياد؛ فعادت أدراجها وجِلة. وكانت بين الفينة والفينة تمد عنقها المتعب عبر النافذة؛ عَلَّ ظله يلوحُ من أفق الحي فيستكين قلقها، ثم تلقفت الأوراق المتناثرة في زاوية غرفته فقرأت ماكتبه ولدها الصحفي:
"نحن مقبلون على فترة صعبة، وفي الحروب تنهار الأخلاق والاقتصاد؛ فيسود الأشرار المجتمع، ويتشوه الناس فيتبخر الخير، ويتحول كل شيء إلى غابة، ولهذا تُصبح الحياة الكريمة شبه مُستحيلة!"
تنفست الصعداء بحرقة بعد قراءة هذه الجملة المكلومة، وبدت حائرة؛ فثمة تساؤلات عميقة مطولة بلا نهاية في رأسها، وبعد حركة تعجب من شفتيها تمتمت:
- ربما لقاءات عمل سرية!
استلقت قليلًا واسترخت بجسدها النحيل على الأريكة تراقب ألسنة النار وهي تلتهم المزيد من قرامي الحطب الموضوعة في مدخنة غرفة الاستقبال الباردة، بينما تتسائل بصمت عن الحياة الكائنة في الأحياء الأخرى، وحتى حياة ما بعد الموت، ومباشرة ارتسمت صورة زوجها أمامها وهي تتسائل:
ترى أين يكون الآن؟ هل حقًا مات؟
وأخذت تتذكر حياتهم البسيطة الوارفة بدفء العائلة، على الرغم من بساطة معيشتهم إلا أنهم كانوا سعداء للغاية، وتذكرت كذلك تلك الخلافات الصغيرة التي لا تخلو منها أية عائلة وهي فعلا ما تجعل للحياة مذاق مختلف، لقد كانت حياتهم مثالية ومبهجة إلى حين اختفى زوجها "نضال" وانقلب كل شيء رأسا على عقب. من الناس من يقول أنه قتل برصاصات مجهولة استقرت في صدره ورأسه، ومنهم من قال: أنه كان يركض أثناء رمي الرصاص فأصابه، وظل على حاله يركض وهو يصارع الموت، خوفا من أن يعيش في سجون المحتلين السوداء، وظل يركض حتى فارق الحياة شريفًا لم يدنس وطنه باستسلامه.
جعلت هذه الذكرى الخاطفة قلبها يئنُ حسرةً وكمدًا وتذكرت أنه في الفترات الأخيرة بعد سقوط بغداد في أيدي الإحتلال لم تعد تروقه الحياة.
وجر عليها تذكر "نضال" زوجها، تذكر الماضي، فأخذت تقلب الصور في ذاكرتها تنشد الهدوء مستذكرة أيام الطفولة والركض بين أشجار النخيل، وكان لسان حالها يقول: كم أحتاج إلى عناق طويل لتلك الأيام.
لقد مرت ثلاثة أيام موحشة بلياليها الخالية من ولدها الصحفي "جواد"، وقد استفحل القلق حتى طغى على ملامحها المتعبة مما دعاها لطلب زملائه لينشروا خبر اختفائِه بالخط العريض في الصحيفة. وكان اختفاؤه ضربة قاصمة لها؛ وهي ما برحت تلملم جرحها الأول باختفاء زوجها "نضال".
وبينما القلق يلتهم شغاف قلب "أمل"، وعلى مسافة ليست بالبعيدة، كان جواد ينظر للمكان من حوله ويمعن النظر. إنه في مكان خالي من كل شيء، عدا مصباح ضئيل ضعيف الإضاءة بمقربته.
فجأة سمع صوتاً ناعماً:
- حمدًا للهِ على سلامتك!
كانت فتاة بيضاء جميلة القد وفي مقتبل العمر مكتحلة العينين على شاكلة البدو. شَعرَ جواد وكأنها تعرفه من أسلوب تحديقها به، وبعد أن شكرها تساءل:
-ولكن ما الذي جاء بي إلى هنا؟
- عثرَ عليك صدفة رعاة الإبل.
- رعاةُ إبل؟! أين أنا؟
- في الكوفة.
- الكوفة! ما الذي أتى بي إلى هنا؟
لم تحر جوابا فصمتت ليقول:
- آخر ما أتذكره أني كنت في طريقي إلى بغداد أقود السيارة، لقد تلقيت مكالمة هاتفية من صديق يخبرني بوقوع انفجار مدو أوقع العشرات من المدنيين بين قتيل وجريح.
نظرات الحيرة على وجهها جعلته يتساءل:
- ماذا بكِ؟
- لم أفهم ماذا تقصد؟ تقول أنك كنت في بغداد، فما هي؟ وماذا تعني بالمكالمة الهاتفية؟ وما السيارة؟ وتقول انفجار! هذا شيء خطير.
- انظري يا …
- "شحفورة"! اسمي "شحفورة"! هل نسيت؟
- هل أعرفكِ؟
- ماذا بك يا "جواد"؟ وكأنك قد فقدت ذاكرتك! أنا مخطوبتك!
الذهول ارتسم على وجهه، وبدا وكأنه فقد النطق. متى حدث هذا؟ ما الذي جرى له؟
لتقول "شحفورة" بشفقة وهي تدفعه برفق ليستلقي على فراشه:
- نل قسطا من الراحة فأنت تحتاجه.
واستسلم "جواد" للنوم ليغط فيه بعمق.
وبعد وقت ليس بقليل، استيقظ ببطء وواجه ضوءً مزعجًا. هذه المرة توجد نافذة ويوجد ضوء! تلفت حوله ووجد نفسه مستلقيا في مكان بدا وكأنه مشفى.
- حمدا لله على سلامتك!
كان هذا صوت الممرضة بزيها الأبيض المميز، والتي أردفت قائلة:
- سآتي بالطبيب ليفحصك.
وتهرع راكضة.
يحاول "جواد" النهوض ولكن الدوار الذي باغته منعه من ذلك. ليقول له الطبيب الذي أتى للتو برفقة الممرضة:
- رفقا بنفسك! ما زلت تحتاج إلى الرعاية حتى تسترد عافيتك.
يمسك الطبيب بيده ويقيس مؤشراته الحيوية. نظرات القلق بدت على محيا الطبيب عندما فحص الأشعة التي أجريت على رأس "جواد". انتقل هذا القلق للأخير فقال:
- ماذا؟ ما الذي أصابني؟
بشيء من الغموض يجيبه الطبيب:
- هل تذكر ماذا حدث لك؟
عندها شعر "جواد" بصداع مقيت وجمع بين حاجبيه من شدة الألم وأمسك برأسهِ وهو يصيح؛ فاصفرَ وجه الطبيب وقال آمرًا للممرضته:
- دعيه يرتاح، يبدو أنه لا يذكر تلك الليلة التي تعرض فيها لرصاصات المسلحين من المعارضة، وأن دورية مسح هي من وجدته وسيارته في فاصل الحدود بين بغداد والأنبار.
فأجابت الممرضة بالسمع والطاعة وبينما كانت تحقن المخدر كان عقل جواد قد ذهب إلى "شحفورة" والمكان الذي كان معها؟ لا يدري ما هذا الحلم الغريب ولمَ هذه الخيالات في صحوهِ تأتيه كالأشباح، وعلى كلٍ لا يعلم لم يشعر أن هذا الحلم جزء من الواقع وأنه قد عايشه عيانًا ولم يحلم به!
ولم يواصل "جواد" التفكير في الأمر إذ ارتخى جفناه إثر تأثير المخدر وغط عميقًا من جديد.
في منتصف النهار استيقظ "جواد" بوجهٍ طليق وكأنه شخص غير الشخص المزمجر ليلة البارحة، وبدا مرتاح البال وقد تذكر كل شيء، عندما رأته الممرضة متكئًا مستقرًا لم تكن حافلةً بالأمر كالبارحة، وعادت أدراجها بكل رتابة لتعلم الطبيب .
لقد كان إرهاق البارحة مشوشًا على تفكيره وما كانت به قدرة على تمييز الخيال من الواقع، يا للأسف كان خارجًا ليلتها بسيارته من ضواحي الأنبار متجها لمقر الصحافة والإعلام في العاصمة بغداد، لقد كان في مهمته، ولكن رصاصات المعارضة أصابت إطارات سيارته المسرعة دون قصد منهم، هو يعلم ذلك، لا بد أنه حصل لبس بين سيارته التي يعرفونها وبين غيرها، ولعل انقلاب السيارة الشديد وهو داخلها جعله يحلم أن زوبعة ما ابتلعته ورمت به إلى تلك البدوية "شحفورة". وكان هذا التفسير هو ذاته الذي شرحه للطبيب الذي أصر على أن هنالك لغزًا ما، وأن نشاط عقله في مناطق معينة كان مريبًا!
لم يهتم "جواد" لتفسيرات الطبيب، ما يهمه أنه قد عاد سالمًا وبإمكانهِ أيضًا أن يعود لوالدته ويطمئنها، فلا بد أن القلق والوجد عليه قد أقعدها، وقال:
- يالقساوتي يوم أنّي ظننت أن عدم إخبارها بخروجي أهون من أن أخبرها بخطورة مهمتي!
التفت "جواد" ليتدارك الطبيب وقال:
- متى يحين خروجي؟
رد عليه الطبيب بضجر على خلاف ود وحماس البارحة:
- غدا صباحا إذا شاء الله.
تنفس الصعداء وقال لنفسه:
- لا بأس بقي القليل وأعود يا أمي، ليت هاتفي لازال معي!
وخرج الطبيب وهو يمسح على ذقنهِ لا يدري كيف يفسر ذلك النشاط الغريب الذي أظهره جهاز الرنين المغناطيسي، ولكنه عزم على ألا يستسلم يجب أن يعد العدة لكي يقنع "جواد" لكي يسمح له بقياس الموجات الكهرومغناطيسية التي يصدرها دماغه.
وجَنَّ الليل وأتى موعد نشرة الأخبار الليلية والمحببة لأي صحفي ولاسيما "جواد"، ففتح شاشة التلفاز بجهاز التحكم القريب منه، وكان أول خبر سمعه من المذيعة:
- نحن نعلم أن ما حدث لم يكن بالحسبان، ولكن بحكم نظرتك الاستباقية كخبير من الجهات التي تعتقد أنها متواطئة في هذه التفجيرات؟
- بداية نحن نعلم أن الانفجارات كانت عنيفة للغاية، بالنسبة لضواحي الأنبار التي لم يكن بمقدورها تحمل تلك الوحشية، وبالتالي أرى….
هنا توقفت حواس "جواد" عن الحياة، ماذا قال؟!
أقال ضواحي الأنبار؟
وأمي أين أمي؟! أقل القليل أنها قد أُصيبت!
جُنَّ جنون "جواد" لهذا الاحتمال ونزع الأجهزة المتصلة بجسده وخرج مكَمِمًا لفاه؛ كي لا تعرفه الممرضة أو الطبيب في حال التقاهما.
وفي ذات اللحظة التي غادر فيها جواد بوابة المشفى كان الطبيب قد أمسك بمقبض الغرفة التي يفترض أن يجد "جواد" مستلقٍ في سريرها، ولكنه قد هرب!
خرج "جواد" يسابق الوقت ليجد سيارة تُقله إلى ضواحي الأنبار من جهة بغداد، ولكن لا أحد وافق على طلبه، وكان الجميع يستنكر طلبه وكانوا يتعللون بأن الضواحي المشتركة بين حدود بغداد قد دمرت بالكامل، وإن هو أراد إلا الذهاب فليكن عن طريق حدود صلاح الدين أو بابل، وكان "جواد" يزداد يأسًا من سماع هذه الأخبار، حتى أتاه الله برجل عجوز وافق على طلبه، جراء العوز والحاجة وهو في مقابل لقمة العيش الحلال لا يبالي إن كان سيذهب إلى ضواحي الأنبار أو الجحيم.
وكان الصمت سيد الموقف إلا من صوت محرك السيارة القديم والذي يبدو أنهم لن يصلوا بسببه حتى الصباح، وجال جواد ببصره في صندوق السيارة فجذب صحيفة وقام بفتحها، وعندما فتحها شخص بصره وارتعدت فرائصه، والتفت إلى العجوز وقال:
- هل تقرأ هذه الصحف؟
رد العجوز مستهجنًا:
- يجبروننا على شرائها لم تعد الحرية الفكرية ملكنا، لو كنت أفضل أن أشتري صحيفة لاشتريت الصحائف الترفيهية عوضًا….
ولم يواصل "جواد" الاستماع لثرثرة العجوز فقد استرعى انتباهه إعلان صغير؛ إنها أمه لا ريب التي قامت بهذا؛ إنها لا تعدم الوسيلة في البحث عنه. صورته تزين الإعلان، ومكتوب فيه "مكافأة لمن يستدل عليه".
- أنت مشهور!
قالها العجوز؛ مما جعل "جواد" يتوقع أن الأخير لمح الإعلان. التزم "جواد" الصمت فلم يقل شيئا، فلا شيء يقال؛ والعجوز أخذ يثرثر طوال الطريق ولكن ذهن الأول منشغل بأمه.
- هه ماذا تقول في هذا الأمر؟ من الأقرب للفوز؟
انتبه "جواد" إلى سؤال العجوز ولكنه لم يدر كيف يجيبه وهو الذي كان منشغل البال؛ فيعيد العجوز السؤال على مسمعه موضحا:
- يا صاح أسألك عن من تظنه قادر على إنهاء هذه الحرب الضروس التي بُلِينا بها؛ فمن حقا يريد إنهاء هذا الصراع المقيت بين الحكومة والمعارضة؟ ويضع لباس الحرب ويجلس ليحادث الآخر دون دماء تراق ولا أرواح تزهق.
- لقد تخلينا عن فطرتنا السوية وتحولنا إلى وحوش، قلوبنا تحجرت وتصلبت، وشهوتنا إلى السلطة عمت عيوننا وختمت على قلوبنا، وحدتنا اندثرت والفرقة دبت بين القلوب، جاعلة منا أفرادا بدلا من كوننا أمة موحدة تحت راية وطن واحد. أجيبك على سؤالك: الشر في داخلنا هو المنتصر.
يحملق العجوز في وجه "جواد" وكأن الإجابة مست شيئا داخله، وما لبث إلا وأن نظر إلى الطريق بوجوم وتابع القيادة، بينما القلق ينهش قلب "جواد" على أمه المكلومة.
ج١
من روايتي
بعيدا عن ضجيج العالم
استيقظت "أمل" بعد منتصف الليل على صوت ارتطام باب المنزل، أصغت بتوجس لصوت خطى مرتبكة في الشارع، فنهضت دون أن تثير ضوضاء أو جلبة، وتفقدت المنزل فوجدته ساكنًا، وأيقنت أن ولدها "جواد" قد خرج، فتساءلت : إلى أين؟ فالوقت قد تجاوز منتصف الليل!
وارتدت ملابسها على عجلة، ثم هرعت بحثا عنه، لكنها لم تستطع الابتعاد أكثر، لاسيما ورشقات الرصاص البعيدة في ازدياد؛ فعادت أدراجها وجِلة. وكانت بين الفينة والفينة تمد عنقها المتعب عبر النافذة؛ عَلَّ ظله يلوحُ من أفق الحي فيستكين قلقها، ثم تلقفت الأوراق المتناثرة في زاوية غرفته فقرأت ماكتبه ولدها الصحفي:
"نحن مقبلون على فترة صعبة، وفي الحروب تنهار الأخلاق والاقتصاد؛ فيسود الأشرار المجتمع، ويتشوه الناس فيتبخر الخير، ويتحول كل شيء إلى غابة، ولهذا تُصبح الحياة الكريمة شبه مُستحيلة!"
تنفست الصعداء بحرقة بعد قراءة هذه الجملة المكلومة، وبدت حائرة؛ فثمة تساؤلات عميقة مطولة بلا نهاية في رأسها، وبعد حركة تعجب من شفتيها تمتمت:
- ربما لقاءات عمل سرية!
استلقت قليلًا واسترخت بجسدها النحيل على الأريكة تراقب ألسنة النار وهي تلتهم المزيد من قرامي الحطب الموضوعة في مدخنة غرفة الاستقبال الباردة، بينما تتسائل بصمت عن الحياة الكائنة في الأحياء الأخرى، وحتى حياة ما بعد الموت، ومباشرة ارتسمت صورة زوجها أمامها وهي تتسائل:
ترى أين يكون الآن؟ هل حقًا مات؟
وأخذت تتذكر حياتهم البسيطة الوارفة بدفء العائلة، على الرغم من بساطة معيشتهم إلا أنهم كانوا سعداء للغاية، وتذكرت كذلك تلك الخلافات الصغيرة التي لا تخلو منها أية عائلة وهي فعلا ما تجعل للحياة مذاق مختلف، لقد كانت حياتهم مثالية ومبهجة إلى حين اختفى زوجها "نضال" وانقلب كل شيء رأسا على عقب. من الناس من يقول أنه قتل برصاصات مجهولة استقرت في صدره ورأسه، ومنهم من قال: أنه كان يركض أثناء رمي الرصاص فأصابه، وظل على حاله يركض وهو يصارع الموت، خوفا من أن يعيش في سجون المحتلين السوداء، وظل يركض حتى فارق الحياة شريفًا لم يدنس وطنه باستسلامه.
جعلت هذه الذكرى الخاطفة قلبها يئنُ حسرةً وكمدًا وتذكرت أنه في الفترات الأخيرة بعد سقوط بغداد في أيدي الإحتلال لم تعد تروقه الحياة.
وجر عليها تذكر "نضال" زوجها، تذكر الماضي، فأخذت تقلب الصور في ذاكرتها تنشد الهدوء مستذكرة أيام الطفولة والركض بين أشجار النخيل، وكان لسان حالها يقول: كم أحتاج إلى عناق طويل لتلك الأيام.
لقد مرت ثلاثة أيام موحشة بلياليها الخالية من ولدها الصحفي "جواد"، وقد استفحل القلق حتى طغى على ملامحها المتعبة مما دعاها لطلب زملائه لينشروا خبر اختفائِه بالخط العريض في الصحيفة. وكان اختفاؤه ضربة قاصمة لها؛ وهي ما برحت تلملم جرحها الأول باختفاء زوجها "نضال".
وبينما القلق يلتهم شغاف قلب "أمل"، وعلى مسافة ليست بالبعيدة، كان جواد ينظر للمكان من حوله ويمعن النظر. إنه في مكان خالي من كل شيء، عدا مصباح ضئيل ضعيف الإضاءة بمقربته.
فجأة سمع صوتاً ناعماً:
- حمدًا للهِ على سلامتك!
كانت فتاة بيضاء جميلة القد وفي مقتبل العمر مكتحلة العينين على شاكلة البدو. شَعرَ جواد وكأنها تعرفه من أسلوب تحديقها به، وبعد أن شكرها تساءل:
-ولكن ما الذي جاء بي إلى هنا؟
- عثرَ عليك صدفة رعاة الإبل.
- رعاةُ إبل؟! أين أنا؟
- في الكوفة.
- الكوفة! ما الذي أتى بي إلى هنا؟
لم تحر جوابا فصمتت ليقول:
- آخر ما أتذكره أني كنت في طريقي إلى بغداد أقود السيارة، لقد تلقيت مكالمة هاتفية من صديق يخبرني بوقوع انفجار مدو أوقع العشرات من المدنيين بين قتيل وجريح.
نظرات الحيرة على وجهها جعلته يتساءل:
- ماذا بكِ؟
- لم أفهم ماذا تقصد؟ تقول أنك كنت في بغداد، فما هي؟ وماذا تعني بالمكالمة الهاتفية؟ وما السيارة؟ وتقول انفجار! هذا شيء خطير.
- انظري يا …
- "شحفورة"! اسمي "شحفورة"! هل نسيت؟
- هل أعرفكِ؟
- ماذا بك يا "جواد"؟ وكأنك قد فقدت ذاكرتك! أنا مخطوبتك!
الذهول ارتسم على وجهه، وبدا وكأنه فقد النطق. متى حدث هذا؟ ما الذي جرى له؟
لتقول "شحفورة" بشفقة وهي تدفعه برفق ليستلقي على فراشه:
- نل قسطا من الراحة فأنت تحتاجه.
واستسلم "جواد" للنوم ليغط فيه بعمق.
وبعد وقت ليس بقليل، استيقظ ببطء وواجه ضوءً مزعجًا. هذه المرة توجد نافذة ويوجد ضوء! تلفت حوله ووجد نفسه مستلقيا في مكان بدا وكأنه مشفى.
- حمدا لله على سلامتك!
كان هذا صوت الممرضة بزيها الأبيض المميز، والتي أردفت قائلة:
- سآتي بالطبيب ليفحصك.
وتهرع راكضة.
يحاول "جواد" النهوض ولكن الدوار الذي باغته منعه من ذلك. ليقول له الطبيب الذي أتى للتو برفقة الممرضة:
- رفقا بنفسك! ما زلت تحتاج إلى الرعاية حتى تسترد عافيتك.
يمسك الطبيب بيده ويقيس مؤشراته الحيوية. نظرات القلق بدت على محيا الطبيب عندما فحص الأشعة التي أجريت على رأس "جواد". انتقل هذا القلق للأخير فقال:
- ماذا؟ ما الذي أصابني؟
بشيء من الغموض يجيبه الطبيب:
- هل تذكر ماذا حدث لك؟
عندها شعر "جواد" بصداع مقيت وجمع بين حاجبيه من شدة الألم وأمسك برأسهِ وهو يصيح؛ فاصفرَ وجه الطبيب وقال آمرًا للممرضته:
- دعيه يرتاح، يبدو أنه لا يذكر تلك الليلة التي تعرض فيها لرصاصات المسلحين من المعارضة، وأن دورية مسح هي من وجدته وسيارته في فاصل الحدود بين بغداد والأنبار.
فأجابت الممرضة بالسمع والطاعة وبينما كانت تحقن المخدر كان عقل جواد قد ذهب إلى "شحفورة" والمكان الذي كان معها؟ لا يدري ما هذا الحلم الغريب ولمَ هذه الخيالات في صحوهِ تأتيه كالأشباح، وعلى كلٍ لا يعلم لم يشعر أن هذا الحلم جزء من الواقع وأنه قد عايشه عيانًا ولم يحلم به!
ولم يواصل "جواد" التفكير في الأمر إذ ارتخى جفناه إثر تأثير المخدر وغط عميقًا من جديد.
في منتصف النهار استيقظ "جواد" بوجهٍ طليق وكأنه شخص غير الشخص المزمجر ليلة البارحة، وبدا مرتاح البال وقد تذكر كل شيء، عندما رأته الممرضة متكئًا مستقرًا لم تكن حافلةً بالأمر كالبارحة، وعادت أدراجها بكل رتابة لتعلم الطبيب .
لقد كان إرهاق البارحة مشوشًا على تفكيره وما كانت به قدرة على تمييز الخيال من الواقع، يا للأسف كان خارجًا ليلتها بسيارته من ضواحي الأنبار متجها لمقر الصحافة والإعلام في العاصمة بغداد، لقد كان في مهمته، ولكن رصاصات المعارضة أصابت إطارات سيارته المسرعة دون قصد منهم، هو يعلم ذلك، لا بد أنه حصل لبس بين سيارته التي يعرفونها وبين غيرها، ولعل انقلاب السيارة الشديد وهو داخلها جعله يحلم أن زوبعة ما ابتلعته ورمت به إلى تلك البدوية "شحفورة". وكان هذا التفسير هو ذاته الذي شرحه للطبيب الذي أصر على أن هنالك لغزًا ما، وأن نشاط عقله في مناطق معينة كان مريبًا!
لم يهتم "جواد" لتفسيرات الطبيب، ما يهمه أنه قد عاد سالمًا وبإمكانهِ أيضًا أن يعود لوالدته ويطمئنها، فلا بد أن القلق والوجد عليه قد أقعدها، وقال:
- يالقساوتي يوم أنّي ظننت أن عدم إخبارها بخروجي أهون من أن أخبرها بخطورة مهمتي!
التفت "جواد" ليتدارك الطبيب وقال:
- متى يحين خروجي؟
رد عليه الطبيب بضجر على خلاف ود وحماس البارحة:
- غدا صباحا إذا شاء الله.
تنفس الصعداء وقال لنفسه:
- لا بأس بقي القليل وأعود يا أمي، ليت هاتفي لازال معي!
وخرج الطبيب وهو يمسح على ذقنهِ لا يدري كيف يفسر ذلك النشاط الغريب الذي أظهره جهاز الرنين المغناطيسي، ولكنه عزم على ألا يستسلم يجب أن يعد العدة لكي يقنع "جواد" لكي يسمح له بقياس الموجات الكهرومغناطيسية التي يصدرها دماغه.
وجَنَّ الليل وأتى موعد نشرة الأخبار الليلية والمحببة لأي صحفي ولاسيما "جواد"، ففتح شاشة التلفاز بجهاز التحكم القريب منه، وكان أول خبر سمعه من المذيعة:
- نحن نعلم أن ما حدث لم يكن بالحسبان، ولكن بحكم نظرتك الاستباقية كخبير من الجهات التي تعتقد أنها متواطئة في هذه التفجيرات؟
- بداية نحن نعلم أن الانفجارات كانت عنيفة للغاية، بالنسبة لضواحي الأنبار التي لم يكن بمقدورها تحمل تلك الوحشية، وبالتالي أرى….
هنا توقفت حواس "جواد" عن الحياة، ماذا قال؟!
أقال ضواحي الأنبار؟
وأمي أين أمي؟! أقل القليل أنها قد أُصيبت!
جُنَّ جنون "جواد" لهذا الاحتمال ونزع الأجهزة المتصلة بجسده وخرج مكَمِمًا لفاه؛ كي لا تعرفه الممرضة أو الطبيب في حال التقاهما.
وفي ذات اللحظة التي غادر فيها جواد بوابة المشفى كان الطبيب قد أمسك بمقبض الغرفة التي يفترض أن يجد "جواد" مستلقٍ في سريرها، ولكنه قد هرب!
خرج "جواد" يسابق الوقت ليجد سيارة تُقله إلى ضواحي الأنبار من جهة بغداد، ولكن لا أحد وافق على طلبه، وكان الجميع يستنكر طلبه وكانوا يتعللون بأن الضواحي المشتركة بين حدود بغداد قد دمرت بالكامل، وإن هو أراد إلا الذهاب فليكن عن طريق حدود صلاح الدين أو بابل، وكان "جواد" يزداد يأسًا من سماع هذه الأخبار، حتى أتاه الله برجل عجوز وافق على طلبه، جراء العوز والحاجة وهو في مقابل لقمة العيش الحلال لا يبالي إن كان سيذهب إلى ضواحي الأنبار أو الجحيم.
وكان الصمت سيد الموقف إلا من صوت محرك السيارة القديم والذي يبدو أنهم لن يصلوا بسببه حتى الصباح، وجال جواد ببصره في صندوق السيارة فجذب صحيفة وقام بفتحها، وعندما فتحها شخص بصره وارتعدت فرائصه، والتفت إلى العجوز وقال:
- هل تقرأ هذه الصحف؟
رد العجوز مستهجنًا:
- يجبروننا على شرائها لم تعد الحرية الفكرية ملكنا، لو كنت أفضل أن أشتري صحيفة لاشتريت الصحائف الترفيهية عوضًا….
ولم يواصل "جواد" الاستماع لثرثرة العجوز فقد استرعى انتباهه إعلان صغير؛ إنها أمه لا ريب التي قامت بهذا؛ إنها لا تعدم الوسيلة في البحث عنه. صورته تزين الإعلان، ومكتوب فيه "مكافأة لمن يستدل عليه".
- أنت مشهور!
قالها العجوز؛ مما جعل "جواد" يتوقع أن الأخير لمح الإعلان. التزم "جواد" الصمت فلم يقل شيئا، فلا شيء يقال؛ والعجوز أخذ يثرثر طوال الطريق ولكن ذهن الأول منشغل بأمه.
- هه ماذا تقول في هذا الأمر؟ من الأقرب للفوز؟
انتبه "جواد" إلى سؤال العجوز ولكنه لم يدر كيف يجيبه وهو الذي كان منشغل البال؛ فيعيد العجوز السؤال على مسمعه موضحا:
- يا صاح أسألك عن من تظنه قادر على إنهاء هذه الحرب الضروس التي بُلِينا بها؛ فمن حقا يريد إنهاء هذا الصراع المقيت بين الحكومة والمعارضة؟ ويضع لباس الحرب ويجلس ليحادث الآخر دون دماء تراق ولا أرواح تزهق.
- لقد تخلينا عن فطرتنا السوية وتحولنا إلى وحوش، قلوبنا تحجرت وتصلبت، وشهوتنا إلى السلطة عمت عيوننا وختمت على قلوبنا، وحدتنا اندثرت والفرقة دبت بين القلوب، جاعلة منا أفرادا بدلا من كوننا أمة موحدة تحت راية وطن واحد. أجيبك على سؤالك: الشر في داخلنا هو المنتصر.
يحملق العجوز في وجه "جواد" وكأن الإجابة مست شيئا داخله، وما لبث إلا وأن نظر إلى الطريق بوجوم وتابع القيادة، بينما القلق ينهش قلب "جواد" على أمه المكلومة.