أحمد خيري سعيد - حياتنا العـقلية: أنا هملت... وأنت أيضاً

بدون تنكر - ماكياج - وبدون ملابس تاريخية وبعيدين عن تطفل النظارة وإغراقهم في الاستطلاع والمراقبة ومن غير وعي نمثل دور هملت جله أو كله أو بعضه...ونمثله فلا نخفق. وليس من الضروري أن يصفق لنا الجمهور استحساناً ولا أن تطرى عبقريتنا وتؤله فينا الصحف والمجلات...لا نخفق لأننا ملهمون ولأننا نعيش فترة من حياة هملت.

الإنسان حيوان فني. والفنان تسامت فيه الغريزة الفنية ونضجت مؤهلاته للتعبير عن وحي هذه الغريزة. لاتسألني عن الغريزة الفنية ماهي؟! ولا تسألني عن الفن ماهو؟! ولا عن الحياة ما طبيعتها وما كنهها وماهيتها؟! الغريزة الفنية وغير الفنية لا تجيبك عنها كتب البسيكولوجيا. والفن لاتعريف له ولا تنفع فيه الشروح والنظريات ومذاهب التفكير. والحياة هي الحياة...أفهمت؟!

لا تصدق الكتب ولا الفلاسفة ولا الفنانين إذا حدثوك عن الفن يفسرونه ويشرحون غوامضه...والأعمال الفنية يميزها من سواها شعورك بأنها إلى الكمال، هي الصنعة مضافاً إليها عنصر غير إنساني ينم عن براعة فوق المألوف وحذق مهذب متعمق ونظرة شاملة مستوعبة...ولكل إنسان أعماله الفنية. والفرق بيننا وبين الفنان أنه تخلد أعماله بينما أعمالنا للفناء.

أنا وأنت نجيد التمثيل والرقص والتصوير. نمثل في الخفاء وبين جوقة من ذوي قربانا وأصدقائنا، ونرقص مثل "بافلوفا" رقصات فنية على وقع موسيقى عير مسموعة.
ولو أنت أرهفت حسك الداخلي لألفيت كل شيء يرقص ولأصغيت في سكون ملتذاً لحن الوجود. يقولون أن خير الشعر هو الذي لم يقله شاعر. ولك أن تدعي قرض القصائد الخالدات. ولعلي أنا أمير الشعراء. لعلي نظمت مثل - أو أروع من - القصائد التي وصفها "شلي" بأنها خير قصائده...والتي لم يقلها قط؟ ألم تجلس إلى نفسك تناجيها كما فعل "هملت"؟!. ألم تصغ لهمس ضميرك مثله؟!. ألم تسأل كما سأل: لماذا وجدنا ومن أين جئنا وإلى أين المصير؟!

وأنا وأنت ألم نشاهد الأشباح في خلوتنا.! ألم يبرز من المجهول خيال يخاطبنا ونخاطبه؟! ألسنا جميعاً مثل أجدادنا خرافيين... وأشد ما يكون إلحاح الخرافة بنا عندما نظن أننا تطهرنا من الخرافة. كلنا شكَّ وعذبه التفكير القلق. شك "هملت" في أن عمه هو الذي قتل والده...ثم قطع الشك باليقين...ثم عول على الانتقام. وأنت أيها القارئ ألم تمر في مثل هذه الأزمة. كلنا عالجنا الكراهية والازدراء. كلنا أحبته امرأة حب "أوفيليا" لـ "هملت" فوجد ضعفها لا يطاول قدرته ولم يجد عواطفها كفاء بعواطفه المتوثبة وذهنيته العاتية...نحن لاندري كم امراة أحبتنا وكم رواية غرامية كنا أبطالها.

على أني وأنت لم نعش حياة هملت وإنما عشنا لحظات منها ولم يعش حياة هملت غير شكسبير...لم يعشها هملت الحقيقي. إننا إذن نعيش لحظات من حياة شكسبير فما أسعدنا بهذا الشقاء الذي مزق فؤاده وما أشهى فجيعتنا في أنفسنا. إن الألم يعمق الإحساس ويرهف العواطف ويصقل الذهن، ومن ثم كان الألم مبعث الفن ومراح الإلهام ومغذاه.

(الجديد، ع 34، 3 ديسمبر 1928)
أعلى