كلما دعيتُ إلى أمسية شعرية أشعر بالرغبة في التهرب والاختفاء. أبحث عن مبررات تقنعني أولاً، وكلمات لطيفة أعتذر بها من الآخر. ليست رهبة الوقوف أمام المايكرفون والجمهور، بل قلق القصيدة التي لا تحب الأضواء، والتي ولدت في طقوس العزلة والجوانية. رغم أني لم أعد شديدة الغربة في مدينة تورنتو.
تصلني أحيانًا دعوات من مراكز إنكليزية كندية ومن مراكز اجتماعية وعربية. بعض المراكز تفضل المشاركة باللغة الإنكليزية. بعض المراكز تسهّل الأمر وتقبل حضور مترجم أو شخص آخر يقوم بالإلقاء في حضور كاتبة النص. أما الأمسيات التي ينظمها العرب يكون الحضورعربيًا خالصًا، لغة وحضورًا.
ليس سهلاً على الكاتب(ة) الوصول إلى قلب المستمع ونقل التأثير من حيز الكلمة المكتوبة إلى الكلمة المسموعة. وبخاصة الكاتب الذي تعوّد الكتابة والحضور في الوسط العربي.
*
المسافة بين الشعر المكتوب والإلقاء الشعري
تلك المسافة ما بين القصيدة المكتوبة على الورق، والقصيدة الملقاة على مسامع الحضور مربكة. يزداد هذا الفاصل اتساعاً حين يكون الإلقاء باللغة المترجم إليها. لقد اختبرت ذلك بنفسي عند المشاركة في أمسيات شعرية. يضيع ذلك الزخم المعنوي الروحي الحمولة الكامنة في كل كلمة.
أحيانًا يقرأ الشعراء نصوصهم كما يقرأون كتابة صحافية. النصوص قد لا تصل إلى المستمع العربي فكيف بالمستمع الأجنبي؟ وخاصة النصوص النثرية التي ليس لها إيقاع غنائي.
ولأسباب متباينة أتهرّب من الدعوات أحيانًا، وفي أوقات أخرى أشتكي غيابي عن المنابر وأخاف على قصيدتي من الموت معي وحيدة هنا من دون مستمع.
تحضر الآهات والأحزان وتتغيب الشعرية
لأنني سورية ومهاجرة، صارت الطلبات تصلني هذه السنوات بغزارة أكبر. أعرف أن الجرح السوري المفتوح لا يندمل بنص شعري وكلمات ثورية. الموت لا يُزاح حين أفتح بوابة دموعي وأحزاني وأبكي في حضرة العالم الوقح الذي بيده السلطة المادية والعسكرية والاقتصادية التي تدعس على صوت الشعر وترسله إلى الخلاء.
لا يبقى من أصوات الشعراء غير تلك الحسرة والدمعة وكمشة الأمل التي لا نملك غيرها. نذرفها أمام العالم ونعتذر من البلاد والعباد عن قلة حيلتنا أمام قوة القذيفة والصواريخ. لقد اتخذ بعضهم الندب والمبالغة في الشكوى والحزن وسيلة للتعبير عن الاهتمام بالحدث. تحضر الآهات والأحزان وتغيب الشعرية.
*
التراجيديا السورية ومنصّات الشعراء حول العالم
التراجيديا السورية التي تحدث الآن ومنذ سنوات في سورية جعلت أنظار العالم متجهة إلى الكتّاب والشعراء السوريين في كل مكان من العالم، عدا الذين في سورية، هؤلاء منسيون ولهم أساطير يومية وأوجاع مكتومة إلى الآخر في الغالب. رغم أن وسائل الميديا الحديثة فتحت نوافذ مختلفة ما تزال الرقابة العربية تغلقها أو تحاسب من يخرج عن إيقاع الولاء الديني والمدني والسلطوي.
في كندا كما في دول أوروبية صاروا يبحثون عن وجوه سورية لإجراء حوار، للوقوف على منصة أو لقاء تلفزيوني. عشرون عاماً من تجربتي في كندا وجدتُ أننا على الهامش إلا إذا سعينا للحضور رغم التعددية الثقافية التي تشتهر بها كندا كمجتمع وبيئة ديموغرافية. وهذا ما حصل أيضا حين كانت الهجرة العراقية هي الحدث.
الميديا تبحث عن صورة وحدث.
الثورات والإرهاب جعلت العالم يشعر أو يتظاهر بالشعور بالمأساة السورية والعربية بشكل عام. بقيت المأساة والحرب وأهوالها أشبه بأسطورة معاصرة يعجز الشعرعن استحضار الصيغة الأقوى لوصف الموت والقتل والاعتداء. ولكن هل للموت صيغة واحدة، ولون واحد؟
لقد تعددت وجوه الموت، والشعر وحيد يكاد يموت وهو يرى بقايا البشر تتدحرج بين الخرائب. العدسات التلفزيونية تلتقط الصورة، ويذهب الشعراء إلى أقلامهم. ويستمر الموت.
*
مشاركة في أمسية شعرية أدبية فنية وأميركا اللاتينية في تورنتو
حدث في 19 مايو/ أيار 2017 أن دُعيت إلى مشاركة في أمسية أدبية فنية أشرفت على تنظيمها شاعرة ومحامية من أميركا اللاتينية "باولا جومز" لجمع تبرعات لمراكز تعليمية فنية في البيرو والإكوادور.
الميديا الحديثة صارت مؤخراً الوسيلة الأولى لنقل الحدث. الرؤساء والبوليس والمخابرات ونحن، نستخدم هذه التكنولوجيا كي تصل رسائلنا وأصواتنا إلى الآخر. لا بدّ من المتلقي في كل الحالات الأدبية والحربية على السواء.
وصلتُ إلى قاعة الأمسية مساء. كان الحضور جيدًا. المشرفة على الحفل استقبلتني كأننا نعرف بعضنا منذ زمن. قادتني إلى الصالة وهي تقول: ستقرأين بعد الفقرة الموسيقية الأولى.
قلتُ في نفسي، حسنًا. أريد أن أنتهي من هذه المهمة كي أستمتع بما تبقى من الحفل.
كانت الافتتاحية برقصة لسكان كندا الأوائل- الهنود الحمر- الطبل والإيقاع والريش الملون على الرؤوس. قدمت مديرة المهرجان الشكر للهنود الحمر لاستقبالهم لنا جميعًا على هذه الأرض الشاسعة - كندا التي صارت بيتًا لنا نحن الغرباء المهاجرون طوعًا وقسراً من الشرق ومن أوروبا ومن دول أميركا اللاتينية والعالم.
هنا في تورنتو التقينا بأصوات من أميركا اللاتينة واستمتعنا بالرقص والعزف الإسباني، بالاضافة إلى "الطنبور" الكردي وإيقاعات الجاز وغيرها. وكان هناك مشاركات شعرية لأصوات سورية منهم: نعيم هيلانة، وعبد الرحمن مطر.
على جدران المجمع عرضت لوحات وأعمال يدوية للبيع وللمزاد العلني. قرأت بالإنكليزية قصيدة بعنوان دليل الهجرة، ومنها:
"حين أهاجر من جديد سأكتب رسالة وداع مؤثرة إلى السيد الرئيس وأوقعها باسمي الكامل. سأقتلع من أصابعي جذور الحنين وقافلة كلمات فيها حرف الحاء...".
تصلني أحيانًا دعوات من مراكز إنكليزية كندية ومن مراكز اجتماعية وعربية. بعض المراكز تفضل المشاركة باللغة الإنكليزية. بعض المراكز تسهّل الأمر وتقبل حضور مترجم أو شخص آخر يقوم بالإلقاء في حضور كاتبة النص. أما الأمسيات التي ينظمها العرب يكون الحضورعربيًا خالصًا، لغة وحضورًا.
ليس سهلاً على الكاتب(ة) الوصول إلى قلب المستمع ونقل التأثير من حيز الكلمة المكتوبة إلى الكلمة المسموعة. وبخاصة الكاتب الذي تعوّد الكتابة والحضور في الوسط العربي.
*
المسافة بين الشعر المكتوب والإلقاء الشعري
تلك المسافة ما بين القصيدة المكتوبة على الورق، والقصيدة الملقاة على مسامع الحضور مربكة. يزداد هذا الفاصل اتساعاً حين يكون الإلقاء باللغة المترجم إليها. لقد اختبرت ذلك بنفسي عند المشاركة في أمسيات شعرية. يضيع ذلك الزخم المعنوي الروحي الحمولة الكامنة في كل كلمة.
أحيانًا يقرأ الشعراء نصوصهم كما يقرأون كتابة صحافية. النصوص قد لا تصل إلى المستمع العربي فكيف بالمستمع الأجنبي؟ وخاصة النصوص النثرية التي ليس لها إيقاع غنائي.
ولأسباب متباينة أتهرّب من الدعوات أحيانًا، وفي أوقات أخرى أشتكي غيابي عن المنابر وأخاف على قصيدتي من الموت معي وحيدة هنا من دون مستمع.
تحضر الآهات والأحزان وتتغيب الشعرية
لأنني سورية ومهاجرة، صارت الطلبات تصلني هذه السنوات بغزارة أكبر. أعرف أن الجرح السوري المفتوح لا يندمل بنص شعري وكلمات ثورية. الموت لا يُزاح حين أفتح بوابة دموعي وأحزاني وأبكي في حضرة العالم الوقح الذي بيده السلطة المادية والعسكرية والاقتصادية التي تدعس على صوت الشعر وترسله إلى الخلاء.
لا يبقى من أصوات الشعراء غير تلك الحسرة والدمعة وكمشة الأمل التي لا نملك غيرها. نذرفها أمام العالم ونعتذر من البلاد والعباد عن قلة حيلتنا أمام قوة القذيفة والصواريخ. لقد اتخذ بعضهم الندب والمبالغة في الشكوى والحزن وسيلة للتعبير عن الاهتمام بالحدث. تحضر الآهات والأحزان وتغيب الشعرية.
*
التراجيديا السورية ومنصّات الشعراء حول العالم
التراجيديا السورية التي تحدث الآن ومنذ سنوات في سورية جعلت أنظار العالم متجهة إلى الكتّاب والشعراء السوريين في كل مكان من العالم، عدا الذين في سورية، هؤلاء منسيون ولهم أساطير يومية وأوجاع مكتومة إلى الآخر في الغالب. رغم أن وسائل الميديا الحديثة فتحت نوافذ مختلفة ما تزال الرقابة العربية تغلقها أو تحاسب من يخرج عن إيقاع الولاء الديني والمدني والسلطوي.
في كندا كما في دول أوروبية صاروا يبحثون عن وجوه سورية لإجراء حوار، للوقوف على منصة أو لقاء تلفزيوني. عشرون عاماً من تجربتي في كندا وجدتُ أننا على الهامش إلا إذا سعينا للحضور رغم التعددية الثقافية التي تشتهر بها كندا كمجتمع وبيئة ديموغرافية. وهذا ما حصل أيضا حين كانت الهجرة العراقية هي الحدث.
الميديا تبحث عن صورة وحدث.
الثورات والإرهاب جعلت العالم يشعر أو يتظاهر بالشعور بالمأساة السورية والعربية بشكل عام. بقيت المأساة والحرب وأهوالها أشبه بأسطورة معاصرة يعجز الشعرعن استحضار الصيغة الأقوى لوصف الموت والقتل والاعتداء. ولكن هل للموت صيغة واحدة، ولون واحد؟
لقد تعددت وجوه الموت، والشعر وحيد يكاد يموت وهو يرى بقايا البشر تتدحرج بين الخرائب. العدسات التلفزيونية تلتقط الصورة، ويذهب الشعراء إلى أقلامهم. ويستمر الموت.
*
مشاركة في أمسية شعرية أدبية فنية وأميركا اللاتينية في تورنتو
حدث في 19 مايو/ أيار 2017 أن دُعيت إلى مشاركة في أمسية أدبية فنية أشرفت على تنظيمها شاعرة ومحامية من أميركا اللاتينية "باولا جومز" لجمع تبرعات لمراكز تعليمية فنية في البيرو والإكوادور.
الميديا الحديثة صارت مؤخراً الوسيلة الأولى لنقل الحدث. الرؤساء والبوليس والمخابرات ونحن، نستخدم هذه التكنولوجيا كي تصل رسائلنا وأصواتنا إلى الآخر. لا بدّ من المتلقي في كل الحالات الأدبية والحربية على السواء.
وصلتُ إلى قاعة الأمسية مساء. كان الحضور جيدًا. المشرفة على الحفل استقبلتني كأننا نعرف بعضنا منذ زمن. قادتني إلى الصالة وهي تقول: ستقرأين بعد الفقرة الموسيقية الأولى.
قلتُ في نفسي، حسنًا. أريد أن أنتهي من هذه المهمة كي أستمتع بما تبقى من الحفل.
كانت الافتتاحية برقصة لسكان كندا الأوائل- الهنود الحمر- الطبل والإيقاع والريش الملون على الرؤوس. قدمت مديرة المهرجان الشكر للهنود الحمر لاستقبالهم لنا جميعًا على هذه الأرض الشاسعة - كندا التي صارت بيتًا لنا نحن الغرباء المهاجرون طوعًا وقسراً من الشرق ومن أوروبا ومن دول أميركا اللاتينية والعالم.
هنا في تورنتو التقينا بأصوات من أميركا اللاتينة واستمتعنا بالرقص والعزف الإسباني، بالاضافة إلى "الطنبور" الكردي وإيقاعات الجاز وغيرها. وكان هناك مشاركات شعرية لأصوات سورية منهم: نعيم هيلانة، وعبد الرحمن مطر.
على جدران المجمع عرضت لوحات وأعمال يدوية للبيع وللمزاد العلني. قرأت بالإنكليزية قصيدة بعنوان دليل الهجرة، ومنها:
"حين أهاجر من جديد سأكتب رسالة وداع مؤثرة إلى السيد الرئيس وأوقعها باسمي الكامل. سأقتلع من أصابعي جذور الحنين وقافلة كلمات فيها حرف الحاء...".
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com