أيمن دراوشة - قراءة تفكيكية في القصة القصيرة جدًّا "انعتاق" للكاتب السوري نضال محمد علي

النص

انعتاق..

تسللتْ أشعة الشمس، عَبرتْ القضبان، عكستْ خطوطاً متوازية.

أسرع نحوها، نثر نوتاته بينها، انساب لحن عذب، على إيقاعه تسلق السلّم الموسيقي. بزغت كوة بسقف الزنزانة، عَبَرها طائراً...



أولا: العنوان

صاغ الكاتب عنوانًا لقصته القصيرة بكلمة واحدة هي "انعتاق" والانعتاق ليس بحاجة لمعاجم ولا لقواميس حتى نفهم معناها، فكلنا يعرف أنَّ الانعتاق هو هروب من حياة العبودية أو السجن والانطلاق نحو الحرية، وقد فضل الكاتب أنْ تكون الكلمة نكرة، وليست معرفة لتدل على العموم، فكانت الكلمة عنوانًا لدخول الكاتب إلى قصته المحكمة.

إذًا، اختزل الكاتب قصته للتعبير عن معنى واحد لا يخرج عنه، وهو الخلاص أو الهروب من ذل السجن، وهو ما رمى إليه الكاتب دون أدنى شك ، كما إنه لم يذكر عنوان قصته في المتن مما يعطيها قوة أكبر، فالانعتاق والهروب والخلاص كلها مترادفات ذات معنى واحد، وقصدت من ذلك أن الكاتب كان أمامه خيارات لاختيار العنوان المناسب وكلها عناوين جميلة ... لكن أحسن صنعا باختياره لفظة انعتاق كونها الأقل استخداما وأغزرها معنى.

ثانيًا: المتن

تتكون القصة من تسعة أفعال ماضية ، فيما اختفى الفعل المضارع نهائيًا ، ربما أراد الكاتب أنْ يقول لنا أنَّ الزمن الذي حدثت فيه الواقعة هو الماضي، أما المضارع فربما قصد من عدم استخدامه أنَّ الحرية التي هرب إليها بطل القصة ربما قد يعود إليها ...

ثالثًا: المفارقة والدهشة

المفارقة هنا أنَّ الكاتب بدأ قصته بالفعل اللازم "تسللت" الذي يوحي بالدخول، فيما ختمها بالفعل المتعدي "عبرها" الذي يوحي هنا بالخروج، وهذه هي المفارقة الملفتة للنظر، فالدخول ضد الخروج، لكن ليس بتصريح بأفعالها المعتادة، وإنما كانت من ثروة الكاتب اللغوية وقدرته الفنية على التلاعب بالكلمات، وانتقاء أيسرها، وداعٍ أيضًا إلى لذة الكشف.

وإذا دققنا بالأفعال محور القصة وعمودها الفقري، فإننا نجد أنَّ الكاتب قد استخدم الضمير المفرد، لكنه حقيقة هو الضمير الجمعي أي أسرعوا – نثروا – تسلقوا وهو أسلوب فني نادر يقوي المعنى ويغذيه ، ويحلق بالصورة عاليًا لدرجة الجموح في الخيال.

فما أكثر المكبلون بالقيود، وهم كثيرون، فمنهم من صعد السلم الموسيقي بنجاح وجهد، ومنهم قضى نحبه ...

إذًا نحن أمام نصٍّ جدير بالقراءة خاصة أنها تمس الكثير، فليس منع الحرية تكون بالسجن فقط، وإنما تكون بأشياء أخرى لا مجال لتعدادها، وما السجن هنا سوى رمز من الرموز التي استخدمها كاتبنا الفذ.

فالتسليم للظلم بسبب الخوف عبودية، واحتمال الأذى دون اعتراض عبودية وهكذا... وهنا يستحضرني قصة السجناء في فلسطين الذين هربوا من سجنهم من خلال ملعقة، فأحدثوا كوة في السقف استطاعوا الهروب من خلالها ، كما هو البطل في القصة، فكان السلم الموسيقي هو الملعقة التي خلصتهم من عبودية المحتل، وكان اللحن العذب يقابل صوت الملعقة في الحفر...

رابعًا: الخاتمة


بلا شك كانت الخاتمة مثيرة، فها هو السجين ينقذ من الكوة طائرَا بدون أجنحة، وهل هناك أجمل من الطير؛ لكي يكون رمزا للحرية والانعتاق من القفص، فالبطل مثل عصفور في قفص ينتظر اللحظة التي يفتح بها باب القفص؛ فربما نال انعتاقه من سجَّانه.

خامسًا: الأسلوب الفني.
الرسم بالكلمات البسيطة، وحسن انتقاء الألفاظ مع فصاحتها، والصور النادرة، والإيجاز، هو ما ميَّز هذه القصة القصيرة جدًّا، وقد نجح الكاتب بتغليب المعنى على اللفظ بكل احترافية وتأثير، مما جعل منها قصة قصيرة جدا ناجحة بامتياز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى