شهد تاريخ الآداب الغربية قبل القرن التاسع عشر عدة محاولات لكتابة القصص القصيرة , لكنها كانت قصصاً قصيرة من ناحية الحجم فقط لا من ناحية الشكل, ومن هذه المحاولات قصص "الفاشتيا" وقصص "الديكامرون" التي نشأت في إيطاليا في القرن الرابع عشر.
وظلت القصة القصيرة علي هذه الشاكلة , مجرد إرهاصات ومحاولات مبكرة إلي أن كان القرن التاسع عشر فتحدد لها شكلها الفني بالمفهوم الحديث , واستطاعت أن تواكب التغيرات الهائلة للعصر , وأن تنطبع بروح العصر الذي كونته عوامل كثيرة متداخلة , فأصبح بحق عصر الواقعية , وكان ل" جوجول " فضل كبير في دفع القصة القصيرة إلي الأمام , وبفضله تجاوزت القصة القصيرة الرومانتيكية واتجهت إلي الأرض والفلاح والإنسان العادي .
جوجول:
ولد "جوجول" لأحد صغار الملاك عام 1809 وقضي طفولته في مزرعة العائلة , وجزءاً من شبابه في معهد النبلاء , وفي جو "أوكرانيا" الهادئ وحركة المدينة الناعمة , تنسم علي مهل التقاليد والعادات والذكريات , وفي عام 1828 رحل إلي مدينة "بطرسبرج" ونشر بعد ثلاث سنوات من وصوله إلي المدينة مجموعة قصص الأولي نصفها عن الجنيات والنصف الآخر عن الأساطير.
وبعد محاولات غير موفقة في الأبحاث التاريخية والتدريس عاد إلي كتابة القصة من جديد , واتخذ مادتها مما يدور حوله في مدينة "بطرسبرج" وفيها بدأ يستخدم الضحك سلاحاً , ويكشف عن الواقع التعس الذي يعيشه عامة الناس , وإلي هذه الفترة تعود قصة "المعطف" ولو أنه نشرها بعد ذلك بسنوات .
والشيء الذي يجعل "جوجول" جديراً بالعناية هو أنه كتب عن أفراد عاديين- يبدو أنهم نكرات –باهتمام استطاع من خلالهم أن يظهر تيارات عميقة لمشاعر موجودة تحت مظاهر عادية , وقد بين "جوجول" أن تفاصيل الحياة الريفية في "أوكرانيا "أو التجارب المحزنة التي يمر بها كاتب في مدينة "بطرسبرج" الروسية من الممكن أن يكون فيها جاذبية أي دسائس في الصالونات أو علي منضدة القمار, واعترف "تورجنيف" بالأهمية الجوهرية لقصة "المعطف" بالنسبة للكتاب الذين جاءوا بعد جوجول عندما قال " أننا جميعاً ظهرنا من تحت معطف جوجول" .
إدجار آلان بو :
وإذا كان "جوجول" أول من مهد لظهور القصة القصيرة في شكلها الحديث , فإن هذا اللقب ينطبق أيضاً علي "إدجار آلان بو" الأمريكي الذي ولد في بوسطن عام 1809 وهو نفس العام الذي ولد فيه "جوجول" .
وقد بدأ "بو" صباه بنظم الشعر , ولكنه وإن لم ينقطع عن نظمه , سرعان ما تحول إلي القصة القصيرة , والقصة القصيرة دعامة من الدعائم التي تقوم عليها مكانة "إدجار آلان بو" في الأدب , فهو أهم كتابها في نصف القرن الذي عاش فيه , وإن كان قد أطلق عليه أنه "أبو القصة القصيرة" علي الرغم من أن مختلف ألوانها كان مطروقاً منذ القدم , فما ذلك إلا لأنه هو الذي صاغها في شكلها الحديث فقد كان أول كاتب نابغ نظر إليها علي أنها لون مستقل من ألوان الأدب .
وقد أحل "بو" القصة القصيرة مكاناً رفيعاً في الأدب , فعالج مشكلاتها وطرق تناولها في كتاباته النقدية , ومنح نفسه سلطة التشريع فيها وما ينبغي أن يقوم عليها إنشاؤها من مبادئ وأسس جمالية كان لها أكبر الأثر في تطورها من بعده .
لقد تفوق "بو" في كتابة القصة القصيرة , وخلق في عالم الأدب عالماً خاصاً به , و طرح "بو" شباكه وهي إن لم تكن قد امتدت إلي مسافة واسعة إلا أنها قد توغلت إلي مسافة بعيدة في أعماق الحقيقة .
موباسان :
وإذا كان "جوجول" و"بو" قد مهدا لظهور القصة الأدبية القصيرة ودفعا بها إلي الوجود , فهناك اثنان آخران أعطياها شكلها الفني الدقيق وهما موباسان الفرنسي وتيشخوف الروسي .
جاء "موباسان" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكان يعتقد أن الحياة تختلف عما ترسمه القصص , فليس أهم ما فيها هو الفراق أو الزواج , وهي في الغالب تخلو من الأحداث الخطيرة , والوقائع الهامة , لكنه علي الرغم من ذلك فإن بين طياتها من الأمور العادية التي تحدث كل يوم ما قد تعكس زوايا وأضواء ومعاني جديرة بالاعتبار , وقد جاءت قصص "موباسان" مختلفة عن كل ما سبقها من قصص حتى أننا نجد أحد كبار النقاد يكتب بعد موت "موباسان" بأعوام قليلة فيقول " إن القصة القصيرة هي "موباسان" – و" موباسان" هو القصة القصيرة".
لقد صار موباسان الرسام الأكبر للعبوس البشري , وهو يرسم وليس به حب ولا كراهية ولا غضب ولا عطف , فهو يعرض علينا كل الأرواح الغريبة العجيبة وكل منكودي الطالع عرضاً واضحاً بحيث نراهم بأعيننا نحن , فنجدهم أحث من الحقيقة .
وكان "موباسان" أستاذ القصة القصيرة , وكانت أشخاصه جميعاً لا ينعمون براحة , ومع ذلك فهو شاعر متنكر في زي ساخر قاسي الفؤاد .
تشيكوف :
يعتبر "تشيكوف" أيضاً واحد من أساتذة القصة القصيرة في العالم , وتحس بتأثيره في مؤلفات كتاب آخرين كثيرين ولم يضع تشيكوف أسس القصة في وطنه وفي العالم فحسب , لكنه أيضاً عبد الطريق أمام الرواية الحديثة , وأنه لمن المستحيل أن نتصور روايات "جوركي" في الشكل الذي جاءت عليه , لو لم تسبقها قصص تشيكوف .
وقد صور تشيكوف في أعماله الأدبية المجتمع الروسي في عهد السلطات القيصرية التي أذلت الشعب بحكمها الدكتاتوري, وجسد "تشيكوف" في أعمالة تفاهات مجتمعة , ووجه نقداً لاذعاً ومراً إلي أفراد الطبقة المتوسطة .
ولعبت الطبيعة دوراً هاماً في أعماله الأدبية حيث نراها وقد عكست في حياته وقصصه صورة حية لمضمون وواقعية وموضوعية الجمال عنده .
وعن تشيكوف يقول "مكسيم جوركي" لم ألق مطلقاً في حياتي شخصاً يشعر بأهمية العمل كأساس للثقافة بمثل العمق والاتساع الذي كان لدي تشيكوف .
ويقول : "محمد المخزنجي" أعتقد أن أبا القصة القصيرة هو أنطون بافلوفتش تشيكوف وليس ميكالاي فاسيلفتش جوجول , نعم اعتقد أن الأبوة في جوهرها ينبغي أن تعقد لا لمن وضع بذرة متواضعة ومضي , ولكن الجدير بها هو من أحال البذرة المتواضعة إلي كيان مشهود .
المصادر
الطاهر أحمد مكي , القصة القصيرة , دراسة ومختارات .
آيان رايد , القصة القصيرة ، ترجمة مني مؤنس
أمين روفائيل, إدجار آلان بو – دراسة ونماذج من قصصه .
فنسنت بورانيللي , إدجار آلان بو – القص والشاعر , ترجمة عبد الحميد حمدي
الطاهر أحمد مكي ، القصة القصيرة ,
هنري توماس ، دانالى توماس: الفن القصصي ، ترجمة عثمان نوية
أحمد مكي , القصة القصيرة .
مصطفي علي عمر , العمل الأدبي بين الذاتية والموضوعية .
مكسيم جوركي وآخرون , أ.ب.تشيكوف, ترجمة أحمد القصير .
محمد المخزنجي , القصة القصيرة في بيت أبيها , مقال منشور في مجلة أدب ونقد , مايو 1988
وظلت القصة القصيرة علي هذه الشاكلة , مجرد إرهاصات ومحاولات مبكرة إلي أن كان القرن التاسع عشر فتحدد لها شكلها الفني بالمفهوم الحديث , واستطاعت أن تواكب التغيرات الهائلة للعصر , وأن تنطبع بروح العصر الذي كونته عوامل كثيرة متداخلة , فأصبح بحق عصر الواقعية , وكان ل" جوجول " فضل كبير في دفع القصة القصيرة إلي الأمام , وبفضله تجاوزت القصة القصيرة الرومانتيكية واتجهت إلي الأرض والفلاح والإنسان العادي .
جوجول:
ولد "جوجول" لأحد صغار الملاك عام 1809 وقضي طفولته في مزرعة العائلة , وجزءاً من شبابه في معهد النبلاء , وفي جو "أوكرانيا" الهادئ وحركة المدينة الناعمة , تنسم علي مهل التقاليد والعادات والذكريات , وفي عام 1828 رحل إلي مدينة "بطرسبرج" ونشر بعد ثلاث سنوات من وصوله إلي المدينة مجموعة قصص الأولي نصفها عن الجنيات والنصف الآخر عن الأساطير.
وبعد محاولات غير موفقة في الأبحاث التاريخية والتدريس عاد إلي كتابة القصة من جديد , واتخذ مادتها مما يدور حوله في مدينة "بطرسبرج" وفيها بدأ يستخدم الضحك سلاحاً , ويكشف عن الواقع التعس الذي يعيشه عامة الناس , وإلي هذه الفترة تعود قصة "المعطف" ولو أنه نشرها بعد ذلك بسنوات .
والشيء الذي يجعل "جوجول" جديراً بالعناية هو أنه كتب عن أفراد عاديين- يبدو أنهم نكرات –باهتمام استطاع من خلالهم أن يظهر تيارات عميقة لمشاعر موجودة تحت مظاهر عادية , وقد بين "جوجول" أن تفاصيل الحياة الريفية في "أوكرانيا "أو التجارب المحزنة التي يمر بها كاتب في مدينة "بطرسبرج" الروسية من الممكن أن يكون فيها جاذبية أي دسائس في الصالونات أو علي منضدة القمار, واعترف "تورجنيف" بالأهمية الجوهرية لقصة "المعطف" بالنسبة للكتاب الذين جاءوا بعد جوجول عندما قال " أننا جميعاً ظهرنا من تحت معطف جوجول" .
إدجار آلان بو :
وإذا كان "جوجول" أول من مهد لظهور القصة القصيرة في شكلها الحديث , فإن هذا اللقب ينطبق أيضاً علي "إدجار آلان بو" الأمريكي الذي ولد في بوسطن عام 1809 وهو نفس العام الذي ولد فيه "جوجول" .
وقد بدأ "بو" صباه بنظم الشعر , ولكنه وإن لم ينقطع عن نظمه , سرعان ما تحول إلي القصة القصيرة , والقصة القصيرة دعامة من الدعائم التي تقوم عليها مكانة "إدجار آلان بو" في الأدب , فهو أهم كتابها في نصف القرن الذي عاش فيه , وإن كان قد أطلق عليه أنه "أبو القصة القصيرة" علي الرغم من أن مختلف ألوانها كان مطروقاً منذ القدم , فما ذلك إلا لأنه هو الذي صاغها في شكلها الحديث فقد كان أول كاتب نابغ نظر إليها علي أنها لون مستقل من ألوان الأدب .
وقد أحل "بو" القصة القصيرة مكاناً رفيعاً في الأدب , فعالج مشكلاتها وطرق تناولها في كتاباته النقدية , ومنح نفسه سلطة التشريع فيها وما ينبغي أن يقوم عليها إنشاؤها من مبادئ وأسس جمالية كان لها أكبر الأثر في تطورها من بعده .
لقد تفوق "بو" في كتابة القصة القصيرة , وخلق في عالم الأدب عالماً خاصاً به , و طرح "بو" شباكه وهي إن لم تكن قد امتدت إلي مسافة واسعة إلا أنها قد توغلت إلي مسافة بعيدة في أعماق الحقيقة .
موباسان :
وإذا كان "جوجول" و"بو" قد مهدا لظهور القصة الأدبية القصيرة ودفعا بها إلي الوجود , فهناك اثنان آخران أعطياها شكلها الفني الدقيق وهما موباسان الفرنسي وتيشخوف الروسي .
جاء "موباسان" في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكان يعتقد أن الحياة تختلف عما ترسمه القصص , فليس أهم ما فيها هو الفراق أو الزواج , وهي في الغالب تخلو من الأحداث الخطيرة , والوقائع الهامة , لكنه علي الرغم من ذلك فإن بين طياتها من الأمور العادية التي تحدث كل يوم ما قد تعكس زوايا وأضواء ومعاني جديرة بالاعتبار , وقد جاءت قصص "موباسان" مختلفة عن كل ما سبقها من قصص حتى أننا نجد أحد كبار النقاد يكتب بعد موت "موباسان" بأعوام قليلة فيقول " إن القصة القصيرة هي "موباسان" – و" موباسان" هو القصة القصيرة".
لقد صار موباسان الرسام الأكبر للعبوس البشري , وهو يرسم وليس به حب ولا كراهية ولا غضب ولا عطف , فهو يعرض علينا كل الأرواح الغريبة العجيبة وكل منكودي الطالع عرضاً واضحاً بحيث نراهم بأعيننا نحن , فنجدهم أحث من الحقيقة .
وكان "موباسان" أستاذ القصة القصيرة , وكانت أشخاصه جميعاً لا ينعمون براحة , ومع ذلك فهو شاعر متنكر في زي ساخر قاسي الفؤاد .
تشيكوف :
يعتبر "تشيكوف" أيضاً واحد من أساتذة القصة القصيرة في العالم , وتحس بتأثيره في مؤلفات كتاب آخرين كثيرين ولم يضع تشيكوف أسس القصة في وطنه وفي العالم فحسب , لكنه أيضاً عبد الطريق أمام الرواية الحديثة , وأنه لمن المستحيل أن نتصور روايات "جوركي" في الشكل الذي جاءت عليه , لو لم تسبقها قصص تشيكوف .
وقد صور تشيكوف في أعماله الأدبية المجتمع الروسي في عهد السلطات القيصرية التي أذلت الشعب بحكمها الدكتاتوري, وجسد "تشيكوف" في أعمالة تفاهات مجتمعة , ووجه نقداً لاذعاً ومراً إلي أفراد الطبقة المتوسطة .
ولعبت الطبيعة دوراً هاماً في أعماله الأدبية حيث نراها وقد عكست في حياته وقصصه صورة حية لمضمون وواقعية وموضوعية الجمال عنده .
وعن تشيكوف يقول "مكسيم جوركي" لم ألق مطلقاً في حياتي شخصاً يشعر بأهمية العمل كأساس للثقافة بمثل العمق والاتساع الذي كان لدي تشيكوف .
ويقول : "محمد المخزنجي" أعتقد أن أبا القصة القصيرة هو أنطون بافلوفتش تشيكوف وليس ميكالاي فاسيلفتش جوجول , نعم اعتقد أن الأبوة في جوهرها ينبغي أن تعقد لا لمن وضع بذرة متواضعة ومضي , ولكن الجدير بها هو من أحال البذرة المتواضعة إلي كيان مشهود .
المصادر
الطاهر أحمد مكي , القصة القصيرة , دراسة ومختارات .
آيان رايد , القصة القصيرة ، ترجمة مني مؤنس
أمين روفائيل, إدجار آلان بو – دراسة ونماذج من قصصه .
فنسنت بورانيللي , إدجار آلان بو – القص والشاعر , ترجمة عبد الحميد حمدي
الطاهر أحمد مكي ، القصة القصيرة ,
هنري توماس ، دانالى توماس: الفن القصصي ، ترجمة عثمان نوية
أحمد مكي , القصة القصيرة .
مصطفي علي عمر , العمل الأدبي بين الذاتية والموضوعية .
مكسيم جوركي وآخرون , أ.ب.تشيكوف, ترجمة أحمد القصير .
محمد المخزنجي , القصة القصيرة في بيت أبيها , مقال منشور في مجلة أدب ونقد , مايو 1988