" نسيل الرؤى " هو الإصدار البكر للكاتب التونسي محمد الجدي ، كتاب من الحجم المتوسط و يضم 198 صفحة ،
صدر سنة 2021 عن دار الوطن العربي للنشر والتوزيع بتونس ، لوحة الغلاف للفنان رضا عباس الخضراوي ، و هذا الكتاب من النصوص النثرية ( خواطر ) .
حين تقرأ نسيل الرؤى لمحمد الجدي تنتابك أسئلة تدغدغ وجدانك و أنت الرجل الشرقي ذو النزعة الذكورية ، ليبقى السؤال الأهم : أين أنا من كل هذه الأنوثة الطاغية في الكتاب ؟و لكنك سرعان ما تعود أدراجك إلى هذا العالم الذي انطلقت منه مع " أمي" ( ص 19 ):« أحنّ إلى حضن أمي الدفيء، و همسات أمي تداعب روحي الشفيفة ، و قبلات أمي على وجنتيّ تهدّئ من جزعي ... » . لتكون انطلاقة رحلة الحب و الحياة من شجرة الحياة ، أول إمرأة تعرفها في حياتك لتتعلم على يديها معنى الحبّ .
هذه المعاني المتكاثرة على امتداد صفحات الكتاب تغدو " نسيلا " من كلمات قد تفي المرأة حقها و إن تعجزك العبارة أحيانا فلا تجد بدًا من القول : " تعالي نستعد أحلاما عشناها سنين " ( أدعوك ص 181 ) . إنها دعوة للحياة يستجديها محمد الجدي و يصدّرها لنا ، فنتماهى معه ، فمن منا لا يبحث عن " إمرأة من فيض " ( ص 114 ) : « أريدها حبيبة تشكّل لي من زخارف الحروف قصيدا يختزل مسافات العشق ، و في لحظة فارقة يكون اللقاء ، فتتشابك الأرواح عناقا و تلتحم الأحضان حتى التماهي ».
ليبقى السؤال الأهم عندنا : هل أن محمد الجدي يؤسس لملحمة عشق أنثوية ؟
المؤكد أن الكاتب المؤمن بأهمية المرأة و بقيمتها في حياته و حضورها القوي في وجدانه واع بأنه لا وجود للمرأة دون الرجل ، و الا لكانت الحياة عرجاء ، فكان يخاطبه و إن غيابا بأسلوب الأمر المفعم بالحبّ : « أهد إليها الحياة، أهد إليها الذكريات ، أحضر لها كتابا، أكتب لها اهداء ،( .... ) اهمس لها أنت تحبها بجنون و أنك أبداً .. أبداً لن تخذلها » .
ولكن أي تعادليّة ينشدها حمة الجدي؟
هل المرأة فقط في حاجة للحنان و لعذب الكلام أم أن الرجل - على شرقيته - هو أيضا محتاج لما يدغدغ وجدانه ؟
إن هذا السؤال و إن كان خفيا بين ثنايا النصوص على امتداد صفحات الكتاب ( و خاصة حين ذكر والده :" كان أبي يحمل نفس طباع المعلم ، غليظ المنبت و الطباع ، قد العبارات ، لكن خلف خطوط الفظاظة و الغلظة تتمترس طاقة حب غريبة ، مستترة " [ تفاصيل مبعثرة ص 32 ]
فإنه سرعان ما يعيدنا إلى تلك التعادلية التي يؤسس لها لرسم علاقة وجدانية تصل حد التماهي بين الرجل و المرأة ، فيتوجه " إليها " بالقول :« امنحيه بعض بوح تستّر خلف أسوار صمتك (....) حتما سينسى كل الكلام الذي قلته، و يستمتع بحديث الشّوق يتلوه لسان الصمت في عينيك ».
لتكون شهقة الحياة نسيلا من العشق قد يمحوه الواقع أحيانا حين تمأسس رابطة الحب بمؤسسة الزواج و ما فيها من ضغوطات يومية لم يفت الكاتب تقديم حلول لها ( العلاقة بين الرجل المرأة إذا تمأسست، خبا وهجها ص 69 ),
ف " يتكلم المتزوجون في كل شيء...دون الاتيان على غذاء القلب " .هذا الغذاء هو " الحب " ف " الحب حين يولد سليما يضمن بقاءه و لا يموت " ( كنه الحب ص 93 ).
إنّ هذه التعادلية لم تشمل الجانب الوجداني المرتبط بالعاطفة فقط - و إن كانت طاغية في الكتاب - بل تعدّتها أحياناً إلى الجانب الإجتماعي حين يخاطب مدينته " القصرين الشهيدة " بما هي مشترك يجمع الذكر و الأنثى على قيم المواطنة ، فيعتذرون منها :« عفوا مدينتنا إن أفرطنا في الحلم ، قد زيّنوا لنا الآتي بكلّ الألوان ، و نحن البلهاء ، أصبحنا مرتفع في غيبوبة النّشوة المخضّبة بالأماني ... » ( ص 108 ) ، ليتواصل الإعتبار ممزوجا ب– " حبّ بنكهة الصنوبر " ، ليكون الوعد : " سنصنع لك من الأنسام جناحين تحلّقين في سماء الربّ السابعة و نهيّء لك من الغيوم خِدرا وفيرا ، و من قمم الشّعانبي منارات للهبوط بسلام ». ( ص 109 ).
إن هذا البحث المضني في أغوار النفس البشرية يترجم تطلّع محمد الجدي إلى تأسيس هذه التعادليّة حتى من خلال الضمائر بين أنا و أنت و هو وهي ، إنها لعبة الضمائر التي أتقنها في " نسيل الرّؤى " ليخرج لنا من خلالها رؤية جديدة للحبّ تعتمد الإتصال و التّواصل بين الإثنين حتى تستحيل أحياناً مرآة تعكس ما في القلب من هوًى :« أحتاج وجهكِ مرآة تُبصرني ... » ( أحتاجك مرآة ص 146 )، إنها الحاجة إلى الإنصهار بين ذاتين في رحلة بحث عن كنه الوجود في
« مناخات عشقيّة » ( ص 179 ) هي أسمى المناخات حين
« يصّاعد من قراره صوت ، باسمك يهتف : يا أمّي » ( ص 180) ، لتكون الرّحلة بين " الأنا " و " الأنت " ، بحثا مسترسلا عن مستقرّ ، بحث محموم عن « قلب يسع كلّ هذا الوجع » ( ص 192 ) ، هذا الوجع الذي يحمله إلينا محمد الجدي عبر تعادليّة تحمل هموم القلب و الهوى و هموم الوطن بثورة مهضومة الجانب من أبنائها و بناتها .
و لكن رغم هذا الألم و " اغتيال الحلم " ، و " حتى لا ننسى "
( ص 162 ) ، فإن محمد الجدي سرعان ما يعود بنا إلى بوتقة الحبّ الذي تتغذى منه نصوصه في أسلوب شعريّ يراعي مناخات النفس الباحثة دوما عن الفرح في مقابل ما يختلجها من حزن ليحطّ الرحال بنا في تحدٍّ يرسمه لنفسه و لنا من أجل تحقيق هذه التعادليّة المنشودة بدعوة صريحة هي : " سنكتب للفرح " ( ص 184)، إنها الوعد الجديد :« سنظلّ نكتب ، إنّا خلقنا لنكتب ، نرسم ، نهوى ، نحزن ، نفرح ، نسبح في بحر أحلامنا حدّ عمقها المرتجى نشوة ». ( ص 184).
يمكننا القول أنّ محمد الجدي قد أثار فينا ما نحتاجه في مجتمعاتنا العربية من " تعادليّة " تقذف فينا توازنا نفسيّا
و روحيّا و جسديّا يجمع بين الأنا و الآخر في علاقتهما ببعضهما البعض و بعلاقتهما بالوطن الذي يبقى أمًّا حنونا تمدّ أياديها لتحضن و تربّت :« فمحبّتك يا وطني بحجم جبل الشعانبي » ( هذيان محموم بالوطن ص 176) ، و هذه التعادلية التي أنشأها محمد الجدي جاءت في لغة شعرية جميلة انسابت ماء نميرا رقراقا على امتداد صفحات الكتاب في صحراء الروح العطلة لكلّ شيء مؤنس و جميل بطعم حلو المذاق هو " نسيل الرؤى " أو قطرات عسل تؤسّس لرؤية جماليّة للكون و الإنسان .
محمد أحمد مخلوف
صدر سنة 2021 عن دار الوطن العربي للنشر والتوزيع بتونس ، لوحة الغلاف للفنان رضا عباس الخضراوي ، و هذا الكتاب من النصوص النثرية ( خواطر ) .
حين تقرأ نسيل الرؤى لمحمد الجدي تنتابك أسئلة تدغدغ وجدانك و أنت الرجل الشرقي ذو النزعة الذكورية ، ليبقى السؤال الأهم : أين أنا من كل هذه الأنوثة الطاغية في الكتاب ؟و لكنك سرعان ما تعود أدراجك إلى هذا العالم الذي انطلقت منه مع " أمي" ( ص 19 ):« أحنّ إلى حضن أمي الدفيء، و همسات أمي تداعب روحي الشفيفة ، و قبلات أمي على وجنتيّ تهدّئ من جزعي ... » . لتكون انطلاقة رحلة الحب و الحياة من شجرة الحياة ، أول إمرأة تعرفها في حياتك لتتعلم على يديها معنى الحبّ .
هذه المعاني المتكاثرة على امتداد صفحات الكتاب تغدو " نسيلا " من كلمات قد تفي المرأة حقها و إن تعجزك العبارة أحيانا فلا تجد بدًا من القول : " تعالي نستعد أحلاما عشناها سنين " ( أدعوك ص 181 ) . إنها دعوة للحياة يستجديها محمد الجدي و يصدّرها لنا ، فنتماهى معه ، فمن منا لا يبحث عن " إمرأة من فيض " ( ص 114 ) : « أريدها حبيبة تشكّل لي من زخارف الحروف قصيدا يختزل مسافات العشق ، و في لحظة فارقة يكون اللقاء ، فتتشابك الأرواح عناقا و تلتحم الأحضان حتى التماهي ».
ليبقى السؤال الأهم عندنا : هل أن محمد الجدي يؤسس لملحمة عشق أنثوية ؟
المؤكد أن الكاتب المؤمن بأهمية المرأة و بقيمتها في حياته و حضورها القوي في وجدانه واع بأنه لا وجود للمرأة دون الرجل ، و الا لكانت الحياة عرجاء ، فكان يخاطبه و إن غيابا بأسلوب الأمر المفعم بالحبّ : « أهد إليها الحياة، أهد إليها الذكريات ، أحضر لها كتابا، أكتب لها اهداء ،( .... ) اهمس لها أنت تحبها بجنون و أنك أبداً .. أبداً لن تخذلها » .
ولكن أي تعادليّة ينشدها حمة الجدي؟
هل المرأة فقط في حاجة للحنان و لعذب الكلام أم أن الرجل - على شرقيته - هو أيضا محتاج لما يدغدغ وجدانه ؟
إن هذا السؤال و إن كان خفيا بين ثنايا النصوص على امتداد صفحات الكتاب ( و خاصة حين ذكر والده :" كان أبي يحمل نفس طباع المعلم ، غليظ المنبت و الطباع ، قد العبارات ، لكن خلف خطوط الفظاظة و الغلظة تتمترس طاقة حب غريبة ، مستترة " [ تفاصيل مبعثرة ص 32 ]
فإنه سرعان ما يعيدنا إلى تلك التعادلية التي يؤسس لها لرسم علاقة وجدانية تصل حد التماهي بين الرجل و المرأة ، فيتوجه " إليها " بالقول :« امنحيه بعض بوح تستّر خلف أسوار صمتك (....) حتما سينسى كل الكلام الذي قلته، و يستمتع بحديث الشّوق يتلوه لسان الصمت في عينيك ».
لتكون شهقة الحياة نسيلا من العشق قد يمحوه الواقع أحيانا حين تمأسس رابطة الحب بمؤسسة الزواج و ما فيها من ضغوطات يومية لم يفت الكاتب تقديم حلول لها ( العلاقة بين الرجل المرأة إذا تمأسست، خبا وهجها ص 69 ),
ف " يتكلم المتزوجون في كل شيء...دون الاتيان على غذاء القلب " .هذا الغذاء هو " الحب " ف " الحب حين يولد سليما يضمن بقاءه و لا يموت " ( كنه الحب ص 93 ).
إنّ هذه التعادلية لم تشمل الجانب الوجداني المرتبط بالعاطفة فقط - و إن كانت طاغية في الكتاب - بل تعدّتها أحياناً إلى الجانب الإجتماعي حين يخاطب مدينته " القصرين الشهيدة " بما هي مشترك يجمع الذكر و الأنثى على قيم المواطنة ، فيعتذرون منها :« عفوا مدينتنا إن أفرطنا في الحلم ، قد زيّنوا لنا الآتي بكلّ الألوان ، و نحن البلهاء ، أصبحنا مرتفع في غيبوبة النّشوة المخضّبة بالأماني ... » ( ص 108 ) ، ليتواصل الإعتبار ممزوجا ب– " حبّ بنكهة الصنوبر " ، ليكون الوعد : " سنصنع لك من الأنسام جناحين تحلّقين في سماء الربّ السابعة و نهيّء لك من الغيوم خِدرا وفيرا ، و من قمم الشّعانبي منارات للهبوط بسلام ». ( ص 109 ).
إن هذا البحث المضني في أغوار النفس البشرية يترجم تطلّع محمد الجدي إلى تأسيس هذه التعادليّة حتى من خلال الضمائر بين أنا و أنت و هو وهي ، إنها لعبة الضمائر التي أتقنها في " نسيل الرّؤى " ليخرج لنا من خلالها رؤية جديدة للحبّ تعتمد الإتصال و التّواصل بين الإثنين حتى تستحيل أحياناً مرآة تعكس ما في القلب من هوًى :« أحتاج وجهكِ مرآة تُبصرني ... » ( أحتاجك مرآة ص 146 )، إنها الحاجة إلى الإنصهار بين ذاتين في رحلة بحث عن كنه الوجود في
« مناخات عشقيّة » ( ص 179 ) هي أسمى المناخات حين
« يصّاعد من قراره صوت ، باسمك يهتف : يا أمّي » ( ص 180) ، لتكون الرّحلة بين " الأنا " و " الأنت " ، بحثا مسترسلا عن مستقرّ ، بحث محموم عن « قلب يسع كلّ هذا الوجع » ( ص 192 ) ، هذا الوجع الذي يحمله إلينا محمد الجدي عبر تعادليّة تحمل هموم القلب و الهوى و هموم الوطن بثورة مهضومة الجانب من أبنائها و بناتها .
و لكن رغم هذا الألم و " اغتيال الحلم " ، و " حتى لا ننسى "
( ص 162 ) ، فإن محمد الجدي سرعان ما يعود بنا إلى بوتقة الحبّ الذي تتغذى منه نصوصه في أسلوب شعريّ يراعي مناخات النفس الباحثة دوما عن الفرح في مقابل ما يختلجها من حزن ليحطّ الرحال بنا في تحدٍّ يرسمه لنفسه و لنا من أجل تحقيق هذه التعادليّة المنشودة بدعوة صريحة هي : " سنكتب للفرح " ( ص 184)، إنها الوعد الجديد :« سنظلّ نكتب ، إنّا خلقنا لنكتب ، نرسم ، نهوى ، نحزن ، نفرح ، نسبح في بحر أحلامنا حدّ عمقها المرتجى نشوة ». ( ص 184).
يمكننا القول أنّ محمد الجدي قد أثار فينا ما نحتاجه في مجتمعاتنا العربية من " تعادليّة " تقذف فينا توازنا نفسيّا
و روحيّا و جسديّا يجمع بين الأنا و الآخر في علاقتهما ببعضهما البعض و بعلاقتهما بالوطن الذي يبقى أمًّا حنونا تمدّ أياديها لتحضن و تربّت :« فمحبّتك يا وطني بحجم جبل الشعانبي » ( هذيان محموم بالوطن ص 176) ، و هذه التعادلية التي أنشأها محمد الجدي جاءت في لغة شعرية جميلة انسابت ماء نميرا رقراقا على امتداد صفحات الكتاب في صحراء الروح العطلة لكلّ شيء مؤنس و جميل بطعم حلو المذاق هو " نسيل الرؤى " أو قطرات عسل تؤسّس لرؤية جماليّة للكون و الإنسان .
محمد أحمد مخلوف