يسهم العنوان باعتباره بنية متضمنة في النص لها مدلولها المعجمي والنحوي، ومدخلا يسبق المتن الحكائي، يسهم في تحفيز ذهن المتلقي على تأويل النص واثراءه وفي الاشارة الى دلالاته، فمنطوقه يفضي الى تداخل شديد التأويل للمعنى في هذه الرواية، وقد جاء مركبا من مفردتين أدتا وضيفتهما في فك شفرة دلالة النص وفي اشارته الى الترابط الجدلي بين الزمان والمكان وعناصرالرواية الاخرى : خانة " مكان اصغر"من مكان اوسع، والشواذي هي مفردة شعبية باللهجة العراقية الدارجة وتعني القردة، وخانة الشواذي هي المقاعد الاخيرة من الباصات التي كانت تجوب شوارع مدننا العراقية، منذ عقود خلت، تنقل مواطنيها من مدينة الى اخرى، وكانت تلك "الخانة" ادنى اجرة ركوب ولهذا كانت شريحة الفقراء يفضلونها، فهي بالتالي تدل على الفارق الطبقي والاجتماعي، ما يفتح مجالا للتدليل على النظرة الفوقية لمن هم في مقدمة الباص الى من هم خلفهم والشعور بالدونية لدى من يجلسون في الخلف في "خانة الشواذي". ما اعطي انطباعا عن تشابك البعدين المعجمي والدلالي للعنوان باعتباره أول عتبة اشارت الى المكان ، والذي تردد منطوقه كثيرا في المتن الحكائي، وهو ما فسّر سببية اختيار الكاتب له كعنوان للرواية.
ومن خلال : "خانة الشواذي" يكون الركابي قد دخل مدينة (بدرة) وكأنه يدخلها أول مرة، لانه نفذ اليها عبر مدخل مختلف عما في رواياته السابقة، مصاحبا شخصيات جديدة الى حيث ازقتها وصحراءها وبيوتها وجنبات تاريخها. فلـ (بدرة) سطوتها عليه، مسكون بها بوعي او باللاوعي، فهي ضالته الخلاقة وبؤرة الواقعي والتخيلي لديه، ومعينه الذي لا ينضب، في الاعم الاغلب من اعماله الروائية، ما يشي عن قصد مسبق في اعادة تخليقها، ما ان تتوطن فيها حتى تكون قد تحررت من اطارها الواقعي الساكن المحيط بالشخصيات والاحداث والازمنة، جراء فاعلية جدلية العلاقة بينها كلها مجتمعة.
ولوعي الركابي بفاعلية المكان في انتاج الحكايات فقد واظب على ترسيم تفاصيل سِيَر حيوات شخصياته، فراح ينشئء المشاهد، ويكشف النوازع ويفسرالمواقف، قدراقترانها باحداث تاريخية منتقاة من ازمنة بعينها، موجها اياها وفق آصرتها مع الامكنة التي انطلقت منها، وذلك من خلال احالة انظمة تلك الامكنة الى اللغة كأداة معرفية، ونسق من الاشارات والرموز، مع استثماره لتمرسه في تقنية مجازها ببراعة، جنبا الى جنبِ تخييلِ ماهو تاريخي ومجتمعي معا، فراحت لغته السردية بوظيفتها البنائية والايحائية، تتجاوز الصورالمرئية المحسوسة، مجتهدا في تنويع لغته الواصفة لها، كاشارات (موجودات) مكانية، لتتخذ موقعها في نصه رموزا بكثافة دلالية، فالصحراء بين بدرة والكوت مثلا التي اجتازتها"ملاك"صحبة "نادر" رغم مخاطر اجتيازها الا انها باتت تعني لهما العبور نحو افق الخلاص والتحرر.
الا ان المكان لدى كاتبنا الركابي ليس صورة يستفيض في وصفها، بل يجهد في تصييره كائنا بروح متفردة، يستثير ذاكرته فيعمد الى توصيف سيولة حضوره غاية في التكثيف، وهو امر لا يمكن تحقيقه الاّ من خلال فاعلية الشخصيات، فتخليق المكان، وترسيمه مجددا، يمثل احد ركائز بناء الشخصية الروائية، وبذا اتخذت أمكنته تلك، دورعنصر حي وحكائي مؤثر، يفسر كينونة مستوطينه، ويمنح النص القدرة على انتاج دلالالته. سواء اوجز الكاتب في الوصف او راح به تفصيلا. وهو ما أهل لغة الكاتب لأن تستفز تلك الامكنة عبر استثماره تفاصيل منتخبة منها، بغية استثارة ذاكرة المتلقي واحالته الى امكنته الواقعية التي الفها والتي عمد الكاتب الى الاشارة اليها بأسمائها الواقعية، مانحة اياه فرصة المقارنة والمقاربة، إلا ان انزياح ذاكرته هذا، لن يصمد طويلا امام فاعلية انظمة التخييل الاشارية التي اعتمدها الكاتب.
فبرغم ما يلوح من تماثل الامكنة الروائية تلك مع نظيراتها الواقعية فلن تغدوالا (تخليقا لغويا يحيل الى نفسه ويمنح النص السردي المتخيل مظهره الحقيقي)، أَلا ان الركابي في هذه الرواية ورواياته الاخرى، لا يأسطر الواقع او يغرّبه ولن يتخذ لديه مكانا تزيينيا يؤثث به (خانة الشواذي) بل يستفز ذاكرته، كما اسلفنا، والاخذ بناصيته وصولا الى تماهي الواقعي فيه مع المتخيل عنه. وذلك مجتمِعا هو الذي مكن الكاتب من (رسم صورة بصرية جعلت إدراك المكان بواسطة اللغة ممكنا«(1) معززا بها سطوة الامكنة المتخيلة على ذهن المتلقي، حيث ان (التبادل بين الصورة الذهنية والمكانية، يؤدي الى التصاق معان اخلاقية بالاحداثيات المكانية نابعة من حضارة المجتمع وثقافته، ... كما ان الاشياء تتحول في الرواية من مجرد عناصر من العالم الخارجي الى رموز لها دلالاتها)2
لكن الركابي لا يبتدأ رَويه لحكاياته من (بدرة) الاثيرة لديه بل من مقبرة فارهة في (كندا) اذ راح يتتبع عين كاميرا تنقل اليه لحظات دفن شخص ما، مؤكدا بذلك مرة اخرى، انطلاقة السرد الـ (مكانية – المشهدية) تلت دلالة العنونة المكانية: (سبعة رجال، ثلاث نساء، خمنتُ احداهن الزوجة التي ترملت مؤخرا)ص7، تابوت ، شجرة عملاقة، القبر، حيث تمت الاشارة الى هذه الموجودات كعلامات او شارات مكملة لمشهد المقبرة و لتدل عليها ، بما في ذلك "طائر ابيض" ( مرق خطفا ليختفي في زرقة السماء) وهي اشارة الى روح المتوفي الذي دفن توا، الا ان الكاتب لم يصرح باسمه لحظتها، وراح يخاتل المتلقي من خلال وصف مكثف لتلك المقبرة، فكانت تلك اولى الحكايات.
ويستمر الكاتب متكتما على اسم ( المتوفى) فيعود الى مخاتلة متلقيه ايضا، وهذه المرة من خلال مكان اخر (بغداد) مقترنا بزمن ماض، مشاغلا به زمن الروي، لاستعادة ذكريات (حكايات) تماضت لزملاء دراسته في كلية الفنون الجميلة في ستينيات القرن الماضي يرويها " نزار": (وكأنني أحيي تاريخ صداقة بدأت منذ العام 1966 حتى هجرة طه النهائية في التسعينات بصحبة زوجته جنان..)الرواية ص16 وحين يردُ اسم "طه طلال" فلن يحزره او يفطن المتلقي الى انه هو المتوفى المدفون ، فقد جاء ذكره على حافة ذكرى عملية ترميم "لوحة طه" من قبل الراوي. و سيُحيّن( الكاتب-الراوي) توقيت التصريح باسمه بعد ان طوى مع المتلقي اثني عشر صفحة من الروي بضمير المتكلم الاثير لديه، وهو يسرد تفاصيل علاقاتهما في الكلية. فيخبر زوجته التي كانت زميلته في الدراسة الجامعية قبلا، بخبر وفاة "طه" :
-:يبدو اننا فجعنا بوفاة اعز اصدقاءنا
-: من هو؟ لا تقل انه طه طلال (الرواية ص13)
ومن هنا يكون "نزار" هو الراوي لحكايات (خانة الشواذي) وقد بدأ سفره العسير في تفكيك لغز مصير "طلال منذر"، ومصائر الشخصيات الاخرى، فكان لابد من ان يتصدى لسيَر شخصياته ولوقائع التاريخ حاضرها وماضيها، منتقي امكنة خارج حدود بدرة ، واحداثا خارج نطاق زمن الروي، ليصل المتلقي بحقبة العهد الملكي في العراق والتظاهرات ضده، وبمعسكر اعتقال مخصص للأرمن ابان جرائم الابادة ضدهم عام 1915، ومن هنا نتبين قوة ذاكرة الركابي وغنى معارفه، وهو يغادرعتبات الحاضر الى الماضي، فكانت حكاية(ملاك) التي القي القبض عليها لاشتراكها بالتظاهرات وحكاية بشيرالمجند قسرا في الجيش العثماني وابن مدينة بدرة الذي قرر تهريب الفتاة الارمينية" كرستينا"من معسكر الاعتقال الى(يرفان) الى حيث موطنها في ارمينيا، وزواجه منها وانجابهما "بشير" وفتاتين، ثم تأتي رحلة العودة الشاقة، الى موطنه "بدرة" ، و"بشير" الابن لم يزل فتيا انذاك. وستغدو هذه الحكاية ولاّدةً لحكايات مختلفة في ازمنة وامكنة حدوثها. حكايات لشخصيات الرواية الذين ما انفك الكاتب يرصدهم في اسفارهم من مكان الى اخر مختلف في الدالات الجغرافية والزمنية الموازية لتحركاتهم، ما مهد للمتلقي الى النفاذ الى تفاصيل المكان و تفسيرعلاقة الشخصية به. وقد تسطّر كل ذاك على وقع الروي المثقل بظلال الازمنة المعقدة التداخل. مكتظا في فضاء (بدرة) ومنتظما في حيز سردي دائري متحرك، تتقاطع فيه الاحداث وتحولاتها وتقادمها على الامكنة وعلى اجيال مختلفة تباينت في مستويات سلوكها وتفكيرها.
ان "بدرة" كما هي في هذه الرواية، ليست مدينة مغلقة او تضيّق على ساكنيها على اختلافهم بل هي عادة ما تنفتح على مدن وقصبات مجاورة اخرى فالطريق بينها وبين مدينة الكوت فراغ مفتوح على اللانهاية في امتداده، ونادرا ما يعثر المسافر فيه على شارات دالة على امتداد مساراته، الا من طيور كاسرة وحيوانات مفترسة تنتظر فرائسها دوما، فهي الطريق المحفوفة بصحراء مهددة بسيول تنجرف من سفوح جبال زاغورس، الى الصحراء لتنطوي على مخاطر متوقعة وغير متوقعة، ويحتفظ سكان بدرة بحكايات مأساوية جراء تلك الاخطار التي قد حدثت فعلا، ذلك ان صحراءها لن تحتفظ بأحد ما الاّ ميتا، والمارون خلالها لا يتركون فيها اثرا ما، الا كونهم جثثا يتقادم عليها الموت والفناء.
وتستقبل بدرة وافديها عبر هذه الطريق، بمن فيهم المنفيين الشيوعيين. من بغداد ومحافظات اخرى، فتضاف حكاياتهم الى خزين ذاكرة المدينة "بدرة". تضيفهم الى فسيفساء مجتمعها المتباين طبقيا وثقافيا، ومتغايرا في النوازع والميول، بطبيعة الحال، الامر الذي بدت فيه الشخصيات مؤهلة نحو التعاضد والتكافل والتنافر، نحو الانفتاح والمحاورة والمواجهة والصراع، نحو الحب والكراهية، فهكذا هي الحياة كما يقول باشلار( غالبا ما تنبعث في كل الاشياء عنما تتجمع التناقضات)، إذ حين لم يجد "بشير" عملا يعتاش منه، بعد عودته من سفر"يرفان" يدعوه جاره الطيب" ناظم" ليقتسم الرزق معه في مهنة سياقة سيارته بين بدرة والكوت. حتى انتقل هذا التكافل والشراكة في العمل الى ولديهما نادر وفيصل. غير ان هذه العلاقة قد اصطبغت بغيضِ نادر من فيصل لانه عمل رجل امنٍ، وظيفته مرافقة المعتقلين المنقيين وتقييدهم بخانة الشواذي، الامر الذي استهجنه "نادر"، يقابله غيض فيصل من نادر بسبب تودد الفتيات اليه لجماله، وهما فتيانا، حتى انه اطلق عليه النار من مسدسه، وهما شبابا، فكاد ان يصيبه، وسيشتد غيضه اكثر منه حين استأثر نادر بحب"ملاك" الفتاة الارمينية اليسارية المنفية في بدرة، وهروبهما معا، لتموت ملاك حاملا بجنينها من نادر، في مستوصف بمندلي ، وهي التي قد اؤتمن عليها فيصل في بيته ريثما يتوفر لها منزل خاص اخر. فكان لابد من ان يبلغ سيل غيض فيصل زباه، ليس بسبب مسؤوليته الامنية عنها فحسب، بل بسبب حب ملاك لنادرايضا. وحين يتسلم فيصل نادرا معتقلا، سيقيده فيصل،كما اعتاد مع المنفيين الى بدرة ، يقيده في (خانة الشواذي) في باصه، فيلقى الجميع حتفهم جراء سيول الامطار الجارفة في الطريق بين الكوت وبدرة، يصحبهم "طلال" والد" طه"- المثقف التنويري- الناجي الوحيد الذي اتُهم بقتل رجل الامن "فيصل" ليُسجن في سجن بغداد ويضيع اثره اثناء أحداث المجزرة التي عرفت بمجزرة سجن بغداد عام1953. وسندرك ان مصائر الشخصيات المحورية في هذه الرواية معلقةً بين الحياة والموت خلال رحلاتها، هروبها، ومغامراتها.
ومن هنا سيتكفل "نزار"بمتابعة البحث في معرفة مصيره من حيث انتهى دور ارشيف مرويات رسائل "طه" اليه بشأن سيرة حياة والده، وكأن ترميم نزار للوحة طه التي تجسد حادثة انجراف الباص جراء السيول على طريق بدرة – كوت، وغرقها هو محاولته لترميم الحكاية برمتها والمضي بفك شيفرة الحكاية – اللوحة-
وتلك هي عديد حكايات (خانة الشواذي) التي شكلت بنيتها، تترى متلازمة في وشائجها، لتشدّ من اواصر امكنتها، و تأثيرها في تبديد حصار الامكنة المسورة بالانغلاق، حيث سيمتد نسغها ليغذي امكنة اخرى ويصلها ببعضها، فاصبحت كل الامكنة مفتوحة على الامل والرجاء بالحرية، فحكاية "كريستنا" بدأت بالمعتقل لكنه انفتح خلال هروبها منه على افضية شاسعة من جبال واودية وانهار حتى وصولها الى مدينة يرفان خلال عملية الهروب، لتكتمل وظيفة الحكاية ذاتها في لمّ شمل (بدرة ويرفان) ان جاز التعبير، بمغامرة العودة صحبة "بشير" الى مدينته بدرة، فمن غرفتها هنا في"بدرة" تبدد "كريسينا" غربتها، مقاومة ضيق المكان، كلما أظنّها الحنين الى بلادها النائية، باستذكار طبيعة ارمينيا، ووسيلتها بذلك قصّ حكايتها مع "بشير" على قريناتها من نسوة الجيرة، وغناءا لقصائد شاعر ارميني(سيامانطو):
في وديان الوطن"
كنت وحيدا مع حلمي ذي الاجنحة المتكسرة"( الرواية ص35)
ومن هنا ايضا، تجلت طبيعة حركية شخصيتها في مكانها الجديد(بدرة) وهي حركة تبادلية، إذ اسهمت في انتاج فضاء اخر ضمن فضاء غرفتها.
فيما تحولت غرفة "ملاك" في بيت "فيصل"، الى حيز يضيق بها عند كل لحظة، يمكنه تجريدها من كينونتها ومن حواسها الانسانية وغرائزها كأنثى، ويسلب منها كلَّ شعور بالطمأنينة وحلمها بالحرية، فكان عليها ان لا تخضع الى ما تخلفه مخاوف النفي والأسر، فما (قيمة حياة منفية مثلي)الرواية ص108، حيث قالت. اذ اهتزت ذاتها الانثوية المغرقة بمرارة العزلة والخيبة، بعد غرامها بنادر، وراحت تنسج خيوط الامل بالخلاص ومدها خارج حيز حبسها لاستعادة وشائج علاقتها بالعالم الخارجي الفسيج حيث الحرية، حتى غدت الغرفة المنغلقة على اليأس كيانا هشا مفتوحا على الامل لا يقوى على الصمود امام تيارات غريزتها الانثوية ورفضها للاضطهاد، لذا لم تعد غرفتها مكانا محايدا، بل اكتسب تجانسه الحسي مع ايقاع نوازع ذاتها الممتلئة بالاشجان والرغبات الحسية وعشقها لـ "نادر" وعلاقتها الطيبة بأمه، وهو ما خفّف عنها وطأة النفي والوحدة مع شعور بالالفة، وقد حفرت فعلا ثغرة للخلاص، لتهرب معه خلسة وبعيدا عن عيون "فيصل". في رحلة محفوفة بالمخاطر تنتهي بموتها وهي حامل، في مندلي وبعودة نادر مثقلا بالخيبة، والخسران. متهما بتهريبه لها، ليقع معتقلا بين يدي صديقه"فيصل" الذي تحول الى غريم له. فيلقى حتفه مقيدا بخانة الشواذي في الباص الخشبية التي اغرقتها السيول.
وقد اسهم تعدد الامكنة وتنوع فضاءاتها في هذه الرواية في تشييد بنية فضاءها الواحد المتجانس الذي احتوى ثيمتها ككل، فلا (وجود لرواية تجري جميع حوادثها في مكان واحد منفرد واذا ما بدا لنا الرواية تجري في مكان واحد خلقنا اوهاما تنقلنا الى اماكن اخرى )4 إلاّ ان لا مكان بعينه قد تسيّد على منطق الرواية او تسلط على فضاءاتها.
وعود على بدء لمرويات الامكنة، سنجد ان الروائي كان قد وظف "التناظر والتماثل" بينها كاجراء جمالي، يتحكم فيه المستوى اللغوي المشيّد لجمالية السرد، مؤكدا بذلك فرادة بنية سرديته(خانة الشواذي) ومن مظاهر التناظر:
* رحلة عمل الأبوين (بشير وناظم) اليومية بسيارة الاخير( القجمة)، من بدرة الى الكوت وبالعكس، لنرى نظيرتها رحلة ولديهما (نادر وفيصل) بسيارة الباص الخشبية عبر ذات الطريق المحفوفة بالمخاطر والتي فقد اثرها ناظم حياته غرقا جراء السيول، فيما يموت "نادر" و"فيصل" لنفس السبب وبذات الطريق ايضا.
* مغامرة بشير" في تهريب "كريستنا" من المعتقل العثماني للأرمن ومن ثم العودة معا الى وطنه، تناظرها مغامرة ولده نادر في تهريب ملاك السياسية المنفية.
الا انه في ذات الوقت يستمر التنافر والصراع بين بعض من شخصيات الرواية فيما يستقطب هذا الصراع شخصيات ثانوية اخرى، كعناصر مساهمة في ادامة فاعلية الاحداث، في الامكنة المختلفة مع تقادم الأزمنة، الا ان التناظر والتنافر لم يمنع النص الا ان يكون وحدة منسجمة قائمة على جدلية العلاقة بين الشخصية والمكان وعناصر الرواية الاخرى. وان الكشف عن تلك الجدلية، ناهيك عن الحكايات التي انتجتها الامكنة المختلفة توضح تفسير رؤية الركابي للمكان الفني، هذه الرؤية التي تعيّن امتدادات المكان وتشابك وشائجه مع ساكنيه، ما اتاح للكاتب النفاذ عبر مغاليق الذات والكشف عن ما يتفاعل فيها من متغيرات المشاعر والمعاناة من الوحدة والعزلة. كما وتقودنا هذه الرؤية (الى معرفة المكان وتملكه من حيث هو صور، فضلا عن رسم طوبغرافيته وتجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الايدلوجي)5
اخيرا..
يمكنني القول ان لابد لقاريء هذه الرواية الاّ ان يمتلك ذاكرة يقضة لتمكنه من وصل اوصال كل حكايات الامكنة ببعضها فمثل هذه الراوية لا تعطي لمتلقيها فرصة قراءتها بتراخ.
الهوامش
----------
*( خانة الشواذي) رواية للكاتب عبد الخالق الركابي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1 2019
1. سمر روحي الفيصل. بناء المكان, مجلة الموقف الأدبي, دمشق, ع306, 1996م, ص13
(باشارة للكاتبة اسية بوعلي للمصدر اعلاه في مقالة لها بمجلة نزوى العمانية)
2، سيزا قاسم، بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط1 ، 1984 ، ص 76
4. ميشال بوتور ، بحوث في الرواية، ت فريد انطونيوس ،منشورات عويدات ، بيروت 1986ط3، ص61
5. حسن بحرواي بنية الشكل الروائي- المركز القفافي العربي _ط1 1990. ص 100 –101
-----------------
غازي سلمان - بغداد
ومن خلال : "خانة الشواذي" يكون الركابي قد دخل مدينة (بدرة) وكأنه يدخلها أول مرة، لانه نفذ اليها عبر مدخل مختلف عما في رواياته السابقة، مصاحبا شخصيات جديدة الى حيث ازقتها وصحراءها وبيوتها وجنبات تاريخها. فلـ (بدرة) سطوتها عليه، مسكون بها بوعي او باللاوعي، فهي ضالته الخلاقة وبؤرة الواقعي والتخيلي لديه، ومعينه الذي لا ينضب، في الاعم الاغلب من اعماله الروائية، ما يشي عن قصد مسبق في اعادة تخليقها، ما ان تتوطن فيها حتى تكون قد تحررت من اطارها الواقعي الساكن المحيط بالشخصيات والاحداث والازمنة، جراء فاعلية جدلية العلاقة بينها كلها مجتمعة.
ولوعي الركابي بفاعلية المكان في انتاج الحكايات فقد واظب على ترسيم تفاصيل سِيَر حيوات شخصياته، فراح ينشئء المشاهد، ويكشف النوازع ويفسرالمواقف، قدراقترانها باحداث تاريخية منتقاة من ازمنة بعينها، موجها اياها وفق آصرتها مع الامكنة التي انطلقت منها، وذلك من خلال احالة انظمة تلك الامكنة الى اللغة كأداة معرفية، ونسق من الاشارات والرموز، مع استثماره لتمرسه في تقنية مجازها ببراعة، جنبا الى جنبِ تخييلِ ماهو تاريخي ومجتمعي معا، فراحت لغته السردية بوظيفتها البنائية والايحائية، تتجاوز الصورالمرئية المحسوسة، مجتهدا في تنويع لغته الواصفة لها، كاشارات (موجودات) مكانية، لتتخذ موقعها في نصه رموزا بكثافة دلالية، فالصحراء بين بدرة والكوت مثلا التي اجتازتها"ملاك"صحبة "نادر" رغم مخاطر اجتيازها الا انها باتت تعني لهما العبور نحو افق الخلاص والتحرر.
الا ان المكان لدى كاتبنا الركابي ليس صورة يستفيض في وصفها، بل يجهد في تصييره كائنا بروح متفردة، يستثير ذاكرته فيعمد الى توصيف سيولة حضوره غاية في التكثيف، وهو امر لا يمكن تحقيقه الاّ من خلال فاعلية الشخصيات، فتخليق المكان، وترسيمه مجددا، يمثل احد ركائز بناء الشخصية الروائية، وبذا اتخذت أمكنته تلك، دورعنصر حي وحكائي مؤثر، يفسر كينونة مستوطينه، ويمنح النص القدرة على انتاج دلالالته. سواء اوجز الكاتب في الوصف او راح به تفصيلا. وهو ما أهل لغة الكاتب لأن تستفز تلك الامكنة عبر استثماره تفاصيل منتخبة منها، بغية استثارة ذاكرة المتلقي واحالته الى امكنته الواقعية التي الفها والتي عمد الكاتب الى الاشارة اليها بأسمائها الواقعية، مانحة اياه فرصة المقارنة والمقاربة، إلا ان انزياح ذاكرته هذا، لن يصمد طويلا امام فاعلية انظمة التخييل الاشارية التي اعتمدها الكاتب.
فبرغم ما يلوح من تماثل الامكنة الروائية تلك مع نظيراتها الواقعية فلن تغدوالا (تخليقا لغويا يحيل الى نفسه ويمنح النص السردي المتخيل مظهره الحقيقي)، أَلا ان الركابي في هذه الرواية ورواياته الاخرى، لا يأسطر الواقع او يغرّبه ولن يتخذ لديه مكانا تزيينيا يؤثث به (خانة الشواذي) بل يستفز ذاكرته، كما اسلفنا، والاخذ بناصيته وصولا الى تماهي الواقعي فيه مع المتخيل عنه. وذلك مجتمِعا هو الذي مكن الكاتب من (رسم صورة بصرية جعلت إدراك المكان بواسطة اللغة ممكنا«(1) معززا بها سطوة الامكنة المتخيلة على ذهن المتلقي، حيث ان (التبادل بين الصورة الذهنية والمكانية، يؤدي الى التصاق معان اخلاقية بالاحداثيات المكانية نابعة من حضارة المجتمع وثقافته، ... كما ان الاشياء تتحول في الرواية من مجرد عناصر من العالم الخارجي الى رموز لها دلالاتها)2
لكن الركابي لا يبتدأ رَويه لحكاياته من (بدرة) الاثيرة لديه بل من مقبرة فارهة في (كندا) اذ راح يتتبع عين كاميرا تنقل اليه لحظات دفن شخص ما، مؤكدا بذلك مرة اخرى، انطلاقة السرد الـ (مكانية – المشهدية) تلت دلالة العنونة المكانية: (سبعة رجال، ثلاث نساء، خمنتُ احداهن الزوجة التي ترملت مؤخرا)ص7، تابوت ، شجرة عملاقة، القبر، حيث تمت الاشارة الى هذه الموجودات كعلامات او شارات مكملة لمشهد المقبرة و لتدل عليها ، بما في ذلك "طائر ابيض" ( مرق خطفا ليختفي في زرقة السماء) وهي اشارة الى روح المتوفي الذي دفن توا، الا ان الكاتب لم يصرح باسمه لحظتها، وراح يخاتل المتلقي من خلال وصف مكثف لتلك المقبرة، فكانت تلك اولى الحكايات.
ويستمر الكاتب متكتما على اسم ( المتوفى) فيعود الى مخاتلة متلقيه ايضا، وهذه المرة من خلال مكان اخر (بغداد) مقترنا بزمن ماض، مشاغلا به زمن الروي، لاستعادة ذكريات (حكايات) تماضت لزملاء دراسته في كلية الفنون الجميلة في ستينيات القرن الماضي يرويها " نزار": (وكأنني أحيي تاريخ صداقة بدأت منذ العام 1966 حتى هجرة طه النهائية في التسعينات بصحبة زوجته جنان..)الرواية ص16 وحين يردُ اسم "طه طلال" فلن يحزره او يفطن المتلقي الى انه هو المتوفى المدفون ، فقد جاء ذكره على حافة ذكرى عملية ترميم "لوحة طه" من قبل الراوي. و سيُحيّن( الكاتب-الراوي) توقيت التصريح باسمه بعد ان طوى مع المتلقي اثني عشر صفحة من الروي بضمير المتكلم الاثير لديه، وهو يسرد تفاصيل علاقاتهما في الكلية. فيخبر زوجته التي كانت زميلته في الدراسة الجامعية قبلا، بخبر وفاة "طه" :
-:يبدو اننا فجعنا بوفاة اعز اصدقاءنا
-: من هو؟ لا تقل انه طه طلال (الرواية ص13)
ومن هنا يكون "نزار" هو الراوي لحكايات (خانة الشواذي) وقد بدأ سفره العسير في تفكيك لغز مصير "طلال منذر"، ومصائر الشخصيات الاخرى، فكان لابد من ان يتصدى لسيَر شخصياته ولوقائع التاريخ حاضرها وماضيها، منتقي امكنة خارج حدود بدرة ، واحداثا خارج نطاق زمن الروي، ليصل المتلقي بحقبة العهد الملكي في العراق والتظاهرات ضده، وبمعسكر اعتقال مخصص للأرمن ابان جرائم الابادة ضدهم عام 1915، ومن هنا نتبين قوة ذاكرة الركابي وغنى معارفه، وهو يغادرعتبات الحاضر الى الماضي، فكانت حكاية(ملاك) التي القي القبض عليها لاشتراكها بالتظاهرات وحكاية بشيرالمجند قسرا في الجيش العثماني وابن مدينة بدرة الذي قرر تهريب الفتاة الارمينية" كرستينا"من معسكر الاعتقال الى(يرفان) الى حيث موطنها في ارمينيا، وزواجه منها وانجابهما "بشير" وفتاتين، ثم تأتي رحلة العودة الشاقة، الى موطنه "بدرة" ، و"بشير" الابن لم يزل فتيا انذاك. وستغدو هذه الحكاية ولاّدةً لحكايات مختلفة في ازمنة وامكنة حدوثها. حكايات لشخصيات الرواية الذين ما انفك الكاتب يرصدهم في اسفارهم من مكان الى اخر مختلف في الدالات الجغرافية والزمنية الموازية لتحركاتهم، ما مهد للمتلقي الى النفاذ الى تفاصيل المكان و تفسيرعلاقة الشخصية به. وقد تسطّر كل ذاك على وقع الروي المثقل بظلال الازمنة المعقدة التداخل. مكتظا في فضاء (بدرة) ومنتظما في حيز سردي دائري متحرك، تتقاطع فيه الاحداث وتحولاتها وتقادمها على الامكنة وعلى اجيال مختلفة تباينت في مستويات سلوكها وتفكيرها.
ان "بدرة" كما هي في هذه الرواية، ليست مدينة مغلقة او تضيّق على ساكنيها على اختلافهم بل هي عادة ما تنفتح على مدن وقصبات مجاورة اخرى فالطريق بينها وبين مدينة الكوت فراغ مفتوح على اللانهاية في امتداده، ونادرا ما يعثر المسافر فيه على شارات دالة على امتداد مساراته، الا من طيور كاسرة وحيوانات مفترسة تنتظر فرائسها دوما، فهي الطريق المحفوفة بصحراء مهددة بسيول تنجرف من سفوح جبال زاغورس، الى الصحراء لتنطوي على مخاطر متوقعة وغير متوقعة، ويحتفظ سكان بدرة بحكايات مأساوية جراء تلك الاخطار التي قد حدثت فعلا، ذلك ان صحراءها لن تحتفظ بأحد ما الاّ ميتا، والمارون خلالها لا يتركون فيها اثرا ما، الا كونهم جثثا يتقادم عليها الموت والفناء.
وتستقبل بدرة وافديها عبر هذه الطريق، بمن فيهم المنفيين الشيوعيين. من بغداد ومحافظات اخرى، فتضاف حكاياتهم الى خزين ذاكرة المدينة "بدرة". تضيفهم الى فسيفساء مجتمعها المتباين طبقيا وثقافيا، ومتغايرا في النوازع والميول، بطبيعة الحال، الامر الذي بدت فيه الشخصيات مؤهلة نحو التعاضد والتكافل والتنافر، نحو الانفتاح والمحاورة والمواجهة والصراع، نحو الحب والكراهية، فهكذا هي الحياة كما يقول باشلار( غالبا ما تنبعث في كل الاشياء عنما تتجمع التناقضات)، إذ حين لم يجد "بشير" عملا يعتاش منه، بعد عودته من سفر"يرفان" يدعوه جاره الطيب" ناظم" ليقتسم الرزق معه في مهنة سياقة سيارته بين بدرة والكوت. حتى انتقل هذا التكافل والشراكة في العمل الى ولديهما نادر وفيصل. غير ان هذه العلاقة قد اصطبغت بغيضِ نادر من فيصل لانه عمل رجل امنٍ، وظيفته مرافقة المعتقلين المنقيين وتقييدهم بخانة الشواذي، الامر الذي استهجنه "نادر"، يقابله غيض فيصل من نادر بسبب تودد الفتيات اليه لجماله، وهما فتيانا، حتى انه اطلق عليه النار من مسدسه، وهما شبابا، فكاد ان يصيبه، وسيشتد غيضه اكثر منه حين استأثر نادر بحب"ملاك" الفتاة الارمينية اليسارية المنفية في بدرة، وهروبهما معا، لتموت ملاك حاملا بجنينها من نادر، في مستوصف بمندلي ، وهي التي قد اؤتمن عليها فيصل في بيته ريثما يتوفر لها منزل خاص اخر. فكان لابد من ان يبلغ سيل غيض فيصل زباه، ليس بسبب مسؤوليته الامنية عنها فحسب، بل بسبب حب ملاك لنادرايضا. وحين يتسلم فيصل نادرا معتقلا، سيقيده فيصل،كما اعتاد مع المنفيين الى بدرة ، يقيده في (خانة الشواذي) في باصه، فيلقى الجميع حتفهم جراء سيول الامطار الجارفة في الطريق بين الكوت وبدرة، يصحبهم "طلال" والد" طه"- المثقف التنويري- الناجي الوحيد الذي اتُهم بقتل رجل الامن "فيصل" ليُسجن في سجن بغداد ويضيع اثره اثناء أحداث المجزرة التي عرفت بمجزرة سجن بغداد عام1953. وسندرك ان مصائر الشخصيات المحورية في هذه الرواية معلقةً بين الحياة والموت خلال رحلاتها، هروبها، ومغامراتها.
ومن هنا سيتكفل "نزار"بمتابعة البحث في معرفة مصيره من حيث انتهى دور ارشيف مرويات رسائل "طه" اليه بشأن سيرة حياة والده، وكأن ترميم نزار للوحة طه التي تجسد حادثة انجراف الباص جراء السيول على طريق بدرة – كوت، وغرقها هو محاولته لترميم الحكاية برمتها والمضي بفك شيفرة الحكاية – اللوحة-
وتلك هي عديد حكايات (خانة الشواذي) التي شكلت بنيتها، تترى متلازمة في وشائجها، لتشدّ من اواصر امكنتها، و تأثيرها في تبديد حصار الامكنة المسورة بالانغلاق، حيث سيمتد نسغها ليغذي امكنة اخرى ويصلها ببعضها، فاصبحت كل الامكنة مفتوحة على الامل والرجاء بالحرية، فحكاية "كريستنا" بدأت بالمعتقل لكنه انفتح خلال هروبها منه على افضية شاسعة من جبال واودية وانهار حتى وصولها الى مدينة يرفان خلال عملية الهروب، لتكتمل وظيفة الحكاية ذاتها في لمّ شمل (بدرة ويرفان) ان جاز التعبير، بمغامرة العودة صحبة "بشير" الى مدينته بدرة، فمن غرفتها هنا في"بدرة" تبدد "كريسينا" غربتها، مقاومة ضيق المكان، كلما أظنّها الحنين الى بلادها النائية، باستذكار طبيعة ارمينيا، ووسيلتها بذلك قصّ حكايتها مع "بشير" على قريناتها من نسوة الجيرة، وغناءا لقصائد شاعر ارميني(سيامانطو):
في وديان الوطن"
كنت وحيدا مع حلمي ذي الاجنحة المتكسرة"( الرواية ص35)
ومن هنا ايضا، تجلت طبيعة حركية شخصيتها في مكانها الجديد(بدرة) وهي حركة تبادلية، إذ اسهمت في انتاج فضاء اخر ضمن فضاء غرفتها.
فيما تحولت غرفة "ملاك" في بيت "فيصل"، الى حيز يضيق بها عند كل لحظة، يمكنه تجريدها من كينونتها ومن حواسها الانسانية وغرائزها كأنثى، ويسلب منها كلَّ شعور بالطمأنينة وحلمها بالحرية، فكان عليها ان لا تخضع الى ما تخلفه مخاوف النفي والأسر، فما (قيمة حياة منفية مثلي)الرواية ص108، حيث قالت. اذ اهتزت ذاتها الانثوية المغرقة بمرارة العزلة والخيبة، بعد غرامها بنادر، وراحت تنسج خيوط الامل بالخلاص ومدها خارج حيز حبسها لاستعادة وشائج علاقتها بالعالم الخارجي الفسيج حيث الحرية، حتى غدت الغرفة المنغلقة على اليأس كيانا هشا مفتوحا على الامل لا يقوى على الصمود امام تيارات غريزتها الانثوية ورفضها للاضطهاد، لذا لم تعد غرفتها مكانا محايدا، بل اكتسب تجانسه الحسي مع ايقاع نوازع ذاتها الممتلئة بالاشجان والرغبات الحسية وعشقها لـ "نادر" وعلاقتها الطيبة بأمه، وهو ما خفّف عنها وطأة النفي والوحدة مع شعور بالالفة، وقد حفرت فعلا ثغرة للخلاص، لتهرب معه خلسة وبعيدا عن عيون "فيصل". في رحلة محفوفة بالمخاطر تنتهي بموتها وهي حامل، في مندلي وبعودة نادر مثقلا بالخيبة، والخسران. متهما بتهريبه لها، ليقع معتقلا بين يدي صديقه"فيصل" الذي تحول الى غريم له. فيلقى حتفه مقيدا بخانة الشواذي في الباص الخشبية التي اغرقتها السيول.
وقد اسهم تعدد الامكنة وتنوع فضاءاتها في هذه الرواية في تشييد بنية فضاءها الواحد المتجانس الذي احتوى ثيمتها ككل، فلا (وجود لرواية تجري جميع حوادثها في مكان واحد منفرد واذا ما بدا لنا الرواية تجري في مكان واحد خلقنا اوهاما تنقلنا الى اماكن اخرى )4 إلاّ ان لا مكان بعينه قد تسيّد على منطق الرواية او تسلط على فضاءاتها.
وعود على بدء لمرويات الامكنة، سنجد ان الروائي كان قد وظف "التناظر والتماثل" بينها كاجراء جمالي، يتحكم فيه المستوى اللغوي المشيّد لجمالية السرد، مؤكدا بذلك فرادة بنية سرديته(خانة الشواذي) ومن مظاهر التناظر:
* رحلة عمل الأبوين (بشير وناظم) اليومية بسيارة الاخير( القجمة)، من بدرة الى الكوت وبالعكس، لنرى نظيرتها رحلة ولديهما (نادر وفيصل) بسيارة الباص الخشبية عبر ذات الطريق المحفوفة بالمخاطر والتي فقد اثرها ناظم حياته غرقا جراء السيول، فيما يموت "نادر" و"فيصل" لنفس السبب وبذات الطريق ايضا.
* مغامرة بشير" في تهريب "كريستنا" من المعتقل العثماني للأرمن ومن ثم العودة معا الى وطنه، تناظرها مغامرة ولده نادر في تهريب ملاك السياسية المنفية.
الا انه في ذات الوقت يستمر التنافر والصراع بين بعض من شخصيات الرواية فيما يستقطب هذا الصراع شخصيات ثانوية اخرى، كعناصر مساهمة في ادامة فاعلية الاحداث، في الامكنة المختلفة مع تقادم الأزمنة، الا ان التناظر والتنافر لم يمنع النص الا ان يكون وحدة منسجمة قائمة على جدلية العلاقة بين الشخصية والمكان وعناصر الرواية الاخرى. وان الكشف عن تلك الجدلية، ناهيك عن الحكايات التي انتجتها الامكنة المختلفة توضح تفسير رؤية الركابي للمكان الفني، هذه الرؤية التي تعيّن امتدادات المكان وتشابك وشائجه مع ساكنيه، ما اتاح للكاتب النفاذ عبر مغاليق الذات والكشف عن ما يتفاعل فيها من متغيرات المشاعر والمعاناة من الوحدة والعزلة. كما وتقودنا هذه الرؤية (الى معرفة المكان وتملكه من حيث هو صور، فضلا عن رسم طوبغرافيته وتجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الايدلوجي)5
اخيرا..
يمكنني القول ان لابد لقاريء هذه الرواية الاّ ان يمتلك ذاكرة يقضة لتمكنه من وصل اوصال كل حكايات الامكنة ببعضها فمثل هذه الراوية لا تعطي لمتلقيها فرصة قراءتها بتراخ.
الهوامش
----------
*( خانة الشواذي) رواية للكاتب عبد الخالق الركابي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر- ط1 2019
1. سمر روحي الفيصل. بناء المكان, مجلة الموقف الأدبي, دمشق, ع306, 1996م, ص13
(باشارة للكاتبة اسية بوعلي للمصدر اعلاه في مقالة لها بمجلة نزوى العمانية)
2، سيزا قاسم، بناء الرّواية دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط1 ، 1984 ، ص 76
4. ميشال بوتور ، بحوث في الرواية، ت فريد انطونيوس ،منشورات عويدات ، بيروت 1986ط3، ص61
5. حسن بحرواي بنية الشكل الروائي- المركز القفافي العربي _ط1 1990. ص 100 –101
-----------------
غازي سلمان - بغداد