ثناء درويش - طريق النحل..١

1- عاملة :
هنا في الأعالي ، بعيداً عما يقطع عملنا ، من ظلمة وغيم وريح ودخان وماء ونار .
هنا في هذه الخليّة الحيّة - حيث الوجود كامل ، وكلٌّ في مكانه الصحيح .
فتحت عينيّ ، لأجد أن الحياة عمل ، والعمل حركة ، والحركة رقص .
لم يكن لديّ الوقت لأتأمل غيري ، لكني ومن خلالي ، رأيت الجميع . رأيتهم في عمل دءوب بلا كلل ولا ملل ، وكلٌّ وفق ما هيئ له .
أحاول أن أتذكر تفاصيل طفولتي ، مع يرقات كنّ في مثل سني ، فيحجب انشغالي بعملي شريط الذكريات عن التداعي ، ولماذا أتذكر ما أراه ماثلاً أمامي يتكرر معناه مع اختلاف الصور . فهاهي يرقات وليدة تنمو أمام عيني ، لن تهبها الحياة فرصة لترتع وتلعب مع أقرانها في هذه الخليّة ، لأن هذه الخليّة هي الطريق لغاية عليا ، ألا وهي صنع العسل ، ولا مكان للهو هنا .
بعد ثلاث أيام من فقس البيضة التي شاءت المشيئة أن تتمخض عني - أنا التي لا اسم لي ولا دلالة علي ، ولا وسمة تشير إلى هويتي ، مع كلّ هذا الحشد من النحل - وجدتني منقادة إلى قانون الخلية ، في توزيع الأدوار والأعمال .
أُوحي إلي بطريقة ما " مني إليّ " ، أن عليّ كنحلة بنت ثلاثة أيام - مع جميع من كنّ في مثل سني - تنظيف الكوارة من الجثث وتهويتها بأجنحتي . فبدأت عملي بقدراتي المحدودة التي تتناسب وحجم العمل ، ولم أشتك أو أتذمر مما قد يراه البشر ظلماً لطفولتي ، بل انقدت لقانون الطبيعة بمنتهى الرضا والتسليم ، دون التفكير حتى بالغاية ، فالغاية أيها الكبار - وخذوها من طفلة - قد تكون أيضاً حجاباً يحول دون الوصول .
أما وحي اليوم الرابع من حياتي فكان أن أبدأ بتغذية اليرقات بالعسل وغبار الطلع , وحين كبرت قليلاً وصرت بنت ست رحت أغذي بعض اليرقات بالهلام الملكي , وفي اليوم الحادي عشر إلى السابع عشر عملت على تخزين العسل وغبار الطلع , وصنع أقراص الشمع من إفرازات غددية أسفل بطني ، ما أروعها وما أبدع صنعها كيف تكون سائلة ثم تتصلب بتعرضها للهواء ، ألوكها وأبني بها سلسلة من النخاريب السداسية مختلفة الأحجام ، فيصبح بعضها مهداً للبيوض ، وبعضها لتربية الذكور ، أما أكبرها فلتربية الملكات وهي الخلايا الملكية قليلة العدد , وبعضها لخزن العسل وغبار الطلع .

هاهي الأيام تمرّ سراعاً هنا ، فبالأمس كنت صغيرة ، واليوم كبرت واشتدّ عودي وكبرت مسؤوليتي ، وهذا هو اليوم الثامن عشر ، سأحرس الخليّة ليومين وحين أتم العشرين سيكون لي شأن آخر .
اليوم أنا بالغة راشدة ، سأخرج للعمل خارجاً بما يليق بنحلة اكتسبت ثقة الوجود طوال عملها داخل الخليّة ، سأخرج لجني الرحيق وصنع العسل .ويا لها من مهمة تغبطنني عليها رفيقاتي ، فأمازحهن قائلة : " نحن السابقون وأنتم اللاحقون "
أسمع همسات هنا وهناك عن جمال وتناغم ألوان وصور وروائح الدنيا . ولكن هل لمثلي أن يتلذذ ويتمتع بما سيراه من لا متناهي الصور النابضة بالجمال .
إنني خلقت للعمل ، ولن توقعني كلّ هذه الزخارف الماكرة بالشرك ، أو تشغلني عن مهمة أتيت لأجلها على جناح الإخلاص .
قال الوجود "اخرجي " .. دفعني بقوة ، إلى عالم أجهله ، وهو واثق من قدرتي على إنجاز ما كلفني به . فرحت أستطلع المكان بعيوني الثلاث البسيطة وعينيّ المركبتين ، فأرى الصورة فسيفسائية مجزأة قبل أن يركبها الدماغ .
كم سبيل أمامي علي أن أسلكه ، كلها سبلك يا رب . سأطير من أفق لآخر ، وأتخير الزهر الذي علي امتصاص رحيقه ، ستزداد خبرتي مع الأيام ، ويخفّ عنائي ، سيهون تعبي وأنا أرى قرص العسل تشاركت وأخوتي العاملات في صنعه في بطوننا.
وحين أموت ، لا قبر سيضمني ولا هوية ستشير إلي ........
فقط .. قرص عسل جعل شفاء للناس سأكون أنا فيه بلا مراء ..
فهل تراني .................................

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...