يثير عنوان الرواية كثير من الغرابة ونكتشف مع احدى شخصيات الرواية ( دورا ) القادمة من استراليا الى بيروت أن ذلك الاسم لبار وأنه يتكون من كلمتين كلمة بودا وكلمة بار وأنهما " دلالة عن ذروة الروحانية والمادية فى آن واحد " وبودا هو المنطوق المتداول ل بوذا وتعنى الرجل المستنير وهومؤسس الديانة البوذية التى تقوم على التجرد والزهد ومحاربة الشهوات وظاهر ما بها من قداسة وكلمة بار وهو مكان لشرب الخمور وما يتبعها من شهوات ونساء ومتع أخرى ، فالعنوان به نوع من المقابلة بين القداسة وبين الشهوات وهو يشير إلى دلالات لفهم النص وإلى أن هناك نوع من الثنائية فى الرواية قد تكون الموت والحياة ، القداسة والشهوة الوحشية والبراءة فى الرواية وشخصياتها وعلى رأسها جمانة وما بها من تناقضات ، ويعقب العنوان تصدير بعبارة فى صفحة مستقلة وهى (ليس هناك صدفة ، الصدفة ضرورة قدرية ) وتعنى أنه ليس هناك صدفة فى الحياة وهو مايشير من الكاتب بارتباط ذلك التصدير بالرواية أى ليس هناك صدفة فى أحداثها .
تتكون الرواية من فصل يحمل رقم زيرو باللاتينية وسبعة وعشرون فصلا وتقع فى مائة وأربعة وستين صفحة فهى رواية قصيرة ( نوفيلا) يبدأ الفصل زيرو وكأنه تمهيد للرواية بوصف مدينة بيروت التى تقع فيها أحداث الرواية " هذه المدينة محكومة بعتمة مغوية تؤدى بكل من يحيا على أرضها إلى إدراك أنها مدينة البقع المتجاورة " وكان هذا الفصل القصير الذى يقع فى صفحة واحدة بمثابة تمهيد وإضاءة للأحداث فى الرواية .
بدأ الفصل الأول بطريقة بوليسية اثارت انتباه القارئ وشغفه وذلك باكتشاف جريمة قتل جُمانة فى شقتها بالدور الرابع من مجمع عمارات ديبة بحى الأمير ببيروت عن طريق خادمتها السيرلانكية التى شهدت بوجود عدة طعنات فى رقبة وصدر مخدومتها القتيلة ، وأسرعت لإستدعاء طبيب الحى و حين وصل شاهد بقع دم على السرير ولم يجد الجثة وأثناء ذذلك ، وقد وصل الضابط الذى تولى التحقيق الى مكان الجريمة وبدأ بجمع المعلومات عن الجريمة وقام باستدعاء معظم سكان العمارة وسألهم عن طبيعة علاقتهم بالقتيلة ، وتوقع القارئ أن تستمر الرواية على هذا الشكل البوليسى إلا أن السارد قد خالف توقعه ذلك مبتعدا فى سرده هذه الطريقة البوليسية التى بدأ بها وأراد أن تكون جريمة القتل تعبيرا عن حالة أو تمثيل رمزي للبنان وليس مجرد جريمة قتل وبحث للشرطة عن القاتل.
تحتوى الرواية على عدد كبير من أسماء الشخصيات و سنقتصر على الشخصيات الهامة فى الرواية وهى : جمانة القتيلة وهى شخصية جميلة جدا ولها علاقات متعددة مع الرجال ، وزوجها مروان مهندس معمارى وهو شخصية مثقفة ويحب الفن التشكيلى ، وشخصية الطبيب يوسف والذى يبلغ من العمر سبعن عاما وكان رمانة ميزان القيم فى الرواية حيث التحق بالصليب الاحمر لعلاج مصابى الحرب الاهلية اللبنانية ويذكرنا بشخصية وجدى عامر فى رواية ميرامار لنجيب محفوظ ، وحفيده يوسف الصغيرفى رعايته بعد مقتل أبيه وأمه الالمانية أثناء عملهما كمراسلين بأفغانستان محب للموسيقى ويفضل دراستها عن دراسة الطب ، وشخصية دورا القادمة من استراليا الى بيروت وتخطط بالبقاء فى بيروت ولكنها تغير خطتها فيما بعد ، وشخصية فرح اللاجئة السورية والتى تقيم بمساكن إيواء الفارين من جحيم الحرب بسوريا والتى تتقارب مع دورا وتتعرف على يوسف الصغير وتسافر معه الى المانيا ، والجيران ايمان صاحبة قهوة بيتنا والجارة هيام العرّافة
كان شعور الفقد و الاغتراب هو السائد والمسيطر على شخصيات الرواية فجمانة القتيلة تنقلت بين دول كثيرة وعرفت لغات كثيرة وكذلك رجال كثرون فهى روح معذبة كما يقول زوجها ، وكانت أمها قد هربت مع شخص تزوجنه وهو على غير دينها ضد ارادة اهلها وحرمها أهلها من ميراثها وانتهت حياتها منتحرة .
ودورا العائدة من استراليا وتريد الاستقرار فى بيروت وقد رحل والدتها غزلان فى ادث سيارة اثناء ذهابها للعلاج النفس فقتلت هى وشقشق زوجها ، كما توفى والدها بعد صراع مع سرطان العظام ، ويوسف الصغير حفيد الدكتور يوسف قتل أبواه فى أفغانستا ن حيث يعملان مراسلين ، واللاجئة السورية فرح التى تقيم فى أحد المخيمات بلبنان أثناء الحرب السورية بين النظام السورى ومناوئيه ، شخصية الخادمة لوسى هاربة من بلدها بعد قتلها لزوج أختها وهكذا ما من شخصية فى الرواية إلا وقد فقدت أم أو أب أو قريب فى ظروف مأساوية .
أجادت الرواية تصوير الحرب الاهلية اللبنانية ببراعة فنية ومشاهد صورت فيه هذه الحرب الرهيبة و فى مشهد ديبة صاحبة المجمع السكنى " خلال سنوات الحرب الأهلية كانت ديبة زعيمة المنطقة كلها ، عملت كل شئ : قتل ، خطف ، رهائن ، تهديد وتاجرت بكل شئ سلاح ، مخدلرات ، أدوية ، احتكار مواد غذائية ، قتل زوجها ثم قتل ابنها الوحيد فى قلب بيروت وكان فى السادسة عشرة من عمره وظلت جثته فى الشارع حتى اليوم التالى ، جنت ديبة ..صار لها قلب ميت ..كانت تستمتع بالجلوس قرب القناص وهو يتصيد القادمين من الحهة الاخرى وتقهقه ضاحكة والجثث تتساقط مثل العصافير ،،ووضعت يدها على البيوت التى هجرها أصحابها ثم فاوضتهم لشرائها بمبالغ زهيدة .. وشيدت مكانها مشروع سكنى وأصبحت الحاجة ديبة سيدة الاعمال " كذلك صورت الحرب السورية والتى تسببت فى لجوء ألاف من السوريين الى لبنان حيث عاشوا فى بيوت من الصفيح والخيم وصورت الحرب السورية فى مشاهد مؤلمة وفى مشعد دمار بيت فرح فى سوريا " وجدت مكانه ركاما ،أبوها وأمها وأختها لم يتحولوا إلى جثث بل إلى أشلاء .. شاهدت يد أمها مقطوعة وأساورها الذهبية غارقة فى الداء ، ضفيرة شعر أختها كرمى ظهرت بين حطام جدارين وحين حاولت أن تشد الضفيرة وجدتها عالقة بقطعة من جلدة الرأس أما الجزء الذى ظهر من جثة أبيها فقد كان متفحما تماما فى لحظة واحدة تتحول الحياة إلى مجزرة " ، لقد ماتت البنت التى كانتها وحل مكانها فتاة شرسة عليها أن تدافع عن نفسها بكافة السبل ، أن تضع سكينا تحت وسادتها .
حفلت الرواية بالاهتمام بالغناء والموسيقى والفن التشكيلى وأفردت مساحة كبيرة بالرواية للفن والثقافة والغناء فنسمع غناء فيروز وتشيع الموسيقى بإختلاف أنواعها بأرجاء الرواية كل على حسب ثقافته وسنه فالدكتور يوسف يفضل الموسيقى الكلاسيكية وفيروز صباحا وأم كلثوم مساءا ، ويحب يوسف الصغير الموسيقى الحديثة كما يفضل دراسة الموسيقى عن الطب ، ومروان محب للفن والموسيقى واللوحات والكتابة ويدورحديث بين مروان ودورا الذى التقى بها عقب مقتل زوجته ونشات بينهما عاطفة الحب وقد استضافها ببيته يقول " شاهدت دورا حقائبى .. واللوحات الكثيرة المسنودة الى الحائط حكيت لها أنى أحب لوحات أوجين بودان وجمانة تحب فان جوخ وشاغال ، أخبرتها أن جمانة أحضرت مستنسخات متقنة من لوحاتهما لكن دورا علقت كيف يمكنها أن تحب شاغال وفان جوخ معا " ص 130 وهذا يبين المستوى الثقافى والفنى الراقى لهذه الشخصيات ، كما حفلت بالموسيقى والغناء الصوفى وأشعار ابن الفارض والذى كان يتردد صداه من أرجاء غرفة مروان ، كما حكى مروان لدورا عن رواية الغريب لألبير كامو قائلا : هل تعرفين كيف مات ألبير كامو ؟
لم ينتظر إجابتى بل تابع قائلا : انتهت حياته فى حادث سيارة وهو عائد الى باريس بعد عطلة رأس السنة ، اصطدمت سيارة التاكسى بشجرة .. فارق الحياة فورا دون تمرد ولا مقاومة ، مات بهذه الطريقة ليؤكد صدق فلسفته أن الوجود كله عبث ، شقاء بلا جدوى " وربما ارادت الساردة اضفاء هذه الفلسفة على لبنان أثناء وعقب الحرب الأهلية اللبنانية والتى استمرت خمسة عشر عاما من 1975 الى 1990 وخلفت 1120 الف قتيل و76 الف مشرد ونزوح مليون شخص من لبنان إنها بالفعل حرب عبثية كما أشار مروان لنهاية وفلسفة ألبير كامو .
بعثت الرواية برسائل غير مباشرة وبطريقة فنية بفداحة الحرب وأهوالها على الشعب اللبنانى ، كما اشارت فى سياق السرد برسائل من تجارب الشخصيات ومعاناتها مثل على لسان أم جمانة " بأن كل من يتحدث بالطائفية هو شخص ملعون " وعلى لسان دورا " بمرور الوقت نكتشف أن المعاناة الانسانية من البديهيات التى تتجاور مع الحياة بشكل محير فلا يمكن الفرار منها كل ما يمكن فعله هو أن تحيدها قليلا كى تواصل الحياة " وعلى لسان ازار " الحياة مجاز كبير والحب الكبير مثل الفن العطيم ليس له نهاية " وعلى لسان الدكتور يوسف " تصغر كل مصائب الدنيا حين يمر عليها الوقت " ص147 .
استخدمت الساردة تقنية تعدد الأصوات فى الفصل العاشر من الرواية حيث " كل من عرف جمانة يوما سواء بشكل عابر أو عن قرب ، كانت له تخيلاته المفترضة عن تلك المرأة التى حفلت حياتها كما مماتها بهالات من الغموض" فتحدث حسونة الأبله واسمه حسن وبتول صديقة جمانة وهى أكثر الناس معرفة بالالم الداخلى العميق وعذاباتها العميقة وطيبة قلبها وسخائها وكذلك العم ناصف قريب مروان وهو الرجل السبعينى وفُتن بجمال جمانة ، وتحدث الرجل الثلج وهو مليونير وسمى كذلك لأنه أخذها معه الى كوخ جبلى محاط بالثلوج والذى كما يقول عرفت جسدها على الثلج ، وتحدث الرجل الضفدع وهو محامى فى عمر جدها تولى قضية استرجاع ارث امها ماجدة والتى هربت من اسرتها مع شاب من غير دينها وحرمها أبوها من الميراث ثم انتحرت بعد ذلك وكان المحامى يوهمها ويكذب عليها برفع قضية لاسترداد ذلك الميراث ، وتحدث الوزير عن علاقته بجمانة ويحكى عن جمالها البرى الشرس الذى يصعب الوصول اليه ، ثم تتكلم سوزى وهى صديقى قديمة والتى تحدثت عن التقاء جمانة بحب حياتها وكان لبنانيا من ام انكليزية يعمل استاذا للفيزياء نباتيا يرفض ممارسة الجنس خرج الزواج كان معلمها الروحى وقد اعترفا انها حاولت الايقاع به ولكنه لم يستجب ثم تزوجت مروان بعد ذلك ، ثم تحدث الغريب عنها الذى أحبها اكثر من أى أحد ولكنه اكتفى بمراقبتها ، كل هؤلاء كانوا على علاقة أوصلة بالقتيلة واحسنت الكاتبة ستخدام تقنية تعدد الأصوات فى هذا الفصل حيث يتكلم كل شخص عن علاقته الشخصية بالقتيلة .
للرواية مستوى ثان للقراءة وهذا شأن الفن الجيد أن له عدة مستويات إذ من الممكن أن تكون جمانة بما تمثله من جمال وعلاقات عديدة إذ من الممكن أن تكون تمثيل رمزى للبنان ويظهر ذلك من خلال السرد عن الدكتور يوسف الذى حزن كثيرا عند مقتل جمانة وحزن كثيرا على بيروت القديمة والربط بينهما يسير المنال " بيروت القديمة ليست هى بيروت اليوم مدينته لم تعد موجودة إلا فى ذاكرته وفى صندوق السور وبعض الأشياء الصغيرة التى احتفظ بها من الماضى " ص20 .
جاء الفصل الأخير رقم 27 وهو حديث القاتل الذى لا معالم له ولا ملامح يخاطب نفسه بضمير المخاطب حيث يحكى عن نفسه وتحولاته الشخصية حيث قتلت زوجته وقتل ابنه فى الحرب ثم تحوله إلى قاتل أجير لحساب الغير وهو فصل لايضيف كثير إلى أحداث الرواية بل ربما كان عبئا عليها حيث كانت الرواية قد ذكرت فقرة فى ص69 " ظل ملف القضية معلقا ، لكن لم يحدث فيه أى جديد ، مثل كثير من القضايا فى لبنان ، خاصة تلك التى يرد فيه أسماء مشاهير وأثرياء ، يكون من الافضل لجميع الاطراف تجاهلها حتى تتلاشى وحدها وتسقط من الذاكرة " يا لها من فقرة عبقرية أوجزها السارد تلخص الأحداث فى لبنان هذه النهاية الطبيعية للرواية .
حفلت الرواية بعدد كبير جدا من أسماء الشخصيات الثانوية وغير مؤثرة فى الأحداث مثل أقارب الشخصيات الرئيسية على سبيل المثال يوسف الصغير تذكرالساردة اسم أبيه اسامة وأمه الالمانية هيلدا ، ونادية أم مروان، مايا ورشيد أخوى دورا والذين لم يظهرا فى أى مشهد منها وغيرها كثير جدا والتى تربك القارئ وتشوش ذهنه عن متابعة أحداث الرواية
إيقاع الرواية كان سريعا ولغتها سهلة وجذابة مما جعل القارئ يكاد يلهث لملاحقة أحداثها ولديه رغبة عارمة للوصول الى نهايتها لمعرفة نهاية أحداث الرواية ومن قاتل جمانة فتوافرت فيها المتعة والجمال والتشويق والإثارة فكانت رواية بديعة على مستوى رفيع من السرد .
Comment
Share
تتكون الرواية من فصل يحمل رقم زيرو باللاتينية وسبعة وعشرون فصلا وتقع فى مائة وأربعة وستين صفحة فهى رواية قصيرة ( نوفيلا) يبدأ الفصل زيرو وكأنه تمهيد للرواية بوصف مدينة بيروت التى تقع فيها أحداث الرواية " هذه المدينة محكومة بعتمة مغوية تؤدى بكل من يحيا على أرضها إلى إدراك أنها مدينة البقع المتجاورة " وكان هذا الفصل القصير الذى يقع فى صفحة واحدة بمثابة تمهيد وإضاءة للأحداث فى الرواية .
بدأ الفصل الأول بطريقة بوليسية اثارت انتباه القارئ وشغفه وذلك باكتشاف جريمة قتل جُمانة فى شقتها بالدور الرابع من مجمع عمارات ديبة بحى الأمير ببيروت عن طريق خادمتها السيرلانكية التى شهدت بوجود عدة طعنات فى رقبة وصدر مخدومتها القتيلة ، وأسرعت لإستدعاء طبيب الحى و حين وصل شاهد بقع دم على السرير ولم يجد الجثة وأثناء ذذلك ، وقد وصل الضابط الذى تولى التحقيق الى مكان الجريمة وبدأ بجمع المعلومات عن الجريمة وقام باستدعاء معظم سكان العمارة وسألهم عن طبيعة علاقتهم بالقتيلة ، وتوقع القارئ أن تستمر الرواية على هذا الشكل البوليسى إلا أن السارد قد خالف توقعه ذلك مبتعدا فى سرده هذه الطريقة البوليسية التى بدأ بها وأراد أن تكون جريمة القتل تعبيرا عن حالة أو تمثيل رمزي للبنان وليس مجرد جريمة قتل وبحث للشرطة عن القاتل.
تحتوى الرواية على عدد كبير من أسماء الشخصيات و سنقتصر على الشخصيات الهامة فى الرواية وهى : جمانة القتيلة وهى شخصية جميلة جدا ولها علاقات متعددة مع الرجال ، وزوجها مروان مهندس معمارى وهو شخصية مثقفة ويحب الفن التشكيلى ، وشخصية الطبيب يوسف والذى يبلغ من العمر سبعن عاما وكان رمانة ميزان القيم فى الرواية حيث التحق بالصليب الاحمر لعلاج مصابى الحرب الاهلية اللبنانية ويذكرنا بشخصية وجدى عامر فى رواية ميرامار لنجيب محفوظ ، وحفيده يوسف الصغيرفى رعايته بعد مقتل أبيه وأمه الالمانية أثناء عملهما كمراسلين بأفغانستان محب للموسيقى ويفضل دراستها عن دراسة الطب ، وشخصية دورا القادمة من استراليا الى بيروت وتخطط بالبقاء فى بيروت ولكنها تغير خطتها فيما بعد ، وشخصية فرح اللاجئة السورية والتى تقيم بمساكن إيواء الفارين من جحيم الحرب بسوريا والتى تتقارب مع دورا وتتعرف على يوسف الصغير وتسافر معه الى المانيا ، والجيران ايمان صاحبة قهوة بيتنا والجارة هيام العرّافة
كان شعور الفقد و الاغتراب هو السائد والمسيطر على شخصيات الرواية فجمانة القتيلة تنقلت بين دول كثيرة وعرفت لغات كثيرة وكذلك رجال كثرون فهى روح معذبة كما يقول زوجها ، وكانت أمها قد هربت مع شخص تزوجنه وهو على غير دينها ضد ارادة اهلها وحرمها أهلها من ميراثها وانتهت حياتها منتحرة .
ودورا العائدة من استراليا وتريد الاستقرار فى بيروت وقد رحل والدتها غزلان فى ادث سيارة اثناء ذهابها للعلاج النفس فقتلت هى وشقشق زوجها ، كما توفى والدها بعد صراع مع سرطان العظام ، ويوسف الصغير حفيد الدكتور يوسف قتل أبواه فى أفغانستا ن حيث يعملان مراسلين ، واللاجئة السورية فرح التى تقيم فى أحد المخيمات بلبنان أثناء الحرب السورية بين النظام السورى ومناوئيه ، شخصية الخادمة لوسى هاربة من بلدها بعد قتلها لزوج أختها وهكذا ما من شخصية فى الرواية إلا وقد فقدت أم أو أب أو قريب فى ظروف مأساوية .
أجادت الرواية تصوير الحرب الاهلية اللبنانية ببراعة فنية ومشاهد صورت فيه هذه الحرب الرهيبة و فى مشهد ديبة صاحبة المجمع السكنى " خلال سنوات الحرب الأهلية كانت ديبة زعيمة المنطقة كلها ، عملت كل شئ : قتل ، خطف ، رهائن ، تهديد وتاجرت بكل شئ سلاح ، مخدلرات ، أدوية ، احتكار مواد غذائية ، قتل زوجها ثم قتل ابنها الوحيد فى قلب بيروت وكان فى السادسة عشرة من عمره وظلت جثته فى الشارع حتى اليوم التالى ، جنت ديبة ..صار لها قلب ميت ..كانت تستمتع بالجلوس قرب القناص وهو يتصيد القادمين من الحهة الاخرى وتقهقه ضاحكة والجثث تتساقط مثل العصافير ،،ووضعت يدها على البيوت التى هجرها أصحابها ثم فاوضتهم لشرائها بمبالغ زهيدة .. وشيدت مكانها مشروع سكنى وأصبحت الحاجة ديبة سيدة الاعمال " كذلك صورت الحرب السورية والتى تسببت فى لجوء ألاف من السوريين الى لبنان حيث عاشوا فى بيوت من الصفيح والخيم وصورت الحرب السورية فى مشاهد مؤلمة وفى مشعد دمار بيت فرح فى سوريا " وجدت مكانه ركاما ،أبوها وأمها وأختها لم يتحولوا إلى جثث بل إلى أشلاء .. شاهدت يد أمها مقطوعة وأساورها الذهبية غارقة فى الداء ، ضفيرة شعر أختها كرمى ظهرت بين حطام جدارين وحين حاولت أن تشد الضفيرة وجدتها عالقة بقطعة من جلدة الرأس أما الجزء الذى ظهر من جثة أبيها فقد كان متفحما تماما فى لحظة واحدة تتحول الحياة إلى مجزرة " ، لقد ماتت البنت التى كانتها وحل مكانها فتاة شرسة عليها أن تدافع عن نفسها بكافة السبل ، أن تضع سكينا تحت وسادتها .
حفلت الرواية بالاهتمام بالغناء والموسيقى والفن التشكيلى وأفردت مساحة كبيرة بالرواية للفن والثقافة والغناء فنسمع غناء فيروز وتشيع الموسيقى بإختلاف أنواعها بأرجاء الرواية كل على حسب ثقافته وسنه فالدكتور يوسف يفضل الموسيقى الكلاسيكية وفيروز صباحا وأم كلثوم مساءا ، ويحب يوسف الصغير الموسيقى الحديثة كما يفضل دراسة الموسيقى عن الطب ، ومروان محب للفن والموسيقى واللوحات والكتابة ويدورحديث بين مروان ودورا الذى التقى بها عقب مقتل زوجته ونشات بينهما عاطفة الحب وقد استضافها ببيته يقول " شاهدت دورا حقائبى .. واللوحات الكثيرة المسنودة الى الحائط حكيت لها أنى أحب لوحات أوجين بودان وجمانة تحب فان جوخ وشاغال ، أخبرتها أن جمانة أحضرت مستنسخات متقنة من لوحاتهما لكن دورا علقت كيف يمكنها أن تحب شاغال وفان جوخ معا " ص 130 وهذا يبين المستوى الثقافى والفنى الراقى لهذه الشخصيات ، كما حفلت بالموسيقى والغناء الصوفى وأشعار ابن الفارض والذى كان يتردد صداه من أرجاء غرفة مروان ، كما حكى مروان لدورا عن رواية الغريب لألبير كامو قائلا : هل تعرفين كيف مات ألبير كامو ؟
لم ينتظر إجابتى بل تابع قائلا : انتهت حياته فى حادث سيارة وهو عائد الى باريس بعد عطلة رأس السنة ، اصطدمت سيارة التاكسى بشجرة .. فارق الحياة فورا دون تمرد ولا مقاومة ، مات بهذه الطريقة ليؤكد صدق فلسفته أن الوجود كله عبث ، شقاء بلا جدوى " وربما ارادت الساردة اضفاء هذه الفلسفة على لبنان أثناء وعقب الحرب الأهلية اللبنانية والتى استمرت خمسة عشر عاما من 1975 الى 1990 وخلفت 1120 الف قتيل و76 الف مشرد ونزوح مليون شخص من لبنان إنها بالفعل حرب عبثية كما أشار مروان لنهاية وفلسفة ألبير كامو .
بعثت الرواية برسائل غير مباشرة وبطريقة فنية بفداحة الحرب وأهوالها على الشعب اللبنانى ، كما اشارت فى سياق السرد برسائل من تجارب الشخصيات ومعاناتها مثل على لسان أم جمانة " بأن كل من يتحدث بالطائفية هو شخص ملعون " وعلى لسان دورا " بمرور الوقت نكتشف أن المعاناة الانسانية من البديهيات التى تتجاور مع الحياة بشكل محير فلا يمكن الفرار منها كل ما يمكن فعله هو أن تحيدها قليلا كى تواصل الحياة " وعلى لسان ازار " الحياة مجاز كبير والحب الكبير مثل الفن العطيم ليس له نهاية " وعلى لسان الدكتور يوسف " تصغر كل مصائب الدنيا حين يمر عليها الوقت " ص147 .
استخدمت الساردة تقنية تعدد الأصوات فى الفصل العاشر من الرواية حيث " كل من عرف جمانة يوما سواء بشكل عابر أو عن قرب ، كانت له تخيلاته المفترضة عن تلك المرأة التى حفلت حياتها كما مماتها بهالات من الغموض" فتحدث حسونة الأبله واسمه حسن وبتول صديقة جمانة وهى أكثر الناس معرفة بالالم الداخلى العميق وعذاباتها العميقة وطيبة قلبها وسخائها وكذلك العم ناصف قريب مروان وهو الرجل السبعينى وفُتن بجمال جمانة ، وتحدث الرجل الثلج وهو مليونير وسمى كذلك لأنه أخذها معه الى كوخ جبلى محاط بالثلوج والذى كما يقول عرفت جسدها على الثلج ، وتحدث الرجل الضفدع وهو محامى فى عمر جدها تولى قضية استرجاع ارث امها ماجدة والتى هربت من اسرتها مع شاب من غير دينها وحرمها أبوها من الميراث ثم انتحرت بعد ذلك وكان المحامى يوهمها ويكذب عليها برفع قضية لاسترداد ذلك الميراث ، وتحدث الوزير عن علاقته بجمانة ويحكى عن جمالها البرى الشرس الذى يصعب الوصول اليه ، ثم تتكلم سوزى وهى صديقى قديمة والتى تحدثت عن التقاء جمانة بحب حياتها وكان لبنانيا من ام انكليزية يعمل استاذا للفيزياء نباتيا يرفض ممارسة الجنس خرج الزواج كان معلمها الروحى وقد اعترفا انها حاولت الايقاع به ولكنه لم يستجب ثم تزوجت مروان بعد ذلك ، ثم تحدث الغريب عنها الذى أحبها اكثر من أى أحد ولكنه اكتفى بمراقبتها ، كل هؤلاء كانوا على علاقة أوصلة بالقتيلة واحسنت الكاتبة ستخدام تقنية تعدد الأصوات فى هذا الفصل حيث يتكلم كل شخص عن علاقته الشخصية بالقتيلة .
للرواية مستوى ثان للقراءة وهذا شأن الفن الجيد أن له عدة مستويات إذ من الممكن أن تكون جمانة بما تمثله من جمال وعلاقات عديدة إذ من الممكن أن تكون تمثيل رمزى للبنان ويظهر ذلك من خلال السرد عن الدكتور يوسف الذى حزن كثيرا عند مقتل جمانة وحزن كثيرا على بيروت القديمة والربط بينهما يسير المنال " بيروت القديمة ليست هى بيروت اليوم مدينته لم تعد موجودة إلا فى ذاكرته وفى صندوق السور وبعض الأشياء الصغيرة التى احتفظ بها من الماضى " ص20 .
جاء الفصل الأخير رقم 27 وهو حديث القاتل الذى لا معالم له ولا ملامح يخاطب نفسه بضمير المخاطب حيث يحكى عن نفسه وتحولاته الشخصية حيث قتلت زوجته وقتل ابنه فى الحرب ثم تحوله إلى قاتل أجير لحساب الغير وهو فصل لايضيف كثير إلى أحداث الرواية بل ربما كان عبئا عليها حيث كانت الرواية قد ذكرت فقرة فى ص69 " ظل ملف القضية معلقا ، لكن لم يحدث فيه أى جديد ، مثل كثير من القضايا فى لبنان ، خاصة تلك التى يرد فيه أسماء مشاهير وأثرياء ، يكون من الافضل لجميع الاطراف تجاهلها حتى تتلاشى وحدها وتسقط من الذاكرة " يا لها من فقرة عبقرية أوجزها السارد تلخص الأحداث فى لبنان هذه النهاية الطبيعية للرواية .
حفلت الرواية بعدد كبير جدا من أسماء الشخصيات الثانوية وغير مؤثرة فى الأحداث مثل أقارب الشخصيات الرئيسية على سبيل المثال يوسف الصغير تذكرالساردة اسم أبيه اسامة وأمه الالمانية هيلدا ، ونادية أم مروان، مايا ورشيد أخوى دورا والذين لم يظهرا فى أى مشهد منها وغيرها كثير جدا والتى تربك القارئ وتشوش ذهنه عن متابعة أحداث الرواية
إيقاع الرواية كان سريعا ولغتها سهلة وجذابة مما جعل القارئ يكاد يلهث لملاحقة أحداثها ولديه رغبة عارمة للوصول الى نهايتها لمعرفة نهاية أحداث الرواية ومن قاتل جمانة فتوافرت فيها المتعة والجمال والتشويق والإثارة فكانت رواية بديعة على مستوى رفيع من السرد .
Comment
Share