- من هو محمود فهمي النقراشي:
وُلد محمود فهمي النقراشي بشياخة الشمرلي قسم أول الجمرك في 23 أبريل 1888 في أسرة مصرية متوسطة بالإسكندرية، وكان والده عَليْ أفندي النقراشي، يعمل رئيسا لحسابات البوستة الخديوية، وحصل على الثانوية من مدرسة رأس التين في مايو 1906، ثم انتقل إلى القاهرة والتحق بمدرسة المعلمين العُليا، وبعد أن أتمَّ الفرقة الأولى أوفده سعد زغلول سنة 1907 في بعثة دراسية إلى جامعة نوتنجهام بانجلترا عندما زار المدرسة واكتشف نبوغ النقراشي وحصل على دبلوم جامعة نوتنجهام في العلوم.
بعد عودة النقراشي إلى مصر، بدأ حياته الوظيفية مدرسًا للرياضيات في مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية، ثم مدرسًا للرياضيات بمدرسة محرم بك الثانوية بالإسكندرية، ثم نقل إلى مدرسة رأس التين الثانوية، وبعد خمس سنوات عُيِّن ناظرًا لمدرسة الجمالية بالقاهرة في أكتوبر 1914 ثم ناظرًا للمدرسة الأولية الراقية للبنين بالقاهرة.
بدأ النقراشي نشاطه السياسي سنة 1919 واشترك في الحركة الوطنية للاستقلال، وعندما برئ من تهمة الاشتراك في اغتيال "السردار" انتُخب عضوًا بمجلس النواب عن دائرة الجمرك سنة 1926 وبعد تولي مصطفى النحاس باشا رئاسة الوزارة، قرر الوفد ضمه رسميًا إليه. وتولى وزارة المواصلات سنة 1930 كما تولاها في عام 1936ـ 1937، وعندما دخل السعديون الوزارة الائتلافية عام 1938 تم تعيينه وزيرًا للداخلية، وفي سنة 1940 عُيِّن وزيرًا للمالية، وفي سنة 1945 عَينه الملك فاروق رئيسًا للوزارة للمرة الأولى، وفي سنة 1946 للمرة الثانية.
- مَن هو القاتل:
القاتل هو عبد المجيد أحمد حسن، طالب بمدرسة الطب البيطري وينتمي للنظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين، وكان مُتخفيًا في زي أحد ضباط الشرطة، ليَندس في فناء وزارة الداخلية ويرتكب جريمته، فأَطلق على النقراشي الرصاص حينما همَّ بركوب المصعد، فأفرغ فيه عدة رصاصات، وقُبض عليه في الحال واعترف بقتله مُدعيًا أن النقراشي باشا خائن لوطنه، ولأنه يُعادي الإسلام، إذ أصدر قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين.
ومما يُؤسَف له، أنَّ هذا الطالب بالذات، كان مطلوبًا اعتقاله ضمن جماعة من الشبان، رأت الجهات المختصة أنهم نزَّاعون إلى إحداث القلاقل، ولكن النقراشي رفض اعتقاله، قال: "إني لا أحب التوسُّع في اعتقال الطلاب، إنني والد ولي بنون، وأنا أقدِّر أثر هذه الاعتقالات في نفوس الآباء والأمهات".
ومما يُذكر أيضا، أن والد الجاني كان موظفًا بوزارة الداخلية ومات، فقرر النقراشي تعليم ابنه بالمجان، فالجاني الذي يرفض النقراشي اعتقاله ويتعلم بالمجان بفضله، هو الذي ارتكب هذه الجناية الشنعاء!
- أسباب الاغتيال:
اعترف المتهم عبد المجيد، أنَّ أسباب قتل النقراشي هي تشريده للطلبة وموقفه المتهاون من قضية السودان، ومعاداته للإسلام إذ أصدر قرارا بحل جماعة الإخوان بعد اغتيال الخازندار.
ويقول محمود الصباغ عضو التنظيم الخاص للإخوان المسلمين واصفًا القتلة وسبب القتل: "شباب باعوا أنفسهم لله واستهدفوا أن يُقدموا أرواحهم رخيصة من أجل انتصار الإسلام وقيَمِه السامية في ربوع الوطن الإسلامي".
وكان اغتيال القاضي أحمد الخازندار بتاريخ 22/3/1948 وهو في طريقه إلى مجلس قضائه، بداية لعهد إرهاب دموي بدأته جماعة الإخوان المسلمين، وأحد الأسباب التي حدَت بالجماعة إلى التفكير في قتله.
هذا الاغتيال على هذه الصورة البشِعة، لم يَخفَ معناه على فطنة النقراشي باشا، فتلقاه وفهِمه وانزعج له، فأصدر الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 في 8/12/1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين. فأسرع أعضاء الجماعة، وأشقاء الشيخ حسن البنا إلى دار المركز العام بالحلمية الجديدة، فوجدوا الشيخ البنا في مكتبه ومعه عدد من الإخوان.
مَضت دقائق مَعدودة لتجيء السيارات المصفحة تُحاصر الدار من كل جانب، ثم تقتحمها، وعلى رأس القوة ضابط شاهر مسدسه مُثبت بصره وحواسه في شخص المرشد العام وقال: "عندي أمر بالقبض على مَن بالدار عدا فضيلة المرشد العام".
- رؤية الإخوان لاغتيال النقراشي باشا:
في كتابه "حقيقة التنظيم الخاص" يقول محمود الصباغ: "إن الدماء لتَغلي في عُروق أي إنسان وهو يرى حاكم مصر العسكري يصدر مثل هذا الأمر، فكيف لا تغلي في دماء شباب باعوا أنفسهم لله واستهدفوا أن يُقدموا أرواحهم رخيصة من أجل انتصار الإسلام وقيَمِه السامية في ربوع الوطن الإسلامي".
إنَّ اللوم كل اللوم يقع على صاحب القرار وقد حفَر قبره بيده، قتَله الشاب المسلم عبد المجيد أحمد حسن، الطالب بكلية الطب البيطري وعضو النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين، وهو في وسط جُنده وعساكره.
لقد كان عبد المجيد ومُعاونيه متأكدين وهم يقومون بهذا العمل أنهم يُقدمون دمائهم شهداء من أجل مصر، كانوا رجالاُ قد تَعلموا أنَّ قتل المحاربين للإسلام فَرْض عَين على كل مسلم ومسلمة، وقد تحقَّق لهم بعد اطلاعهم على هذا الأمر العسكري، أنَّ مَن وقَّعهُ مُحارب غَادر للإسلام والمسلمين دون نزاع، فأقدموا على هذه العبادة المفروضة عليهم من لدُنَّ الحكيم الخبير.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه سيرة ومَسيرة: "وقابَل عامة الإخوان اغتيال النقراشي بفرحة مَشوبة بالحذر، فقد ردَّ عبد المجيد لهم كرامتهم، وكان الجو السياسي العام في مصر يسيغ ذلك.
ولقد قابلنا نحن الشباب والطلاب، اغتيال النقراشي بارتياح واستبشار، فقد شفَى غليلنا وردّ اعتبارنا، ومما أذكره أنِّي نظَمْتُ بَيتين في هذه المناسبة، خطابًا لعبد المجيد حسن قاتل النقراشي، كان الطلاب يرددونهما وهما":
عبد المجيد تحية وسلام أبشِر فإنكَ للشباب إمام
سمَّمتَ كلبًا جاء كلبٌ بعده ولكل كلبٍ عِندنا سَمَّام
- أقوال الإخوان عن تدبير وتنفيذ الحادث:
يقول الصباغ في كتابه السابق: "كان السيد فايز هو مسئول التنظيم الخاص عن مدينة القاهرة بعد اعتقال كل من يعلوه في القيادة، ونَظر السيد فايز في قرار حَل الإخوان المسلمين، فشَعر أنه محكوم بحكومة محاربة للإسلام والمسلمين، وقرر الدخول معها في حرب عصابات فوق أرض مصر، وبدأ السيد فايز مَعاركه برأس الخيانة محمود فهمي النقراشي، كوَّن سَرَية من محمد مالك، وشفيق أنَس، وعاطف حلمي، والضابط أحمد فؤاد، وعبد المجيد أحمد حسن، ومحمود كامل لقتل النقراشي باشا غِيلة، وليَتحطَّم رأس الاستبداد، وقد أسنَد قيادة هذه السرية إلى الضابط أحمد فؤاد، ورسموا الخُطة على النحو الذي ظهر في تحقيقات القضية.
- تنفيذ واقعة القتل:
تُشير التحقيقات وجلسات المحاكمة، إلى أنه بعد صُدور قرار حل الجماعة، رصَد الإخوان جداول أعمال النقراشي باشا، لا سيما أنه بعد إصداره هذا القرار، أعدَّ لنفسه حِراسه مُشددة، وكان يذهب أيامًا إلى رئاسة مجلس الوزراء وأحيانًا إلى وزارة الداخلية، وأحيانًا أخرى إلى وزارة المالية، كما كان يُغيِّر طريقَه من منزله بمصر الجديدة إلى أي من تلك الوزارات، ولذلك استَبْعدَ الإخوان فكرة قتله في الطريق.
كان مَوكب النقراشي باشا سيأتي من بيته بمصر الجديدة، مارًّا بشارع الملكة نازلي "رمسيس حاليا" إلى وسط المدينة، وكان بيت سعد شهبندر عضو الإخوان بشارع الملكة نازلي بالعباسية، فكان هو المكلَّف بترقُّب الموكب من شُرفة بيته، حتى إذا مرَّ من أمامه أبلغ بذلك.
وفى صباح يوم الثلاثاء 28 ديسمبر سنة 1948 ذهبَت قوة الحراسة وعلى رأسها الصاغ عبد الحميد خيرت إلى منزل النقراشي بضاحية مصر الجديدة لاصطحابه إلى الوزارة، فنزل الساعة 9:45 صباحًا فركب السيارة ومعه خيرت، وركب باقي الحرس سيارة أخرى ولما وصل الرَّكب وزارة الداخلية نزل النقراشي من سيارته ودخل بهو الوزارة وإلى يساره خيرت ومن خلفه الملازم ثان حباطي عليّ حباطي والكونستابل أحمد عبد الله شكري، فضلاً عن حراسة أخرى تنتظر بالبهو مُكوَّنة من كونستابل، وَصُول، وأونباشي بوليس.
وعلى بُعد أربع خُطوات شاهَد عبد الحميد خيرت المتهم عبد المجيد بسُترة ملازم أول يقف في البهو، وحين اقترب النقراشي من المصعد أطلق عليه المتهم عدة رصاصات، وتم القبض عليه بمعرفة حباطي على حباطي وأحمد عبد الله شكري.
وفي كتابه "النقط فوق الحروف" يقول أحمد عادل كمال عضو التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين:
"كان أمام وزارة الداخلية مَقهي "الأعلام" الذي تم اختياره مُسبقًا ليجلس عليه عبد المجيد أحمد حسن، وقد تَسمَّى باسم "الضابط حسني" في انتظار مكالمة تليفونية بأنَّ الموكب قد غادر بيت الرئيس في طريقه إلى الوزارة، وتمت تلك التجربة مرات قَبلها.
وفي يوم الحادث تَلقَّي عبد المجيد، المسمى "الضابط حسني" إشارة تليفونية بأن الموكب قد تحرك، فغادَر المقهى إلى البهو الداخلي لوزارة الداخلية، وهناك كانوا يُخلون البهو من الغُرباء في انتظار وصول الرئيس، ولكن عبد المجيد كان قد تزيَّا بزيّ ضابط بوليس، فلم يَطلب إليه أحد الانصراف.
وحين غادر عبد المجيد مقهى الأعلام، كانت هناك عيون على مقهى آخر ترقُبه، شفيق ابراهيم أنس في زي كونستابل، ومحمود كامل السيد في زي سائق سيارة بوليس، فتبعاه إلى داخل الوزارة.
وعندما حضر النقراشي باشا إلى وزارة الداخلية على عادته يحُف به حرَسه واقترب من المصعد، أطلق عليه عبد المجيد رصاصتين في ظهره ليَسقط قتيلا، وهجَم الحراس على عبد المجيد وقبضوا عليه وتمكن شفيق ومحمود من الخروج من الوزارة.
تم القبض على المتهم واعترف على خمسة من شركائه هم محمد مالك يوسف "موظف بمطار ألماظة"، وسيد سيد القزاز "تاجر موبيليا" وعبد العزيز أحمد البقلي "ترزي أفرنجي" والشيخ سيد سابق محمد التهامي "من الأزهر" وعاطف عطية حلمي "طالب بكلية الطب".
- التحقيقات:
تولَّىت النيابة العامة التحقيق مع المتهم عبد المجيد، وكان عبد المجيد عنيدًا أنكر صلته بالحادث وبجماعة الإخوان المسلمين لمدة ستة عشر يومًا بعد القبض عليه.
وكان حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، قد أصدر بيانًا بعد الحادث يَستنكر فيه قتل النقراشي باشا أسماه "بيانٌ للناس" نشرته الصحف يوم 11 يناير 1949 بهدف إقناع الحكومة بأن الجماعة ليست طرفا في جريمة اغتيال النقراشي، وليست محرضة عليه، وتريد تهدئة الموقف مع الحكومة وإقناعها بالإفراج عن المعتقلين.
واستنكر في البيان أيضا أعمال رجاله ورفاق طريقه، ودمغها بالإرهاب والخروج على تعاليم الإسلام.
ومما يُذكر في ملابسات هذا البيان، أن رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي باشا أراد الحصول على البيان لاستفزاز عبد المجيد ليَعترف على باقي شركائه في الجريمة، بدعوى إعادة الإخوان بعد عمل إصلاحات في خططهم، فكلف مصطفى بك مرعي وزير الدولة للتفاوض مع حسن البنا لإصدار بيان يَتبرأ فيه من قتل النقراشي باشا ويدين فيه القتل. ولم يدرك الشيخ البنا، أن أحد أهداف الحكومة من البيان إقناع ذلك القاتل العنيد بأنه حان الوقت ليخون الإخوان كما خانوه، وليخدعهم كما خدعوه.
وعندما قدَّم النائب العام الصُّحف إلى عبد المجيد، وقرأ فيها هذا البيان، فإذا بالقاتل العنيد يَشعر بأنه خُدع في الجماعة ومُرشدها، وأن الإخوان تَخلّوا عنه، فانهار مُعترفا اعترافًا تفصيليًا بملابسات الحادث وتفاصيله.
- اعتراف المتهم عبد المجيد بالتحقيقات:
اعترف عبد المجيد بأنه قتل النقراشي باشا لأنه أصدر قرار حل جمعية الإخوان المسلمين، وهي جمعية دينية ومن يحلها يهدم الإسلام، وأنه انضم إلى الجماعة في أوائل عام 1946 ثم إلى التنظيم الخاص للجماعة وأقسَم في أحد المنازل على اليمين الخاص بها على المصحف والمسدس وأنه شاهد المتهم السيد فايز عبد المطلب في شهر يناير سنة 1948 وهو يرأس مجموعة تتدرب على استعمال السلاح في جبل المقطم.
وفي غضون عام 1948 عرَّفه أحد أعضاء مجموعته على أحمد عادل كمال في منزل السيد فايز، واتفقوا على القيام برحلة إلى الإسماعيلية وسافروا إلى عزبة تُسمَّى عزبة الإخوان، أخذوا منها مدفع سريع الطلقات ومسدسات وقنبلة، ثم توجهوا إلى الصحراء غرب هذه العزبة سيرًا على الأقدام وتَدربوا على استعمال المدفع والمسدسات وإلقاء القنابل.
وأضاف أنه بعد صدور قرار النقراشي باشا بحل الجماعة في 8 ديسمبر 1948 اجتمع مع عدد من أعضاء التنظيم الخاص في منزل محمد مالك يوسف وقرروا أن يَقتصوا من النقراشي.
وأنه في يوم السبت السابق على حادث القتل الموافق 18 ديسمبر 1948 حضر إليه محمد مالك يوسف "والد حسن مالك" في منزله ـ وهو رئيسه في التنظيم الخاص، في السابعة والنصف صباحًا وطلب منه أن يذهب لمقابلة الضابط أحمد فؤاد عبد الوهاب في منزله بالعباسية وهو ملازم أول كان يعمل بإدارة جوازات مطار ألماظة، فذهب إليه، فأبلغه أحمد فؤاد بأن الاختيار قد وقع عليه لقتل النقراشي، وأعطاه هذا الضابط ستة جنيهات وكلفه بشراء قماش أسود ليَصنع منه بدلة لضابط بوليس وجنيهين لشراء الأزرار والنجوم والحذاء، فاشترى القماش من "محل نجَّار" بميدان الأوبرا.
ثم تقابل مع عاطف عطية وذهبَا إلى دكان كمال القزاز وعبد العزيز البقلي لأخذ المقاس وإجراء أول بروفة، وأفهمه أحمد فؤاد أن عليه أن يَبحث عن مَقهى قريب من وزارة الداخلية وبشرط أن يكون به تليفون، وأن يتحقق من رقم تليفونه، وكان هذا المقهى هو مقهَي "الأعلام" المواجه لوزارة الداخلية وبه تليفون رقم 49066.
وفي اليوم التالي 19 ديسمبر توجَّه إلى المقهى فوجد محمود كامل السيد ومحمد أحمد على، وعرف أنهما يراقبان سيارة النقراشي، وعند الظهيرة توجه إلى الترزي عبد العزيز أحمد البقلي فأجرى البروفة الثانية وفي المساء اشترى حذاء أسود من سوق الكانتو.
وفي مساء هذا اليوم تقابل مع أحمد فؤاد في شارع القصر العيني وذهبا معًا إلى منزل عاطف عطية فوجدا عنده السيد فايز والشيخ سيد سابق، وقال السيد فايز إنَّ من الخطة أنْ يرتدي جلال يس سُترة كونستابل ويرافقه ساعة ارتكاب الجريمة، وأنَّ الشيخ سيد سابق أقنعه بأن القتل حلال في سبيل الله، وأن النقراشي اعتدى على الإسلام بحل جمعية الإخوان المسلمين، واستَشهد الشيخ سيد ببعض آيات القرآن الكريم.
وفي يوم عشرين ديسمبر تم عَمل تجربة، حيث توجه إلى المنزل رقم 25 بشارع على يونس بشبرا لتغيير ملابسه، فوجد الضابط أحمد فؤاد ومعه عبد الحليم محمد أحمد وجلال يس، فارتدي هو سُترة ضابط بينما ارتدى جلال سُترة كونستابل، وأعطاه أحمد فؤاد مسدس "بريتا" وأعطى جلال طبنجة "كولت" وتوجهوا عدا أحمد فؤاد إلى مقهَي "الأعلام" ولما تَلقي تليفونًا بقرب وُصول النقراشي باشا توجَّه إلى وزارة الداخلية ثم خرج منها.
وفي مساء يوم 25 ديسمبر 1948 تقابل مع أحمد فؤاد في منزل شبرا وعلم من الأخير أنه تم تغيير الخُطة بحيث يلبس شفيق أنس سترة الكونستابل بدلاً من جلال، وأن يلبس محمود كامل سُترة جندي بوليس ليعاوناه على الهرب إذا نجح في التنفيذ، وتسلم منه مسدسًا وتسَلم شفيق قنبلة فوسفورية واتفقوا على التنفيذ يوم 26 ديسمبر 1948 وفي صبيحة هذا اليوم توجه إلى مقهَي الأعلام بينما انتظر شفيق أنس ومحمود كامل في مقهى أخرى، ولما تلقى تليفونا دخل الوزارة وانتظر النقراشي وقتله وهو يَهم بركوب المصعد.
- عبد المجيد يُصدم من بيان البنا ويرشد عن باقي المتهمين:
- وأضاف عبد المجيد في اعترافه:
أودُّ أن يَعلم جميع أفراد النظام الخاص بأنه غُرِّر بنا ولستُ وحدي وأعتقد أنَّ المسئول عن جميع هذه الحوادث هو حسن البنا بشخصه، ولكني لا أملك سوى أدلة سماعية فقط، وفي إطار بيان أدوار باقي الجناة قال:
أذكر أنه في أثناء اجتماع من الاجتماعات عقِب حل الإخوان، قال أحد الموجودين إن الناس مُنتظرون عملاً يقوم به الإخوان ضد من حَلَّ الجماعة وذكرَ أحدهم أنه يَحسُن مهاجمة منزل النقراشي باشا (علشان) قتله فرد محمد مالك وقال: الشيح حسن البنا لا يُريد أن يُضحِّي بأكثر من شخص واحد لارتكاب هذه الحادثة، وأنَّ باقي الأفراد سيُكلَّفون بأعمالٍ أخرى.
وأثناء مواجهتهما ببعضهما في التحقيقات، اتَّهم محمد مالك عبد المجيد بأنه مُجرم، فكان رد عبد المجيد بعبارة: (بقَى تدبروا الجريمة وتختاروني للقتل وبعد ذلك تيجي هنا تنكر، أنا رايح أقول كل حاجة).
وعلى إثر اعترافه على السيد قطب، فقد اقتحم البوليس مَبنى الجمعية الشرعية بالمغربلين، واقتاد عددًا من المصلين جميعهم مُلتحون ثم جاءوا بالشيخ سيد سابق فأجلسوه بينهم حاسِر الرأس ومُرتديًا جلبابًا أبيض، وكان القاتل قد اتهمه بأنه هو الذي أفتَى له بِحِل قتل النقراشي باشا، ثم جيء بعبد المجيد حسن وطُلب منه أن يُخرج الشيخ سيد من بين الصف الطويل ويتعرَّف عليه، وفي لحظات اتجه صوب الشيخ سيد وأشار إليه، ثم أعادوه إلى حيث كان، وأعادوا ترتيب الجالسين وغيروا أماكنهم، وجيء بعبد المجيد مرَّة أخرى، ورغم انتقال الشيخ سيد من مكانه اتجه القاتل نحوه مثل لمح البصر مشيرا إليه.
"وكان الضابط أحمد فؤاد قد نُقل أثناء التحقيق إلى مدينة بنها وذهب البوليس بصحبة النيابة للقبض عليه وتفتيش منزله، ولكنه غَرَّر بأحد زملائه من الضباط وركب سيارة البوليس وانطلق بها هاربًا فتتبعه البوليس وطارده في حقل على مَقربة من الطريق الزراعي، وعندما وجد أحمد فؤاد البوليس يقترب منه عَبرَ بملابسه إحدى الترع، فأطلق عليه البوليس النار فقُتل. وتم القبض على محمد مالك بالإسكندرية في 14 مايو سنة 1949 بعد تبادل لإطلاق النار من المنزل الذي كان يخفيه فيه محمود يونس الشربيني "محام تحت التمرين" وملازم أول طبيب السيد بهجت الجيار وآخرون بعد نفاذ ذخيرتهم.
- بيان ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين وعلاقته باعترافات جديدة للمتهم:
بعد حادث محاولة نَسْف محكمة استئناف مصر حصلت مفاوضات بين مصطفى مرعي وصالح حرب مع حسن البنا، واتفقوا على إصدار بيان "ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين" الذي أصدره البنا.
- الحكم:
وفي يوم الخميس 13/10/1949 صدر الحكم بمعاقبة عبد المجيد أحمد حسن بالإعدام، ومعاقبة كل من محمد مالك يوسف وعاطف عطية حلمي، وشفيق أنس ومحمود كامل السيد بالأشغال الشاقة المؤبدة. وبراءة الباقين.
وتم تنفيذ حكم الإعدام في عبد المجيد يوم 25 إبريل 1950 في عهد وزارة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا، بعد رفض التماس أسرته العفو عنه.
وُلد محمود فهمي النقراشي بشياخة الشمرلي قسم أول الجمرك في 23 أبريل 1888 في أسرة مصرية متوسطة بالإسكندرية، وكان والده عَليْ أفندي النقراشي، يعمل رئيسا لحسابات البوستة الخديوية، وحصل على الثانوية من مدرسة رأس التين في مايو 1906، ثم انتقل إلى القاهرة والتحق بمدرسة المعلمين العُليا، وبعد أن أتمَّ الفرقة الأولى أوفده سعد زغلول سنة 1907 في بعثة دراسية إلى جامعة نوتنجهام بانجلترا عندما زار المدرسة واكتشف نبوغ النقراشي وحصل على دبلوم جامعة نوتنجهام في العلوم.
بعد عودة النقراشي إلى مصر، بدأ حياته الوظيفية مدرسًا للرياضيات في مدرسة رأس التين الثانوية بالإسكندرية، ثم مدرسًا للرياضيات بمدرسة محرم بك الثانوية بالإسكندرية، ثم نقل إلى مدرسة رأس التين الثانوية، وبعد خمس سنوات عُيِّن ناظرًا لمدرسة الجمالية بالقاهرة في أكتوبر 1914 ثم ناظرًا للمدرسة الأولية الراقية للبنين بالقاهرة.
بدأ النقراشي نشاطه السياسي سنة 1919 واشترك في الحركة الوطنية للاستقلال، وعندما برئ من تهمة الاشتراك في اغتيال "السردار" انتُخب عضوًا بمجلس النواب عن دائرة الجمرك سنة 1926 وبعد تولي مصطفى النحاس باشا رئاسة الوزارة، قرر الوفد ضمه رسميًا إليه. وتولى وزارة المواصلات سنة 1930 كما تولاها في عام 1936ـ 1937، وعندما دخل السعديون الوزارة الائتلافية عام 1938 تم تعيينه وزيرًا للداخلية، وفي سنة 1940 عُيِّن وزيرًا للمالية، وفي سنة 1945 عَينه الملك فاروق رئيسًا للوزارة للمرة الأولى، وفي سنة 1946 للمرة الثانية.
- مَن هو القاتل:
القاتل هو عبد المجيد أحمد حسن، طالب بمدرسة الطب البيطري وينتمي للنظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين، وكان مُتخفيًا في زي أحد ضباط الشرطة، ليَندس في فناء وزارة الداخلية ويرتكب جريمته، فأَطلق على النقراشي الرصاص حينما همَّ بركوب المصعد، فأفرغ فيه عدة رصاصات، وقُبض عليه في الحال واعترف بقتله مُدعيًا أن النقراشي باشا خائن لوطنه، ولأنه يُعادي الإسلام، إذ أصدر قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين.
ومما يُؤسَف له، أنَّ هذا الطالب بالذات، كان مطلوبًا اعتقاله ضمن جماعة من الشبان، رأت الجهات المختصة أنهم نزَّاعون إلى إحداث القلاقل، ولكن النقراشي رفض اعتقاله، قال: "إني لا أحب التوسُّع في اعتقال الطلاب، إنني والد ولي بنون، وأنا أقدِّر أثر هذه الاعتقالات في نفوس الآباء والأمهات".
ومما يُذكر أيضا، أن والد الجاني كان موظفًا بوزارة الداخلية ومات، فقرر النقراشي تعليم ابنه بالمجان، فالجاني الذي يرفض النقراشي اعتقاله ويتعلم بالمجان بفضله، هو الذي ارتكب هذه الجناية الشنعاء!
- أسباب الاغتيال:
اعترف المتهم عبد المجيد، أنَّ أسباب قتل النقراشي هي تشريده للطلبة وموقفه المتهاون من قضية السودان، ومعاداته للإسلام إذ أصدر قرارا بحل جماعة الإخوان بعد اغتيال الخازندار.
ويقول محمود الصباغ عضو التنظيم الخاص للإخوان المسلمين واصفًا القتلة وسبب القتل: "شباب باعوا أنفسهم لله واستهدفوا أن يُقدموا أرواحهم رخيصة من أجل انتصار الإسلام وقيَمِه السامية في ربوع الوطن الإسلامي".
وكان اغتيال القاضي أحمد الخازندار بتاريخ 22/3/1948 وهو في طريقه إلى مجلس قضائه، بداية لعهد إرهاب دموي بدأته جماعة الإخوان المسلمين، وأحد الأسباب التي حدَت بالجماعة إلى التفكير في قتله.
هذا الاغتيال على هذه الصورة البشِعة، لم يَخفَ معناه على فطنة النقراشي باشا، فتلقاه وفهِمه وانزعج له، فأصدر الأمر العسكري رقم 63 لسنة 1948 في 8/12/1948 بحل جماعة الإخوان المسلمين. فأسرع أعضاء الجماعة، وأشقاء الشيخ حسن البنا إلى دار المركز العام بالحلمية الجديدة، فوجدوا الشيخ البنا في مكتبه ومعه عدد من الإخوان.
مَضت دقائق مَعدودة لتجيء السيارات المصفحة تُحاصر الدار من كل جانب، ثم تقتحمها، وعلى رأس القوة ضابط شاهر مسدسه مُثبت بصره وحواسه في شخص المرشد العام وقال: "عندي أمر بالقبض على مَن بالدار عدا فضيلة المرشد العام".
- رؤية الإخوان لاغتيال النقراشي باشا:
في كتابه "حقيقة التنظيم الخاص" يقول محمود الصباغ: "إن الدماء لتَغلي في عُروق أي إنسان وهو يرى حاكم مصر العسكري يصدر مثل هذا الأمر، فكيف لا تغلي في دماء شباب باعوا أنفسهم لله واستهدفوا أن يُقدموا أرواحهم رخيصة من أجل انتصار الإسلام وقيَمِه السامية في ربوع الوطن الإسلامي".
إنَّ اللوم كل اللوم يقع على صاحب القرار وقد حفَر قبره بيده، قتَله الشاب المسلم عبد المجيد أحمد حسن، الطالب بكلية الطب البيطري وعضو النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين، وهو في وسط جُنده وعساكره.
لقد كان عبد المجيد ومُعاونيه متأكدين وهم يقومون بهذا العمل أنهم يُقدمون دمائهم شهداء من أجل مصر، كانوا رجالاُ قد تَعلموا أنَّ قتل المحاربين للإسلام فَرْض عَين على كل مسلم ومسلمة، وقد تحقَّق لهم بعد اطلاعهم على هذا الأمر العسكري، أنَّ مَن وقَّعهُ مُحارب غَادر للإسلام والمسلمين دون نزاع، فأقدموا على هذه العبادة المفروضة عليهم من لدُنَّ الحكيم الخبير.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه سيرة ومَسيرة: "وقابَل عامة الإخوان اغتيال النقراشي بفرحة مَشوبة بالحذر، فقد ردَّ عبد المجيد لهم كرامتهم، وكان الجو السياسي العام في مصر يسيغ ذلك.
ولقد قابلنا نحن الشباب والطلاب، اغتيال النقراشي بارتياح واستبشار، فقد شفَى غليلنا وردّ اعتبارنا، ومما أذكره أنِّي نظَمْتُ بَيتين في هذه المناسبة، خطابًا لعبد المجيد حسن قاتل النقراشي، كان الطلاب يرددونهما وهما":
عبد المجيد تحية وسلام أبشِر فإنكَ للشباب إمام
سمَّمتَ كلبًا جاء كلبٌ بعده ولكل كلبٍ عِندنا سَمَّام
- أقوال الإخوان عن تدبير وتنفيذ الحادث:
يقول الصباغ في كتابه السابق: "كان السيد فايز هو مسئول التنظيم الخاص عن مدينة القاهرة بعد اعتقال كل من يعلوه في القيادة، ونَظر السيد فايز في قرار حَل الإخوان المسلمين، فشَعر أنه محكوم بحكومة محاربة للإسلام والمسلمين، وقرر الدخول معها في حرب عصابات فوق أرض مصر، وبدأ السيد فايز مَعاركه برأس الخيانة محمود فهمي النقراشي، كوَّن سَرَية من محمد مالك، وشفيق أنَس، وعاطف حلمي، والضابط أحمد فؤاد، وعبد المجيد أحمد حسن، ومحمود كامل لقتل النقراشي باشا غِيلة، وليَتحطَّم رأس الاستبداد، وقد أسنَد قيادة هذه السرية إلى الضابط أحمد فؤاد، ورسموا الخُطة على النحو الذي ظهر في تحقيقات القضية.
- تنفيذ واقعة القتل:
تُشير التحقيقات وجلسات المحاكمة، إلى أنه بعد صُدور قرار حل الجماعة، رصَد الإخوان جداول أعمال النقراشي باشا، لا سيما أنه بعد إصداره هذا القرار، أعدَّ لنفسه حِراسه مُشددة، وكان يذهب أيامًا إلى رئاسة مجلس الوزراء وأحيانًا إلى وزارة الداخلية، وأحيانًا أخرى إلى وزارة المالية، كما كان يُغيِّر طريقَه من منزله بمصر الجديدة إلى أي من تلك الوزارات، ولذلك استَبْعدَ الإخوان فكرة قتله في الطريق.
كان مَوكب النقراشي باشا سيأتي من بيته بمصر الجديدة، مارًّا بشارع الملكة نازلي "رمسيس حاليا" إلى وسط المدينة، وكان بيت سعد شهبندر عضو الإخوان بشارع الملكة نازلي بالعباسية، فكان هو المكلَّف بترقُّب الموكب من شُرفة بيته، حتى إذا مرَّ من أمامه أبلغ بذلك.
وفى صباح يوم الثلاثاء 28 ديسمبر سنة 1948 ذهبَت قوة الحراسة وعلى رأسها الصاغ عبد الحميد خيرت إلى منزل النقراشي بضاحية مصر الجديدة لاصطحابه إلى الوزارة، فنزل الساعة 9:45 صباحًا فركب السيارة ومعه خيرت، وركب باقي الحرس سيارة أخرى ولما وصل الرَّكب وزارة الداخلية نزل النقراشي من سيارته ودخل بهو الوزارة وإلى يساره خيرت ومن خلفه الملازم ثان حباطي عليّ حباطي والكونستابل أحمد عبد الله شكري، فضلاً عن حراسة أخرى تنتظر بالبهو مُكوَّنة من كونستابل، وَصُول، وأونباشي بوليس.
وعلى بُعد أربع خُطوات شاهَد عبد الحميد خيرت المتهم عبد المجيد بسُترة ملازم أول يقف في البهو، وحين اقترب النقراشي من المصعد أطلق عليه المتهم عدة رصاصات، وتم القبض عليه بمعرفة حباطي على حباطي وأحمد عبد الله شكري.
وفي كتابه "النقط فوق الحروف" يقول أحمد عادل كمال عضو التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين:
"كان أمام وزارة الداخلية مَقهي "الأعلام" الذي تم اختياره مُسبقًا ليجلس عليه عبد المجيد أحمد حسن، وقد تَسمَّى باسم "الضابط حسني" في انتظار مكالمة تليفونية بأنَّ الموكب قد غادر بيت الرئيس في طريقه إلى الوزارة، وتمت تلك التجربة مرات قَبلها.
وفي يوم الحادث تَلقَّي عبد المجيد، المسمى "الضابط حسني" إشارة تليفونية بأن الموكب قد تحرك، فغادَر المقهى إلى البهو الداخلي لوزارة الداخلية، وهناك كانوا يُخلون البهو من الغُرباء في انتظار وصول الرئيس، ولكن عبد المجيد كان قد تزيَّا بزيّ ضابط بوليس، فلم يَطلب إليه أحد الانصراف.
وحين غادر عبد المجيد مقهى الأعلام، كانت هناك عيون على مقهى آخر ترقُبه، شفيق ابراهيم أنس في زي كونستابل، ومحمود كامل السيد في زي سائق سيارة بوليس، فتبعاه إلى داخل الوزارة.
وعندما حضر النقراشي باشا إلى وزارة الداخلية على عادته يحُف به حرَسه واقترب من المصعد، أطلق عليه عبد المجيد رصاصتين في ظهره ليَسقط قتيلا، وهجَم الحراس على عبد المجيد وقبضوا عليه وتمكن شفيق ومحمود من الخروج من الوزارة.
تم القبض على المتهم واعترف على خمسة من شركائه هم محمد مالك يوسف "موظف بمطار ألماظة"، وسيد سيد القزاز "تاجر موبيليا" وعبد العزيز أحمد البقلي "ترزي أفرنجي" والشيخ سيد سابق محمد التهامي "من الأزهر" وعاطف عطية حلمي "طالب بكلية الطب".
- التحقيقات:
تولَّىت النيابة العامة التحقيق مع المتهم عبد المجيد، وكان عبد المجيد عنيدًا أنكر صلته بالحادث وبجماعة الإخوان المسلمين لمدة ستة عشر يومًا بعد القبض عليه.
وكان حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، قد أصدر بيانًا بعد الحادث يَستنكر فيه قتل النقراشي باشا أسماه "بيانٌ للناس" نشرته الصحف يوم 11 يناير 1949 بهدف إقناع الحكومة بأن الجماعة ليست طرفا في جريمة اغتيال النقراشي، وليست محرضة عليه، وتريد تهدئة الموقف مع الحكومة وإقناعها بالإفراج عن المعتقلين.
واستنكر في البيان أيضا أعمال رجاله ورفاق طريقه، ودمغها بالإرهاب والخروج على تعاليم الإسلام.
ومما يُذكر في ملابسات هذا البيان، أن رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي باشا أراد الحصول على البيان لاستفزاز عبد المجيد ليَعترف على باقي شركائه في الجريمة، بدعوى إعادة الإخوان بعد عمل إصلاحات في خططهم، فكلف مصطفى بك مرعي وزير الدولة للتفاوض مع حسن البنا لإصدار بيان يَتبرأ فيه من قتل النقراشي باشا ويدين فيه القتل. ولم يدرك الشيخ البنا، أن أحد أهداف الحكومة من البيان إقناع ذلك القاتل العنيد بأنه حان الوقت ليخون الإخوان كما خانوه، وليخدعهم كما خدعوه.
وعندما قدَّم النائب العام الصُّحف إلى عبد المجيد، وقرأ فيها هذا البيان، فإذا بالقاتل العنيد يَشعر بأنه خُدع في الجماعة ومُرشدها، وأن الإخوان تَخلّوا عنه، فانهار مُعترفا اعترافًا تفصيليًا بملابسات الحادث وتفاصيله.
- اعتراف المتهم عبد المجيد بالتحقيقات:
اعترف عبد المجيد بأنه قتل النقراشي باشا لأنه أصدر قرار حل جمعية الإخوان المسلمين، وهي جمعية دينية ومن يحلها يهدم الإسلام، وأنه انضم إلى الجماعة في أوائل عام 1946 ثم إلى التنظيم الخاص للجماعة وأقسَم في أحد المنازل على اليمين الخاص بها على المصحف والمسدس وأنه شاهد المتهم السيد فايز عبد المطلب في شهر يناير سنة 1948 وهو يرأس مجموعة تتدرب على استعمال السلاح في جبل المقطم.
وفي غضون عام 1948 عرَّفه أحد أعضاء مجموعته على أحمد عادل كمال في منزل السيد فايز، واتفقوا على القيام برحلة إلى الإسماعيلية وسافروا إلى عزبة تُسمَّى عزبة الإخوان، أخذوا منها مدفع سريع الطلقات ومسدسات وقنبلة، ثم توجهوا إلى الصحراء غرب هذه العزبة سيرًا على الأقدام وتَدربوا على استعمال المدفع والمسدسات وإلقاء القنابل.
وأضاف أنه بعد صدور قرار النقراشي باشا بحل الجماعة في 8 ديسمبر 1948 اجتمع مع عدد من أعضاء التنظيم الخاص في منزل محمد مالك يوسف وقرروا أن يَقتصوا من النقراشي.
وأنه في يوم السبت السابق على حادث القتل الموافق 18 ديسمبر 1948 حضر إليه محمد مالك يوسف "والد حسن مالك" في منزله ـ وهو رئيسه في التنظيم الخاص، في السابعة والنصف صباحًا وطلب منه أن يذهب لمقابلة الضابط أحمد فؤاد عبد الوهاب في منزله بالعباسية وهو ملازم أول كان يعمل بإدارة جوازات مطار ألماظة، فذهب إليه، فأبلغه أحمد فؤاد بأن الاختيار قد وقع عليه لقتل النقراشي، وأعطاه هذا الضابط ستة جنيهات وكلفه بشراء قماش أسود ليَصنع منه بدلة لضابط بوليس وجنيهين لشراء الأزرار والنجوم والحذاء، فاشترى القماش من "محل نجَّار" بميدان الأوبرا.
ثم تقابل مع عاطف عطية وذهبَا إلى دكان كمال القزاز وعبد العزيز البقلي لأخذ المقاس وإجراء أول بروفة، وأفهمه أحمد فؤاد أن عليه أن يَبحث عن مَقهى قريب من وزارة الداخلية وبشرط أن يكون به تليفون، وأن يتحقق من رقم تليفونه، وكان هذا المقهى هو مقهَي "الأعلام" المواجه لوزارة الداخلية وبه تليفون رقم 49066.
وفي اليوم التالي 19 ديسمبر توجَّه إلى المقهى فوجد محمود كامل السيد ومحمد أحمد على، وعرف أنهما يراقبان سيارة النقراشي، وعند الظهيرة توجه إلى الترزي عبد العزيز أحمد البقلي فأجرى البروفة الثانية وفي المساء اشترى حذاء أسود من سوق الكانتو.
وفي مساء هذا اليوم تقابل مع أحمد فؤاد في شارع القصر العيني وذهبا معًا إلى منزل عاطف عطية فوجدا عنده السيد فايز والشيخ سيد سابق، وقال السيد فايز إنَّ من الخطة أنْ يرتدي جلال يس سُترة كونستابل ويرافقه ساعة ارتكاب الجريمة، وأنَّ الشيخ سيد سابق أقنعه بأن القتل حلال في سبيل الله، وأن النقراشي اعتدى على الإسلام بحل جمعية الإخوان المسلمين، واستَشهد الشيخ سيد ببعض آيات القرآن الكريم.
وفي يوم عشرين ديسمبر تم عَمل تجربة، حيث توجه إلى المنزل رقم 25 بشارع على يونس بشبرا لتغيير ملابسه، فوجد الضابط أحمد فؤاد ومعه عبد الحليم محمد أحمد وجلال يس، فارتدي هو سُترة ضابط بينما ارتدى جلال سُترة كونستابل، وأعطاه أحمد فؤاد مسدس "بريتا" وأعطى جلال طبنجة "كولت" وتوجهوا عدا أحمد فؤاد إلى مقهَي "الأعلام" ولما تَلقي تليفونًا بقرب وُصول النقراشي باشا توجَّه إلى وزارة الداخلية ثم خرج منها.
وفي مساء يوم 25 ديسمبر 1948 تقابل مع أحمد فؤاد في منزل شبرا وعلم من الأخير أنه تم تغيير الخُطة بحيث يلبس شفيق أنس سترة الكونستابل بدلاً من جلال، وأن يلبس محمود كامل سُترة جندي بوليس ليعاوناه على الهرب إذا نجح في التنفيذ، وتسلم منه مسدسًا وتسَلم شفيق قنبلة فوسفورية واتفقوا على التنفيذ يوم 26 ديسمبر 1948 وفي صبيحة هذا اليوم توجه إلى مقهَي الأعلام بينما انتظر شفيق أنس ومحمود كامل في مقهى أخرى، ولما تلقى تليفونا دخل الوزارة وانتظر النقراشي وقتله وهو يَهم بركوب المصعد.
- عبد المجيد يُصدم من بيان البنا ويرشد عن باقي المتهمين:
- وأضاف عبد المجيد في اعترافه:
أودُّ أن يَعلم جميع أفراد النظام الخاص بأنه غُرِّر بنا ولستُ وحدي وأعتقد أنَّ المسئول عن جميع هذه الحوادث هو حسن البنا بشخصه، ولكني لا أملك سوى أدلة سماعية فقط، وفي إطار بيان أدوار باقي الجناة قال:
أذكر أنه في أثناء اجتماع من الاجتماعات عقِب حل الإخوان، قال أحد الموجودين إن الناس مُنتظرون عملاً يقوم به الإخوان ضد من حَلَّ الجماعة وذكرَ أحدهم أنه يَحسُن مهاجمة منزل النقراشي باشا (علشان) قتله فرد محمد مالك وقال: الشيح حسن البنا لا يُريد أن يُضحِّي بأكثر من شخص واحد لارتكاب هذه الحادثة، وأنَّ باقي الأفراد سيُكلَّفون بأعمالٍ أخرى.
وأثناء مواجهتهما ببعضهما في التحقيقات، اتَّهم محمد مالك عبد المجيد بأنه مُجرم، فكان رد عبد المجيد بعبارة: (بقَى تدبروا الجريمة وتختاروني للقتل وبعد ذلك تيجي هنا تنكر، أنا رايح أقول كل حاجة).
وعلى إثر اعترافه على السيد قطب، فقد اقتحم البوليس مَبنى الجمعية الشرعية بالمغربلين، واقتاد عددًا من المصلين جميعهم مُلتحون ثم جاءوا بالشيخ سيد سابق فأجلسوه بينهم حاسِر الرأس ومُرتديًا جلبابًا أبيض، وكان القاتل قد اتهمه بأنه هو الذي أفتَى له بِحِل قتل النقراشي باشا، ثم جيء بعبد المجيد حسن وطُلب منه أن يُخرج الشيخ سيد من بين الصف الطويل ويتعرَّف عليه، وفي لحظات اتجه صوب الشيخ سيد وأشار إليه، ثم أعادوه إلى حيث كان، وأعادوا ترتيب الجالسين وغيروا أماكنهم، وجيء بعبد المجيد مرَّة أخرى، ورغم انتقال الشيخ سيد من مكانه اتجه القاتل نحوه مثل لمح البصر مشيرا إليه.
"وكان الضابط أحمد فؤاد قد نُقل أثناء التحقيق إلى مدينة بنها وذهب البوليس بصحبة النيابة للقبض عليه وتفتيش منزله، ولكنه غَرَّر بأحد زملائه من الضباط وركب سيارة البوليس وانطلق بها هاربًا فتتبعه البوليس وطارده في حقل على مَقربة من الطريق الزراعي، وعندما وجد أحمد فؤاد البوليس يقترب منه عَبرَ بملابسه إحدى الترع، فأطلق عليه البوليس النار فقُتل. وتم القبض على محمد مالك بالإسكندرية في 14 مايو سنة 1949 بعد تبادل لإطلاق النار من المنزل الذي كان يخفيه فيه محمود يونس الشربيني "محام تحت التمرين" وملازم أول طبيب السيد بهجت الجيار وآخرون بعد نفاذ ذخيرتهم.
- بيان ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين وعلاقته باعترافات جديدة للمتهم:
بعد حادث محاولة نَسْف محكمة استئناف مصر حصلت مفاوضات بين مصطفى مرعي وصالح حرب مع حسن البنا، واتفقوا على إصدار بيان "ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين" الذي أصدره البنا.
- الحكم:
وفي يوم الخميس 13/10/1949 صدر الحكم بمعاقبة عبد المجيد أحمد حسن بالإعدام، ومعاقبة كل من محمد مالك يوسف وعاطف عطية حلمي، وشفيق أنس ومحمود كامل السيد بالأشغال الشاقة المؤبدة. وبراءة الباقين.
وتم تنفيذ حكم الإعدام في عبد المجيد يوم 25 إبريل 1950 في عهد وزارة الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا، بعد رفض التماس أسرته العفو عنه.
بهاء المري
بهاء المري is on Facebook. Join Facebook to connect with بهاء المري and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com