طال الشتاء فلم أعد قادرة على الانتظار. لبست معطفي القديم وربطت رأسي بمنديلي الصوفي ونزلت إلى الشوارع أقطعها وأتوقف عند الشجر، أنظر وأتحقق. وعندما تفشل عينانى في رؤية شيء على الفروع الجافة أمد يدي أجس وأتحسس . أحيانا كانت يداى تتوقفان ويخفق قلبي ثم اكتشف أن ماوجدت ليس هو المنشود بل مجرد عقدة على فرع جاف . ولكني كنت واثقة أننى سأجدها، أقصد الكرويات الصلبة الدقيقة التي يخدعك لونها في البداية فتظنها لا شيء ولكنك لو دققت النظر وجدتها كروية ورمادها ليس رماديا ولا جفافها جفافا. وأن تتابعها وتنتظر تكبر وتتفتح وتكشف لك عن أخضرها الكامن
رأيت النخل ..قصة : رضوى عاشور
30 نوفمبر، 2021 مرفت يس أضف تعليقا
كنت ابحث عنها عندما
رآني ذلك الزميل، قال:
– ماذا تفعلين في الشارع في هذا البرد الملعون، كل الناس تلزم بيوتها ؟
قلت:
– أبحث عن البراعم!
فهتف
والله انك مجنونة يافوزية!
كان يمزح، أذكر بوضوح أن صوته كان ضاحكًا وأن النظرة في عينيه كانت دافئة وودودة.
وفي نهاية يوم قضيته أبحث عدت إلى بيتي خائبة أتساءل إلى متى؟ ساعتها تذكرت زهرة الصبار التي حملتها لي عمتي فاطمة من البلد وكنت قد وضعتها بجوار الباب ونسيتها. وعندما تذكرت قلت لنفسي: لابد أنها ماتت فأنا لم اسقها منذ عدة شهور ولكني قمت لأراها. كان طينها قد جف وتشقق وأصبح في لون البن الأشقر، وعودها يبس واصفر رغم أنه نما وطال وكانت أوراقها ذات الحواف الابرية على حالها ناهضة تتفرع من الساق عريضة وتتفتح إلى أسفل رفيعة ومدببة. كانت صبارة عمتي تستوي على سوقها خضراء، رويتها.
أحببت الزرع وصرت أزرع في آنية من فخار في علبة فارغة، في كوب، أي شيء يصلح للزرع أملأه بالطين وأثبت في العمق اللازم نزاة ثمرة، أو فرعا أخضر، وأروي أيامها ، لم يقل أحد أنني مجنونة ولكنهم قالوها بعد ذلك يوم حملوا لي خبر وفاة ابن عمي:
مات ابن عمك يافوزية
– – مات
فلما أكدوا الخبر طلبت منهم أن ينتظروا لأصحبهم لتقديم واجب العزاء. رأوني أقرفص أمامهم وأملأ علبة فارغة بالطين وأرشق فيه عود ريحان وأثبته بالضغط المتكرربقبضتي على الطين حتى يمسك بالفرع تماما ويحتضنه ويتماسك ، ثم غمرته بالماء وقلت :
الآن بإمكاننا أن نذهب.
رأيتهم يضربون كفا بكف وسمعتهم يقولون ” جنت فوزية وعوضنا على الله” ولم أفهم لماذا قالوا ذلك، واستغربت أكثر عندما سمعت أحدهم يهمس ” فوزية تقلد الأغنياء الذين يزينون بيوتهم بالنباتات ! “
استغربت لأنه من قريتنا ويعرف . نحن فلاحون ، صحيح أن النساء في عائلتنا الصعيدية لا يخرجن إلى الحقول للفلاحة ولكن الفلاحة هي حياتهن التي يفتحن عيونهن عليها ، ويغمضن ساعة الموت عيونهن عليها أيضا.ا
وأنا اذكر أن بيتنا في القرية كان على سطحه نعناعة وفي قاعه صبارة وببابه نخلة. واذكر أن أبي رحمة الله عليه كان يقول أن النخلة شجرة مباركة أنعم الله بها على عبادة وكرمها بذكرها في القرآن، وأن النبي صلوات الله عليه قال: أكرموا عماتكم النخل. وأنه سمى النخل عماتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم وأنها تشبه الإنسان ، خلقت من ذكر وأنثى، طويلة ومستقيمة القد وجمارها على رأسها، كقل الإنسان في رأسه، أن أصابه سوء هلكت.
كان أبي يوصي أخوي بالنخل كما كانت أمي توصيني كل فجر وهى تلقي تعليماتها اليومية بكنس الدار واطعام الدجاج أنأسقي النعناعة، عندما كنت أنسى- كنت دائما على عجلة من أمري أؤدي تلك الواجبات قبل الذهاب إلى المدرسة- كانت تغضب ويعلو صوتها موبخة: ” حرام عليك يابنيتي، هذا فأل سيئ، ربنا يمد في عمر ابيك ويبقى الدار عمارا” ولكن الله لم يمد، لافي عمره ولاعمرها. حتى اخواى ذهبا فأصبحت أنا – بعد أن اقمت في القاهرة- كالمقطوعة من شجرة وبدا أنني نسيت النعناعة والصبارة والنخلة، وكل شيء.
ثم جاءت عمتي فاطمة لزيارتي وضمتني إلى صدرها وبكت على خراب بيتنا الذي انطفأت ناره وجفت صبارته. ثم كفكفت دمعها وتربعت على البساط الأسيوطي وفتحت السلة التي حملتها معها للزيارة. قالت” أحضرت لك رغفانا خبزتها وتمرا من نخلة أبيك وكسرت لك فرعا من الصبارة التي في دارنا ومدت عمتي لي يدها بالصبارة وهى تقول والدموع مازالت في عينيها : ” الصبارة التي في دارنا كسرتها لي أمي من صبارتها يوم تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجي، هذه إذن صبارة جدتك، وجدة جدتك، ربنا يبارك فيك يافوزية يابنيتي ويحفظ لك الدار عمارا”
ذكرتني عمتي ولما تذكرت زرعت فقال الناس عني مجنونة.
في العمل أيضا يتهامسون وراء ظهري. وفي مرة قالت لي زميلتي
انظري يافوزية إلى يديك.
ففهمت أنها تشير إلى الخطوط السوداء تحت الأظافر، قلت ” هذه ليست وساخة، إنه طين متخلف من الزرع الذي أزرعه” .
قالت وهى تربت على كتفي:
“لايليق أبدا وأنت موظفة!”
لاأفهم ماالذي يسىء عندما أزرع. المكان الذي نعمل فيه معتم وقديم تساقط طلاء جدرانه ونسج العنكبوت خيوطه في الزوايا وعششت فيه الحشرات وأنا واثقة أن الفئران لها جحور فيه تتركها في المساء والليل وتسرح بين المكاتب بلا ضابط وكل يوم أحمد الله أنها لم تقرض بعد أيا من أوراق الملفات التي في عهدتي: الملفات الرمادية القديمة المصفوفة على رفوف خشبية متآكلة يصعب معرفة لونها الأصلي. وحتى المساحة المستطيلة التي أمام المبنى والتي نشير إليها ” بالحديقة ” يغطيها طفح المجاري فلا نستطيع دخول المبنى أو الخروج منه إلا بالسير الحذر على خمسة أحجار متجاورة تشكل جسرا إلى عتبة الباب.
لم أقصر مع زملائي. عندما وجدت الوضع على ماهو عليه زرعت ثلاث شجرات من الياسمين الهندي وتعهدتها فلما نمت وتكاثفت أوراقها حملتها إلى المكتب ووضعتها متجاورة في الشرفة الوحيدة التي بالمبنى ولكن زملائي لم يلتفتوا إلى جمال الياسمين حتى عندما أزهر مع أنهم التفتوا للطين تحت أظافري.
في عملي لا يفهمونني وفي الحى أيضا. سمعتهم بأذني يقولون فوزية المجنونة التي تلقي بنفسها على نوى التمر كأنه جنيهات الذهب. وهم يستغربون سلوكي فالواحد منهم يأكل البلحة ويلفظ النواة، يبصقها من فمه فتسقط بعيدا أو يبصقها في يده أو يرميها بعد ذلك بطول ذراعه فتسقط أبعد. أركض لألتقطها واخبئها في جيبي العميق وعندما أرجع إلى البيت أضعها على قطنة مبللة أربعة أو خمسة أيام ، كل يوم أتعهدها وأتابعها وهى تنتفخ وتلين حتى ألمس بيدي طراوتها فأعرف أن الوقت قد حان. بعد ذلك أدفنها في الطين وأغمرها بالماء…….وانتظر.
كنت أتمنى أن يكون بيتي فسيحا تحيط به أرض أزرعها ويحزنني أنه يتكون من حجرة واحدة وأن شرفته الوحيدة ضيقه إلى هذا الحد ولاتتسع لكل ما أزرع. في الماضي كنت أضع أصص الزرع على سور الشرفة ولكني عدلت عن ذلك لأن الصغار العابثين كانوا يرمونها بالحجارة. أول مرة وجدت أصية زرع محطمة والعود المزروع فيها مكسورا ذابل الأوراق فكرت فيهم ولكني قلت لنفسي أن بعض الظن اثم، فلما تكرر الأمر تأكدت، وتأكدت أكثر عندما أخذ الصغار يضايقونني وأنا عائدة إلى البيت أحمل صفيحة أو صفيحتين من تلك الصفائح الكبيرة التي تستخدم في حفظ الجبن الأبيض أو الزيتون- كان عم متولي البقال يعطيها لي لكى أزرع فيها وعندما وجد أنني لا أشتري منه الصابون المعطر والجبن المستورد المغلف بأوراق فضية وذهبية غضب واستاء ولم يعد يعطيني الصفائح، ذلك رغم تأكيدي له أنني لا أشتري هذه الأشياء لا منه ولا من سواه لأنها غالية وراتبي قليل – عندما كان عم متولي يعطيني الصفائح كان الأولاد يمشون ورائي ويزفونني ويقولون:
المجنونة راجعة وماسكة في ايدها صفيح.
عقل مافيش، مخ مافيش.
مخ فالصو وعقل صفيح.
كان سلوكهم يحزنني فأشعر بغصة في حلقي ورغبة في الكاء إلا أنني لم أكن أبكي بل أنحني ، التقط أول حجر في الطريق وألقيه عليهم وأنا أسبهم.
وفي مرة من هذه المرات ظهرت لي أم سليمان المرأة البدينة ذات السن الذهبي واعترضت طريقي وهى تضع يديها على ردفيها الكبيرين. قلت لها معتذرة :
أنا أسفة ياست أم سليمان، لم أقصد الإساءة لكن سليمان والأولاد الآخرين سبوني. وأيضا ياست أم سليمان بالأمس كسروا آنية الزرع التي وضعتها عند مدخل البيت.
فاجأتني ضحكتها ولكني واصلت :
أنت أم سليمان ، تقومين برعاية سليمان وحمايته أليس كذلك؟! اعتبريني أنا أيضا اما، أنا أم الزرع! لعبت أم سليمان حاجبيها وأخرجت صوتا متحشرجا من حلقها رافقته حركة بذيئة باصبعها الوسطى وقالت :
– – مبروك عليك ” زرع ” يا” أم الزرع” تعيشي وتجيبي!
وأدرات ظهرها وتركتني وهى تواصل ضحكاتها العالية المخيفة.
لم أجد من أشكو له سوى أبويا محمد الذي يعمل أجيرا في المشتل ويسكن في كوخ خشبي في نفس مكان عمله . في بداية تعارفنا كنت أناديه ” بعم محمد” وهو يناديني” الست فوزية” ولما تآلفنا صرت اسميه ” أبويا محمد” وهو يسميني ” أم أحمد” نسبة إلى أبي رحمه الله الذي كان اسمه أحمد. عندما تضيق بي الدنيا أذهب إليه وأشكو وهذه المرة شكوت له أم سليمان فنصحني أن أسبها كما سبتني. قلت له سأحاول وعدت إلى بيتي ولكني لم أكن واثقة أنني سأستطيع لأن هذه المرأة كانت تخيفني إلى حد أنني أراها في أحلامي تضحك فتبدوا أسنانها طويلة ومخيفة وعلى الأخص ذلك السن الذهبي اللامع، أراها تضحك فيكون الحلم كابوسا. ومع ذلك فليست كل أحلامي كوابيس، عندما أصفو أرى في الأحلام الحقول فتكون الآحلام جميلة كالأحلام….وملونة .
عندما يكون الحقل قمحا أراه كالذهب الخالص تميل به السنابل وتنحني وتموج في بحر من زعفران، وعندما يكون الحقل ذرة أرى الكيزان وقد استوت على عيدانها وسرت في شواشيها حمرة خمرية فيبدوا الحقل وهو الأخضر بنيا أحمر كماء النيل في الشهر التساع مثقلا بالطمي قبل الفيضان. وعندما يكون الحقل حديقة برتقال أرى الشجرات صغيرة ومدورة محملة بالثمار كنساء قريتنا ويكون البرتقال على أخضر الغصون برتقاليا والشمس كمثله في الزرقاء العالية .
وعندما يكون الزرع كامنا أرى طين الأرض بين الندى واليابس يمتد حرا وأسود يتوارى الحب فيه إلا قليلا انشق عن فستقه وأخرج شطأه، أخضر. مرة واحدة رأيت النخل غابة في السحر، ولم تكن الشمس قد أشرقت بعد ولكنها كانت على وشك فتخضب الأفق البنفسجي بلون الحناء. رأيت النخل مستقيم
القد شاهق الطول وعميقا ، ورأيت وجوه أهلي فيه، أبي وأمي وعمتي وابن عمي. كانت وجوههم خضراء شاحبة بلون السعف ولكني لم أتحقق أن كانوا يقفون خلف
الجذوع أم كانت الجذوع خلفهم. وسمعت صوتا رخيما ودافئا كأنه صوت مقرىء يتلو الآيات قبل أذان الفجر، أو كأنه شيء آخر، لاأدري؟ ولكن الصوت كان يتردد في غابة النخيل ساعة السحر فقلت لنفسي: ” أنت يافوزية على الأعتاب فتهيئي” ولكني صحوت ، فتحت عيني فلم أجد سوى الصورة المعلقة على الجدار القديم فعرفت أنه كان حلما فانسكبت من عيني دمعة ثم استجمعت نفسي وقمت.
اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع وقالت : رأيت أصص الزرع في الشرفة، قالت أنها جميلة وسألتني على استحياء أن أعلمها فأريتها كيف . أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته ثم جلسنا وتحدثنا.
* القصة من نصوص المجموعة القصصية رأيت النخل الصادرة عن سلسلة مختارات فصول الكتاب رقم (67) وهى سلسلة أدبية شهرية كانت تصدر عن الهيئة العامة للكتاب عام
1989
رأيت النخل ..قصة : رضوى عاشور
30 نوفمبر، 2021 مرفت يس أضف تعليقا
كنت ابحث عنها عندما
رآني ذلك الزميل، قال:
– ماذا تفعلين في الشارع في هذا البرد الملعون، كل الناس تلزم بيوتها ؟
قلت:
– أبحث عن البراعم!
فهتف
والله انك مجنونة يافوزية!
كان يمزح، أذكر بوضوح أن صوته كان ضاحكًا وأن النظرة في عينيه كانت دافئة وودودة.
وفي نهاية يوم قضيته أبحث عدت إلى بيتي خائبة أتساءل إلى متى؟ ساعتها تذكرت زهرة الصبار التي حملتها لي عمتي فاطمة من البلد وكنت قد وضعتها بجوار الباب ونسيتها. وعندما تذكرت قلت لنفسي: لابد أنها ماتت فأنا لم اسقها منذ عدة شهور ولكني قمت لأراها. كان طينها قد جف وتشقق وأصبح في لون البن الأشقر، وعودها يبس واصفر رغم أنه نما وطال وكانت أوراقها ذات الحواف الابرية على حالها ناهضة تتفرع من الساق عريضة وتتفتح إلى أسفل رفيعة ومدببة. كانت صبارة عمتي تستوي على سوقها خضراء، رويتها.
أحببت الزرع وصرت أزرع في آنية من فخار في علبة فارغة، في كوب، أي شيء يصلح للزرع أملأه بالطين وأثبت في العمق اللازم نزاة ثمرة، أو فرعا أخضر، وأروي أيامها ، لم يقل أحد أنني مجنونة ولكنهم قالوها بعد ذلك يوم حملوا لي خبر وفاة ابن عمي:
مات ابن عمك يافوزية
– – مات
فلما أكدوا الخبر طلبت منهم أن ينتظروا لأصحبهم لتقديم واجب العزاء. رأوني أقرفص أمامهم وأملأ علبة فارغة بالطين وأرشق فيه عود ريحان وأثبته بالضغط المتكرربقبضتي على الطين حتى يمسك بالفرع تماما ويحتضنه ويتماسك ، ثم غمرته بالماء وقلت :
الآن بإمكاننا أن نذهب.
رأيتهم يضربون كفا بكف وسمعتهم يقولون ” جنت فوزية وعوضنا على الله” ولم أفهم لماذا قالوا ذلك، واستغربت أكثر عندما سمعت أحدهم يهمس ” فوزية تقلد الأغنياء الذين يزينون بيوتهم بالنباتات ! “
استغربت لأنه من قريتنا ويعرف . نحن فلاحون ، صحيح أن النساء في عائلتنا الصعيدية لا يخرجن إلى الحقول للفلاحة ولكن الفلاحة هي حياتهن التي يفتحن عيونهن عليها ، ويغمضن ساعة الموت عيونهن عليها أيضا.ا
وأنا اذكر أن بيتنا في القرية كان على سطحه نعناعة وفي قاعه صبارة وببابه نخلة. واذكر أن أبي رحمة الله عليه كان يقول أن النخلة شجرة مباركة أنعم الله بها على عبادة وكرمها بذكرها في القرآن، وأن النبي صلوات الله عليه قال: أكرموا عماتكم النخل. وأنه سمى النخل عماتنا لأنها خلقت من فضلة طينة آدم وأنها تشبه الإنسان ، خلقت من ذكر وأنثى، طويلة ومستقيمة القد وجمارها على رأسها، كقل الإنسان في رأسه، أن أصابه سوء هلكت.
كان أبي يوصي أخوي بالنخل كما كانت أمي توصيني كل فجر وهى تلقي تعليماتها اليومية بكنس الدار واطعام الدجاج أنأسقي النعناعة، عندما كنت أنسى- كنت دائما على عجلة من أمري أؤدي تلك الواجبات قبل الذهاب إلى المدرسة- كانت تغضب ويعلو صوتها موبخة: ” حرام عليك يابنيتي، هذا فأل سيئ، ربنا يمد في عمر ابيك ويبقى الدار عمارا” ولكن الله لم يمد، لافي عمره ولاعمرها. حتى اخواى ذهبا فأصبحت أنا – بعد أن اقمت في القاهرة- كالمقطوعة من شجرة وبدا أنني نسيت النعناعة والصبارة والنخلة، وكل شيء.
ثم جاءت عمتي فاطمة لزيارتي وضمتني إلى صدرها وبكت على خراب بيتنا الذي انطفأت ناره وجفت صبارته. ثم كفكفت دمعها وتربعت على البساط الأسيوطي وفتحت السلة التي حملتها معها للزيارة. قالت” أحضرت لك رغفانا خبزتها وتمرا من نخلة أبيك وكسرت لك فرعا من الصبارة التي في دارنا ومدت عمتي لي يدها بالصبارة وهى تقول والدموع مازالت في عينيها : ” الصبارة التي في دارنا كسرتها لي أمي من صبارتها يوم تزوجت وانتقلت إلى بيت زوجي، هذه إذن صبارة جدتك، وجدة جدتك، ربنا يبارك فيك يافوزية يابنيتي ويحفظ لك الدار عمارا”
ذكرتني عمتي ولما تذكرت زرعت فقال الناس عني مجنونة.
في العمل أيضا يتهامسون وراء ظهري. وفي مرة قالت لي زميلتي
انظري يافوزية إلى يديك.
ففهمت أنها تشير إلى الخطوط السوداء تحت الأظافر، قلت ” هذه ليست وساخة، إنه طين متخلف من الزرع الذي أزرعه” .
قالت وهى تربت على كتفي:
“لايليق أبدا وأنت موظفة!”
لاأفهم ماالذي يسىء عندما أزرع. المكان الذي نعمل فيه معتم وقديم تساقط طلاء جدرانه ونسج العنكبوت خيوطه في الزوايا وعششت فيه الحشرات وأنا واثقة أن الفئران لها جحور فيه تتركها في المساء والليل وتسرح بين المكاتب بلا ضابط وكل يوم أحمد الله أنها لم تقرض بعد أيا من أوراق الملفات التي في عهدتي: الملفات الرمادية القديمة المصفوفة على رفوف خشبية متآكلة يصعب معرفة لونها الأصلي. وحتى المساحة المستطيلة التي أمام المبنى والتي نشير إليها ” بالحديقة ” يغطيها طفح المجاري فلا نستطيع دخول المبنى أو الخروج منه إلا بالسير الحذر على خمسة أحجار متجاورة تشكل جسرا إلى عتبة الباب.
لم أقصر مع زملائي. عندما وجدت الوضع على ماهو عليه زرعت ثلاث شجرات من الياسمين الهندي وتعهدتها فلما نمت وتكاثفت أوراقها حملتها إلى المكتب ووضعتها متجاورة في الشرفة الوحيدة التي بالمبنى ولكن زملائي لم يلتفتوا إلى جمال الياسمين حتى عندما أزهر مع أنهم التفتوا للطين تحت أظافري.
في عملي لا يفهمونني وفي الحى أيضا. سمعتهم بأذني يقولون فوزية المجنونة التي تلقي بنفسها على نوى التمر كأنه جنيهات الذهب. وهم يستغربون سلوكي فالواحد منهم يأكل البلحة ويلفظ النواة، يبصقها من فمه فتسقط بعيدا أو يبصقها في يده أو يرميها بعد ذلك بطول ذراعه فتسقط أبعد. أركض لألتقطها واخبئها في جيبي العميق وعندما أرجع إلى البيت أضعها على قطنة مبللة أربعة أو خمسة أيام ، كل يوم أتعهدها وأتابعها وهى تنتفخ وتلين حتى ألمس بيدي طراوتها فأعرف أن الوقت قد حان. بعد ذلك أدفنها في الطين وأغمرها بالماء…….وانتظر.
كنت أتمنى أن يكون بيتي فسيحا تحيط به أرض أزرعها ويحزنني أنه يتكون من حجرة واحدة وأن شرفته الوحيدة ضيقه إلى هذا الحد ولاتتسع لكل ما أزرع. في الماضي كنت أضع أصص الزرع على سور الشرفة ولكني عدلت عن ذلك لأن الصغار العابثين كانوا يرمونها بالحجارة. أول مرة وجدت أصية زرع محطمة والعود المزروع فيها مكسورا ذابل الأوراق فكرت فيهم ولكني قلت لنفسي أن بعض الظن اثم، فلما تكرر الأمر تأكدت، وتأكدت أكثر عندما أخذ الصغار يضايقونني وأنا عائدة إلى البيت أحمل صفيحة أو صفيحتين من تلك الصفائح الكبيرة التي تستخدم في حفظ الجبن الأبيض أو الزيتون- كان عم متولي البقال يعطيها لي لكى أزرع فيها وعندما وجد أنني لا أشتري منه الصابون المعطر والجبن المستورد المغلف بأوراق فضية وذهبية غضب واستاء ولم يعد يعطيني الصفائح، ذلك رغم تأكيدي له أنني لا أشتري هذه الأشياء لا منه ولا من سواه لأنها غالية وراتبي قليل – عندما كان عم متولي يعطيني الصفائح كان الأولاد يمشون ورائي ويزفونني ويقولون:
المجنونة راجعة وماسكة في ايدها صفيح.
عقل مافيش، مخ مافيش.
مخ فالصو وعقل صفيح.
كان سلوكهم يحزنني فأشعر بغصة في حلقي ورغبة في الكاء إلا أنني لم أكن أبكي بل أنحني ، التقط أول حجر في الطريق وألقيه عليهم وأنا أسبهم.
وفي مرة من هذه المرات ظهرت لي أم سليمان المرأة البدينة ذات السن الذهبي واعترضت طريقي وهى تضع يديها على ردفيها الكبيرين. قلت لها معتذرة :
أنا أسفة ياست أم سليمان، لم أقصد الإساءة لكن سليمان والأولاد الآخرين سبوني. وأيضا ياست أم سليمان بالأمس كسروا آنية الزرع التي وضعتها عند مدخل البيت.
فاجأتني ضحكتها ولكني واصلت :
أنت أم سليمان ، تقومين برعاية سليمان وحمايته أليس كذلك؟! اعتبريني أنا أيضا اما، أنا أم الزرع! لعبت أم سليمان حاجبيها وأخرجت صوتا متحشرجا من حلقها رافقته حركة بذيئة باصبعها الوسطى وقالت :
– – مبروك عليك ” زرع ” يا” أم الزرع” تعيشي وتجيبي!
وأدرات ظهرها وتركتني وهى تواصل ضحكاتها العالية المخيفة.
لم أجد من أشكو له سوى أبويا محمد الذي يعمل أجيرا في المشتل ويسكن في كوخ خشبي في نفس مكان عمله . في بداية تعارفنا كنت أناديه ” بعم محمد” وهو يناديني” الست فوزية” ولما تآلفنا صرت اسميه ” أبويا محمد” وهو يسميني ” أم أحمد” نسبة إلى أبي رحمه الله الذي كان اسمه أحمد. عندما تضيق بي الدنيا أذهب إليه وأشكو وهذه المرة شكوت له أم سليمان فنصحني أن أسبها كما سبتني. قلت له سأحاول وعدت إلى بيتي ولكني لم أكن واثقة أنني سأستطيع لأن هذه المرأة كانت تخيفني إلى حد أنني أراها في أحلامي تضحك فتبدوا أسنانها طويلة ومخيفة وعلى الأخص ذلك السن الذهبي اللامع، أراها تضحك فيكون الحلم كابوسا. ومع ذلك فليست كل أحلامي كوابيس، عندما أصفو أرى في الأحلام الحقول فتكون الآحلام جميلة كالأحلام….وملونة .
عندما يكون الحقل قمحا أراه كالذهب الخالص تميل به السنابل وتنحني وتموج في بحر من زعفران، وعندما يكون الحقل ذرة أرى الكيزان وقد استوت على عيدانها وسرت في شواشيها حمرة خمرية فيبدوا الحقل وهو الأخضر بنيا أحمر كماء النيل في الشهر التساع مثقلا بالطمي قبل الفيضان. وعندما يكون الحقل حديقة برتقال أرى الشجرات صغيرة ومدورة محملة بالثمار كنساء قريتنا ويكون البرتقال على أخضر الغصون برتقاليا والشمس كمثله في الزرقاء العالية .
وعندما يكون الزرع كامنا أرى طين الأرض بين الندى واليابس يمتد حرا وأسود يتوارى الحب فيه إلا قليلا انشق عن فستقه وأخرج شطأه، أخضر. مرة واحدة رأيت النخل غابة في السحر، ولم تكن الشمس قد أشرقت بعد ولكنها كانت على وشك فتخضب الأفق البنفسجي بلون الحناء. رأيت النخل مستقيم
القد شاهق الطول وعميقا ، ورأيت وجوه أهلي فيه، أبي وأمي وعمتي وابن عمي. كانت وجوههم خضراء شاحبة بلون السعف ولكني لم أتحقق أن كانوا يقفون خلف
الجذوع أم كانت الجذوع خلفهم. وسمعت صوتا رخيما ودافئا كأنه صوت مقرىء يتلو الآيات قبل أذان الفجر، أو كأنه شيء آخر، لاأدري؟ ولكن الصوت كان يتردد في غابة النخيل ساعة السحر فقلت لنفسي: ” أنت يافوزية على الأعتاب فتهيئي” ولكني صحوت ، فتحت عيني فلم أجد سوى الصورة المعلقة على الجدار القديم فعرفت أنه كان حلما فانسكبت من عيني دمعة ثم استجمعت نفسي وقمت.
اليوم جاءتني امرأة تسكن في نفس الشارع وقالت : رأيت أصص الزرع في الشرفة، قالت أنها جميلة وسألتني على استحياء أن أعلمها فأريتها كيف . أهديتها عود نعناع كنت قد زرعته ثم جلسنا وتحدثنا.
* القصة من نصوص المجموعة القصصية رأيت النخل الصادرة عن سلسلة مختارات فصول الكتاب رقم (67) وهى سلسلة أدبية شهرية كانت تصدر عن الهيئة العامة للكتاب عام
1989