«الرِّجل انقطعت م الحارة
والوقت ضلام
والناس قاعدين جوه بيوتهم
ولا حدش نام»
(الإسكندرية - 1914)
الحارة / كانت حارة مصرية، صغيرة، هادئة داخل حى الجمرك بتلك المدينة الساحلية الجميلة. والوقت كان شهر نوفمبر/ تشرين الثانى عام 1914. والساعة كانت الواحدة بعد منتصف الليل عندما بدأت أخبار نشوب الحرب العالمية الأولى تتسرب خلف جدران البيوت، والشوارع، والحوارى، بعدما أعلنت دول الحلفاء (فرنسا وبريطانيا وروسيا وأمريكا) ـ خوض معارك ضارية ضد دول المركز (المانيا والنمسا وبلغاريا والدولة العثمانية) فى حرب وصفت وقتها «بالحرب التى ستنهى كل الحروب»! -أصدقاء الأمس أعداء اليوم - ورغم مرور ما يقرب من 108 سنوات على ذلك القول الكاذب، مازال تجار السلاح والموت فى العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، يكررون علينا - وهم بالطبع كاذبون - فى الصباح وفى المساء نفس الهتافات والشعارات والكلام والأوهام، ورغم ذلك وبعد كل ذلك - وقبل كل ذلك - لا الحروب توقفت ولا السلام دام!
ومازالت الحارة -أى حارة - فى العالم «تعيش فى ضلام»! وما زالت الناس -أى ناس - فى العالم جالسة «جوه بيتهم/ ولا حدش نام»!
وعندما نعود إلى تلك الليلة من ذلك العام الحزين، فإننا نجد منزل أسرة محمد أفندى سعد العامل البسيط فى الميناء وقد انقلب ليلها الهادئ إلى ضجيج، ونهارها السعيد إلى عتمة وضيق، بعدما ارتفع بين جدران شقته المتواضعة صراخ طفلته الصغيرة اسمها زينب وكان عمرها 24 شهراً تقريباً وارتفعت وتيرة صراخها من شدة الألم المصاحب لها منذ مساء تلك الليلة الحزينة. الأم بهدوء تحملها على كتفها جيئة ذهاباً. والأب صامت، شارد، متوتر، لا يعرف ماذا يفعل! لكنه بعد دقائق يقرر النزول للبحث عن دواء للطفلة التى مازالت تبكى بشدة ومرارة!
- "الدنيا ضلام يا سى محمد.. هتروح فين دلوقتى يا خويا»؟
- يعنى أسيب البنت تموت يا وليه؟
- طيب امشى فى الضلمة! «وبلاش النور» لحسن تقع عليك القنابل والصواريخ!
- ربك عنده الستر"
بعد دقائق يغادر الأب الشقة مسرعاً ومنها إلى وسط الحارة، التى خرج منها إلى سوق «السمك القديم» ثم حارة «مدورة» ومنها إلى «زاوية خطاب» فى سرعة ملحوظة يجرى فى الشوارع حتى وجد أجزخانة مفتوحة لم تطفأ أنوارها، ولم تُغلق أبوابها، ومنها عاد بالدواء لطفلته الباكية، الشاكية حتى تستطيع النوم بعد ليلة قضتها فى صراخ متواصل لم ينقطع!
هذه الطفلة فيما بعد هى الفنانة زينات صدقى التى أسعدتنا بفنها البسيط، وملامحها المصرية المريحة، وتعبيراتها الشعبية الصريحة «يختى كتاكيتو بنى/ إنسان الغاب طويل الناب/ عدلها من عندك يارب/ يا أختى عليا وعلى جمالى».. وغيرها من أفيهاتها وكلماتها الشهيرة، وكذلك فطرتها الجميلة، ومشاعرها الإنسانية الصادقة، وضحكتها البريئة، التى جعلتها تدخل دون مشقة أو عناء إلى قلوب عشاق فنها من أوسع الأبواب!
***
"العشق زين/ بس الهموم سباقة
والشوق حديد/ بس الغيوم خناقه
والانتظار للوعد/ نار حراقة"
(القاهرة - 1978)
«بس يا بت يا سنيه.. أدى حكايتى من أيام الحرب العالمية الأولى لحد النهارده» قالتها وهى تضحك فيما كانت «سنية سعد سودان» ابنة شقيقتها تجلس بجوارها فى شقتها رقم 7 الكائنة بالدور 4 بشارع جلال المتفرع من شارع عماد الدين بوسط القاهرة. «سنية» الآن تجهز لها وجبة الإفطار المصحوب بالدواء الذى تقاوم به الالتهاب الرئوى الذى أصابها منذ فترة ويتسبب - بين فترة وأخرى - فى تجمع مياه كثيرة على الرئة. بعد دقائق قالت لها: «بس يا خالتى.. جدى مات وانتِ لسه صغيرة.. مش كده برضه؟!»، ردت: «كان عمرى 13 سنة عندما مات أبى.. وتركنا بدون أى شىء كحال أغلب الأسر المصرية فى ذلك العصر البعيد ثم تولى عمى أمور حياتنا واستطاع - ولو بقدر بسيط - تصريف أمورنا الحياتية والمعيشية، رغم ظروفه المادية الصعبة، وكنت من قبل وفاة أبى تركت الدراسة فى المرحلة الإلزامية (كانت فى مدرسة داخلية) بسبب الفقر بعدما نجحت فى تعلم القراءة والكتابة «يعنى بقيت أفك الخط كويس»!. بعد عام تقريباً قرر عمى زواجى من طبيب قريب لنا.. وكنت وقتها صغيرة وليس لى حق الاعتراض أو الرفض. فى هذه السن المبكرة بدأت أشعر بحبى للغناء والتمثيل والتقليد والرقص بين بنات العائلة، وكان بينهم من استحسن صوتى، ورقصى، وتمثيلى، وشجعنى على ذلك خاصة أمى الله يرحمها. ومنهم من رفضه، ورفضنى، واعتبرنى عارا، ودمارا، وبنت يجب «ضربها بالنار»! لكن فى النهاية تزوجت طبقا لرغبة عمى إلا أن الزواج لم يستمر سوى 11 شهراً بالتمام والكمال.. وحدث بعدها الطلاق لاختلاف طبعى عن طبعه، وعقلى عن عقله. فأنا أحب الضحك والفرفشة، وهو يحب الغم والهم. أنا أحب الغناء والفن والحياة وهو يحب الشقاء والبؤس والمرض.. دكتور.. بقى! «تقولها وهى تضحك بصوت مرتفع »! بعد شهور من الطلاق تعرفت على فتاة اسمها خيرية صدقى وأصبحت صديقة مقربة منى جداً، وكانت مثلى تحب التمثيل وانضمت معى إلى فرقة كان اسمها «فرقة جمعية أنصار التمثيل» أنشأها فى الإسكندرية الراحل زكى طليمات وبعد فترة عرضت علىّ السفر إلى القاهرة للغناء فى الأفراح والليالى الملاح.. وبالفعل فعلنا ذلك لكن عندما لم ننجح - أو بمعنى أدق - لم أتجاوب أنا مع هذا اللون من الفن قررنا السفر إلى بلاد الشام للعمل فى الفرق المسرحية هناك، والتحقنا بالعمل فى بعض الفرق المسرحية الصغيرة فى لبنان، لكن عندما لم نأخذ فرصتنا عدنا إلى القاهرة مرة أخرى وانضممنا إلى فرقة كان صاحبها ممثلا اسمه مختار عثمان وبعدها قدمت دورى الأول على المسرح وكان عبارة عن مشهد فى دير أمام صديقتى خيرية صدقى!
***
«يا شمس مليون شتا/ انزاحوا برجوعك
ومهما طال الضنا/ راح يجرفه شيوعك
وأنا ف انتظار انبهار/ الدنيا بطلوعك»
«القاهرة 1934»
على خشبة المسرح تقف الآن الفنانة الشابة زينب قبل أن يتغير اسمها إلى زينات أمام زميلتها خيرية لأداء أول أعمالهما المسرحية معاً.
عند الساعة التاسعة بالضبط رُفع الستار عن صوت طرقات على الباب وهما يجلسان معاً وكانت ستقول حسب النص زميلتها خيرية لها:
ـ «انظرى من الطارق»؟ وكان من المفروض أن ترد زينات صدقى عليها قائلة: «سمعا وطاعة»! لكنها غيرت النص من الفصحى إلى العامية قائلة:" يا ختى ما تسيب الطارق يخبط شوية هيجرى إيه يعنى؟!
ردت زميلتها خائفة بصوت هامس: يخرب عقلك دلوقتى مدير الفرقة يزعل!
ـ ما يزعل ولّا ينفلق حتى!
ـ يا بت بعدين يضربك؟!
ـ يضربنى؟! والله.. أنا كنت دشدشت دماغه! وانفجرت قاعة العرض بالضحك الهستيرى من هذا الفاصل الكوميدى الذى لا أصل له فى المسرحية. ونزل الستار، وجنّ جنون مدير الفرقة فقام على الفور بفصلها هى وصديقتها وطردهما من المسرح ومن الفرقة إلى غير رجعة!
***
«وهبت عمرى للأمل
ولا جاشى
وغمرت غيطى
بالعرق ما عطاشى
ورعيت لمحبوبى
هواه ما رعاشى»
(القاهرة 1978)
بجوار الشرفة مازالت تجلس زينات صدقى تنظر إلى المارة فى الشارع غير أن نظرها وهن بعض الشىء، وجسدها ضعف ولم يعد قادراً على حملها للوقف فى البلكونة كما كانت تفعل قبل سنوات. الرئة كل يوم يشتد المرض فيها مما جعلها تتنفس بصعوبة ولا تتحسن حالتها إلا بأخذ جرعات العلاج اليومية المعتادة. «سنية» ابنة شقيقتها المقيمة معها جاءت لها الآن بجرعة الدواء. وهى عادت إلى جلستها وسط الصالة أمام جهاز التليفزيون. بعد دقائق من الصمت سألتها سنية: «قولى لى بقى يا خالتى.. أنت تعرفت على نجيب بيه الريحانى إزاى؟» ردت: «بعدما تم فصلى أنا وخيرية من الفرقة جلسنا بلا عمل عدة شهور ثم التحقنا بفرقة بديعة مصابنى ثم تركنا العمل بها أو بمعنى أدق.. الفرقة هى التى تركتنا! وذات يوم قالت لى خيرية تعالى نذهب لزيارة مطرب قريب لى يعمل فى فرقة نجيب بيه الريحانى. وبالفعل ذهبنا إلى هناك وانتظرنا هذا المطرب - كان اسمه إبراهيم فوزى وتزوجته بعد ذلك - لمدة ساعة فى الكواليس. من بعيد لمحنى نجيب الريحانى فاقترب منى وهو يمر بين العاملين، فتسمرت فى مكانى.. بعد لحظات اقترب منى قائلاً: «انت جاية تمثلى يا شاطرة؟ قلت بدون تفكير: طبعاً.. يا أستاذ! قال: «اسمك إيه»؟ قلت: «زينب محمد» نظر لى وإلى صديقتى الواقفة بجوارى وسألها عن اسمها فقالت: «خيرية صدقى» امتعض وجهه ثم سكت برهة وأشار علىّ قائلاً: «أنت اللى تنفعى فى التمثيل.. واسمك الفنى من الآن سيكون زينات صدقى» قالها وهو ينظر إلى صديقتى فى ضجر بعدما أضاف اسمها إلى اسمى الذى غيره من زينب إلى زينات. ومنذ ذلك اليوم التحقت بفرقته التى عملت فيها حتى رحيله ثم انتقلت للعمل مع إسماعيل ياسين فى فرقته التى كونها بعد ذلك. بعد فترة صمت قالت بتنهيدة: «الناس لا يعرفون أن حياتى كلها كانت دموعاً.. وأنا لو كتبت سيرة حياتى ستتحول ضحكات الجمهور التى كانوا يضحكونها معى إلى دموع تذرفها عيونهم من أجلى» سألتها سنية: والحب فى حياتك يا خالتى إيه أخباره؟! ردت بنصف ابتسامة قائلة: «إن جيتى للحق مفيش فى الدنيا دلوقت حب بالمعنى الصحيح زى حب قيس وليلى.. الحكاية وما فيها أن كلمة احبك حتى بين الزوجين لازم يكون وراها مصلحة»! ثم قالت وهى تقاوم دمعة تتأجج بين عينيها: «أنا تزوجت ثلاث مرات.. من طبيب، وضابط، ومطرب، ومعهم جميعاَ لم أجد الحب ولا الراحة ولا السعادة ولا الهدوء ولا التفاهم.. يبقى فين الحب بقى؟ أنا قضيت عمرى كله فى كفاح مستمر.. تعبت كثيراً.. وتألمت كثيراً.. وبذلت كثيرًا من العرق والدموع»!
***
«وأنا جيت أشيل حمل قلبى
التقيته كتير
وحدفت من برجى خُرجى
اتفرش عصافير»
(القاهرة - 1966)
بعد رحيل نجيب الريحانى وعبدالفتاح القصرى وإسماعيل ياسين ابتعدت زينات صدقى عن الوسط الفنى برمته، وعاشت لمدة 16 سنة تقريباً فى شقتها تنتظر بعض الأدوار البسيطة وحتى هذه الأدوار لم تأت كثيراً ولم تستمر طويلاً، الأمر الذى دفع الكاتب الصحفى جليل البندارى لكتابة مقال فى صحيفة «الأخبار» عام 1966 طالب فيه بضرورة إخراج زينات صدقى من عزلتها، وإشراكها فى أعمال فنية حتى تستطيع مجابهة الحياة وأعبائها المعيشية الصعبة، وإلا فإن هذه العزلة - إذا ما استمرت - ستدفعها الظروف إلى بيع عفش شقتها! «جليل البندارى فى مقاله حذر فقط، ولم يقل إنها باعت أثاث شقتها كما هو متداول وشائع بالخطأ» ثم جاء عام 1970 الذى قررت فيه السفر للعمل فى بيروت مع ممثل اسمه حسين المليجى وكان الاتفاق على إنتاج مسلسل درامى يتم بيعه بعد ذلك، ولكن العمل لم يتم وفشل المشروع مما جعلها تواجه ظروفا مادية صعبة فى بيروت، وفشلت فى دفع حساب الفندق الذى نزلت فيها، وتدخلت بعض الشخصيات التى علمت بالأمر وقتها وتم حل الأزمة وعادت حزينة للقاهرة.
***
«نزل عليا الصقيع
لملمت أطرافى
يا شمس نورك بديع
لكنه مش كافى»
«القاهرة - 1971»
بعد عودتها من لبنان انعزلت تماماَ عن الوسط الفنى الأمر الذى جعل الكاتب أنيس منصور يكتب مقالاً طلب فيه من بدر الدين أبو غازى وكان وزيراَ للثقافة (أقاله السادات من الوزارة بعد شهور قليلة لعدم تجاوبه مع اقتراح عُرض عليه بنقل متحف محمود مختار من مكانه إلى مكان آخر حتى يستطيع الرئيس السادات ضم المبنى لمنزله الملاصق له من ناحية النيل، ولما رفض خرج من الوزارة) طلب أنيس منصور فى مقاله من أبو غازى إدراج اسم زينات صدقى فى أسماء الفنانين الذين يستحقون معاشاً استثنائياً وبالفعل حدث، واستحقت هذا المعاش «كان قدره 100 جنيه شهرياً» وعاشت به مستورة وميسورة الحال حتى رحيلها، هذا بخلاف مبلغ 1000 جنيه حصلت عليه من تكريمها فى أول عيد للفن أقيم فى 8 أكتوبر عام 1976 عندما طلب الرئيس السادات بنفسه من الدكتور رشاد رشدى رئيس أكاديمية الفنون وضع اسمها بين أسماء المكرمين بعدما لفت نظره - وهو يراجع الأسماء - عدم وجوده بين الأسماء المطروحة. وكان ذلك قبل ساعات قليلة من إقامة الحفل.
***
«حلمت أن المدينة خالية
م الجمهور
شبرا فى صمت المقابر
والحسين مهجور»
(القاهرة - 1978)
الساعة اقتربت من العاشرة من مساءً تلك الليلة وسنينة مازالت تجلس بجوارها فى صمت لم يقطعه سوى الحديث عن مجدها الغابر، وقلبها الصابر. وهى - بسعادة واضحة على ملامحها - مازالت تسترجع الذكريات وتتذكر حكايات أيامها «الحلوة» وكأنها شريط سينمائى يمر أمامها. قالت سنية وهى تتثاءب: «وكيف عرف الرئيس السادات أنك تستحقين المعاش»؟ ردت: «أهل الخير كتير والحقيقة بالمعاش ده وجائزة الـ1000 جنيه استطعت تسديد ديونى المتلتلة» ثم بعد فترة صمت قالت: «فى الحفل قال لى الريس إزيك.. وإزى صحتك.. أنا فنان.. وبحب الفنانين.. وإنشاء الله أشوف لك نشاط جديد( قالها وضحكنا معاً)»!
***
"صرخت من عزم ما بى
والصرخة مفزوعة
بهتان قانون السبق
والخلق مخدوعة"
«أكاديمية الفنون - 1976»
كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة من مساء ليلة 7 أكتوبر من ذلك العام عندما عاد الدكتور رشاد رشدى إلى مكتبه بعد لقاء الرئيس الذى طلب فيه ضم اسم زينات صدقى إلى المكرمين فى أول عيد للفن. لكن أين تعيش زينات صدقى الآن لإبلاغها بأمر تكريمها غداَ؟. بعد ساعة من البحث والسؤال استطاع قسم الفن بصحيفة أخبار اليوم الوصول إلى بيتها، وتم تكليف الصحفى الشاب وقتها (مجدى عبد العزيز ) بالذهاب إليها وأبلغها بالأمر الرئاسى العاجل. وبالفعل نجح فى الوصول إليها فى ساعة متأخرة من الليل. قالت له: "سأذهب بما لدى من ملابس عادية يا مجدى"! إلا أنه - فى لفتة طيبة منه - عرض عليها «خاصة وهذا تكريم من رئيس الجمهورية» أن تتكفل صحيفة أخبار اليوم بشراء ملابس جديدة لها تليق بالحدث، لكنها - بعزة نفس معروفة عنها - رفضت بشدة وشكرت له ذلك العرض الطيب، وأصرت على الذهاب بما لديها من ملابس عادية.. وقد كان! فى الحفل احتفى بها الرئيس السادات جداً حتى أنه وجّه لها الدعوة لحضور زفاف إحدى بناته بعد ذلك بشهور قليلة.
***
"لو كل شىء فى عمرنا
يتحسم
تمام.. كما بالمسطرة
يترسم
ما كانش ضهرى م الحمول يتقسم"
(القاهرة - 1978)
قبل أن تغادر سنية مكانها متجهة إلى غرفة نومها بدأت تشعر بتدهور حاد ظهر على جسد خالتها التى انهارت صحتها تماماً فى الشهور الثلاثة الأخيرة. بعد لحظات اقتربت منها قليلاً.. فوجدتها تسند رأسها للمرة الأخيرة إلى المسند خلفها قبل أن تدخل فى غيبوبة الموت.. وفى وقت متأخر من ليلة 2 مارس من ذلك العام حدث لها هبوط حاد، وتوقف القلب تماماً بصورة مفاجئة، لتسلم الروح إلى خالقها فى هدوء. وترحل فى هدوء.. مثلما عاشت فى هدوء! بعدما قضت عمرها كله فى كفاح مستمر .. أضحكتنا فيه كثيرًا.. وأسعدتنا فيه كثيراَ؛ رغم أنها -حسبما قالت-:«تألمت فيه كثيراً.. وبكت فيه كثيراً»!!
لتبقى السيرة.. وتستمر المسيرة.
خيرى حسن
•• الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال الكاتب.
•• البورتريه للفنان: سامى أمين.
•• الشعر المصاحب للكتابة للشاعر الراحل فؤاد قاعود.
•• ينُشر غداَ الخميس 3 مارس/ 2022 فى صحيفة الوفد( العدد الإسبوعى)
•• المصادر:
الصحف:
الأخبار/ أخبار اليوم/ الجمهورية/ الأهرام.
المجلات:
الإذاعة والتليفزيون/ صباح الخير/ آخر ساعة.
والوقت ضلام
والناس قاعدين جوه بيوتهم
ولا حدش نام»
(الإسكندرية - 1914)
الحارة / كانت حارة مصرية، صغيرة، هادئة داخل حى الجمرك بتلك المدينة الساحلية الجميلة. والوقت كان شهر نوفمبر/ تشرين الثانى عام 1914. والساعة كانت الواحدة بعد منتصف الليل عندما بدأت أخبار نشوب الحرب العالمية الأولى تتسرب خلف جدران البيوت، والشوارع، والحوارى، بعدما أعلنت دول الحلفاء (فرنسا وبريطانيا وروسيا وأمريكا) ـ خوض معارك ضارية ضد دول المركز (المانيا والنمسا وبلغاريا والدولة العثمانية) فى حرب وصفت وقتها «بالحرب التى ستنهى كل الحروب»! -أصدقاء الأمس أعداء اليوم - ورغم مرور ما يقرب من 108 سنوات على ذلك القول الكاذب، مازال تجار السلاح والموت فى العالم من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، يكررون علينا - وهم بالطبع كاذبون - فى الصباح وفى المساء نفس الهتافات والشعارات والكلام والأوهام، ورغم ذلك وبعد كل ذلك - وقبل كل ذلك - لا الحروب توقفت ولا السلام دام!
ومازالت الحارة -أى حارة - فى العالم «تعيش فى ضلام»! وما زالت الناس -أى ناس - فى العالم جالسة «جوه بيتهم/ ولا حدش نام»!
وعندما نعود إلى تلك الليلة من ذلك العام الحزين، فإننا نجد منزل أسرة محمد أفندى سعد العامل البسيط فى الميناء وقد انقلب ليلها الهادئ إلى ضجيج، ونهارها السعيد إلى عتمة وضيق، بعدما ارتفع بين جدران شقته المتواضعة صراخ طفلته الصغيرة اسمها زينب وكان عمرها 24 شهراً تقريباً وارتفعت وتيرة صراخها من شدة الألم المصاحب لها منذ مساء تلك الليلة الحزينة. الأم بهدوء تحملها على كتفها جيئة ذهاباً. والأب صامت، شارد، متوتر، لا يعرف ماذا يفعل! لكنه بعد دقائق يقرر النزول للبحث عن دواء للطفلة التى مازالت تبكى بشدة ومرارة!
- "الدنيا ضلام يا سى محمد.. هتروح فين دلوقتى يا خويا»؟
- يعنى أسيب البنت تموت يا وليه؟
- طيب امشى فى الضلمة! «وبلاش النور» لحسن تقع عليك القنابل والصواريخ!
- ربك عنده الستر"
بعد دقائق يغادر الأب الشقة مسرعاً ومنها إلى وسط الحارة، التى خرج منها إلى سوق «السمك القديم» ثم حارة «مدورة» ومنها إلى «زاوية خطاب» فى سرعة ملحوظة يجرى فى الشوارع حتى وجد أجزخانة مفتوحة لم تطفأ أنوارها، ولم تُغلق أبوابها، ومنها عاد بالدواء لطفلته الباكية، الشاكية حتى تستطيع النوم بعد ليلة قضتها فى صراخ متواصل لم ينقطع!
هذه الطفلة فيما بعد هى الفنانة زينات صدقى التى أسعدتنا بفنها البسيط، وملامحها المصرية المريحة، وتعبيراتها الشعبية الصريحة «يختى كتاكيتو بنى/ إنسان الغاب طويل الناب/ عدلها من عندك يارب/ يا أختى عليا وعلى جمالى».. وغيرها من أفيهاتها وكلماتها الشهيرة، وكذلك فطرتها الجميلة، ومشاعرها الإنسانية الصادقة، وضحكتها البريئة، التى جعلتها تدخل دون مشقة أو عناء إلى قلوب عشاق فنها من أوسع الأبواب!
***
"العشق زين/ بس الهموم سباقة
والشوق حديد/ بس الغيوم خناقه
والانتظار للوعد/ نار حراقة"
(القاهرة - 1978)
«بس يا بت يا سنيه.. أدى حكايتى من أيام الحرب العالمية الأولى لحد النهارده» قالتها وهى تضحك فيما كانت «سنية سعد سودان» ابنة شقيقتها تجلس بجوارها فى شقتها رقم 7 الكائنة بالدور 4 بشارع جلال المتفرع من شارع عماد الدين بوسط القاهرة. «سنية» الآن تجهز لها وجبة الإفطار المصحوب بالدواء الذى تقاوم به الالتهاب الرئوى الذى أصابها منذ فترة ويتسبب - بين فترة وأخرى - فى تجمع مياه كثيرة على الرئة. بعد دقائق قالت لها: «بس يا خالتى.. جدى مات وانتِ لسه صغيرة.. مش كده برضه؟!»، ردت: «كان عمرى 13 سنة عندما مات أبى.. وتركنا بدون أى شىء كحال أغلب الأسر المصرية فى ذلك العصر البعيد ثم تولى عمى أمور حياتنا واستطاع - ولو بقدر بسيط - تصريف أمورنا الحياتية والمعيشية، رغم ظروفه المادية الصعبة، وكنت من قبل وفاة أبى تركت الدراسة فى المرحلة الإلزامية (كانت فى مدرسة داخلية) بسبب الفقر بعدما نجحت فى تعلم القراءة والكتابة «يعنى بقيت أفك الخط كويس»!. بعد عام تقريباً قرر عمى زواجى من طبيب قريب لنا.. وكنت وقتها صغيرة وليس لى حق الاعتراض أو الرفض. فى هذه السن المبكرة بدأت أشعر بحبى للغناء والتمثيل والتقليد والرقص بين بنات العائلة، وكان بينهم من استحسن صوتى، ورقصى، وتمثيلى، وشجعنى على ذلك خاصة أمى الله يرحمها. ومنهم من رفضه، ورفضنى، واعتبرنى عارا، ودمارا، وبنت يجب «ضربها بالنار»! لكن فى النهاية تزوجت طبقا لرغبة عمى إلا أن الزواج لم يستمر سوى 11 شهراً بالتمام والكمال.. وحدث بعدها الطلاق لاختلاف طبعى عن طبعه، وعقلى عن عقله. فأنا أحب الضحك والفرفشة، وهو يحب الغم والهم. أنا أحب الغناء والفن والحياة وهو يحب الشقاء والبؤس والمرض.. دكتور.. بقى! «تقولها وهى تضحك بصوت مرتفع »! بعد شهور من الطلاق تعرفت على فتاة اسمها خيرية صدقى وأصبحت صديقة مقربة منى جداً، وكانت مثلى تحب التمثيل وانضمت معى إلى فرقة كان اسمها «فرقة جمعية أنصار التمثيل» أنشأها فى الإسكندرية الراحل زكى طليمات وبعد فترة عرضت علىّ السفر إلى القاهرة للغناء فى الأفراح والليالى الملاح.. وبالفعل فعلنا ذلك لكن عندما لم ننجح - أو بمعنى أدق - لم أتجاوب أنا مع هذا اللون من الفن قررنا السفر إلى بلاد الشام للعمل فى الفرق المسرحية هناك، والتحقنا بالعمل فى بعض الفرق المسرحية الصغيرة فى لبنان، لكن عندما لم نأخذ فرصتنا عدنا إلى القاهرة مرة أخرى وانضممنا إلى فرقة كان صاحبها ممثلا اسمه مختار عثمان وبعدها قدمت دورى الأول على المسرح وكان عبارة عن مشهد فى دير أمام صديقتى خيرية صدقى!
***
«يا شمس مليون شتا/ انزاحوا برجوعك
ومهما طال الضنا/ راح يجرفه شيوعك
وأنا ف انتظار انبهار/ الدنيا بطلوعك»
«القاهرة 1934»
على خشبة المسرح تقف الآن الفنانة الشابة زينب قبل أن يتغير اسمها إلى زينات أمام زميلتها خيرية لأداء أول أعمالهما المسرحية معاً.
عند الساعة التاسعة بالضبط رُفع الستار عن صوت طرقات على الباب وهما يجلسان معاً وكانت ستقول حسب النص زميلتها خيرية لها:
ـ «انظرى من الطارق»؟ وكان من المفروض أن ترد زينات صدقى عليها قائلة: «سمعا وطاعة»! لكنها غيرت النص من الفصحى إلى العامية قائلة:" يا ختى ما تسيب الطارق يخبط شوية هيجرى إيه يعنى؟!
ردت زميلتها خائفة بصوت هامس: يخرب عقلك دلوقتى مدير الفرقة يزعل!
ـ ما يزعل ولّا ينفلق حتى!
ـ يا بت بعدين يضربك؟!
ـ يضربنى؟! والله.. أنا كنت دشدشت دماغه! وانفجرت قاعة العرض بالضحك الهستيرى من هذا الفاصل الكوميدى الذى لا أصل له فى المسرحية. ونزل الستار، وجنّ جنون مدير الفرقة فقام على الفور بفصلها هى وصديقتها وطردهما من المسرح ومن الفرقة إلى غير رجعة!
***
«وهبت عمرى للأمل
ولا جاشى
وغمرت غيطى
بالعرق ما عطاشى
ورعيت لمحبوبى
هواه ما رعاشى»
(القاهرة 1978)
بجوار الشرفة مازالت تجلس زينات صدقى تنظر إلى المارة فى الشارع غير أن نظرها وهن بعض الشىء، وجسدها ضعف ولم يعد قادراً على حملها للوقف فى البلكونة كما كانت تفعل قبل سنوات. الرئة كل يوم يشتد المرض فيها مما جعلها تتنفس بصعوبة ولا تتحسن حالتها إلا بأخذ جرعات العلاج اليومية المعتادة. «سنية» ابنة شقيقتها المقيمة معها جاءت لها الآن بجرعة الدواء. وهى عادت إلى جلستها وسط الصالة أمام جهاز التليفزيون. بعد دقائق من الصمت سألتها سنية: «قولى لى بقى يا خالتى.. أنت تعرفت على نجيب بيه الريحانى إزاى؟» ردت: «بعدما تم فصلى أنا وخيرية من الفرقة جلسنا بلا عمل عدة شهور ثم التحقنا بفرقة بديعة مصابنى ثم تركنا العمل بها أو بمعنى أدق.. الفرقة هى التى تركتنا! وذات يوم قالت لى خيرية تعالى نذهب لزيارة مطرب قريب لى يعمل فى فرقة نجيب بيه الريحانى. وبالفعل ذهبنا إلى هناك وانتظرنا هذا المطرب - كان اسمه إبراهيم فوزى وتزوجته بعد ذلك - لمدة ساعة فى الكواليس. من بعيد لمحنى نجيب الريحانى فاقترب منى وهو يمر بين العاملين، فتسمرت فى مكانى.. بعد لحظات اقترب منى قائلاً: «انت جاية تمثلى يا شاطرة؟ قلت بدون تفكير: طبعاً.. يا أستاذ! قال: «اسمك إيه»؟ قلت: «زينب محمد» نظر لى وإلى صديقتى الواقفة بجوارى وسألها عن اسمها فقالت: «خيرية صدقى» امتعض وجهه ثم سكت برهة وأشار علىّ قائلاً: «أنت اللى تنفعى فى التمثيل.. واسمك الفنى من الآن سيكون زينات صدقى» قالها وهو ينظر إلى صديقتى فى ضجر بعدما أضاف اسمها إلى اسمى الذى غيره من زينب إلى زينات. ومنذ ذلك اليوم التحقت بفرقته التى عملت فيها حتى رحيله ثم انتقلت للعمل مع إسماعيل ياسين فى فرقته التى كونها بعد ذلك. بعد فترة صمت قالت بتنهيدة: «الناس لا يعرفون أن حياتى كلها كانت دموعاً.. وأنا لو كتبت سيرة حياتى ستتحول ضحكات الجمهور التى كانوا يضحكونها معى إلى دموع تذرفها عيونهم من أجلى» سألتها سنية: والحب فى حياتك يا خالتى إيه أخباره؟! ردت بنصف ابتسامة قائلة: «إن جيتى للحق مفيش فى الدنيا دلوقت حب بالمعنى الصحيح زى حب قيس وليلى.. الحكاية وما فيها أن كلمة احبك حتى بين الزوجين لازم يكون وراها مصلحة»! ثم قالت وهى تقاوم دمعة تتأجج بين عينيها: «أنا تزوجت ثلاث مرات.. من طبيب، وضابط، ومطرب، ومعهم جميعاَ لم أجد الحب ولا الراحة ولا السعادة ولا الهدوء ولا التفاهم.. يبقى فين الحب بقى؟ أنا قضيت عمرى كله فى كفاح مستمر.. تعبت كثيراً.. وتألمت كثيراً.. وبذلت كثيرًا من العرق والدموع»!
***
«وأنا جيت أشيل حمل قلبى
التقيته كتير
وحدفت من برجى خُرجى
اتفرش عصافير»
(القاهرة - 1966)
بعد رحيل نجيب الريحانى وعبدالفتاح القصرى وإسماعيل ياسين ابتعدت زينات صدقى عن الوسط الفنى برمته، وعاشت لمدة 16 سنة تقريباً فى شقتها تنتظر بعض الأدوار البسيطة وحتى هذه الأدوار لم تأت كثيراً ولم تستمر طويلاً، الأمر الذى دفع الكاتب الصحفى جليل البندارى لكتابة مقال فى صحيفة «الأخبار» عام 1966 طالب فيه بضرورة إخراج زينات صدقى من عزلتها، وإشراكها فى أعمال فنية حتى تستطيع مجابهة الحياة وأعبائها المعيشية الصعبة، وإلا فإن هذه العزلة - إذا ما استمرت - ستدفعها الظروف إلى بيع عفش شقتها! «جليل البندارى فى مقاله حذر فقط، ولم يقل إنها باعت أثاث شقتها كما هو متداول وشائع بالخطأ» ثم جاء عام 1970 الذى قررت فيه السفر للعمل فى بيروت مع ممثل اسمه حسين المليجى وكان الاتفاق على إنتاج مسلسل درامى يتم بيعه بعد ذلك، ولكن العمل لم يتم وفشل المشروع مما جعلها تواجه ظروفا مادية صعبة فى بيروت، وفشلت فى دفع حساب الفندق الذى نزلت فيها، وتدخلت بعض الشخصيات التى علمت بالأمر وقتها وتم حل الأزمة وعادت حزينة للقاهرة.
***
«نزل عليا الصقيع
لملمت أطرافى
يا شمس نورك بديع
لكنه مش كافى»
«القاهرة - 1971»
بعد عودتها من لبنان انعزلت تماماَ عن الوسط الفنى الأمر الذى جعل الكاتب أنيس منصور يكتب مقالاً طلب فيه من بدر الدين أبو غازى وكان وزيراَ للثقافة (أقاله السادات من الوزارة بعد شهور قليلة لعدم تجاوبه مع اقتراح عُرض عليه بنقل متحف محمود مختار من مكانه إلى مكان آخر حتى يستطيع الرئيس السادات ضم المبنى لمنزله الملاصق له من ناحية النيل، ولما رفض خرج من الوزارة) طلب أنيس منصور فى مقاله من أبو غازى إدراج اسم زينات صدقى فى أسماء الفنانين الذين يستحقون معاشاً استثنائياً وبالفعل حدث، واستحقت هذا المعاش «كان قدره 100 جنيه شهرياً» وعاشت به مستورة وميسورة الحال حتى رحيلها، هذا بخلاف مبلغ 1000 جنيه حصلت عليه من تكريمها فى أول عيد للفن أقيم فى 8 أكتوبر عام 1976 عندما طلب الرئيس السادات بنفسه من الدكتور رشاد رشدى رئيس أكاديمية الفنون وضع اسمها بين أسماء المكرمين بعدما لفت نظره - وهو يراجع الأسماء - عدم وجوده بين الأسماء المطروحة. وكان ذلك قبل ساعات قليلة من إقامة الحفل.
***
«حلمت أن المدينة خالية
م الجمهور
شبرا فى صمت المقابر
والحسين مهجور»
(القاهرة - 1978)
الساعة اقتربت من العاشرة من مساءً تلك الليلة وسنينة مازالت تجلس بجوارها فى صمت لم يقطعه سوى الحديث عن مجدها الغابر، وقلبها الصابر. وهى - بسعادة واضحة على ملامحها - مازالت تسترجع الذكريات وتتذكر حكايات أيامها «الحلوة» وكأنها شريط سينمائى يمر أمامها. قالت سنية وهى تتثاءب: «وكيف عرف الرئيس السادات أنك تستحقين المعاش»؟ ردت: «أهل الخير كتير والحقيقة بالمعاش ده وجائزة الـ1000 جنيه استطعت تسديد ديونى المتلتلة» ثم بعد فترة صمت قالت: «فى الحفل قال لى الريس إزيك.. وإزى صحتك.. أنا فنان.. وبحب الفنانين.. وإنشاء الله أشوف لك نشاط جديد( قالها وضحكنا معاً)»!
***
"صرخت من عزم ما بى
والصرخة مفزوعة
بهتان قانون السبق
والخلق مخدوعة"
«أكاديمية الفنون - 1976»
كانت الساعة قد اقتربت من الثامنة من مساء ليلة 7 أكتوبر من ذلك العام عندما عاد الدكتور رشاد رشدى إلى مكتبه بعد لقاء الرئيس الذى طلب فيه ضم اسم زينات صدقى إلى المكرمين فى أول عيد للفن. لكن أين تعيش زينات صدقى الآن لإبلاغها بأمر تكريمها غداَ؟. بعد ساعة من البحث والسؤال استطاع قسم الفن بصحيفة أخبار اليوم الوصول إلى بيتها، وتم تكليف الصحفى الشاب وقتها (مجدى عبد العزيز ) بالذهاب إليها وأبلغها بالأمر الرئاسى العاجل. وبالفعل نجح فى الوصول إليها فى ساعة متأخرة من الليل. قالت له: "سأذهب بما لدى من ملابس عادية يا مجدى"! إلا أنه - فى لفتة طيبة منه - عرض عليها «خاصة وهذا تكريم من رئيس الجمهورية» أن تتكفل صحيفة أخبار اليوم بشراء ملابس جديدة لها تليق بالحدث، لكنها - بعزة نفس معروفة عنها - رفضت بشدة وشكرت له ذلك العرض الطيب، وأصرت على الذهاب بما لديها من ملابس عادية.. وقد كان! فى الحفل احتفى بها الرئيس السادات جداً حتى أنه وجّه لها الدعوة لحضور زفاف إحدى بناته بعد ذلك بشهور قليلة.
***
"لو كل شىء فى عمرنا
يتحسم
تمام.. كما بالمسطرة
يترسم
ما كانش ضهرى م الحمول يتقسم"
(القاهرة - 1978)
قبل أن تغادر سنية مكانها متجهة إلى غرفة نومها بدأت تشعر بتدهور حاد ظهر على جسد خالتها التى انهارت صحتها تماماً فى الشهور الثلاثة الأخيرة. بعد لحظات اقتربت منها قليلاً.. فوجدتها تسند رأسها للمرة الأخيرة إلى المسند خلفها قبل أن تدخل فى غيبوبة الموت.. وفى وقت متأخر من ليلة 2 مارس من ذلك العام حدث لها هبوط حاد، وتوقف القلب تماماً بصورة مفاجئة، لتسلم الروح إلى خالقها فى هدوء. وترحل فى هدوء.. مثلما عاشت فى هدوء! بعدما قضت عمرها كله فى كفاح مستمر .. أضحكتنا فيه كثيرًا.. وأسعدتنا فيه كثيراَ؛ رغم أنها -حسبما قالت-:«تألمت فيه كثيراً.. وبكت فيه كثيراً»!!
لتبقى السيرة.. وتستمر المسيرة.
خيرى حسن
•• الأحداث حقيقية.. والسيناريو من خيال الكاتب.
•• البورتريه للفنان: سامى أمين.
•• الشعر المصاحب للكتابة للشاعر الراحل فؤاد قاعود.
•• ينُشر غداَ الخميس 3 مارس/ 2022 فى صحيفة الوفد( العدد الإسبوعى)
•• المصادر:
الصحف:
الأخبار/ أخبار اليوم/ الجمهورية/ الأهرام.
المجلات:
الإذاعة والتليفزيون/ صباح الخير/ آخر ساعة.
Войдите на Facebook
Войдите на Facebook, чтобы общаться с друзьями, родственниками и знакомыми.
www.facebook.com