كنت عائداً من " حيفان([1]) " بعد أن قضيت فيها يومين في شريعة عند الحاكم. وكالعادة لم أخرج بنتيجة، فالشريعة ستسمر ولن تحل مطلقاً.
كان المساء يقترب وأنا أسير وحيداً تقتلني آلاف الهموم بعد أن مضغت اليوم ما يزيد عن ربطتين من " قات شراري " وتتفجر في نفسي ثورات لا تنتهي .. ومع أنني عادة لا أحب السير في المساء وحيداً ولمسافات طويلة إلا أنني اليوم قتلت خوفي وسرت أضرب الطريق بعصاي ومضغات القات لا تزال في فمي وحرارة الاندفاع والحقد وكل ما يولده القات تتصارع في داخلي، ونسمات الليل الرطبة مع خرير الماء.. في الجداول الصغيرة من على سفح الجبل .. ومنظر الوادي من بعيد يولد في نفسي ألحاناً صغيرة .. حزينة وثائرة.
- يا خبير .. يا خبير.
والتفت وأنا ألعن هذا الصوت، وشعرت بارتجافة خفيفة حين رأيت صاحب الصوت بمئزره القصير وبندقيته وعينيه المحمرتين مع مضغة القات في فمه وهو يخب بسرعة ليلحق بي بقدميه الحافيتين:
- لافين يا خبير؟
- القبيطة.
أجبته بنفس مكسورة. وشعور داخلي بكراهية شديدة تملأني، فبقدر ما أكره الموت أكره منظر العسكري.
نحنا صحبه ..
ومضيت في الطريق يتبعني العسكري .. وطارت كل الأفكار ولم تبق سوى خطوات العسكري وهي تصفع الأرض بقوة . وجعلت التفت بين الحين والحين أتحقق من شكله ... وبدأ خوف حقيقي يسري في دمي .. إنني أكره العسكر .. وأخاف منهم ولم أسر مع أي منهم .. لكن الحكايات التي تتردد في كل مكان من قرانا عن أعمالهم الوحشية تدفعني إلى الاعتقاد الآن بالذات إلى أن هذا الرجل الذي يسير خلفي قد يقتلني. وما المانع لديه؟ قد يفكر أن لدي الكثير من النقود .. ثم ما الذي يمنعه؟ . لا أحد هنا يرانا فالطريق خال .. ونحن معلقان في منتصف الجبل، وأقرب المنازل إلينا يقع هناك بعيداً في قعر الوادي أو على قمة الجبل، ولديه بندقية بينما لا أملك أنا سوى عصا صغيرة.. وراحت الفكرة تدور في رأسي حتى تخيلت أن الرجل ينزل بندقيته من على كتفيه بل أن صفعات قدميه على الأرض خيلت لي أنه يفتح زناد البندقية... و ... ووقفت على جانبي الطريق كمن يحاول إخراج شوكة دخلت في قدمه وتركته يسبقني، ولكنه توقف بعد خطوات وراح ينظر إلي .. كنت أريده أن يذهب .. لو لم ينتظر..
- ماه .. ما معك إبرة؟
ثم استدرك وهو يحملق في السماء ..
- هي ظلمة .. ما بتقدر تبصر.
ووافقت على كلامه بهزة من الرأس.
ومضى هذه المرة أمامي، وكنت أسمعه يتنهد بعمق ويلفظ أحياناً تأوهات شديدة الألم. وهو يحاول أن يطلق لحناً صنعانياً حزيناً.. لكنه سرعان ما يكتب اللحن لتعود الآهات من جديد..
كان طويلاً فيه رجولة القبيلي، كتفان عريضتان.. يخيل إلي أنه يستطيع حمل الجبل كله عليهما.. وقد حمل البندقية كأنها ريشة ناعمة .. وصوت صفعات قدميه القوية على الأرض تجعلها تئن ألماً.
- ليش ما بتتكلم..؟
- ما تشتهي أقول لك.
كانت لا تزال في نفسي بقايا خوف.
ورأيت اهتزاز رأسه وهو يحشو فمه بمزيد من أغصان القات .. ومن وراء السحب كان ضوء القمر يتسلل بخوف .. وسمعت صوته.. كان عميقاً بسيطاً فيه خشونة لهجة الشمال.
- ماه يا خبير كان معك شريعة؟ الله .. بلاكم أنتم يا أهل الحجرية بالشرائع .. كل من معه بقشتين قام يشارع ...ليش ما تقعدوا زي خلق الله بلا دوشه.. ولا وجع دماغ؟
كان وهو يتكلم يهز رأسه كأنه يفكر في مشكلة صعبة واستمر قائلاً:
- وإلا عد تفتكروا أن معكم عدالة مه؟ .. الحاكم .. والعامل ما ينصفكم .. العدالة قتلوها .. أكلوها أصحاب القروش، وأنتم يا رعوى هاتوا مئة ريال، هاتوا مئتين ريال، تسكبوها لأصحاب الكروش من غير حساب .. يا خلق الله بطونكم خاوية هكذا وإلا لا .. ؟
لم أستطع أن أجيب عليه .. فالشيء الوحيد الذي لم أكن أتوقعه هو أن يتكلم هذا الرجل عن الظلم والشريعة وأصحاب الكروش .. فالذي تعودناه نحن الرعية هو أن نرى العسكر هم بالدرجة الأولى أدوات هذا الظلم، هم الذين ينفذون أوامر الحكام ولا ينسى اليمني كيف كان هؤلاء العسكر يستبدون بالرعية. لكن العسكري لم ينتظر جوابي بل استمر وهو يعصر أوراق القات في فمه..
- اسمع يا خبير أنت رعوي هانا في القبيطة وأنا رعوي في " حاشد([2]) " معي هناك بيت وعائلة، مرة وأولاد ما شاء الله، لكن ما معانا بيس([3]) .. ما معنا أرض .. هاناك المشايخ أخذوا الأرض، واحنا اصبحنا عساكر تدور على رزق على لقمة.. قالوا.. الحجرية فيها ذهب .. جينا هانا أقسم بالله هانا ما في إلا الطمع والنهب والحسد كل رعوي يشتي ينهب صاحبه.. أخوه .. ناهي معكم " بيس ".. لكن ما معكم أمانة.. ما معكم معروف. ما معكم محبة... والله لو قبرت في حاشد كان أحلى .. هاناك جنب المره والأولاد.. شاندور على شغل.. شانجوع لكن ما شنشارع يا ناس والله ما كبرتا الكروش إلا من بيسكم أنت يا الرعية.
وسألته وقد بدأت اقترب منه:
- طيب وأنتم العسكر ليش كمان تنهبو الرعية؟
وتنهد بعمق قائلاً:
- ننهب الرعية؟ ما كل العسكر ينهبوا يا خبير واللي ينهب هانا ما هو أحسن من الحاكم .. أنت يا خبير تعطي الحاكم مئة ريال برضاك وقناعتك والعسكري تعطيه ريال وتقول للعسكر ينهبونا . ما هو كذا؟ العسكري مثل في حاكم ثاني ينهبه في بلاده بالحق أو بالباطل..
ونظر إلى السماء ..
ثم توقف أمامي وأنزل البندقية من على كتفه ونظر إلي:
- قد هو عشاء .. هيا تصلي؟ . تتأمم؟
- لا أحسن تتأمم أنت..
قال وهو يبتسم لي كأننا أصدقاء أعزاء:
- عد تقول أن العسكر يتأمموا بالقوة .. ماه؟ " وضحكنا.
مضينا بعد الصلاة في طريقنا وكان يتحدث عن كل شيء.. عن زوجته التي لم يرها منذ ثلاث سنوات .. عن أطفاله.
- والله يا خبير إنني أشتهي الأولاد يكونوا متعلمين .. ما يكونوا عسكر مثلنا .. من غير علم ، فين المدارس معنا فقيه .. والفقهاء ألعن من الحكام، همهم البيس.. والله وبالله إنهم ما يعرفوا معنى القرآن بس يكذبوا على خلق الله، افسدوا الدنيا يكذبهم.
ومع سيرنا كانت نسمات المساء تهب علينا بحنان وتتماوج أعواد الزرع على الأرض والخبير يتحدث عن حاشد وصنعاء.
وأطلت تحت أقدامنا قريتي وبدون أن أدري كنت أقول له.
المفاليس يا خبير بعيدة والدنيا ليل لازم تبات الليلة عندنا والصبح يفرجها الله.
نظر إلي طويلاً أنا عسكري والعسكر تعرف أن لهم مطالب .. دجاج .. قات .. مداع ..
وأكملت بسرعة:
- وأجرة ماه؟
وضحكنا ونحن ندخل المنزل والعائلة تنظر إلي في حزن وخوف، فالعسكري معي وهذا يعني في نظرهم أن مصيبة قد حدثت.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ) مركز ناحية القبيطة في الجمهورية اليمنية.
[2] ) إحدى قبائل اليمن الشهيرة.
[3] ) نقود.
كان المساء يقترب وأنا أسير وحيداً تقتلني آلاف الهموم بعد أن مضغت اليوم ما يزيد عن ربطتين من " قات شراري " وتتفجر في نفسي ثورات لا تنتهي .. ومع أنني عادة لا أحب السير في المساء وحيداً ولمسافات طويلة إلا أنني اليوم قتلت خوفي وسرت أضرب الطريق بعصاي ومضغات القات لا تزال في فمي وحرارة الاندفاع والحقد وكل ما يولده القات تتصارع في داخلي، ونسمات الليل الرطبة مع خرير الماء.. في الجداول الصغيرة من على سفح الجبل .. ومنظر الوادي من بعيد يولد في نفسي ألحاناً صغيرة .. حزينة وثائرة.
- يا خبير .. يا خبير.
والتفت وأنا ألعن هذا الصوت، وشعرت بارتجافة خفيفة حين رأيت صاحب الصوت بمئزره القصير وبندقيته وعينيه المحمرتين مع مضغة القات في فمه وهو يخب بسرعة ليلحق بي بقدميه الحافيتين:
- لافين يا خبير؟
- القبيطة.
أجبته بنفس مكسورة. وشعور داخلي بكراهية شديدة تملأني، فبقدر ما أكره الموت أكره منظر العسكري.
نحنا صحبه ..
ومضيت في الطريق يتبعني العسكري .. وطارت كل الأفكار ولم تبق سوى خطوات العسكري وهي تصفع الأرض بقوة . وجعلت التفت بين الحين والحين أتحقق من شكله ... وبدأ خوف حقيقي يسري في دمي .. إنني أكره العسكر .. وأخاف منهم ولم أسر مع أي منهم .. لكن الحكايات التي تتردد في كل مكان من قرانا عن أعمالهم الوحشية تدفعني إلى الاعتقاد الآن بالذات إلى أن هذا الرجل الذي يسير خلفي قد يقتلني. وما المانع لديه؟ قد يفكر أن لدي الكثير من النقود .. ثم ما الذي يمنعه؟ . لا أحد هنا يرانا فالطريق خال .. ونحن معلقان في منتصف الجبل، وأقرب المنازل إلينا يقع هناك بعيداً في قعر الوادي أو على قمة الجبل، ولديه بندقية بينما لا أملك أنا سوى عصا صغيرة.. وراحت الفكرة تدور في رأسي حتى تخيلت أن الرجل ينزل بندقيته من على كتفيه بل أن صفعات قدميه على الأرض خيلت لي أنه يفتح زناد البندقية... و ... ووقفت على جانبي الطريق كمن يحاول إخراج شوكة دخلت في قدمه وتركته يسبقني، ولكنه توقف بعد خطوات وراح ينظر إلي .. كنت أريده أن يذهب .. لو لم ينتظر..
- ماه .. ما معك إبرة؟
ثم استدرك وهو يحملق في السماء ..
- هي ظلمة .. ما بتقدر تبصر.
ووافقت على كلامه بهزة من الرأس.
ومضى هذه المرة أمامي، وكنت أسمعه يتنهد بعمق ويلفظ أحياناً تأوهات شديدة الألم. وهو يحاول أن يطلق لحناً صنعانياً حزيناً.. لكنه سرعان ما يكتب اللحن لتعود الآهات من جديد..
كان طويلاً فيه رجولة القبيلي، كتفان عريضتان.. يخيل إلي أنه يستطيع حمل الجبل كله عليهما.. وقد حمل البندقية كأنها ريشة ناعمة .. وصوت صفعات قدميه القوية على الأرض تجعلها تئن ألماً.
- ليش ما بتتكلم..؟
- ما تشتهي أقول لك.
كانت لا تزال في نفسي بقايا خوف.
ورأيت اهتزاز رأسه وهو يحشو فمه بمزيد من أغصان القات .. ومن وراء السحب كان ضوء القمر يتسلل بخوف .. وسمعت صوته.. كان عميقاً بسيطاً فيه خشونة لهجة الشمال.
- ماه يا خبير كان معك شريعة؟ الله .. بلاكم أنتم يا أهل الحجرية بالشرائع .. كل من معه بقشتين قام يشارع ...ليش ما تقعدوا زي خلق الله بلا دوشه.. ولا وجع دماغ؟
كان وهو يتكلم يهز رأسه كأنه يفكر في مشكلة صعبة واستمر قائلاً:
- وإلا عد تفتكروا أن معكم عدالة مه؟ .. الحاكم .. والعامل ما ينصفكم .. العدالة قتلوها .. أكلوها أصحاب القروش، وأنتم يا رعوى هاتوا مئة ريال، هاتوا مئتين ريال، تسكبوها لأصحاب الكروش من غير حساب .. يا خلق الله بطونكم خاوية هكذا وإلا لا .. ؟
لم أستطع أن أجيب عليه .. فالشيء الوحيد الذي لم أكن أتوقعه هو أن يتكلم هذا الرجل عن الظلم والشريعة وأصحاب الكروش .. فالذي تعودناه نحن الرعية هو أن نرى العسكر هم بالدرجة الأولى أدوات هذا الظلم، هم الذين ينفذون أوامر الحكام ولا ينسى اليمني كيف كان هؤلاء العسكر يستبدون بالرعية. لكن العسكري لم ينتظر جوابي بل استمر وهو يعصر أوراق القات في فمه..
- اسمع يا خبير أنت رعوي هانا في القبيطة وأنا رعوي في " حاشد([2]) " معي هناك بيت وعائلة، مرة وأولاد ما شاء الله، لكن ما معانا بيس([3]) .. ما معنا أرض .. هاناك المشايخ أخذوا الأرض، واحنا اصبحنا عساكر تدور على رزق على لقمة.. قالوا.. الحجرية فيها ذهب .. جينا هانا أقسم بالله هانا ما في إلا الطمع والنهب والحسد كل رعوي يشتي ينهب صاحبه.. أخوه .. ناهي معكم " بيس ".. لكن ما معكم أمانة.. ما معكم معروف. ما معكم محبة... والله لو قبرت في حاشد كان أحلى .. هاناك جنب المره والأولاد.. شاندور على شغل.. شانجوع لكن ما شنشارع يا ناس والله ما كبرتا الكروش إلا من بيسكم أنت يا الرعية.
وسألته وقد بدأت اقترب منه:
- طيب وأنتم العسكر ليش كمان تنهبو الرعية؟
وتنهد بعمق قائلاً:
- ننهب الرعية؟ ما كل العسكر ينهبوا يا خبير واللي ينهب هانا ما هو أحسن من الحاكم .. أنت يا خبير تعطي الحاكم مئة ريال برضاك وقناعتك والعسكري تعطيه ريال وتقول للعسكر ينهبونا . ما هو كذا؟ العسكري مثل في حاكم ثاني ينهبه في بلاده بالحق أو بالباطل..
ونظر إلى السماء ..
ثم توقف أمامي وأنزل البندقية من على كتفه ونظر إلي:
- قد هو عشاء .. هيا تصلي؟ . تتأمم؟
- لا أحسن تتأمم أنت..
قال وهو يبتسم لي كأننا أصدقاء أعزاء:
- عد تقول أن العسكر يتأمموا بالقوة .. ماه؟ " وضحكنا.
مضينا بعد الصلاة في طريقنا وكان يتحدث عن كل شيء.. عن زوجته التي لم يرها منذ ثلاث سنوات .. عن أطفاله.
- والله يا خبير إنني أشتهي الأولاد يكونوا متعلمين .. ما يكونوا عسكر مثلنا .. من غير علم ، فين المدارس معنا فقيه .. والفقهاء ألعن من الحكام، همهم البيس.. والله وبالله إنهم ما يعرفوا معنى القرآن بس يكذبوا على خلق الله، افسدوا الدنيا يكذبهم.
ومع سيرنا كانت نسمات المساء تهب علينا بحنان وتتماوج أعواد الزرع على الأرض والخبير يتحدث عن حاشد وصنعاء.
وأطلت تحت أقدامنا قريتي وبدون أن أدري كنت أقول له.
المفاليس يا خبير بعيدة والدنيا ليل لازم تبات الليلة عندنا والصبح يفرجها الله.
نظر إلي طويلاً أنا عسكري والعسكر تعرف أن لهم مطالب .. دجاج .. قات .. مداع ..
وأكملت بسرعة:
- وأجرة ماه؟
وضحكنا ونحن ندخل المنزل والعائلة تنظر إلي في حزن وخوف، فالعسكري معي وهذا يعني في نظرهم أن مصيبة قد حدثت.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ) مركز ناحية القبيطة في الجمهورية اليمنية.
[2] ) إحدى قبائل اليمن الشهيرة.
[3] ) نقود.