علي حسن - بين صَرُوف الفَيلسُوف والآنسة مَيّ

يقول شاعر المعرة:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى - إني أخاف عليكم أن تلتقوا
العَلَم يعقوب صروف؛ أو كما كانت تناديه الآنسة "مَيّ زيادة" بـ "أستاذي قيصر القياصرة" و"يا ذا التاج والصولجان" و"أستاذي فرعون" ألقاب خلعتها على أستاذها وقدوتها وأبيها الروحي، الدكتور الفيلسوف "يعقوب صروف" (١٩/٧/١٨٥٢-٩/٧/١٩٢٧).
تمامًا كما يقترن اسم مصر بنيلها وأهرامها، لا يُذكر اسم "يعقوب صروف" إلا مقرونًا بمقتطفه "مجلة المقتطف" أعظم وأعرق دورية علمية وثقافية ظهرت في الشرق.
ولد "يعقوب صروف" في قرية "حدث بيروت" عند ساحل البحر المتوسط، وفي سفح جبال لبنان، من بيت عُرف بالفضل والعلم. التحق بمدرسة "سوق الغرب" فأظهر نبوغًا حفز والداه على الاستمرار في تعليمه، في وقت لا يهتم أحدٌ بتعليم أولاده، فالتحق بالمدرسة العالية للأمريكيين في قرية "عبية" من مصايف لبنان، ثم تأسست "مدرسة الكلية الأمريكية" عام ١٨٦٦(الجامعة الأمريكية في بيروت) فتقدم إليها ودرس الرياضيات والعلوم الطبيعية وعلوم اللغة والأدب. ثم أنشأت الكلية في العام التالي فرعًا لتعليم العلوم الطبية، فالتحق بها، وأتم دراسته العلمية عام ١٨٧٠ ثم مارس التدريس عامين في مدرستي صيدا وطرابلس الشام العاليتين للمرسلين الأمريكيين، ثم دعاه مجلس إدارة الجامعة عام ١٨٧٣ إلى تدريس الكيمياء والعلوم الطبيعية والعلوم الرياضية ثم اللغة والبيان. كان ذلك داعمًا له كي ينجح ويستمر بعد تأسيس "المقتطف" عام ١٨٧٦يشاركه صديقه الدكتور "فارس نمر" (١٨٥٦-١٩٥١) ثم انضم إليهما شريك ثالث هو الأستاذ "شاهين مكاريوس" (١٨٥٣-١٩١٠) فكانت شراكة تركن إلى أخوةٍ نادرةٍ لا نجد مثيلًا لها في دنيا الأدب والثقافة!
نحن أمام رجل صاحب سيرة عطرة، عظيم من أكابر رجالات العلم والصحافة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، والربع الأول من القرن العشرين، لكنه ألقى بظله الوارِف على أبناء القرن الفائت كله! إنه قامة فكرية نال تقدير الملوك والأمراء واحترام العلماء ودان بفضله أعلام الفكر والثقافة في الشرق، وفوق كل هذا نال إجلال القارئ حيث كان وكانت لغة الضاد.
في كتابه "رجال عرفتهم" يصف الأستاذ "عباس محمود العقاد" (١٨٨٩-١٩٦٤) عودته إلى قنا بعد لقاء الدكتور صروف في مكتبه بالمقتطف عام ١٩٠٥حين حاول العثور على كتاب "الكائنات" للشاعر العراقي
"جميل صدقي الزهاوي"(١٨٦٣-١٩٣٦) فلم يجده فتوجه ينشده من مكتبة المقتطف التي تولت طبعه في القاهرة فيقول الكاتب المعتد بذاته: "أذكر إلى اليوم كيف لقيني رهط منهم بعد عودتي إلى قنا ومعي نسخة من كتاب "الكائنات" عليها كلمة بخط العالم الكبير ولقد كانوا يستمعون لي كأنهم يستمعون إلى حديث رؤيا غير قابلة للتصديق، وكانوا يسألون: كيف حَييّته؟ وكيف رد عليك التحية؟ وماذا قال لك حين أسلمك الكتاب؟ وهل فاتحك في بحث من بحوثه؟ وماذا قلت له عن المؤلف وعن موضوع التأليف؟ وقد كانت دهشتهم الكبرى أنني لم أجد في الرجل ما يثير الدهشة -إن كانت الدهشة بمعنى الرهبة- بل كان الرجل في الحق مثلًا للطيبة الأبوية والوداعة الحكيمة، فلم يختلف شعوري بلقائه الأول بعد أن لقيته مرات في مكتبه وفي داره وفي بعض المجالس الأدبية، ولم أره بعد ذلك على غير تلك الصورة التي شهدتها منه أول مرة! بساطة لا تخلو من تحفظ السمت والوقار، وعاطفة أبوية يشمل بها كل مَن عرفوه من ناشئة الكتاب والدارسين. عَتَبَ عليّ أول الأمر أنني فاجأته بالدخول إلى مكتبه بغير استئذان، ولكنه عاد يستسمحني حين أكدت له أنني طرقت الباب طرقًا خفيفًا لعله لم يسمعه وهو مستغرق في القراءة فقال مبتسمًا: "بل هو ثِقل في السمع يعتريني من حين إلى حين، فلا تؤاخذني إذا عَتبتُ عليك!" (ص ٨٦).
كيف أُنشئ المقتطف؟ يروي لنا الدكتور "يعقوب صروف" هذا الحدث العظيم فيقول: "لما ابتدأتْ سنة ١٨٧٦ كنا في "المدرسة الكلية السورية" أحدنا يُدَرِّس الفلسفة الطبيعية والرياضيات، والآخر يُدَرِّس علم الهيئة واللغة اللاتينية -فارس نمر- وكنا نقضي ساعات الفراغ في مطالعة الكتب والمجلات والمذاكرة في مباحث العلماء الحديثة والخطابة في الأندية العلمية والأدبية. وكنا نأسف لأن لغتنا العربية خالية من جريدة تُبسَّط فيها العلوم والفنون بسْطًا يقربها من أفهام القراء وتُنشَر فيها خلاصة المكتشفات الجديدة والتحقيقات المفيدة شهرًا بعد شهر حتى يبقى أبناء الشرق عامة وتلامذتنا خاصةً جارين مع العلم في سَيرِه الحثيث. وكان أصدقاؤنا الذين يعرفون وسائطنا يحثوننا على القيام بهذا العمل الخطير لحسن اعتقادهم بنا ولشدة الحاجة إليه.
وذات يوم كنا جالسين في غرفة أحدنا بجانب البهو الكبير الذي هو الآن مكتبة الجامعة، وكان حينئذ منتداها ومحل العبادة فيها، فنظرنا في هذا الأمر وقرَّ رأينا على إنشاء جريدة تفي بالغرض المطلوب ورسمنا خطتها في تلك الساعة وطلبنا العون والإرشاد من العزة الإلهية. ثم قصدنا المرصد الفلكي حيث أستاذنا الدكتور "ڤان ديك" وأخبرناه بما عزمنا عليه، وسألناه أن يختار لنا اسمًا له. فأبرقت اسِرَّتهُ وجعل يُشَدِّد عزائمنا، ويسهل علينا الصعاب، وقال: "سمياه "المقتطف" واجعلاه كاسمه وحسبكما ذلك... وأنا سأشرع من هذه الساعة في كتابة بعض الفصول للمقتطف" فكتب فصول "أطباء اليونان والشرق" وأباح لنا كل ما عنده من الكتب والجرائد والآلات والأدوات كي نستعملها كما نشاء من غير حساب." (المقتطف- أغسطس ١٩٢٧)
نجح صروف ونمر في إصدار العدد الأول من المقتطف في غرة مايو ١٨٧٦، وقاموا بتوزيعه في المدن السورية وبعض مدن مصر، ولم يمض عام حتى زادت التبعات، وزاد عدد القراء، فتولى ثالثهم شاهين
أمر الإدارة، وفي عام ١٨٨٠ زاروا مصر ولمسوا اهتمام القراء بالمقتطف، فدفعهم ذلك إلى زيادة عدد صفحاتها من ٢٤ إلى ٦٤ صفحة. ثم ترك الصديقان صروف ونمر "المدرسة الكلية" وهاجروا الثلاثة إلى مصر أوائل عام ١٨٨٥، فتولوا الثلاثة الاهتمام بها، مع اهتمام أكبر من الدكتور صروف، نظرًا لتخصصه العلمي والفلسفي، ولم تتطرق المجلة منذ بدأت وحتى توقفت عام ١٩٥٢ إلى أمور السياسة والدين بل تناولت أخبار الطب والفلك وأحدث الاختراعات، وجعلت لعلم الرياضيات والزراعة والصناعة والتدبير المنزلي والمسائل (الأسئلة) والأخبار العلمية أبوابًا ثابته، ثم تولى الدكتور "فارس نمر" صاحب الاهتمامات السياسية شئون جريدة "المقطم" التي اشترك الثلاثة في إنشائها عام ١٨٨٨.
كانت دراسة الدكتور "صروف" دراسة علمية، تعتمد على التجربة وتسجيل الملاحظات والنتائج، لهذا كان فيلسوفًا مشغولًا بالعلوم التجريبية، يبني براهينه على مشاهداته واستنتاجاته مختلفًا بذلك عن هؤلاء الفلاسفة المهتمين بالغيبيات وما هية الوجود والمسائل النظرية مثل ابن رشد وابن سينا، يقول "العقاد":
"دار بيننا حديث حول فلسفة "ما وراء الطبيعة" وعلِقَت بذهني كلمة منه لغرابتها وصدورها من "الفيلسوف يعقوب صروف" وتلك هي قوله: "إنه لا يتقبل تلك الفلسفة، أو لا يهضمها" وفوجئت -ولا غرابة- بذلك التصريح من رجل لم يشتهر في عالم الثقافة العربية يومئذ بما هو أشهر من صفة فيلسوف، ولم نعلم أحدًا غيره وغير زميله "فارس نمر" حصل على لقب "الدكتور في الفلسفة" من جامعة غربية،... إلا أن الدكتور عَرَّفني بتلك الكلمة العابرة حقيقة رسالته في نهضة الثقافة العربية بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين... ولم أزل ألقى الدكتور صروف بين آونة وأخرى إلى ما قبل وفاته بقليل، فأعرف منه في كل مقابلة صورة واحدة لم تتغير منذ رأيته للمرة الأولي: صورة فيلسوف له عقل عالم، مشغول بالواقع من الخبرة العملية، وله مع هذا العقل العلمي قلب إنسان ودود يحب الخير للناس ويغتبط بتوفيقهم للنجاح".(رجال عرفتهم- ص٨٧).
في الحقيقة أن الفصل الذي خصصه العقاد في هذا الكتاب للحديث عن فيلسوفنا العالم كان بالغ الجمال، شديد التركيز، ولست آسفًا على إيجاز في حديث قدر أسفي على حديثه الموجز في هذا الفصل القيم، وليت الكاتب الجبار امتعنا واسترسل ليكشف لنا ما نحن في حاجة إليه الآن لنتعرف على رجل من أكابر رواد عصر النهضة والمؤسسين لها في الشرق.
الأستاذ العقاد؛ الذي عهدناه جادًا صارمًا ساعيًا إلى المعارك غير هياب ولم يجامل أحدًا، نصادفه اليوم مدينًا للدكتور صروف بالفضل، شاهدًا بعلمه ونبوغه، في نادرة قلما نجد مثلها في كتابات العقاد على غزارتها إذ يقول: "وأذكر اغتباطه بتوفيق الناشئين إلى النجاح؛ لأن كتابه المترجم عن "صامويل سمايلز" باسم "سر النجاح" كان أول كتاب قرأته له، وأخبرته بإعجابي به حين سألني عن مؤلفاته، ولم أزل كلما زرته أسمع منه سؤالا واحدًا قبل كل سؤال: "ماذا صنعت لنفسك ومستقبلك؟ فوقر في نفسي أن كتاب "سر النجاح" لم يكن مجرد كتاب ترجمه وأضاف إليه ودل به على طريقته العلمية في تحقيق السِيَّر والأخلاق، ولكنه كان قبل ذلك ترجمانًا لسجية الخير والمودة فيه، وعنوانًا لرغبته في الحياة الناجحة، ورغبته في تعليم الناشئين جميعًا كيف ينجحون ويسعدون بالحياة،.... ولا أعرف أحدًا من كبار الأدباء الذين عرفتهم في أيام نشأتي قد عَناهُ أمر عملي الذي أُعَوِل عليه في معيشتي غير اثنين: أحدهما الدكتور صروف، والآخر "محمد المويلحي" الذي رشحني للعمل بديوان الأوقاف." (المصدر- ص ٨٨).
تلك هي العلاقة بين الأستاذ وتلميذه النجيب، فكيف بالأستاذ حين يقابل فتاة شديدة النبوغ بالغة الرقة مثل ابنة وطنه "ميَّ"؟
كان اللقاء الأول بين الأستاذ وتلميذته في قاعة الاحتفالات بالجامعة المصرية القديمة في ٢٤ إبريل ١٩١٣، أثناء الاحتفال بإنعام الخديوي "عباس حلمي الثاني" على شاعر القطرين "خليل مطران" (١٨٧٢-١٩٤٩) بالوسام الحميدي الثالث. وكما ذكر الأستاذ "أنطون الجميل" (١٨٨٧-١٩٤٨) في افتتاحية مجلته "الزهور" الصادرة في ١/٥/١٩١٣ بعنوان "الحفلة الإكرامية لخليل أفندي مطران" أن الحفلة حضرها نخبة من الأدباء والفضلاء والوجهاء من القطرين المصري والسوري وعلى رأسهم الأمير "محمد علي توفيق" (١٨٧٥-١٩٥٤) شقيق الخديوي.
في هذا الحفل ألقت الآنسة "مَيّ" كلمة بعنوان "الشاعر البعلبكي" لـ "جبران خليل جبران" (١٨٨٣-١٩٣١) ثم أردفتها بكلمة نالت إعجاب الحضور وتوجه إليها الأمير "محمد علي" مصافحًا ومهنئًا بقوله:
"أهنيك يا آنسة.. ونهنئ أنفسنا بكِ".
تقول الأستاذة "سلمى الحفار الكزبري": "لقد سمع الدكتور صروف بسطوع نجم "مَيّ" في الصحافة والأدب، وأعجب بما قرأ لها في مجلة الهلال وجريدتي المحروسة والأهرام وبمحاضرتها "المرأة والتمدّن" التي ألقتها في النادي الشرقي بالقاهرة في ٢٣/٤/١٩١٤ وأرسلتها إلى مجلته فنُشرت فيها، أما التعارف الشخصي بينه وبينها فقد تم في حفلة تأبين الدكتور "شبلي شميل" التي أقيمت في النادي السوري بالقاهرة في ١٠/٢/١٩١٧ فتحدثا طويلا عقب الحفلة، ودعاها إلى التحرير في المقتطف باستمرار". (مأساة النبوغ- سلمى الكزبري- مؤسسة نوفل- ط ١٩٨٧- المجلد الأول ص ٤٠٤)
وأنا اختلف مع الأستاذة "سلمى الحفار" في هذا الرأي رغم تقديرنا البالغ لهذا العمل الاستثنائي الجاد عن "مي زيادة" ولديّ من الأسباب ما يثبت قولي، منها ما هو موثق ومنها الاستنتاجي. أولًا أن "شبلي شميل" قد طلب من صديقه "صروف" أن يتعرف إلى الآنسة "مي" وكما هو معروف فإن "شبلي" كان من أوائل الذين حضروا صالونها الذي بدأ عام ١٩١٣. ثانيًا أن الإخوة السوريين المتمصريين كانوا حريصين على التعارف فيما بينهم، ويمارسون أنشطة اجتماعية في "النادي السوري" بالقاهرة والأسكندرية لجمع شمل السوريين، وشكلوا جمعيات إغاثة ولجان إعانة للمنكوبين في سوريا فلابد أنهما التقيا. ثالثًا أن "مَيّ" جاءت مع أسرتها إلى مصر في مايو ١٩٠٧ وآلت ملكية جريدة "المحروسة" إلى والدها فمن المستحيل ألا يلتقي صروف بالآنسة "مي" ووالدها لعشر سنين! رابعًا ليس معقولًا حضور كل هذا الجمع من السوريين أدباء وشعراء وأصحاب جرائد ومجلات حفلًا أقامته "مجلة سركيس" احتفالا بالشاعر السوري العظيم ولا يحضر الاحتفال الدكتور "صروف" أحد أكابر السوريين في مصر وعَلمَهم!
كانت العلاقة بين الدكتور صروف والآنسة مَيّ أكبر من الصداقة، ونَمتْ إلى أواصر قوية بين الأسرتين، فالدكتور صروف اقترن بالسيدة ياقوت بركات عام ١٨٧٨ وهي من خيرة المتعلمات السوريات، وأثمر زواجهما ولدًا واحدًا هو نجيب وبنات ثلاثة هن إلن وأليس وإدما. وقوة العلاقة بين الأسرتين سمحت لوالدة "مي" السيدة "نزهة خليل معمر" أن تشتكي إلي د. صروف رفض "مَيّ" المتكرر لكل شاب يتقدم لخطبتها، وطلبت منه اقناعها بالزواج من أحدهم.
قبل الدكتور "صروف" الوساطة ونصح "ميًا" بالاهتمام بمستقبلها العائلي، فكتبت "مَيّ" رسالةً إليه في ٩/٧/١٩١٨ تقول فيها: "يزعجني الكلام في مسألة الزواج إذا كنت أنا السبب والموضوع. ولكني رغم ذلك أقول لك إني أرى الأمر على عكس ما تراه والدتي فلا نتفق في ذلك مطلقًا. شروطها أن يكون غنيًا صحيحًا، ذا مركز حسن: "الرجل الذي ترضاه مَيّ" وأنا لم أفكر بعد بالأمر جليًا، لكن لا يهمني الغنى، ولا المركز الاجتماعي، حتى ولا العائلة لأني أعلم أن مَن كان "رجلًا" جاء بكل ذلك، وكانت جميع المراتب، وصنوف الثروة، طوع إرادته. وإذا ورث كل ما يعتبره الناس شرطًا للسعادة، ولم يكن "رجلًا" فَقَدَ كل ما عنده عاجلًا أو آجلًا، أو أساء أسلوب التمتع به والاستفادة منه. وأنا أقدس الحياة العائلية، وأحترم الزواج، وأود إيجاد السعادة في بيت أدخله وزيادة أسباب رغده وعظمته، وإيقاد شعلة الفكر فيه لأن في ذلك حياتي وسعادتي، وإلا اْشقَيتُ نفسي والغير معًا وهذا مالا أريده مطلقًا، فالشرط الأول عندي هو التفاهم، لأن به السعادة وبدونه الشقاء، لكن والدتي تظن أني مع الزمن أغير أفكاري، وهذا ما نراه في المستقبل: لكني أعتقد عكس ما تظن!" (مي زيادة وأعلام عصرها – سلمى الحفار الكزبري- ص ٤٣).
وبما أننا نخوض في أمر زواج "مَيّ" فإن مأساة "ميّ" تكمن في نبوغها وعبقريتها النادرة، مما جعلها موضع تهيب ورهبة من كل أقرانها من الشباب، فلم يتجاسر أحد أو يجرؤ على التقدم لخطبتها، يقول الأستاذ "عبدالله مخلص" (١٨٧٨-١٩٤٧) عضو المجمع العلمي بدمشق في رسالة وجهها إلى الأستاذ أحمد حسن الزيات ردًا على ما جاء في العدد (٣٣٨) لسنة ١٩٣٨: "... ومما أذكره عن مَيّ أنني كنت في بيت المقدس في أوائل سنة ١٩٢٣ فجاءته الآنسة مي زائرة ودارسة، وراح الأدباء والفضلاء للترحيب بها، والتعرف عليها، وقصدت أنا ورفيق لي إلى زيارتها فلم نجدها، وفيما نحن عائدان قال لي صاحبي، وهو يحاورني: "أتدري أن عِلمَ مَيّ جنى عليها؟" فقلت له: "افصح عما في ضميرك فيظهر أن للكلام بقية". فقال:
"أنا أحد الذين كانوا يرون السعادة، كل السعادة في الاقتران بميّ لما وهبها الله من الخلق الجميل، والصفات الطيبة، ولكني كنت أرى أن مستواها العلمي فوق مستواي، فلم أجرؤ على طلب يدها. وكان لي أمثال كثيرون يرون رأيي فيها، وكنا حين نلتقي بميّ النابغة نشعر بعاطفة الإكبار والإجلال لآدابها الرفيعة." والذي قال لي هذا القول لم يكن من عامة الناس، بل هو من خريجي الجامعة الأمريكية، ومن أصحاب الثروات الطائلة، والذين أثروا في الحياة الاجتماعية والمدنية، لكنه كان يرى نفسه دونها. فانظر ماذا كان مصير هذه العلوم والفضائل بين أعدائها الألداء، عاملهم الله بما يستحقون، وأذاقهم عذاب الهون!." (أُعِيدَ نشر هذه الرسالة تحت عنوان "محنة الآنسة مي" بمجلة الدوحة القطرية بتاريخ ١/٧/١٩٨٣).
ولا شك أن عدم زواج "مَيّ" وموت والديها كانا من أسباب طمع أهلها، وصراعهم كي يرثوها قبل موتها! تقول "مي" لإحدى صديقاتها بعد انعتاقها من العصفورية: "واحسرتاه على نفسي يا صديقتي! إني نادمة حقًا لعزوفي عن الزواج، وحرماني من نعمة الأمومة. كنت أظن أن العلم والأدب يغنياني عن الحياة الزوجية، وكانت أمي على حق في معارضتي وإصرارها على ضرورة الإقدام على الزواج، رحمها الله." (مأساة النبوغ- سلمى الكزبري- ج١ ص ٣٢٥).
نعود إلى الدكتور "صروف ومقتطفه" وعلاقة "مي" بهما، فنذكر أن المقالة الأولى لمي في المقتطف كانت عن "مدام دي سيڤينيه" وبعدها استمرت في اتحاف القراء بمقالات هي كنوز لا تقدر بثمن، وتناولت في مقالاتها الأدب والثقافة والتاريخ والاجتماع بل الموسيقى أيضًا فقد كتبت عن بيتهوفن وعن عبقريته.
في مقال لها في عدد إبريل ١٩٢٧بعنوان "فن بتهوڤن وتحليل أعظم تلحيناته" قدمت "ميّ" عن هذا الموسيقار العبقري مقالة جبارة لا يكتبها إلا فنان بارع متخصص في علم الموسيقى أدعوكم لقراءتها!
وفي عالم الكتابة والصحافة، لم تسلم "مَيّ" من الضغينة والحسد! ولم يستقبل بعض كبار الأدباء هذا النجاح بمثل ما استقبله قراء المقتطف والدكتور "صروف" الذي انهالت عليه الرسائل تعاتبه على تقديم اسم "ميّ" ومقالاتها على اسماء كُتاب كبار وتحديدًا الأستاذ "مصطفى صادق الرافعي" (١٨٨٠-١٩٣٧).
فتطوع الشيخ "محمود أبو رية" (١٨٨٩-١٩٧٠) تلميذ الرافعي فكتب رسالةً إلى الدكتور "صروف" معاتبًا وذامًا أسلوبها وما يعتريه من غموض! فأفحمه الفيلسوف برسالة في ٨/١٩٢٤ قال فيها:
"حضرة الرصيف الكريم، سلامًا واحترامًا.. فقد تلوت ما تكرمتم به، وفيه أمران، الأول ترتيب المقالات فهذا يراعى فيه زمن ورودها أو وصول يدي إليها إذا كانت عندي، فليس في تقديمها أو تأخيرها نظر إلى فاضل أو مفضول. والثاني ما تكتبه الآنسة "مي" وأنا أعرف كثيرين من الذين لهم الكعب الأعلى في الإنشاء مثل المرحوم إسماعيل باشا صبري ومثل السيد مصطفى الرافعي، يجِلون قدرها، ويمدحونها بالكلام والكتابة، ولقد رأيت إسماعيل باشا صبري يقبل يدها في بيتي، ورأيت له ولولي الدين يكن ولخليل مطران قصائد في مدحها. وأظنني رأيت للرافعي أيضًا كتابًا لها يطنب فيه في مدحها، فهل نسفه كل هؤلاء وهم من أئمة الأدب العربي أو نتهمهم بأنهم يقولون في الحضرة شيئًا وفي الغيبة ضده؟ ثم إني استحسن هذا النوع من الإنشاء بدليل أنني لا أجري عليه، ولكنني أفهمه لأنني أحسن لغة أوروبية. وأرجح أن أكثر الذين يحسنون الفرنسوية أو الإنكليزية يستحسنونه. وقد جرى عليه الآن أكثر أدبائنا في أمريكا الشمالية والجنوبية وبعض أدباء الشام. وسيمكث الأصلح في ضروب الإنشاء. أشكر فضلكم على حسن ظنكم بالمقتطف، خاتمًا بأطيب تحية.. يعقوب صروف" (مجلة الرسالة ٢٥/١٠/١٩٤٨عدد ٧٩٩).
وقد قام "الشيخ" أبو رية بخدمة توصيل الرسالة إلى "الرافعي" الذي عَقَبَ بدوره عليها في رسالة بعث بها إلى "أبي رية" نجدها في كتاب "من رسائل الرافعي" لمحمود أبو رية (دار المعارف- ط ١٩٦٩-ص ١١٠) وعلى هامش الصفحة غَمَزَ الشيخ قائلًا: "يشير الرافعي إلى كثرة زيارات الآنسة مَيّ للدكتور يعقوب صروف في إدارة المقتطف وأن لذلك تأثيرًا في تقديم مقالاتها على مقالاته في النشر في المقتطف"!
في عام ١٩٢٠صدر لـ "ميّ" كتابها الأول عن "باحثة البادية" وهو دراسة لحياة "ملك حفني ناصف" نشرته كمقالات في المقتطف ثم أصدرته كتابًا قدم له الدكتور صروف مقدمة بليغة. ثم أعادت دار الهلال نشره مع كتاب "عائشة التيمورية" كتابان في مجلد واحد (عدد ٥٨٢- يونية ١٩٩٩) لكن المؤسف أنها استبدلت مقدمة الأستاذة "صافي ناز كاظم" بمقدمة الفيلسوف العظيم! الذي كان قد اختتم مقدمته قائلًا: "وإني أعُد الساعة التي اقترحتُ فيها على الآنسة ماري زيادة أن تجول في هذا المضمار من أسعد الساعات التي مرت في حياتي وبهذه الكُليّمات أقدم كتابها إلى القراء."!
بعد "باحثة البادية، الذي كان له صدى بالغ الأهمية في جميع الأقطار العربية، واصلت "مَيّ" كتاباتها، فصدر لها "غاية الحياة" عام ١٩٢١، و"سوانح فتاة" و"كلمات وإشارات" عام ١٩٢٢، ثم في عام ١٩٢٣ صدر لها "ظلمات وآشعة" و"المساواة" وفي عام ١٩٢٤"بين الجزر والمد" و"الصحائف" ثم "عائشة التيمورية" و "وردة اليازجي" عام ١٩٢٥، وكلها مؤلفات ظهرت بادئ الأمر مقالات ذاع صيتها، ومع هذا حققت نجاحًا كبيرًا عندما خرجت كُتبًا للقراء.
قرأ الأمير "شكيب أرسلان" (١٨٦٩-١٩٤٦) حيث يقيم في سويسرا فصول "المساواة" في المقتطف، فأرسل إلى الدكتور "صروف" يعرب له عن شكوكه في أن تكون فصول المساواة" مترجمة عن إحدى المؤلفات الغربية، فأجابه "صروف" قائلًا: "... وأرجح أن ميّ لم تترجم شيئًا مما جاء في "المساواة" ترجمةً لأنها تتكلم معي في كل المواضيع الفلسفية والعلمية والأدبية كما تكتب. فإنها قوية الذاكرة إلى حد يفوق التصور، وقد قرأتْ كثيرًا من الكتب في اللغات التي تُحسِنها" (مأساة النبوغ- ص ٢١١).
قبل حلول العام الخمسيني على نجاح المقتطف، قامت "ميّ" بدعوة أكثر من ثلاثين كاتبًا وأديبًا وشاعرًا ووزيرًا لتشكيل لجنة من أجل الاحتفال باليوبيل الذهبي للمقتطف في صيف ١٩٢٦، واختارها الحاضرون أمينة سر اللجنة، وبعد عام كامل من الإعداد أُقيم الاحتفال في دار الأوبرا تحت رعاية الملك فؤاد.
وفي نهاية الاحتفال هَمسَ الدكتور "صروف" لـ "سعيد باشا شقير" زوج ابنته "إدما" قائلًا:
"ما أكرم هذا الشعب، وأطيب عنصره، وما أطيب خدمة هذا البلد وأثمرها! ترى أنستحق يا سعيد هذا الإكرام؟ وهل لنا حقيقة في مصر والشرق مثل هذا المقام؟ وهل ما فعلناه يستوجب حفلةً باهرةً كالتي شَهِدناها يضعها جلالة الملك فؤاد تحت رعايته ويرأسها وزير من وزرائه ويشترك فيها الأمراء وسائر الوزراء وعظماء البلاد ونوابها وأدباؤها على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ويبعث إليها سعد" على رغم اعتلال صحته بكلمة يقول فيها ما قاله في المقتطف ومنزلته في مصر وأثره في تقويم الأفهام وتثقيف الأذهان؟.....
بل هذا الشعب كريم وقادته وكباره وأصحاب الكلمة فيه أكرم... يعطون دينارًا بدرهمٍ! ولكن يجب أن نحسن العمل أكثر وأن نستمر على وقف أقلامنا ومواهبنا وأرواحنا في سبيل خدمتهم..." (المقتطف- ١/٥/١٩٢٨) ثم أصدرت مطابع المقتطف كتابًا ذهبيًا جمعت فيه الخطب والقصائد التي ألقيت في الاحتفال، وقال صروف في رسالة بعث بها لمي: "وجَلَّدنا ثلاث نسخ تجليدًا مذهبًا، واحدة لكِ، وواحدة لرفعت باشا وزير المعارف، وواحدة لتقدم إلى صاحب الجلالة الملك وعليها الشعار الملكي"(مي زيادة وأعلام عصرها- سلمى الحفار- ص٣٣٤).
وقبل وفاة الفيلسوف بعث إليها خطابًا رقيقًا واصفًا إياها بـ "سيدتي ملكة البلاغة" وكأنه يشعر باقتراب أجله فيقول:
"ولا أدري يا مي، لا أدري يا عزيزتي هل حان الوقت لنشر هذه الرسائل مع ما يلزم أن يُنشر معها من رسائلي إذا كانت لا تزال محفوظة عندك. أو الأولى والأحكم ترك ذلك إلى ما بعد وفاتي، وحينئذٍ تنشرين ما يحسن نشره من هذه وتلك لعل فيه فائدة للقراء"(المصدر السابق- ص٣٣٤).
إن الفيلسوف لا يضن على القراء برسائل تنوء بما تحتويه من بلاغة وحكمة فوق ما تحمله من "أسرار"!
ويوم السبت؛ قبل انتصاف ليل ٩/٧/١٩٢٧ صعدت روحه إلى بارئها بعد اعتلال صحته عامًا كاملًا لم يغب خلاله عن المقتطف إلا آخر يومين من حياته.
وشيعته "مي" عند قبره بكلمات بليغة لا تُشبهُها كلمات في الحسرة والألم! أهدي للقارئ زهرة بنفسج من أزهارها عله يشاركنا اللوعة: "مات صروف يا آل صروف! فُجِعنا وإياكم فيهِ ففقدناه من حظيرة بني الإنسان. فهل رأيتم خَطبًا تجمعت فيهِ خُساراتٍ أكثر من هذه الخُسارات؟ مات صروف يا زوجة صروف وإخوانه وأقاربه وأصدقاءه وتلاميذه! فقولوا هل من أب وأخ وقريب وصديق وأستاذ أحق من هذا الإكبار والإجلال؟ مات صروف يا أبناء الجيل القديم! فتعالوا وأُشْهِدوا الجيل الجديد على التفوق فيكم، وأعلنوا بأجرإ بيان وأفصح لسان أن في مثل صروف أعلى مَثل يُحتذى في الكفاءة والجِد والتسامح والاستقامة!
مات صروف.... مات البارحة والبدر سادر في الفضاء يُلقي على الظلام غلالة الضياء، فكان ذلك رمز الخِدَم التي أداها إلى اللغة والعلم والشرق والإنسانية، وها هو يَنزلُ لحده والشمس جانحة إلى المغيب وهذا دليل على أن الخادم النبيل أدى كل واجبه، ودليل على أن الزارع الجليل نثر لقومه جميع الحبوب التي جمعتها الحياة في قبضة يده!....."(انظر الكلمة كاملة في المقتطف١/٨/١٩٢٧ .
أعلى