تمهيد لا بد منه:
في عام 1994 قرأت، متأخرا، رواية (خراب العاشق) للمبدع الراحل حمد صالح ولا اعلم كيف كانت دموعي تجري دون ان اعلم. في اليوم الثاني، وكان عاصفا وشديد المطر، سافرت الى قضاء (الشرقاط) ثم الى قرية (اجميلة) ، قرية (حمد صالح) سألت واحدا من اصدقائه، ما الذي كان (حمد) يفعله كل ليلة حين كان يعمل مدرسا في الشرقاط؟ قال: يسهر، هو ومجموعة من المدرسين في القلعة الاشورية الاثرية يحتسون الخمرة، لكن “حمد” كان يتركهم وينحدر في بقايا المعبد ويروح في نوبة بكاء عميق حارق، ولا احد يعرف السبب.. قلت: هذا هو نفس حال بطل رواية (خراب العاشق) قال: فعلا. كتبت بعد العودة دراسة عنوانها: (خراب العاشق ام خراب حمد صالح؟) نشرت في صحيفة (العرب) اللندنية، ثم دراسة عن مجموعته القصصية (الملاذات) وهي التي ستنشر هنا. زرت بيته والتقيت بشقيقه عالي التهذيب المحامي احمد الجبوري فمنحني شيئا عظيما من ارث “حمد” العشرات من القصص غير المنشورة والمنشورة التي لم تضمنها مجموعة، وبديواني شعر، تصوروا” ديواني شعر. نشرت في عام 1998 تقديما عن الراحل وقصيدة له . كرمت الدولة زوجته انذاك بمليون دينار. ولكن على حد تعبير احد الشعراء الصينيين فان الموتى لا يشمون الورود التي تلقى على قبورهم. حمد.. بعدك، خطف المثكل صديق طفولتك وابن قريتك المبدع “محمود جنداري” .. لم نلق على قبريكما أي وردة.. اخي حمد.. لقد نسيناك.. هل تسمعني؟
في قصة (الحكيم) المنشورة في مجموعته القصصية الاولى (الملاذات) يطرح القاص “حمد صالح” المركب الاوديبي في شكل جديد ماكر ومؤثر حيث ينتظر بطل القصة ، وهو هنا القاص نفسه “حمد صالح” وما اكثر القصص التي يكون بطلها القاص نفسه او تحكى بضمير المتكلم المعبر عن القاص ذاته، مولوده الثالث في ليلة يجتاحه فيها قلق الانتظار، متوترا ومستثار الاعصاب لا يستطيع الاستقرار في ساحة الدار، مسقطا صراعه النفسي الداخلي على الطبيعة والموجودات من حوله فيلوّن الاضطراب والخوف كل شيء: “تطالعني النجوم المتواضعة كأعين مذعورة.. مبحلقة.. نابتة في الظلام ، كانت هي الاخرى تئن..” ويشاركه محنة الانتظار ابوه، أي الجد، الذي يقول له محذرا اياه بصورة غريبة: “لا تحبهم هكذا، فانهم يجرحون في النهاية.. الابناء في حالات معينة اعداء لابائهم.. اعداء لا يرحمون”. وسيصدم القارىء قطعا لهذا التحذير الذي يدعو فيه اب ابنه للتحسب من احفاده!! يطلق الجد العجوز هذا التنبيه من دون سبب واضح او رابطة ظاهرة يتلمسها القارىء: “لا تحبهم هكذا فانهم يجرحون في النهاية.. بتمتمة خافتة ذات مدلول واضح لا تخلو من مسحة حزن، كان ابي يردد هذه الكلمات على سمعي كلما رآني اساعدهم على المسير او الاعبهم الكرة في ساحة الحوش او انحني على ركبتي ويدي ليتسلقوا ظهري بصخب ومرح عابثين”. ومن الواضح ان هناك عدم تناسب ، بل تناقضا ، منطقيا بين حدة التحذير وقطعيته وبين القرائن والدلائل التي استند اليها، فقيام الاب بملاعبة ابنائه هو امر طبيعي لا يستدعي تحسبا حازما ومخيفا من النوع الذي اطلقه الجد. من المتوقع ان يسلك الاب اكثر السلوكيات طفلية مع ابنائه، يعابثهم ويضاحكهم. اذا، اعدنا الى اذهاننا نبوءة العرافين التي قدموها الى الملك السومري ، ابي جلجامش، والى الملك الاغريقي ابي اوديب ومفاد النبوءتين ان الابن المقبل سوف يقتل اباه ويستولي على عرشه. ومن يحاول العودة لتأمل هاتين الاسطورتين سيجد اننا جميعا كقراء فاتنا ان نتفحص دوافع النبوءة وان نرسم حدود منطقيتها. ما الذي يدفع عراف (دلفي) الى تحذير الملك من ابنه؟ ومن يصدق ان ابنا يمكنه ان يقتل اباه؟ لكننا (اخذنا) بالنبوءة وسلمنا بها وسرنا مع تطورات النتائج المترتبة على مقدماتها القاطعة. هل غيبت بصيرتنا لان بذور تلك الجريمة تتململ فعلا في تربة لا شعورنا، وان المبدع “ الكاتب الاسطوري المجنون لملحمة جلجامش او سوفوكل مؤلف مسرحية اوديب ملكا” لم يقم بشيء يخالف طبيعة الاشياء سوى انه قام بـ (شخصنة) وقائع تلك الجريمة واطرافها واحكام حبكتها بصورة تبعث التشويق في نفس المتلقي؟ هل ان جانبا من منافع او (مخاطر) الابداع هو انه يوفر الاغطية المناسبة التي تجعلنا نستمتع بالفرجة على جرائمنا اللاشعورية المبيتة وهي تنفذ فعليا على مسرح القصة اوالرواية او التراجيديا دون ان ينتابنا الشعور المؤرق بالاثم ومضاعفاته بفعل الاتفاق الجمعي غير المعلن؟ هل هذا جانب مما يحاول “حمد صالح” فعله لذاته ولذواتنا من خلال قصته القصيرة “الحكيم” والتي أستهلها بتحذير الجد الغريب: “لا تحبهم هكذا فأنهم يجرحون في النهاية، الابناء في حالات معينة اعداء لابائهم.. اعداء لا يرحمون؟” يضفي الراوي / القاص على ابيه صفات تؤكد الوقار والمهابة والخبرة. انها صورة (العارف) القادر على الاستشراف والتوقع. “مقوس الظهر، في عينيه الضيقتين بريق شفاف على وشك الانطفاء، مجعد الوجه، وجنتاه الذابلتان ناتئتان من خلال كثافة الشعر الابيض النامي حديثا والذي كلما استطال اخفى على ملامح الذبول شكلا هلاميا يائسا. رجل في اخر العمر ينحدر نحو نهايته بوعي وعمق. تاريخه يثقل كاهله/ لم يبق امامه سوى بضع كلمات يوجز بها تاريخ حياته التي اوشكت على الافول، وقد نسحب قبل ان يسمعه احد”. خلال ساعات الانتظار الطويلة الممضة وحيث تمزق سكون الليل الموحش صرخات الزوجة بفعل الام المخاض الموجعة، يروح الزوج، بفعل الارهاق، في اغفاءه طويلة نسبيا يحلم خلالها بزوجته وهي مستلقية بين ذعر النجوم ببرود جثة لم يزل فيها نبض حياة .. كانت في ذروة المخاض، في ذروة الالم، فيما كنت اقف الى جانبها مبهوتا، لا ادري ما الذي استطيع ان افعله.. انحنيت نحوها مضطرب الانفاس لاتأكد من بقايا وجود حياة فيها، ولعل هذا كل ما استطيع ان افعله من اجلها.. ولاننا نؤمن بان الحلم هو عملية تحقيق رغبة لا شعورية مكبوتة في اغلب الاحوال، وتمريرها من خلال استثمار بقايا من صراعات الحياة اليقظة، يمكننا ان نوحد المعطيات الواقعية بالحلمية على ارضية متناغمة من الواقع النفسي للراوي / القاص، بقوله: “لا تحبهم .. الابناء اعداء لابائهم..الخ” دق الاب/ الجد ناقوسا ايقظ صداه تحسبا اوديبيا (مضادا) اذا جاز التعبير، مثل تحسب الملكين في الاسطورتين اللذين تخلصا من ابنيهما وهما طفلين فالقيا بهما خارج اسوار المدينة. لقد قام عمل الحلم (Dream work) (بقلب) مخاوف الاب اللاشعورية وجعل الام/ الزوجة هي التي تموت في الوقت الذي كان فيه هو المهدد اصلا. ولعل افضل الادلة على قوة هذه الرغبة هو انه يصحو على كف امه تمسك كتفه لتوقضه فيسالها فورا: ـ ما الذي حدث.. هل ماتت؟ وبرغم استعادته لتوازنه نجده يعيد التساؤل الغريب: ـ خبريني هل ماتت؟ فتخبره بالبشارة: انها بخير.. جاءك ولد. فهل كان حلمه وامتداده في حياة اليقظة تعبيرا عما اختزنه لا شعوره من انعكاسات تحسبية اشعلها تحذير الاب/ الجد من عداء الابناء للاباء؟ (هل “قلب” حمد صالح اسس ومسارات الصراع الاوديبي وجعلها اكثر مأساوية من خلال طرح احتمال عداء الابن للاب في صورة سلب نهائي للامرأة المشتركة، استئصال وجودها جذريا، اماتتها؟ وهل هذا هو المغزى العميق لتساؤل الاب حمد صالح عندما يرى ابنه لاول مرة: “كيف قيض لهذه الكتلة الهزيلة من اللحم الطري ان تكون سببا لكل هذا الالم؟” يقول حمد: كان الاولى بي ان انقلها الى المستشفى؟؟ فيعلق ابوه الشيخ: الم تألف هذه الحالات بعد؟ ان ما يبديه من مخاوف ساعات المخاض لا يتناسب مع تجربته كأب لطفلين سابقين. مخاوفه فائضة وقلقه طافح وخانق ملأ وعاء روحه وسال على جانبي وجودها ليغرق عالمه الشخصي منذرا بوقوع كارثة شخصية ذات امتدادات وجودية شاملة: “ليس هناك سوى شاشة سوداء واسعة مترامية الاطراف، ترى فيها الجدران المحيطة بالحوش على شكل جرف شبحي متمدد يحتضن الغرف الطينية المتناثرة فتبدو على امتداده المظلم مجرد كومات سوداء تكاد ان تكون غير مرئية. علامات راقدة في صمتها المتحفز، كالظلام ذاته، توحي برعب مجهول، غامض، لا يني يتوالد على نحو مبهم في هواجس الذاكرة، وكانت النجوم تتوامض كأعين مذعورة، مبحلقة، ثابتة في الظلمة الباهتة”. وبتوسيع الرؤية ومع توفر شروط معرفية اخرى، هل يمكن ان تتطور حيرة وقلق مثل هذا الاب لتصبح تساؤلات فلسفية حول اصل الوجود ومغزاه او عبثية الوجود الشخصي ولا جدواه؟ عندها سنقف امام نمط معرفي غيب جذره النفسي الاصيل تحت طبقات كثيفة من تساؤلات الفكر القلق. ويبدو ان ما يحرك النفس البشرية ويدفعها للبحث في مصيرها هو التهديدات (الداخلية) التي يشعلها الصراع بين اطراف المثلث الاوديبي وما يترتب عليها من مشاعر ملتهبة بالذنب وحاجة لاطفائه عن طريق التكفير الذي قد يصل حد تدمير الذات. تلك المشاعر التي يثيرها رد الفعل المقابل على تهديد الوجود الفردي قد توصل الذات المهددة الى حالة تماه مفرط مع ذات الضحية المتصورة (وهي هنا الام/ الزوجة). يقول (حمد): “يتعالى الانين المتألم فيخيل لي للحظة راكدة ان الجدران الطينية تئن في الظلمة. انين ممطوط ، كئيب، ينبعث من الارض الشبحية المستلقية على مد البصر فاغوص مرعوبا في بحر زاخر من الانين المتجاوب بمرارة، اتهالك جاثيا على ركبتي ومسندا ظهري الى حائط الغرفة المخنوقة بزفرات الانين..” وبعد خطوات او اميال من التوغل القلق هل يمكننا ملاحظة مشهد ممتد يستمع فيه الاب / الراوي لانين الارض الموجع ويحاوره ويسمع نبوءته وقد يقدم له اضحيته.. فيخلق لنا اسطورة قديمة او قصة قصيرة حديثة؟) الان ولد “الحكيم” كما سماه الجد، وهي تسمية تخالف في معانيها (نبوءته) حول عداء الابناء للاباء وكونهم جارحين لهم (هل من مضامين التسمية ما يتعلق بالفعل السحري الاستباقي الذي يحيد العدوان المستقبلي) جاء الحكيم واثار قدومه درجة واضحة من عقدة (قابيل) لدى اخويه الاخرين، فقد احتل مكان الصدارة عند امهما. لقد فوجئا حين اخبرهما ابوهما ان كتلة اللحم الجديدة هي اخوهما، “حيث ان وجهيهما ظلا كما هما، لم ينما عن أي ارتياح لهذا الزائر الثقيل غير المرغوب فيه” ، “لم يكونا يعلمان على الاطلاق من انه سيكون لهما اخر على هذا القدر من ضآلة الحجم يستطيع ان يكون سببا في مرض امهما وقدرة فائقة بمثل هذه السرعة على كسب حبها”. بعد مدة قصيرة بدأت تتضح معالم وسامة طفلية اخاذة على(الحكيم) “حيث اتسعت عيناه الناهمتان واستطال الشعر الرمادي حتى حجب الاذنين، على قسماته المتناسقة شيء من الريبة او الانتباه المتسائل ابدا، مسحة ليست عادية مما يوحي للمقابل فور رؤيته ان هذا الطفل يتميز بمواصفات يفتقر لها غالبية الاطفال في مثل سنه، او حتى اكبر من سنه.. انه شيء اخر اكثر من مجرد طفل وسيكون مستقبلا بلا ادنى شك اكثر من مجرد رجل” . ولكن هذا الموقف الابوي الايجابي يشوبه ايضا موقف اوديبي مضاد ودفعات عاطفية سلبية. فكلما رأى الاب وليده باشا او غارقا في الضحك بين افراد العائلة يعاوده انين ذلك الليل المرهق الطويل بكل كوابيسه وقلقه ومرارته فيخالجه احساس غريب مؤداه ان هذا الطفل الجميل المكتنز الفاضح بالحيوية والهدوء اجدر بكراهيته منه الى حبه كما يقول الاب نفسه. والاكثر دقة هو ان نشير الى ان الصلات بين اطراف المثلث الاوديبي يحكمها” التضاد العاطفي Ambivalent” وبشكل خاص بين الاب والابن، فالاب بالنسبة للابن هو السلطة الحامية القادرة على كل شيء، وهي في نفس الوقت سلطة خاصية معاقبة وفي المقابل فان الابن بالنسبة الى الاب يحمل مثله وجهين متضادين فهو امتداد لرجولته وتوكيد لديمومة وجوده (خلوده) من ناحية وهو المنافس المهدد من ناحية اخرى، ولذلك نجد الاب (حمد) يعبر عن امتزاج الشحنتين العاطفيتين السلبية والايجابية في موقفه من (الحكيم): “هذا الطفل الجميل اجدر بكراهيتي منه الى حبي، وطالما دققت النظر فيه بامعان باحثا عن وجه الصعوبة التي اكتنفت مولده بيد اني قبل ان اصل الى أي استنتاج كنت اراني مدفوعا بحب لا حدود له الى حمله بين ذراعي وحين تتسرب حرارة جسده الى مسامي يجتاحني مرة اخرى ذلك الانين الخافت، انين كئيب تبوح به الارض المستلقية تحت نور الشمس المتألقة وكأنما وجوده ظل في ذهني مقرونا بذلك السيل الحالم من الانين المتواصل. ذلك الانين القابض الذي يحثني باستمرار على التساؤل: أي الام مميتة اثارها “الحكيم” لامه ولنا ايضا ونحن نرقبها عبر الباب الموصد وعبر صمت الجدران وهي تجترع بكل قسوة ومرارة لحظات المخاض العسير قبل ان يطل على الوجود؟” هكذا يمتزج الحب بالكراهية، التقدير بالتجنيس، والاطمئنان بالتحسب تحت جنح موقف نفسي واحد. فهذا الابن الذي هو من صلب الاب ومبعث فخره وعلامة استمراريته هو من جانب اخر من سبب ـ للام الانثى المشتركة ـ الالام المميتة وفوق ذلك استأثر بحبها وعنايتها واعجابها واثار في نفس الوقت هواجس العداء حسب تحذير الجد. ان هذا الموقف المتضاد هو العامل الاساس الذي جعل صورة تحذير الجد من الابناء غائمة وعصية على ادراكه القاطع. يمتزج هذا العامل بفعل آلية اخرى هي (المقاومة Resistance) التي تخلق مانعا صلبا في وجه الاستيعاب الواضح واليسير. وسبب من المقاومة هو ان الاب كان ولا يزال ابنا بدوره. يقول “حمد” “هززت رأسي موافقا مع اني لم اجد ما اقوله وتساءلت فيما اذا كان ابي يحبني في طفولتي التي لا اذكر منها الشيء الكثير؟، وبالذات تلك الطفولة التي لا يذكر منها الانسان في رجولته شيئا على الاطلاق” ونسيان الفرد الراشد لتجارب طفولته هو شكل من اشكالا المقاومة التي تدفع عن (الانا) الذكريات المؤلمة المثيرة لمشاعر الذنب والقلق من ناحية والتي تؤثر سلبيا في صورة الذات الراشدة الفعلية والمثالية من ناحية اخرى، وتضيع المقاومة والدوافع المكبوتة اللائبة قدرة الفرد على الاختيار وتحديد الاولويات فيبدو حائرا وسط دوامة الاحتمالات غير المؤكدة رغم نضجه وسعة تجربته وثقافته “اقنعت نفسي بما مؤداه ان ابي كرجل اوشكت شمس حياته على الافول يختزن الكثير من التجارب الحقيقية ، وهو اذ يلوح عن بعد بهذه التلميحات العابقة برائحة التحذير الكئيب فانما على الارجح يود ان يشير بوضوح الى خلفية ممتلئة بالمعاناة المؤلمة”. ووسط تلك الاحتمالات يحاول “حمد”/ الاب ان يبرر ويعقلن دون ان يجد مخرجا معقول التحديد يتناسب مع طبيعة التحذير “كان همسه الفاتر يحمل لي احيانا طابع التأنيب الابوي الذي يتساءل كيف ستكون ابا بالمعنى الكامل بهذه الكلمة بعد موتي؟ فليس من مصلحة الاب اطلاقا ان يحمل هذا القدر الهائل من الحب والشغف الكبير لابنائه”. ويحاول ربط هذا التبرير النظري بحالته الفعلية فيكمل: “وبالذات حينما يكونون عرضة ـ كالحكيم مثلا ـ لكثير من الانحرافات والمفاجآت غير المتوقعة”. ومن الواضح ان التحذير/ النبوءة قد اطلق قبل ولادة (الحكيم) وقبل معرفة وضعه الصحي . زوجة “حمد” تقول له” ليتك تدري ما الذي يعنيه الحكيم في حياتي.. وانت الا تحبه؟” فيقول: “كنت ارنو الى السقف متعمدا على نحو غامض لا ادرك دوافعه ان اتجاهل الاجابة على السؤال”. يقين مهتز وقناعات مترددة وارادة متذبذبة لا يستطيع “حمد” حزم امره والاعلان عن حبه لوليده. حين يقول “حمد” “يجتاحني مرة اخرى ذلك الانين الخافت، انين كئيب تبوح به الارض المستلقية تحت نور الشمس المتألقة” ليعبر عن الام المخاض العسير التي عانت منها زوجته ويحيلنا الى رمز اسطوري للامومة الا وهو الارض/ الاصل/ الامومة الكونية الشاملة فأنه يضفي لمسات شديدة الاتساع وخطيرة الايحاء حول القادم الجديد. ان انفعال الطبيعة بارضها ونجومها وليلها وريحها وشجرها يحيل مخاض الام / الزوجة الى مخاض كوني يتناسب مع ولادة منقذ او لحظة انبعاث مخلص ويعزز ذلك صباح الولادة الذي احتفت به الطبيعة: “انبثقت الشمس.. متوهجة ترسل اشعتها الذهبية.. وغاسلة الحقول الزاهية الخضيرة.. تبدو القلعة شامخة مضاءة بالنور المتالق..الخ”. يغذي القاص احساسنا باستثنائية الحدث من خلال الاسم المختار “الحكيم” والسمات الشخصية المتميزة التي اضفيت على المولود والمصير المرسوم له، دائما تحمل التسمية بعدا يعكس الدور المتصور، واسطوريا لا يتعين وجود الفرد الا اذا منح اسما ينطبق هذا الامر على الاله (مردوخ) في اسطورة الخليقة البابلية مثلما ينطبق على معاني تعليم (آدم) الاسماء كلها كما ورد في القرآن الكريم على سبيل المثال. واذا كان الجد الذي اطلق التحذير/ النبوءة قبل الولادة هو نفس، الذي اختار اسم المودود، فهل كان اسم “الحكيم” ينطوي على بعد سحري يقصد منه تحييد الاذى ومنع عدوان الابناء على الاباء؟ اما من ناحية السمات الشخصية الفائقة فقد لاحظنا كيف يصف “حمد” جمال مولوده الباهر: “عينان فاحمتان.. شعر رمادي طويل.. النضج والحيوية والهدوء..الخ”. اما من الناحية النفسية فانه يرى فيه مشروع رجل مقتدر مكتمل الشخصية مستقبلا. يقول حمد: “مواصفاته العالية تحتم على أي شخص يراه ولو للمرة الاولى بان يضع في حسابه ان هذا الطفل ليس كغيره من الاطفال. انه شيء اخر اكثر من مجرد طفل وسيكون مستقبلا بلا ادنى شك اكثر من مجرد رجل”. ولم يكن الاب والام والجدة فقط هم المنبهرون بجمال الحكيم وخصاله وسلوكه بل ابناء القرية كذلك. ويكفينا الاستماع لتعليقاتهم لندرك مدى اعجابهم به. ـ واضح الذكاء مع انه ما يزال طفلا. ـ جميل بشكل لا يصدق. وفي العادة يرسم مصير الفرد المتميز اسطوريا بصورة مسبقة في هيئة نبوءة يطلقها (عارف) او نذير او حدث غير مالوف. وكما رأينا فقد اطلق الجد تحذيره/ نبوءته حول عدوان الابناء على الاباء، وفوق ذلك فان الجد كان يعرب عن تشاؤمه وقلقه من مصير الحكيم وديمومته في الحياة بصورة واضحة. فحين تتحدث العائلة بفخر عن المستقبل المتوقع للوليد، احدهم يرى انه سيكون ضابطا والاخر عالما دينيا نجده يعلق: “دعوه يعيش اولا وليكن ما يكون.. المهم ان يعيش” وفعلا فقد اصيب الحكيم بوعكة صحية بعد ولادته شغلت جميع افراد العائلة وبشكل خاص الام التي كانت تخشى ان تفقده والجدة التي كانت ترى انه كنز يجب عدم التفريط به. وما ان شفي حتى عاد السرور يتسع في ارجاء البيت ولكن الجد عاد ليحذر ابنه / الاب: “لا تحبهم هكذا، فانهم يجرحون في النهاية” في النهاية يصاب الحكيم بانتكاسة صحية خطيرة فتنقله الجدة الى المدينة حيث يعمل ابوه ويدخلانه المستشفى “كان الحكيم يزداد تورما ويزداد شحوبا ويزداد توغلا في بعده عن الحياة” كان الجميع مقتنعون بانه سوف لن يمكث على قيد الحياة طويلا.. هنا يستبد القلق بالاب فيتذكر فورا تحذير/ الجد ابيه: “الم اقل لك ان لا تحبهم، فانهم اعداء لا يرحمون”. ويختم القاص قصته بعبارة شديدة الايحاء: “ فأمتلأ حد الاختناق بانين الارض الشبحية المستلقية على مد البصر. انين كئيب ممطوط ينبعث من ردهات المستشفى المتقابلة، المغلقة الابواب، انين اطفال يحتضرون..” عن هذه الطريق يعزز “حمد صالح” وحدة قصته الفتية حيث ابتدأ بأنين الارض الكئيب الممطوط واسترجع صداه مع تنامي وقائع قصته ثم اسدل ستارة مسرحها به. وبهذا الانين الفاجع وبتحذير / نبوءة الجد واستجابة الاب اولا والام ثانيا يحافظ على الجوهر الاساسي للمركب الاوديبي مع تحويرات شديدة الاهمية حيث يبدو الصراع هنا بين جيل الاحفاد وجيل الاجداد وما الاب هنا سوى (وسيط) في حركة هذا الصراع والجد هو الذي (عرف) ابعاد النوايا الاوديبية المبيتة وخبرها في تجربة اكتملت خطوطها من قبل، وعليه فهو المهيأ فعلا لاطلاق النبوءة/ التحذير. ان ولادة حفيد يعني اعلان الانتصار النهائي للاب / الابن على الاب / الجد من ناحية وشارة بدء جولة صراع جديد اخرى من ناحية ثانية وجولة الصراع، في قصة (حمد صالح) اصبحت اشد مرارة واقلاقا. فقد اشعل فتيله مع لحظات المخاض وليس مع اشتداد عود الابن وساعده. لم يعد مجيء الابن بشرى بل شارة قدوم عاصفة تقلق العالم الابوي باكمله وتهز ركائزه، واذا كان (القدر) قد اجهض فعل هذه العاصفة الاوديبية فان القدر هو وجه مجرد من وجوه السلطة الابوية الخاصية. وبتحول الانين الكئيب الممطوط الى انين اطفال يحتضرون ينطلق من الارض الشبحية المستلقية يعلن القاص عن انتصار الارادة الابوية النهائي، ولكنه انتصار ارادة جريحة يؤكد التحذير / النبوءة: “انهم يجرحون.. انهم اعداء لا يرحمون”.
هامش
*الملاذات ـ مجموعة قصصية ـ حمد صالح ـ دار الرشيد للنشرـ بغداد 1981.
- نقلا عن الناقد العراقي
في عام 1994 قرأت، متأخرا، رواية (خراب العاشق) للمبدع الراحل حمد صالح ولا اعلم كيف كانت دموعي تجري دون ان اعلم. في اليوم الثاني، وكان عاصفا وشديد المطر، سافرت الى قضاء (الشرقاط) ثم الى قرية (اجميلة) ، قرية (حمد صالح) سألت واحدا من اصدقائه، ما الذي كان (حمد) يفعله كل ليلة حين كان يعمل مدرسا في الشرقاط؟ قال: يسهر، هو ومجموعة من المدرسين في القلعة الاشورية الاثرية يحتسون الخمرة، لكن “حمد” كان يتركهم وينحدر في بقايا المعبد ويروح في نوبة بكاء عميق حارق، ولا احد يعرف السبب.. قلت: هذا هو نفس حال بطل رواية (خراب العاشق) قال: فعلا. كتبت بعد العودة دراسة عنوانها: (خراب العاشق ام خراب حمد صالح؟) نشرت في صحيفة (العرب) اللندنية، ثم دراسة عن مجموعته القصصية (الملاذات) وهي التي ستنشر هنا. زرت بيته والتقيت بشقيقه عالي التهذيب المحامي احمد الجبوري فمنحني شيئا عظيما من ارث “حمد” العشرات من القصص غير المنشورة والمنشورة التي لم تضمنها مجموعة، وبديواني شعر، تصوروا” ديواني شعر. نشرت في عام 1998 تقديما عن الراحل وقصيدة له . كرمت الدولة زوجته انذاك بمليون دينار. ولكن على حد تعبير احد الشعراء الصينيين فان الموتى لا يشمون الورود التي تلقى على قبورهم. حمد.. بعدك، خطف المثكل صديق طفولتك وابن قريتك المبدع “محمود جنداري” .. لم نلق على قبريكما أي وردة.. اخي حمد.. لقد نسيناك.. هل تسمعني؟
في قصة (الحكيم) المنشورة في مجموعته القصصية الاولى (الملاذات) يطرح القاص “حمد صالح” المركب الاوديبي في شكل جديد ماكر ومؤثر حيث ينتظر بطل القصة ، وهو هنا القاص نفسه “حمد صالح” وما اكثر القصص التي يكون بطلها القاص نفسه او تحكى بضمير المتكلم المعبر عن القاص ذاته، مولوده الثالث في ليلة يجتاحه فيها قلق الانتظار، متوترا ومستثار الاعصاب لا يستطيع الاستقرار في ساحة الدار، مسقطا صراعه النفسي الداخلي على الطبيعة والموجودات من حوله فيلوّن الاضطراب والخوف كل شيء: “تطالعني النجوم المتواضعة كأعين مذعورة.. مبحلقة.. نابتة في الظلام ، كانت هي الاخرى تئن..” ويشاركه محنة الانتظار ابوه، أي الجد، الذي يقول له محذرا اياه بصورة غريبة: “لا تحبهم هكذا، فانهم يجرحون في النهاية.. الابناء في حالات معينة اعداء لابائهم.. اعداء لا يرحمون”. وسيصدم القارىء قطعا لهذا التحذير الذي يدعو فيه اب ابنه للتحسب من احفاده!! يطلق الجد العجوز هذا التنبيه من دون سبب واضح او رابطة ظاهرة يتلمسها القارىء: “لا تحبهم هكذا فانهم يجرحون في النهاية.. بتمتمة خافتة ذات مدلول واضح لا تخلو من مسحة حزن، كان ابي يردد هذه الكلمات على سمعي كلما رآني اساعدهم على المسير او الاعبهم الكرة في ساحة الحوش او انحني على ركبتي ويدي ليتسلقوا ظهري بصخب ومرح عابثين”. ومن الواضح ان هناك عدم تناسب ، بل تناقضا ، منطقيا بين حدة التحذير وقطعيته وبين القرائن والدلائل التي استند اليها، فقيام الاب بملاعبة ابنائه هو امر طبيعي لا يستدعي تحسبا حازما ومخيفا من النوع الذي اطلقه الجد. من المتوقع ان يسلك الاب اكثر السلوكيات طفلية مع ابنائه، يعابثهم ويضاحكهم. اذا، اعدنا الى اذهاننا نبوءة العرافين التي قدموها الى الملك السومري ، ابي جلجامش، والى الملك الاغريقي ابي اوديب ومفاد النبوءتين ان الابن المقبل سوف يقتل اباه ويستولي على عرشه. ومن يحاول العودة لتأمل هاتين الاسطورتين سيجد اننا جميعا كقراء فاتنا ان نتفحص دوافع النبوءة وان نرسم حدود منطقيتها. ما الذي يدفع عراف (دلفي) الى تحذير الملك من ابنه؟ ومن يصدق ان ابنا يمكنه ان يقتل اباه؟ لكننا (اخذنا) بالنبوءة وسلمنا بها وسرنا مع تطورات النتائج المترتبة على مقدماتها القاطعة. هل غيبت بصيرتنا لان بذور تلك الجريمة تتململ فعلا في تربة لا شعورنا، وان المبدع “ الكاتب الاسطوري المجنون لملحمة جلجامش او سوفوكل مؤلف مسرحية اوديب ملكا” لم يقم بشيء يخالف طبيعة الاشياء سوى انه قام بـ (شخصنة) وقائع تلك الجريمة واطرافها واحكام حبكتها بصورة تبعث التشويق في نفس المتلقي؟ هل ان جانبا من منافع او (مخاطر) الابداع هو انه يوفر الاغطية المناسبة التي تجعلنا نستمتع بالفرجة على جرائمنا اللاشعورية المبيتة وهي تنفذ فعليا على مسرح القصة اوالرواية او التراجيديا دون ان ينتابنا الشعور المؤرق بالاثم ومضاعفاته بفعل الاتفاق الجمعي غير المعلن؟ هل هذا جانب مما يحاول “حمد صالح” فعله لذاته ولذواتنا من خلال قصته القصيرة “الحكيم” والتي أستهلها بتحذير الجد الغريب: “لا تحبهم هكذا فأنهم يجرحون في النهاية، الابناء في حالات معينة اعداء لابائهم.. اعداء لا يرحمون؟” يضفي الراوي / القاص على ابيه صفات تؤكد الوقار والمهابة والخبرة. انها صورة (العارف) القادر على الاستشراف والتوقع. “مقوس الظهر، في عينيه الضيقتين بريق شفاف على وشك الانطفاء، مجعد الوجه، وجنتاه الذابلتان ناتئتان من خلال كثافة الشعر الابيض النامي حديثا والذي كلما استطال اخفى على ملامح الذبول شكلا هلاميا يائسا. رجل في اخر العمر ينحدر نحو نهايته بوعي وعمق. تاريخه يثقل كاهله/ لم يبق امامه سوى بضع كلمات يوجز بها تاريخ حياته التي اوشكت على الافول، وقد نسحب قبل ان يسمعه احد”. خلال ساعات الانتظار الطويلة الممضة وحيث تمزق سكون الليل الموحش صرخات الزوجة بفعل الام المخاض الموجعة، يروح الزوج، بفعل الارهاق، في اغفاءه طويلة نسبيا يحلم خلالها بزوجته وهي مستلقية بين ذعر النجوم ببرود جثة لم يزل فيها نبض حياة .. كانت في ذروة المخاض، في ذروة الالم، فيما كنت اقف الى جانبها مبهوتا، لا ادري ما الذي استطيع ان افعله.. انحنيت نحوها مضطرب الانفاس لاتأكد من بقايا وجود حياة فيها، ولعل هذا كل ما استطيع ان افعله من اجلها.. ولاننا نؤمن بان الحلم هو عملية تحقيق رغبة لا شعورية مكبوتة في اغلب الاحوال، وتمريرها من خلال استثمار بقايا من صراعات الحياة اليقظة، يمكننا ان نوحد المعطيات الواقعية بالحلمية على ارضية متناغمة من الواقع النفسي للراوي / القاص، بقوله: “لا تحبهم .. الابناء اعداء لابائهم..الخ” دق الاب/ الجد ناقوسا ايقظ صداه تحسبا اوديبيا (مضادا) اذا جاز التعبير، مثل تحسب الملكين في الاسطورتين اللذين تخلصا من ابنيهما وهما طفلين فالقيا بهما خارج اسوار المدينة. لقد قام عمل الحلم (Dream work) (بقلب) مخاوف الاب اللاشعورية وجعل الام/ الزوجة هي التي تموت في الوقت الذي كان فيه هو المهدد اصلا. ولعل افضل الادلة على قوة هذه الرغبة هو انه يصحو على كف امه تمسك كتفه لتوقضه فيسالها فورا: ـ ما الذي حدث.. هل ماتت؟ وبرغم استعادته لتوازنه نجده يعيد التساؤل الغريب: ـ خبريني هل ماتت؟ فتخبره بالبشارة: انها بخير.. جاءك ولد. فهل كان حلمه وامتداده في حياة اليقظة تعبيرا عما اختزنه لا شعوره من انعكاسات تحسبية اشعلها تحذير الاب/ الجد من عداء الابناء للاباء؟ (هل “قلب” حمد صالح اسس ومسارات الصراع الاوديبي وجعلها اكثر مأساوية من خلال طرح احتمال عداء الابن للاب في صورة سلب نهائي للامرأة المشتركة، استئصال وجودها جذريا، اماتتها؟ وهل هذا هو المغزى العميق لتساؤل الاب حمد صالح عندما يرى ابنه لاول مرة: “كيف قيض لهذه الكتلة الهزيلة من اللحم الطري ان تكون سببا لكل هذا الالم؟” يقول حمد: كان الاولى بي ان انقلها الى المستشفى؟؟ فيعلق ابوه الشيخ: الم تألف هذه الحالات بعد؟ ان ما يبديه من مخاوف ساعات المخاض لا يتناسب مع تجربته كأب لطفلين سابقين. مخاوفه فائضة وقلقه طافح وخانق ملأ وعاء روحه وسال على جانبي وجودها ليغرق عالمه الشخصي منذرا بوقوع كارثة شخصية ذات امتدادات وجودية شاملة: “ليس هناك سوى شاشة سوداء واسعة مترامية الاطراف، ترى فيها الجدران المحيطة بالحوش على شكل جرف شبحي متمدد يحتضن الغرف الطينية المتناثرة فتبدو على امتداده المظلم مجرد كومات سوداء تكاد ان تكون غير مرئية. علامات راقدة في صمتها المتحفز، كالظلام ذاته، توحي برعب مجهول، غامض، لا يني يتوالد على نحو مبهم في هواجس الذاكرة، وكانت النجوم تتوامض كأعين مذعورة، مبحلقة، ثابتة في الظلمة الباهتة”. وبتوسيع الرؤية ومع توفر شروط معرفية اخرى، هل يمكن ان تتطور حيرة وقلق مثل هذا الاب لتصبح تساؤلات فلسفية حول اصل الوجود ومغزاه او عبثية الوجود الشخصي ولا جدواه؟ عندها سنقف امام نمط معرفي غيب جذره النفسي الاصيل تحت طبقات كثيفة من تساؤلات الفكر القلق. ويبدو ان ما يحرك النفس البشرية ويدفعها للبحث في مصيرها هو التهديدات (الداخلية) التي يشعلها الصراع بين اطراف المثلث الاوديبي وما يترتب عليها من مشاعر ملتهبة بالذنب وحاجة لاطفائه عن طريق التكفير الذي قد يصل حد تدمير الذات. تلك المشاعر التي يثيرها رد الفعل المقابل على تهديد الوجود الفردي قد توصل الذات المهددة الى حالة تماه مفرط مع ذات الضحية المتصورة (وهي هنا الام/ الزوجة). يقول (حمد): “يتعالى الانين المتألم فيخيل لي للحظة راكدة ان الجدران الطينية تئن في الظلمة. انين ممطوط ، كئيب، ينبعث من الارض الشبحية المستلقية على مد البصر فاغوص مرعوبا في بحر زاخر من الانين المتجاوب بمرارة، اتهالك جاثيا على ركبتي ومسندا ظهري الى حائط الغرفة المخنوقة بزفرات الانين..” وبعد خطوات او اميال من التوغل القلق هل يمكننا ملاحظة مشهد ممتد يستمع فيه الاب / الراوي لانين الارض الموجع ويحاوره ويسمع نبوءته وقد يقدم له اضحيته.. فيخلق لنا اسطورة قديمة او قصة قصيرة حديثة؟) الان ولد “الحكيم” كما سماه الجد، وهي تسمية تخالف في معانيها (نبوءته) حول عداء الابناء للاباء وكونهم جارحين لهم (هل من مضامين التسمية ما يتعلق بالفعل السحري الاستباقي الذي يحيد العدوان المستقبلي) جاء الحكيم واثار قدومه درجة واضحة من عقدة (قابيل) لدى اخويه الاخرين، فقد احتل مكان الصدارة عند امهما. لقد فوجئا حين اخبرهما ابوهما ان كتلة اللحم الجديدة هي اخوهما، “حيث ان وجهيهما ظلا كما هما، لم ينما عن أي ارتياح لهذا الزائر الثقيل غير المرغوب فيه” ، “لم يكونا يعلمان على الاطلاق من انه سيكون لهما اخر على هذا القدر من ضآلة الحجم يستطيع ان يكون سببا في مرض امهما وقدرة فائقة بمثل هذه السرعة على كسب حبها”. بعد مدة قصيرة بدأت تتضح معالم وسامة طفلية اخاذة على(الحكيم) “حيث اتسعت عيناه الناهمتان واستطال الشعر الرمادي حتى حجب الاذنين، على قسماته المتناسقة شيء من الريبة او الانتباه المتسائل ابدا، مسحة ليست عادية مما يوحي للمقابل فور رؤيته ان هذا الطفل يتميز بمواصفات يفتقر لها غالبية الاطفال في مثل سنه، او حتى اكبر من سنه.. انه شيء اخر اكثر من مجرد طفل وسيكون مستقبلا بلا ادنى شك اكثر من مجرد رجل” . ولكن هذا الموقف الابوي الايجابي يشوبه ايضا موقف اوديبي مضاد ودفعات عاطفية سلبية. فكلما رأى الاب وليده باشا او غارقا في الضحك بين افراد العائلة يعاوده انين ذلك الليل المرهق الطويل بكل كوابيسه وقلقه ومرارته فيخالجه احساس غريب مؤداه ان هذا الطفل الجميل المكتنز الفاضح بالحيوية والهدوء اجدر بكراهيته منه الى حبه كما يقول الاب نفسه. والاكثر دقة هو ان نشير الى ان الصلات بين اطراف المثلث الاوديبي يحكمها” التضاد العاطفي Ambivalent” وبشكل خاص بين الاب والابن، فالاب بالنسبة للابن هو السلطة الحامية القادرة على كل شيء، وهي في نفس الوقت سلطة خاصية معاقبة وفي المقابل فان الابن بالنسبة الى الاب يحمل مثله وجهين متضادين فهو امتداد لرجولته وتوكيد لديمومة وجوده (خلوده) من ناحية وهو المنافس المهدد من ناحية اخرى، ولذلك نجد الاب (حمد) يعبر عن امتزاج الشحنتين العاطفيتين السلبية والايجابية في موقفه من (الحكيم): “هذا الطفل الجميل اجدر بكراهيتي منه الى حبي، وطالما دققت النظر فيه بامعان باحثا عن وجه الصعوبة التي اكتنفت مولده بيد اني قبل ان اصل الى أي استنتاج كنت اراني مدفوعا بحب لا حدود له الى حمله بين ذراعي وحين تتسرب حرارة جسده الى مسامي يجتاحني مرة اخرى ذلك الانين الخافت، انين كئيب تبوح به الارض المستلقية تحت نور الشمس المتألقة وكأنما وجوده ظل في ذهني مقرونا بذلك السيل الحالم من الانين المتواصل. ذلك الانين القابض الذي يحثني باستمرار على التساؤل: أي الام مميتة اثارها “الحكيم” لامه ولنا ايضا ونحن نرقبها عبر الباب الموصد وعبر صمت الجدران وهي تجترع بكل قسوة ومرارة لحظات المخاض العسير قبل ان يطل على الوجود؟” هكذا يمتزج الحب بالكراهية، التقدير بالتجنيس، والاطمئنان بالتحسب تحت جنح موقف نفسي واحد. فهذا الابن الذي هو من صلب الاب ومبعث فخره وعلامة استمراريته هو من جانب اخر من سبب ـ للام الانثى المشتركة ـ الالام المميتة وفوق ذلك استأثر بحبها وعنايتها واعجابها واثار في نفس الوقت هواجس العداء حسب تحذير الجد. ان هذا الموقف المتضاد هو العامل الاساس الذي جعل صورة تحذير الجد من الابناء غائمة وعصية على ادراكه القاطع. يمتزج هذا العامل بفعل آلية اخرى هي (المقاومة Resistance) التي تخلق مانعا صلبا في وجه الاستيعاب الواضح واليسير. وسبب من المقاومة هو ان الاب كان ولا يزال ابنا بدوره. يقول “حمد” “هززت رأسي موافقا مع اني لم اجد ما اقوله وتساءلت فيما اذا كان ابي يحبني في طفولتي التي لا اذكر منها الشيء الكثير؟، وبالذات تلك الطفولة التي لا يذكر منها الانسان في رجولته شيئا على الاطلاق” ونسيان الفرد الراشد لتجارب طفولته هو شكل من اشكالا المقاومة التي تدفع عن (الانا) الذكريات المؤلمة المثيرة لمشاعر الذنب والقلق من ناحية والتي تؤثر سلبيا في صورة الذات الراشدة الفعلية والمثالية من ناحية اخرى، وتضيع المقاومة والدوافع المكبوتة اللائبة قدرة الفرد على الاختيار وتحديد الاولويات فيبدو حائرا وسط دوامة الاحتمالات غير المؤكدة رغم نضجه وسعة تجربته وثقافته “اقنعت نفسي بما مؤداه ان ابي كرجل اوشكت شمس حياته على الافول يختزن الكثير من التجارب الحقيقية ، وهو اذ يلوح عن بعد بهذه التلميحات العابقة برائحة التحذير الكئيب فانما على الارجح يود ان يشير بوضوح الى خلفية ممتلئة بالمعاناة المؤلمة”. ووسط تلك الاحتمالات يحاول “حمد”/ الاب ان يبرر ويعقلن دون ان يجد مخرجا معقول التحديد يتناسب مع طبيعة التحذير “كان همسه الفاتر يحمل لي احيانا طابع التأنيب الابوي الذي يتساءل كيف ستكون ابا بالمعنى الكامل بهذه الكلمة بعد موتي؟ فليس من مصلحة الاب اطلاقا ان يحمل هذا القدر الهائل من الحب والشغف الكبير لابنائه”. ويحاول ربط هذا التبرير النظري بحالته الفعلية فيكمل: “وبالذات حينما يكونون عرضة ـ كالحكيم مثلا ـ لكثير من الانحرافات والمفاجآت غير المتوقعة”. ومن الواضح ان التحذير/ النبوءة قد اطلق قبل ولادة (الحكيم) وقبل معرفة وضعه الصحي . زوجة “حمد” تقول له” ليتك تدري ما الذي يعنيه الحكيم في حياتي.. وانت الا تحبه؟” فيقول: “كنت ارنو الى السقف متعمدا على نحو غامض لا ادرك دوافعه ان اتجاهل الاجابة على السؤال”. يقين مهتز وقناعات مترددة وارادة متذبذبة لا يستطيع “حمد” حزم امره والاعلان عن حبه لوليده. حين يقول “حمد” “يجتاحني مرة اخرى ذلك الانين الخافت، انين كئيب تبوح به الارض المستلقية تحت نور الشمس المتألقة” ليعبر عن الام المخاض العسير التي عانت منها زوجته ويحيلنا الى رمز اسطوري للامومة الا وهو الارض/ الاصل/ الامومة الكونية الشاملة فأنه يضفي لمسات شديدة الاتساع وخطيرة الايحاء حول القادم الجديد. ان انفعال الطبيعة بارضها ونجومها وليلها وريحها وشجرها يحيل مخاض الام / الزوجة الى مخاض كوني يتناسب مع ولادة منقذ او لحظة انبعاث مخلص ويعزز ذلك صباح الولادة الذي احتفت به الطبيعة: “انبثقت الشمس.. متوهجة ترسل اشعتها الذهبية.. وغاسلة الحقول الزاهية الخضيرة.. تبدو القلعة شامخة مضاءة بالنور المتالق..الخ”. يغذي القاص احساسنا باستثنائية الحدث من خلال الاسم المختار “الحكيم” والسمات الشخصية المتميزة التي اضفيت على المولود والمصير المرسوم له، دائما تحمل التسمية بعدا يعكس الدور المتصور، واسطوريا لا يتعين وجود الفرد الا اذا منح اسما ينطبق هذا الامر على الاله (مردوخ) في اسطورة الخليقة البابلية مثلما ينطبق على معاني تعليم (آدم) الاسماء كلها كما ورد في القرآن الكريم على سبيل المثال. واذا كان الجد الذي اطلق التحذير/ النبوءة قبل الولادة هو نفس، الذي اختار اسم المودود، فهل كان اسم “الحكيم” ينطوي على بعد سحري يقصد منه تحييد الاذى ومنع عدوان الابناء على الاباء؟ اما من ناحية السمات الشخصية الفائقة فقد لاحظنا كيف يصف “حمد” جمال مولوده الباهر: “عينان فاحمتان.. شعر رمادي طويل.. النضج والحيوية والهدوء..الخ”. اما من الناحية النفسية فانه يرى فيه مشروع رجل مقتدر مكتمل الشخصية مستقبلا. يقول حمد: “مواصفاته العالية تحتم على أي شخص يراه ولو للمرة الاولى بان يضع في حسابه ان هذا الطفل ليس كغيره من الاطفال. انه شيء اخر اكثر من مجرد طفل وسيكون مستقبلا بلا ادنى شك اكثر من مجرد رجل”. ولم يكن الاب والام والجدة فقط هم المنبهرون بجمال الحكيم وخصاله وسلوكه بل ابناء القرية كذلك. ويكفينا الاستماع لتعليقاتهم لندرك مدى اعجابهم به. ـ واضح الذكاء مع انه ما يزال طفلا. ـ جميل بشكل لا يصدق. وفي العادة يرسم مصير الفرد المتميز اسطوريا بصورة مسبقة في هيئة نبوءة يطلقها (عارف) او نذير او حدث غير مالوف. وكما رأينا فقد اطلق الجد تحذيره/ نبوءته حول عدوان الابناء على الاباء، وفوق ذلك فان الجد كان يعرب عن تشاؤمه وقلقه من مصير الحكيم وديمومته في الحياة بصورة واضحة. فحين تتحدث العائلة بفخر عن المستقبل المتوقع للوليد، احدهم يرى انه سيكون ضابطا والاخر عالما دينيا نجده يعلق: “دعوه يعيش اولا وليكن ما يكون.. المهم ان يعيش” وفعلا فقد اصيب الحكيم بوعكة صحية بعد ولادته شغلت جميع افراد العائلة وبشكل خاص الام التي كانت تخشى ان تفقده والجدة التي كانت ترى انه كنز يجب عدم التفريط به. وما ان شفي حتى عاد السرور يتسع في ارجاء البيت ولكن الجد عاد ليحذر ابنه / الاب: “لا تحبهم هكذا، فانهم يجرحون في النهاية” في النهاية يصاب الحكيم بانتكاسة صحية خطيرة فتنقله الجدة الى المدينة حيث يعمل ابوه ويدخلانه المستشفى “كان الحكيم يزداد تورما ويزداد شحوبا ويزداد توغلا في بعده عن الحياة” كان الجميع مقتنعون بانه سوف لن يمكث على قيد الحياة طويلا.. هنا يستبد القلق بالاب فيتذكر فورا تحذير/ الجد ابيه: “الم اقل لك ان لا تحبهم، فانهم اعداء لا يرحمون”. ويختم القاص قصته بعبارة شديدة الايحاء: “ فأمتلأ حد الاختناق بانين الارض الشبحية المستلقية على مد البصر. انين كئيب ممطوط ينبعث من ردهات المستشفى المتقابلة، المغلقة الابواب، انين اطفال يحتضرون..” عن هذه الطريق يعزز “حمد صالح” وحدة قصته الفتية حيث ابتدأ بأنين الارض الكئيب الممطوط واسترجع صداه مع تنامي وقائع قصته ثم اسدل ستارة مسرحها به. وبهذا الانين الفاجع وبتحذير / نبوءة الجد واستجابة الاب اولا والام ثانيا يحافظ على الجوهر الاساسي للمركب الاوديبي مع تحويرات شديدة الاهمية حيث يبدو الصراع هنا بين جيل الاحفاد وجيل الاجداد وما الاب هنا سوى (وسيط) في حركة هذا الصراع والجد هو الذي (عرف) ابعاد النوايا الاوديبية المبيتة وخبرها في تجربة اكتملت خطوطها من قبل، وعليه فهو المهيأ فعلا لاطلاق النبوءة/ التحذير. ان ولادة حفيد يعني اعلان الانتصار النهائي للاب / الابن على الاب / الجد من ناحية وشارة بدء جولة صراع جديد اخرى من ناحية ثانية وجولة الصراع، في قصة (حمد صالح) اصبحت اشد مرارة واقلاقا. فقد اشعل فتيله مع لحظات المخاض وليس مع اشتداد عود الابن وساعده. لم يعد مجيء الابن بشرى بل شارة قدوم عاصفة تقلق العالم الابوي باكمله وتهز ركائزه، واذا كان (القدر) قد اجهض فعل هذه العاصفة الاوديبية فان القدر هو وجه مجرد من وجوه السلطة الابوية الخاصية. وبتحول الانين الكئيب الممطوط الى انين اطفال يحتضرون ينطلق من الارض الشبحية المستلقية يعلن القاص عن انتصار الارادة الابوية النهائي، ولكنه انتصار ارادة جريحة يؤكد التحذير / النبوءة: “انهم يجرحون.. انهم اعداء لا يرحمون”.
هامش
*الملاذات ـ مجموعة قصصية ـ حمد صالح ـ دار الرشيد للنشرـ بغداد 1981.
- نقلا عن الناقد العراقي