د. المصطفى بلعوام - الحوار بالسرد، والسرد بالحوار في القصة القصيرة "قفص الطيور" لمحسن الطوخي.. رؤية نقدية

قفص الطيور
محسن الطوخي

يتصدر المجلس والسيجارة في ركن فمه، يكتسي وجهه الهضيم بعلامات الجد وهو يحدق في أوراق اللعب:
- الق ورقتك، لن ننتظرك حتى الفجر.
تتساقط أوراق اللعب، يفرقع بالكارت منتشيا: آس سبيد.
يلملم الأوراق ويدسها أمامه مكشرا عن أنيابه في مرح: أنتم أولاد طيبون.
يداعبه فؤاد ذو الشارب الزغبي: خسارة مواهبك تهدر في هذا التيه.
يصيح بصوت أجش: قل للغجر.
يتفجر الضحك من حناجر تتوق للملحة، يتابع فؤاد:
- لا يعرف قدرك سواي.
- ذلك أن الطيور على أشكالها تقع.
يلتقط الورق، فيتأهبون لمعاودة اللعب.
رمى فؤاد الورق من يده: مللنا اللعب، أرنا نياشينك.
توقف، تفرس في العيون: النياشين لا يحصل عليها إلا الحمقى أمثالك.
أضاف:
- شاهدتموها عشرات المرات.
- أنسيت أن بيننا وجها جديدا؟
كان يقصدني.. اتجهت صوبي عشر عيون.
- أعرف ماتقولونه عني في خلوتكم ياأولاد الأبالسة.
اعتدل وهو يوجه حديثه إلي.
- بم ينعتونني في إدارتكم الرديئة؟.
نظرت إليه مستفهما.
- ألا يقولون أن لدي أرباعا ثلاثة " ضاربة"؟.
ضحكت قائلا: هم لا يعرفونك جيدا.
قال: صدقت. لو عرفوني لأدركوا أن الأربعة بأكملهم " ضاربين".
دوت عاصفة من الضحك ارتجت لها جدران الملجأ الميداني، ألقى بأوراق اللعب ونهض، فساد الصمت. غاب خلف ستار، ثم أقبل يحمل حقيبة. قال: بعدها ستغادرون.
عندما رفع الغطاء بدت مجموعة من الشظايا المعدنية متفاوتة الأحجام.
احتلت الحواف قطع دقيقة بحجم الحمصات، تلتها مجموعة ذات أحجام أكبر، أما كبراهن فاستوت في مركز المساحة المخملية الخضراء. شظية في حجم عصفور الكناريا، سوداء، مستدقة الأطراف، مكسوة بالنتوءات، تشبه حيوانا بحريا صغيرا. أشار أحدهم إلى الشظيات الحمصية قائلا: تلك هي العصافير.
رد فؤاد موضحا: العصافير هي الطيور الدقيقة الرقيقة التي استخرجت من جسد الضارب.
قال ثالث: أما تلك الحدآت، فمن أجساد أخرى.
قال الضارب: تعرفون القواعد.
علق أحدهم: عليكم أن تختاروا واحدة.
قال فؤاد: سيحظى ضيفنا بشرف الاختيار.
اتجهت العيون إلي، قفزت الكلمات على لساني قبل أن أعقله: سأختار العنقاء.
وأشرت إلى مركز الدائرة. انفجر الضارب مقهقها في حبور وهو يلكم صدري: أحسنت.
عقب فؤاد قائلا: تلك القطعة تخص المتهور.
ساد الصمت وبدأ الضارب يروي: توقف القصف للحظة، وساد الهدوء، قفز المتهور خارج حفرته ينفض الغبار عن وجهه. في نفس اللحظة صفرت دانة، رأيتها مقبلة، كما أعرف أن المتهور رآها. عشت سنوات يراودني حلم آثم، أن أرى الخوف في وجهه مرة، أن يشوب صوته تلك الرعشة التي تنبىء عن تصدع القلب.. انفجرت الدانة على مسافة قريبة.. ومرت العنقاء.
صوب بصره إلي وهو يصور بيده كيف مرت الشظية من البطن، فخرجت من الظهر. خيم صمت ثقيل قبل أن يستطرد: كانت هوايته أن يتسلل من بيننا، يحمل هاتفه الميداني، ويقول:
- هل تريدون شيئا من هناك ياأولاد؟
ونعرف نحن ماهو ال( هناك) .. لم أكن لأفعل مايفعله المتهور، أذهب مختارا إلى الجانب الآخر عبر القناة وأسير فوق الأرض الملغومة بين تحصينات الصهاينة، أكمن حيث خطوط الاتصالات، أعري بأسناني الأسلاك الباردة، وأقبع بالساعات استرق السمع...
ولما لا يجيب المتهور إلا الصمت يقول لنا: لديهم نساء فاتنات، سآتيكم بواحدة. ويبتلعه الظلام. يتلاشى وقع أقدامه. أما نحن، فنتناساه حتى يعود. أصبح مادار في تلك البقعة يسمى بمعركة الشهيد سعد، كأنما كانت هناك صخرة في مكان القلب منه. لم أكن لأفعل أبدا ماكان يفعله.
------------------
كان آخر الضباط الصغار قد شد على يدى ومضى مرتقيا الدرجات الحجرية، قال الضارب وهو يزيح الستار: هذا ركني الخاص.
بدت الجدران المقعرة مكسوة بأرفف عامرة بالكتب، أدار فتيل المصباح فاتسعت مساحة الضوء. دار حول نفسه: تستطيع أن تجلب مقعدا من الخارج.
- لن أبقى طويلا، فقط دعني أرى نياشينك.
- رأيتها لتوك.
- أعني النياشين الحقيقية.
انحرف جانب فمه بابتسامة ساخرة: النياشين الحقيقية لا يمنحها لك أحد، تحصل عليها بنفسك، تخوض حربا، فتحصل على واحدة.
أشار إلى الشظيات.. تابع: فإذا خرجت حيا، لم يعد لشىء آخر قيمة. أمامك ياصديقي كل مالدي من تراث شخصي.
وكأنما قرأ مايدور بذهني فأضاف:
- جوهر المسألة هو حياتك، تفقدها أو تحتفظ بها لقاء أشياء لا تدخل في حساباتك، تتحول القضية العامة في الميدان إلى قضية غاية في الخصوصية، أن تظل حيا، فإذا علمت أن الله هناك ينظر، فسوف تمتلىء بالدهشة. ولن يبقى حقيقيا إلا مايحتويه قفص الطيور. أشار مرة اخرى إلى الشظيات الراقدة في صندوقها المخملي.
كان الليل قد أوغل، قاومت رغبتي في البقاء، شددت على يده مودعا، عندما كنت أهم بارتقاء الدرجات الحجرية سمعته يقول: العنقاء.. إنها لي.
تناولها من يدي وابتسامة طيبة تغمر وجهه. في الخارج كانت السماء مرصعة بالنجوم، بحثت طويلا عن النجم القطبي الذي سيقودني شمالا إلى الاستراحة التي خصصت لإقامتي.
محسن الطوخي


************************************


الحوار بالسرد، والسرد بالحوار
في القصة القصيرة " قفص الطيور " لمحسن الطوخي
رؤية نقدية : بقلم د: المصطفى بلعوام- المغرب


من البدء، النص- القصة هو عبارة عن حوار تتخلله بعض الترقيمات السردية التي جاءت لتطعمه ب"حاكي أو راوي" حتى لا يبدو في عمومه خاليا من "الحكي" الذي من طبيعته أن يقص القصة،لأن الحوار تَمَثل لزمنية آنية في فعل الكلام بين مخاطب ومخاطب إليه، لا يعرف الحكي ولكن فعل الكلام وردة فعله.
يجمع زمن الحوار بين التلفظ والملفوظ في آن واحد ولا ينفصل عنهما بما أنهما تمظهرا له في اللحظة التي يكون فيها التلفظ حاملا لملفوظ ذي "خطاب مباشر" لمخاطب إليه لا يعرف أية وساطة غير تحقق الكلام وفعله العيني. لكن ما هي قيمة الحوار الفنية ؟ وما هي مادته وعلاقته بالقصة القصيرة؟ وماذا نحلل فيه وبه في آخر المطاف؟
قلنا إن النص هنا عبارة عن حوار لأننا فضلنا أن نبدأ به على اعتبار أنه جوهر إبداعيته من حيث هي فرضية مفادها أن الأستاذ القاص محسن الطوخي يبعثر أساسيات القصة من أجل تجريب نوع من الكتابة القصصية التي
لا تخضع فيها القصة إلى تقنيتها (حوار...) ولكن تصبح التقنية هي القصة ذاتها في أقصى حالات إبداعيتها لها. ماذا يعنى ؟
يعنى أساسا أن النص-القصة مَشْكَلَة لتقنية يعمد على تحويلها من حيز المتعارف عليه في مفهومها العام إلى مدار ما يريده النص منها وما يعطيه إياها من مفهوم خاص بها.
إنه الحوار الذي بقدر ما نأخذه في المعنى المقصود به بداهة، يخرجنا من حقل ما قد يعنيه في المتن الأدبي. يقصد به، في أدنى تعريفه، التبادل الممثل في معظم الأحيان " للخطاب المباشر" بين شخصين على الأقل.
هناك خطاب ومباشرة في الرسالة من حيث هي مادة في الحوار تستجيب لأخذ ورد في فعل الكلام؛ حديث في صيغة ملفوظ كلامي متبادل.
بيد أن معالجته منذ العقود الأخيرة أخذت منحى آخر ووفق استراتيجية نظرية مغايرة جعلت من " الخطاب غير المباشر" أسا له وفِي إطاره تُحلل وحداته الكلامية، وبالتالي، تبعده عن "الخطاب المباشر" باعتباره نمطا برانيا عن " الأدب" بمعناه التخييلي. وهكذا سيتكون جدل حاد حوله بين أصحاب السرد التواصلي والسرد غير التواصلي بحيث يري أصحاب السرد التواصلي (جينيت، دوكرو..) بأن بوليفونية الخطاب غير المباشر الحر لها صوتان يتمثلان في"الراوي" و "الشخصية"، بينما الشق الثاني ( كورادا، بانفيلد..)لا يرى في الخطاب غير المباشر الحر سوى " تمثل التلفظ المفوض"، فلا يوجد،حسبهم، صوت
مرتبط بكلام بحيث المتكلم يحمل مسؤولية كلامه. لكن بين ذَا وذاك، الخطاب المباشر يعود للشخصية والعبارة للراوي بينما يحيل الحوار إلى أكثر من خطاب غير مباشر حر، من كونه ليس محاكاة لحديث واقعي.
من هنا يمكن مقاربة قصة الأستاذ محسن الطوخي: هل يغيب فيها السرد على حساب الحوار؟ وماذا يعني مباينتهما وبالأخص في القصة القصيرة ؟ولماذ نريد أن نطبق مجال
التباين الذي اشتغل به على المتن الروائي (جينيت) في القصة القصيرة انطلاقا من فرضية هذا الأخير التي ردت " الحوار" الى الدرامي بحسب التقسيم اليوناني في تنامي الأفعال فيه وتعارضه مع السرد الذي يضم "المشهد" كأحد العناصر الأربعة التي تشكله وتجعل منه مكونا للحوار وللحظة المحاكاة مع السرد نفسه.
ماذا شكل "الحوار" في نص الأستاذ محسن الطوخي ؟ قياسا على المثال فيه كعينة
آس سبيد.
——-
٢- يتابع فؤاده :
- لا يعرف قدرك سواي
- ذاك أن الطيور على أشكالها تقع.
___
٣- أشار أحدهم إلى الشظيات الحمصية قائلا :
- تلك هي العصافير
رد فؤاد موضحا :
- العصافير هي الطيور الدقيقة الرقيقة التي استخرجت من جسد الضارب
___
٤- ساد الصمت وبدأ الضارب يروي :
___
٥- انحرف جانب فمه بابتسامة ساخرة :
- النياشين الحقيقية لا يمنحها لك أحد، تحصل عليها بنفسك، تخوض حرباً، فتحصل على واحدة ( الى آخره).
وتجري عناصر " الحوار " حول لعبة الكارت في النصف الأول، ولعبة "العنقاء" في النص الثاني داخل الملجأ الميداني؛ وبينهما " آس سبيد" يفصل ما بين نهاية الحرب في لعبة الكارت وبداية لعبة العنقاء في البحث عن الشظايا والنياشين... والطيور الواقعة بكل أشكالها في القفص.
نري جليا أن " الحوار " في العينات المشار لها أعلاه لا تنفصل عن السرد كما قد نجده في الرواية، بل عكس ذلك إنه"حوار بالسرد"
كتقنية يجعل منها المبدع محسن الطوخي محور قصته وعمودها الفقري بخلاف ما هو متعارف عليه في القصة القصيرة؛هنا الحوار
يتجاوز محدوديته كتقنية من بين التقنيات التي تستعملها القصة القصيرة في سرديتها، لأنه حوار بالسرد يغيب فيه الراوي وبالأصح يصبح هو الآخر لعبة في خيوط السرد من داخل الحوار وخارجه، أي حوار خلق لسردية تقوض معناه الأصلي. لكن هل يعني خروج الحوار عن نمطية العلاقة التي تجمع على الأقل شخصين يدل على أنه ولا يمكن له إلا أن يكون " خطابا معادا ". يؤكد منكونو أن استعمال الخطاب المعاد كمفهوم يراد له موافقة ما يعيده غير ناجع، لأنه لا يعيد أي شيء بل يخلق في تمثيله وعليه يسميه ب " الخطاب المُمثل"، الشيء الذي منه يختلف اُسلوب الحوار عن اُسلوب الحديث، وعليه، يعالج في نص القاص محسن الطوخي على أنه " تقنية حكائية" تعتمد على الاقتصاد في اللغة ومحورتها بالسرد من داخلها، تبعا لما أوصى به لانسون في سنة 1890 حول تقنية الكتابة التي يتوجب عليها في المتن المبدع "التضييق، التكثيف والتركيز ". - نصائح في فن الكتابة. 1890، ص 159- وهو ما نجده
في نص " قفص الطيور " باستعماله المجاز في الحوار :
- ذلك أن الطيور على أشكالها تقع.
- تلك هي العصافير ..
استعمال المجاز في الحوار هنا هو تأشيرة مواربة لسرد تجربة حياتية وطدت من بداية النص ب : آس سبيد. ويمكن اختزالها في تلاثة متتاليات :
- آس سبيد
- العصافير
- ويروي
مما يجعل منها بنية مشهدية ( scènique) حيت لا يمكن التفريق فيما تبنيه المتتالية الحوارية بالمتتاليات السردية وإحالتها إلى السيناريو (scénario)الذي له مجالا خاصا وإن كان يستحوذ على بنية سردية. فالنص يخرج مِن الترسيمة النظرية لجيرار جينيت التي ترى في المشهدية توافق زمن السرد بزمن القصة، أي الحوار؛ ويقوم على صيغة أخرى في بنينة قصته بتقنية الحوار بالسرد والسرد بالحوار .. آس سبيد، ملفوظ كلامي ولغوي في ذات الآن . ملفوظ كلامي لأنه متعلق بالتلفظ، ولغوي لأنه يأتي مجازا في نظام اللغة ويفتح باب مجازات " الطيور/ الحقيبة/الأسماء كما الكارت". الضارب يروي
والحوار لعبة كما هي الحرب في لعبة الحياة يحكي أكثر ما يدخل في تبادل الكلام بأخذ ورد لإيصال المعلومة؛ وفِي الحكي والسرد بالحوار تكمن براعة


القاص محسن الطوخي.
  • Like
التفاعلات: ماماس أمرير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى