أهزوجة النّار، لم تتوفّق في أدائها.
لقد رميْت على البيت شبكة سوداء. ما هذا اللّون الدّامس الجاثم في كلّ مكان؟ إنّه ليحجب عنّي سمائي. إنّه الصّمت، الذي أسكن نشيدي.
الأمل، كنت قد أكتفي منه بساقية صغيرة. ولكنّك أخذت كلّ شيء.. الصّوت النّابض انتزع منّي.
كنت عاجزاً عن الأداء الجيّد. لقد مسكتِ بالأوتار. ولكنّك فقدت القدرة على العزف. لقد دمّرت كلّ شيء منذ البداية. كسّرت الكمان. ألقيت لهباً على الجلد المخمليّ.
لتصنع بركة من دم.. رهيبة.
كانت سعادتها تضحك في سرّها. ولكنّ ذلك كان مجرّد تمويه. والضّحكة لم يكن بوسعها أن تستمرّ.
كانت في قطار يمضي نحو البحر. كانت في صاروخ ينطلق نحو الصّخر. كانت، وهي ساكنة، تندفع نحو الأفعى النّاريّة، التي ستلتهمها. لقد حضرت فجأة، ممسكة بالأفعى الواثقة، في الوقت الذي كانت فيه تمشط شعرها. متأمّلة سعادتها في المرآة.
وحين رأت اللّهب يصعد نحوها.. آه..
في الحين سحب منها القدح. ولم تعد يداها لتمسك بأيّ شيء. لقد أدرك بأنّها غدت محاصرة في زاوية. توقّف حينها عند موضوع عجيب يحتاج التأمّل والتّوضيح. دقيقتان بعد ذلك، كانت تلوذ بالشبّاك وهي تصيح وتطلب النّجدة. كل اللّهب بات يحاصرها.
وجدت نفسها في فراش تتصاعد آلامه حدّ السّماء، حدّ السّماء دون أن تعثر على ربّ.. وتنزل فيه الآلام إلى قرار الجحيم، دون أن تعثر على أبالسة.
المشفى يغفو. الحروقات تفيق. جسدها غدا كالبستان المهجور.
مقذوفة خارجاً عنها، كانت تبحث كيف تدخل. الفراغ الذي كانت فيه تجذّف لا يستجيب لحركاتها.
على مهل، في الهُرْي، يحترق قمحها.
عمياء، عبر حاجز الأمل المديد، ظلّت لمدّة شهر، وهي تحاول صعود نهر الحياة. وكم كانت تلك السّباحة مروّعة..
صابرة، في الانتفاخ الذي لا يوصف، كانت تعيد رسم صورتها الأنيقة، وتحيك من جديد قميص بشرتها الرّقيقة. الشّفاء وشيك. غداً يسقط آخر ضمّاد.. غداً..
أهزوجة الدمّ، لم يكن بوسعك أداؤها. أنتِ أيضاً لم تستطيعي ذلك. لقد رميتِ فجأة، وبحماقة، كتلة الدمّ المتجمّدة، السّخيفة والمعرقلة، في وجه فجر جديد.
في اللّحظة لم يعد بوسعها أن تجد مكاناً. كان من الضّروري الالتفات نحو الموت.
بالكاد أبصرت الطّريق. ثانية واحدة.. وانفتحت الهوّة. والثّانية الموالية دفعتها داخلها.
مكثنا مربكين. لم يسعفنا الوقت لكلمة وداع، لكلمة أمل.
لقد اختفت من شريط هذه الأرض.
لُو..
لُو..
لُو، لبرهة في مرآة السيّارة.
لُو، ألا تشاهدينني؟
لُو، قدرنا، أن نظلّ دوماً مع بعض.
في ما كنت تؤمنين بشدّة؟
حسناً
لن تكوني كالآخرين، الذين لا يلقون بأيّ علامة، وهم متوارون في الصّمت.
كلاّ، ليس الموت هو الذي سينتزع منك حبّك لي.
في الأبّهة الفظيعة
التي تجعلك متنائية..
لا زلت تبحثين لنا عن مكان
ولكنّني أشعر بالخوف
لم نتّخذ ما يكفي من الحيطة
كان ينبغي أن نكون أكثر إحاطة بالأمر.
لقد كتب لي أحدهم قائلاً بأنّك أنت، من ستحرسني الآن.
آه.. إنّي لا أعتقد ذلك
حين ألمس نعومتك التي لا تزال تمكث في حجرتك، وأشيائك الحميمة التي أتحسّسها بيديّ
تلك النعومة الرّهيفة، التي كان عليّ دوماً حمايتها.
آه.. إنّي لمرتاب وأخشى عليك، وأنت المندفعة والهشّة، الموهوبة للكوارث.
وعلى الرّغم من ذلك، فأنا أذهب إلى المكاتب، ملتمساً شهادات، مهدراً وقتاً ثميناً، كان
من الأجدى أن نفيد منه وأنت ترتجفين، منتظرة بحسن ظنّك الرّائع أن أجيء وأنتشلك
من هناك، ولسان حالك يقول:
سيأتي لا محالة
قد تكون بعض الأمور هي التي عطّلته، ولكنّه لن يتأخّر
سيأتي فأنا أعرفه جيّداً
لن يتركني لوحدي، هذا غير ممكن
لن يتركها وحدها حبيبته لو
لم أعد لأتعرّف على حياتي. حياتي كانت تمرّ عبرك أنت.
ضعفك، كان يواسيني حين كنت تستندين إليّ.
أخبريني، هل حقيقة أنّنا لن نلتقي من جديد أبداً؟
لُو.. لُو.. لقد غدوت أتكلّم لغة ميّتة، لأنّني لم أعد لأتحدّث إليك. لُو.. إنّ جهودك من أجل أن تتعرّشي بداخلي، ألا ترين بأنّها قد أثمرت. ألا ترين ذلك على الأقلّ؟ إنّها لحقيقة ناصعة، أنّك لم ترتابي منّي ولو لمرّة واحدة.
كان ولابدّ أن أكون أعمى كي لا أرى ذلك، أنا الذي كان يلزمني بعض الوقت. كان يلزمني
مرضك الطّويل، جمالك المتبدّي من جديد من هُزالك ونوبات الحمّي. كان يلزمني ذلك النّور
المنبثق منك، ذلك الإيمان، لأخْترق أخيراً جدار الاشتياق.
متأخّراً، رأيت ذلك. متأخّراً، أدركت ذلك. متأخّراً، أدركت ماذا يعني أن نكون معاً،
ولكنّني لم أتأخّر كثيراً.
كانت السّنين معنا لا ضدّنا.
ظلاّنا تنفّسا طويلاً. من تحتنا، مياه نهر الأحداث تنساب صموتة أو تكاد.
ظلاّنا كانا يتنفّسان سويّاً، فيما كان يجمعنا غطاء واحد.
لقد بردتُ حين بردتِ، وتشرّبتُ معك الآلام.
غنيّ بحبّ مكتسب، غنيّ كالمتجاهل نفسه باللاّوعي للمالكين. لقد خسرت أن أكون
محبوباً، وثروتي ذابت في يوم.
قاحلة، تمضي حياتي من جديد. ولكنّني لم أعد مجدّداً إلى ذاتي. يمكث جسدي في
جسدك المشتهى، ومجسّات ناعمة على صدري، تجعلني أتألّم لانحسار الرّيح. تلك التي
لم تعد هنا، تأخذني منّي، وغيابها المميت يجتاحني ويُفقدني عنّي.
ها أنا أتحسّر على أيّام وجعك المبرّح على فراش المشفى، حين كنت آتي عبر الأروقة
العفنة التي تملؤها أنّات المومياء الكثيفة لجسدك المقمّط، لأسمع فجأة، شيئاً ما يشبه
نغمة «اللاّ» لميثاقنا.. صوتك العذب الرّخيم، المنضبط، وهو يقاوم بإباء قبح اليأس، حين
كنت تنصتين إلى وقع خطاي، فتهمسين مسعفة «آه.. هو أنت».
كنت أضع يدي على ركبتك من فوق الغطاء الملوّث، فيختفي كلّ شيء، الرّائحة الكريهة،
الجرأة الرّهيبة للجسد الذي يعامل كبرميل خشبيّ أو كبالوعة مياه، من طرف أناس غرباء،
مكتوفين وقلقين. كلّ شيء كان ينسلّ إلى الوراء، تاركاً أجسادنا النّاعمة، عبر الضمّادات، تلتقي من جديد، تأتلف، تتمازج في إغماءة قلبينا، عند ذروة الألم، عند أوج العذوبة.
الممرّضات، كنّ يبتسمن، وأعينك التي تمتلئ إيماناً، كانت تطفأ أعين الآخرين.
وذاك الذي أضحى وحيداً، إنّه ليلتفت مساء نحو الجدار، ليحادثك. كان يعلم كيف يثيرك،
يأتي أثناء النّهار وهو يبصر بعينيك ويسمع بأذنيك.
لديه دوماً أشياء يهبها إليك.
فهل ستجيبينني في يوم من الأيّام؟
لعلّ حضورك بات كهواء في طقس مثلج، يدخل من النّافذة التي تغلق، تغشاه ارتعاشات
أم توعّك منبئ عن فاجعة، كتلك التي عرفتها منذ أسابيع. لقد جثم البرد فجأة على كتفيّ،
فتغطّيت على عجل واستدرت. لعلّك أنت التي تجلّت حينها، حملوا إليّ الدّفء،
مؤمّلة حسن الاستقبال، أنت البالغة التعقّل، لم يكن بإمكانك الإفصاح بطريقة أخرى.
من يدري لعلّك في هذا الوقت بالذّات، تنتظرين قلقة، أن أفهم أخيراً، وأن أجيء بعيداً عن الحياة التي فارقتِ، لأنضمّ إليك، بصورة رثّة وبلا واسطة، لنكون نحن الاثنين.. نحن الاثنين..
المفاجئ
الموتى تغطّيهم الكلمات
وكلماتي موهوبة للأحياء
إنّها لا تنغلق على الحياة
فأنا لا أزال عند بداية
ترديدها من أطراف الكلمات
التي بالكاد تخرج من أفواهنا
من فرط انطوائها فينا
حتّى أنّ الجملة التي نتلفّظ بها.. هي نحن
إنّها ليست للحجارة
أنا لا أعرف ماذا تقول
إنّها لتتواصل متى صمتنا
وتصمت متى أفرطنا في الكلام
لقد قمنا بمواراة مقبرة
لإنقاذها
الحجارة غدت أكثر هشاشة منّا
مذ جعلناها منتصبة نحو السّماء
كيما تدور مع الأجرام
وتحملنا في الأزمنة
ليس لنا.. هذا الزّمن، ولكن
نحن زمن الزّمن
والحجارة لا تحمل
غير الحجارة التي فقدت هواءها
نحن نفكّ رموزها وننصت إلى
الغياب
هو نحن بدون نحن
قوّة ما هو غير كائن
اليد تكتب، تلامس الحروف
ثمّ تمضي
أي نعم.. هو أنا
الذي تفتقده الكلمات
ولست أنا الذي يفتقد الكلمات
لعلّني نمت حين كان عليّ أن لا أنام
لم أكن موجودا
حين جعلوها تقول ما لا أريد أن تقوله
ومذّاك.. غدوت أعمل من أجل الصّمت
أراكم غياب الكلمات
أترك مكانا فارغا في
كلّ ما يقال، وهو
مكان الكلمة التي يجب أن تقال، كيما
يتوقّف البحر
وتصعد الحجارة
لقد استحوذنا على
معانيها، على زمنها، والآن
غدت ذاكرتها بداخلنا، فهي
تمشي في خطانا، تتحرّك
في حرارتنا، ولا نرى الفرق
بين ما تريد أن تقوله ونحن
زمن الحجارة هم نحن،
ونحن مترعون بصرخات
نخلّفها أثناء عبورنا
كالحجارة
يشدّ بعضنا البعض
حتّى نعثر بينها
على سبيلنا
لقد رميْت على البيت شبكة سوداء. ما هذا اللّون الدّامس الجاثم في كلّ مكان؟ إنّه ليحجب عنّي سمائي. إنّه الصّمت، الذي أسكن نشيدي.
الأمل، كنت قد أكتفي منه بساقية صغيرة. ولكنّك أخذت كلّ شيء.. الصّوت النّابض انتزع منّي.
كنت عاجزاً عن الأداء الجيّد. لقد مسكتِ بالأوتار. ولكنّك فقدت القدرة على العزف. لقد دمّرت كلّ شيء منذ البداية. كسّرت الكمان. ألقيت لهباً على الجلد المخمليّ.
لتصنع بركة من دم.. رهيبة.
كانت سعادتها تضحك في سرّها. ولكنّ ذلك كان مجرّد تمويه. والضّحكة لم يكن بوسعها أن تستمرّ.
كانت في قطار يمضي نحو البحر. كانت في صاروخ ينطلق نحو الصّخر. كانت، وهي ساكنة، تندفع نحو الأفعى النّاريّة، التي ستلتهمها. لقد حضرت فجأة، ممسكة بالأفعى الواثقة، في الوقت الذي كانت فيه تمشط شعرها. متأمّلة سعادتها في المرآة.
وحين رأت اللّهب يصعد نحوها.. آه..
في الحين سحب منها القدح. ولم تعد يداها لتمسك بأيّ شيء. لقد أدرك بأنّها غدت محاصرة في زاوية. توقّف حينها عند موضوع عجيب يحتاج التأمّل والتّوضيح. دقيقتان بعد ذلك، كانت تلوذ بالشبّاك وهي تصيح وتطلب النّجدة. كل اللّهب بات يحاصرها.
وجدت نفسها في فراش تتصاعد آلامه حدّ السّماء، حدّ السّماء دون أن تعثر على ربّ.. وتنزل فيه الآلام إلى قرار الجحيم، دون أن تعثر على أبالسة.
المشفى يغفو. الحروقات تفيق. جسدها غدا كالبستان المهجور.
مقذوفة خارجاً عنها، كانت تبحث كيف تدخل. الفراغ الذي كانت فيه تجذّف لا يستجيب لحركاتها.
على مهل، في الهُرْي، يحترق قمحها.
عمياء، عبر حاجز الأمل المديد، ظلّت لمدّة شهر، وهي تحاول صعود نهر الحياة. وكم كانت تلك السّباحة مروّعة..
صابرة، في الانتفاخ الذي لا يوصف، كانت تعيد رسم صورتها الأنيقة، وتحيك من جديد قميص بشرتها الرّقيقة. الشّفاء وشيك. غداً يسقط آخر ضمّاد.. غداً..
أهزوجة الدمّ، لم يكن بوسعك أداؤها. أنتِ أيضاً لم تستطيعي ذلك. لقد رميتِ فجأة، وبحماقة، كتلة الدمّ المتجمّدة، السّخيفة والمعرقلة، في وجه فجر جديد.
في اللّحظة لم يعد بوسعها أن تجد مكاناً. كان من الضّروري الالتفات نحو الموت.
بالكاد أبصرت الطّريق. ثانية واحدة.. وانفتحت الهوّة. والثّانية الموالية دفعتها داخلها.
مكثنا مربكين. لم يسعفنا الوقت لكلمة وداع، لكلمة أمل.
لقد اختفت من شريط هذه الأرض.
لُو..
لُو..
لُو، لبرهة في مرآة السيّارة.
لُو، ألا تشاهدينني؟
لُو، قدرنا، أن نظلّ دوماً مع بعض.
في ما كنت تؤمنين بشدّة؟
حسناً
لن تكوني كالآخرين، الذين لا يلقون بأيّ علامة، وهم متوارون في الصّمت.
كلاّ، ليس الموت هو الذي سينتزع منك حبّك لي.
في الأبّهة الفظيعة
التي تجعلك متنائية..
لا زلت تبحثين لنا عن مكان
ولكنّني أشعر بالخوف
لم نتّخذ ما يكفي من الحيطة
كان ينبغي أن نكون أكثر إحاطة بالأمر.
لقد كتب لي أحدهم قائلاً بأنّك أنت، من ستحرسني الآن.
آه.. إنّي لا أعتقد ذلك
حين ألمس نعومتك التي لا تزال تمكث في حجرتك، وأشيائك الحميمة التي أتحسّسها بيديّ
تلك النعومة الرّهيفة، التي كان عليّ دوماً حمايتها.
آه.. إنّي لمرتاب وأخشى عليك، وأنت المندفعة والهشّة، الموهوبة للكوارث.
وعلى الرّغم من ذلك، فأنا أذهب إلى المكاتب، ملتمساً شهادات، مهدراً وقتاً ثميناً، كان
من الأجدى أن نفيد منه وأنت ترتجفين، منتظرة بحسن ظنّك الرّائع أن أجيء وأنتشلك
من هناك، ولسان حالك يقول:
سيأتي لا محالة
قد تكون بعض الأمور هي التي عطّلته، ولكنّه لن يتأخّر
سيأتي فأنا أعرفه جيّداً
لن يتركني لوحدي، هذا غير ممكن
لن يتركها وحدها حبيبته لو
لم أعد لأتعرّف على حياتي. حياتي كانت تمرّ عبرك أنت.
ضعفك، كان يواسيني حين كنت تستندين إليّ.
أخبريني، هل حقيقة أنّنا لن نلتقي من جديد أبداً؟
لُو.. لُو.. لقد غدوت أتكلّم لغة ميّتة، لأنّني لم أعد لأتحدّث إليك. لُو.. إنّ جهودك من أجل أن تتعرّشي بداخلي، ألا ترين بأنّها قد أثمرت. ألا ترين ذلك على الأقلّ؟ إنّها لحقيقة ناصعة، أنّك لم ترتابي منّي ولو لمرّة واحدة.
كان ولابدّ أن أكون أعمى كي لا أرى ذلك، أنا الذي كان يلزمني بعض الوقت. كان يلزمني
مرضك الطّويل، جمالك المتبدّي من جديد من هُزالك ونوبات الحمّي. كان يلزمني ذلك النّور
المنبثق منك، ذلك الإيمان، لأخْترق أخيراً جدار الاشتياق.
متأخّراً، رأيت ذلك. متأخّراً، أدركت ذلك. متأخّراً، أدركت ماذا يعني أن نكون معاً،
ولكنّني لم أتأخّر كثيراً.
كانت السّنين معنا لا ضدّنا.
ظلاّنا تنفّسا طويلاً. من تحتنا، مياه نهر الأحداث تنساب صموتة أو تكاد.
ظلاّنا كانا يتنفّسان سويّاً، فيما كان يجمعنا غطاء واحد.
لقد بردتُ حين بردتِ، وتشرّبتُ معك الآلام.
غنيّ بحبّ مكتسب، غنيّ كالمتجاهل نفسه باللاّوعي للمالكين. لقد خسرت أن أكون
محبوباً، وثروتي ذابت في يوم.
قاحلة، تمضي حياتي من جديد. ولكنّني لم أعد مجدّداً إلى ذاتي. يمكث جسدي في
جسدك المشتهى، ومجسّات ناعمة على صدري، تجعلني أتألّم لانحسار الرّيح. تلك التي
لم تعد هنا، تأخذني منّي، وغيابها المميت يجتاحني ويُفقدني عنّي.
ها أنا أتحسّر على أيّام وجعك المبرّح على فراش المشفى، حين كنت آتي عبر الأروقة
العفنة التي تملؤها أنّات المومياء الكثيفة لجسدك المقمّط، لأسمع فجأة، شيئاً ما يشبه
نغمة «اللاّ» لميثاقنا.. صوتك العذب الرّخيم، المنضبط، وهو يقاوم بإباء قبح اليأس، حين
كنت تنصتين إلى وقع خطاي، فتهمسين مسعفة «آه.. هو أنت».
كنت أضع يدي على ركبتك من فوق الغطاء الملوّث، فيختفي كلّ شيء، الرّائحة الكريهة،
الجرأة الرّهيبة للجسد الذي يعامل كبرميل خشبيّ أو كبالوعة مياه، من طرف أناس غرباء،
مكتوفين وقلقين. كلّ شيء كان ينسلّ إلى الوراء، تاركاً أجسادنا النّاعمة، عبر الضمّادات، تلتقي من جديد، تأتلف، تتمازج في إغماءة قلبينا، عند ذروة الألم، عند أوج العذوبة.
الممرّضات، كنّ يبتسمن، وأعينك التي تمتلئ إيماناً، كانت تطفأ أعين الآخرين.
وذاك الذي أضحى وحيداً، إنّه ليلتفت مساء نحو الجدار، ليحادثك. كان يعلم كيف يثيرك،
يأتي أثناء النّهار وهو يبصر بعينيك ويسمع بأذنيك.
لديه دوماً أشياء يهبها إليك.
فهل ستجيبينني في يوم من الأيّام؟
لعلّ حضورك بات كهواء في طقس مثلج، يدخل من النّافذة التي تغلق، تغشاه ارتعاشات
أم توعّك منبئ عن فاجعة، كتلك التي عرفتها منذ أسابيع. لقد جثم البرد فجأة على كتفيّ،
فتغطّيت على عجل واستدرت. لعلّك أنت التي تجلّت حينها، حملوا إليّ الدّفء،
مؤمّلة حسن الاستقبال، أنت البالغة التعقّل، لم يكن بإمكانك الإفصاح بطريقة أخرى.
من يدري لعلّك في هذا الوقت بالذّات، تنتظرين قلقة، أن أفهم أخيراً، وأن أجيء بعيداً عن الحياة التي فارقتِ، لأنضمّ إليك، بصورة رثّة وبلا واسطة، لنكون نحن الاثنين.. نحن الاثنين..
المفاجئ
الموتى تغطّيهم الكلمات
وكلماتي موهوبة للأحياء
إنّها لا تنغلق على الحياة
فأنا لا أزال عند بداية
ترديدها من أطراف الكلمات
التي بالكاد تخرج من أفواهنا
من فرط انطوائها فينا
حتّى أنّ الجملة التي نتلفّظ بها.. هي نحن
إنّها ليست للحجارة
أنا لا أعرف ماذا تقول
إنّها لتتواصل متى صمتنا
وتصمت متى أفرطنا في الكلام
لقد قمنا بمواراة مقبرة
لإنقاذها
الحجارة غدت أكثر هشاشة منّا
مذ جعلناها منتصبة نحو السّماء
كيما تدور مع الأجرام
وتحملنا في الأزمنة
ليس لنا.. هذا الزّمن، ولكن
نحن زمن الزّمن
والحجارة لا تحمل
غير الحجارة التي فقدت هواءها
نحن نفكّ رموزها وننصت إلى
الغياب
هو نحن بدون نحن
قوّة ما هو غير كائن
اليد تكتب، تلامس الحروف
ثمّ تمضي
أي نعم.. هو أنا
الذي تفتقده الكلمات
ولست أنا الذي يفتقد الكلمات
لعلّني نمت حين كان عليّ أن لا أنام
لم أكن موجودا
حين جعلوها تقول ما لا أريد أن تقوله
ومذّاك.. غدوت أعمل من أجل الصّمت
أراكم غياب الكلمات
أترك مكانا فارغا في
كلّ ما يقال، وهو
مكان الكلمة التي يجب أن تقال، كيما
يتوقّف البحر
وتصعد الحجارة
لقد استحوذنا على
معانيها، على زمنها، والآن
غدت ذاكرتها بداخلنا، فهي
تمشي في خطانا، تتحرّك
في حرارتنا، ولا نرى الفرق
بين ما تريد أن تقوله ونحن
زمن الحجارة هم نحن،
ونحن مترعون بصرخات
نخلّفها أثناء عبورنا
كالحجارة
يشدّ بعضنا البعض
حتّى نعثر بينها
على سبيلنا