عندما أنقذني الكونت دي مونت كريستو !!
علي حسين
-1-
• هناك من لا يستطيع تخيل العالم بلا طيور، وهناك من لا يتخيل العالم بلا ماء، أما بالنسبة إليّ، فأنا غير قادر على تخيل العالم بلا كتب.
بورخيس
عند سؤال الشاعر الفرنسي بول فاليري حول الحالة المثالية التي يتفرغ فيها للقراءة ..قال هناك فرق بين أن نرى شيئاً ونحن نمسك كتاب ، وبين أن نراه دون ذلك: " مجرد فتحنا لصفحات الكتاب يمكنه أن يمنح أفعالنا رؤيا جديدة " . فاليري يحذرنا من مخاطر القراءة التي لانتتج شيئاً :" أنني لا أبحث في الكتب ، إلا عما يسمح لكتاباتي بأن تفعل شيئاً ما " .
كان المطبخ المكان المناسب الذي يقرأ فيه وليم فوكنر كتبه :" كنت أفضّل أن أبقى في منزلي ، في مطبخي مع كتبي وعائلتي من حولي ، ويداي تلاعبان الأوراق " .كان فوكنر يمضي ساعات طويلة بين القراءة والكتابة أمام طاولة صغيرة أهدتها له أمه ، حيث يستيقظ في الرابعة صباحاً ، ينزل من غرفته الكائنة بالطابق الاول من البيت ، ويجلس الى الطاولة المزدحمة بالكتب والاأوراق ، يحب ارتداء ملابسه الكاملة وهو يقرأ أو يكتب ، يفتح النافذة المطلة على الحديقة ، يبقى لساعات طويلة منغمساً بالقراءة والكتابة . يحرص على الاحتفاظ بخصوصياته ، وعندما حصل على جائزة نوبل عام 1949 وذاعت شهرته ، دفع الصحافة والنقاد ومحبي الأدب الى الذهاب الى منزله أملاً في رؤيته والتعرّف على طقوس الكاتب اليومية ، مما اضطره لأن يبني جدارا عاليا أحاط به منزله من أجل أن يحافظ على حياته الخاصة ، لم يكن يريد لأي أحد أن يزعجه في خلوته . يواصل الكتابة والقراءة :" سأستمر على هذا الحال الى نهاية عمري ، وأتمنى أن اتلاشى من حياة الاخرين وأحُذف من التاريخ ّمن دون أن يترك لي أي أثر ما عدا كتبي " .
كثيرا ما يفاجأ الروائي والمترجم جبرا إبراهيم جبرا ، بسؤال زوار بيته وهم ينظرون الى المكتبة التي انتشرت على الحيطان لتأخذ حيزا كبيرا من البيت : هل قرأت كل هذه الكتب؟، وتكون اجابته التي تعوّد أن يقولها لقد إطلعت عليها كلها .. لم يكن الكتاب بالنسبة لجبرا سوى ضرب من العشق وهو يحفظ مقولة فرنسيس بيكون الشهيرة " بعض الكتب وجد لكيما يذاق ، وبعضها لكيما يبتلع ، والبعض القليل لكيما يمضغ ويهضم " يتذكر جبرا ماقراه عن د.ه. لورنس عندما دخل يوماً الى مكتبة اكسفورد وكانت تحوي مائة الف كتاب وفي ثلاث سنوات من الدراسة تعرف عليها جميعا هذا التعرف بمفهوم جبرا هو أساس الكثير من المعرفة ، وهو الذي يدل القارئ الى الاتجاه الذي عليه أن يسير فيه لطلب المزيد من المعرفة .. لنا ان نتذوق الكتاب اونبتلع بعضه او نمضغه ونهضمه ببطء في كل الأحوال نحن نعيش حالة عشق لاتملها النفس يكتب جبرا في مقال بعنوان عشق من نوع اخر يقول : " كانت تراودني فكرة اشبه بالحلم فكرت في كتابتها منذ اكثر من اربعين سنة ، وهي عن رجل كان يعشق الكتب اشترى بقعة نائية على كتف عال لتلة صخرية ‘ مشرفة على واد كثير التعاريج والشعاب ، وبنى عليها فندقا جميلا يجتذب الناس اولئك الذين يريدون الاختلاء بالطبيعة البعيدة عن ضوضاء المدن طلباً للتعمق في ذواتهم ، مقابل أجور معقولة وكان ذلك جزءاً من خطة وضعها لنفسه . فهو ينفق معظم ربحه في كتب يشتريها بالمئات . وفي بضع سنوات تجمع لديه من المال مايكفيه أخيراً لان يحول الفندق الى صوامع ، رتب فيها الكتب على رفوف لاتنتهي وجعلها داراً مفتوحة لكل من يريد أن يقرأ ويكتب ، شريطة أن ينتهي مايكتب الى مؤلفٍ يزيد من حس الانسان بروعة الوجود " .لم يكتب جبرا قصته تلك فقد كان يدرك آنذاك وهو في أواسط العشرينيات من عمره انها غير معقولة واشبه بالحلم .. لكن الحلم زامله سنوات طويلة حتى استطاع في منتصف الستينيات من القرن الماضي ان يحققه ولو بشكل بسيط ، فالدار التي حلم بها اكتملت ولم يبق غير المكتبة وهي في نظره الجزء الأهم في هذا البيت .. فجبرا الأنسان عاش طفولة ضنكة ونشأ في بيت ليس فيه الابضعة كتب حسب ما جاء بشهادته ، والإدخار انذاك كان صعبا ، فلما سنحت له الفرصة أن يدخل الجامعة في انكلترا كان أول شيء عمله وهو المبتلي بعشق الكتب أن سعى الى شراء الكتب بالجملة ، بالعشرات كما كان يحلم بطل قصته الخيالية وماهي إلاسنوات على الدراسة حتى وجد نفسه محاطا بالكتب من كل مكان ، وهو يتذكر في سني دراسته مصاطب الكتب في مدينة كمبردج وقد تزاحمت عليها كتب نادرة ونفيسة تباع جميعها باسعار زهيدة ، يقف جبرا متأملا هذه المصاطب المليئة بالكتب يقلب هذا ويقتني ذاك وهو أشبه بسارق المعرفة على حد تعبير الناقد الانكليزي وليم هازلت ، سراق المعرفة الذين يطيلون الوقوف أمام اكوام الكتب ليقرأوا بمتعة وتلذذ ، حيث يؤكد هازلت ان " سرقة المعرفة هي السرقة المشروعة الوحيدة في حياة المجتمع " وكان جبرا باعترافه واحداً من هؤلاء السراق حين تختفي النقود من جيبه فلا يجد بديلاً من ان يقف ساعات ليقرأ بمتعة وتلذذ فقرة هنا أو فقرة هناك.
في روايته " إذا في ليلة شتاء" يكتب إيتالو كالفينو إن :" القراءة تعني الاقتراب من شيء في اللحظة التي هو فيها على وشك أن يُخلَق " .
************
• وانت ماتزال صغيرا كن حريصاً على أن تقرأ الكثير من الكتب ، إعط وقتا لهذا أكثر مما تعطي لأي شيء آخر .
الروائية البريطانية زادي سميث
ذات مرة كتب الروائي الاميركي أرسكين كالدويل :" دائما ما تصبح الكتب التي اقرأها جزءاً من تجاربي الشخصية ، وأتخيل انني عشتها " .ولعله يقصد إنه يحاول أن يعيش تلك التجارب التي استمدها من الكتب ، ويتبناها يوما بعد آخر بحيث تصير جزءاً من عالمه الواقعي ومع هذا يظل السؤال ماذا نقرأ؟.
ربما تكون مثلي قد قرأت ذات يوم نصيحة غوستاف فلوبير التي يقول فيها :" لا تقرأ مثل الأطفال، من أجل المتعة، ولا مثل الطموحين، بغرض التعلم. لا، أقرأ كي تعيش " . ولعل معظمنا يبدأ أولى خطواته في القراءة منطلقين من الفضول لمعرفة ماذا تخبيء هذه الصفحات ، وكثير من القراء يؤمنون بمقولة :اقرأ من أجل المعرفة . ينصحنا الفيلسوف ديكارت بإعداد قوائم لتحديد الكتب التي يجب أن نقراها ، كتمرين من تمارين العقل واستكشاف العالم ويكتب هذه النصيحة :" إن قراءة الكتب هي بمثابة محادثة مع أفضل الشخصيات من القرون الماضية " ، كان ديكارت مصاباً بأمراض في الصدر ، وكان الأطباء ينصحونه بإراحة جسمه ، فاجازوا له البقاء في الفراش طويلا ، ما ساعده على الاهتمام بقراءة الأدب الكلاسيكي او كما يخبرنا هو :"لأقوم بجولات فكرية في الماضي السحيق فآخذ بطرف الحوار مع النبلاء الطاعنين في السن" .
تمثل القراءة إحدى أجمل ذكرياتي في الصغر ، وكل شيء بدأ عندي اشيه برحلة ، ذات يوم وانا ابن العاشرة من عمري وفي احدى مناطق بغداد ، اخذتني قدماي الى مكتبة يملكها أحد أقاربي يبيع فيها الكتب والمجلات والصحف ، في ذلك النهار وأنا أتجول بين العناوين وصور الأغلفة الملونة ، اكتشفت إن هذا المكان يمكن أن يصبح كل عالمي .. عندما استرجع كيف قضيت سنوات طويلة من عمري في رفقة الكتب ، أتساءل أحيانا إن كانت هذه الكتب غيرت حياتي ، أم انها سجنتني في عوالم مثالية وخيالية .
كنت وأنا أدخل المكتبة ، التفت باتجاه الرفوف التي تحوي مئات العناوين، وأشعر ان هذه الكتب تنظر ألي وإنها تعرف عني أكثر مما أعرف عنها ، وأحيانا أتخيل ان كل كتاب يخفي داخله عالماً سحرياً لانهاية له ..وفي المكتبة وقع في يدي ذات يوم كتاب مجلد بشكل جميل غني بالرسوم الملونة ومطبوع على ورق من نوعية فاخرة عنوانه " المعرفة " ، فيه الكثير الموضوعات التي لم أكن افهمها ، لكن ذلك لم يكن هدفي ، في واحدة من صفحات المجلد لاحت لي صورة رجل لديه لحية كثة اسمه داروين ، كانت عيناي تتنقل بين صورة الرجل الملتحي وبين سطور الكلمات التي أحاول أن أحل الغازها ووجدت نفسي وأنا ألتهم السطور منشغلاً بسؤال محيّر يطرحه صاحب هذه اللحية البيضاء : من نحن ؟ هل ولدنا أم إننا جئنا نتيجة بذور غُرست في الارض ، أم نتيجة لبيضة مفقوسة أم اننا خرجنا الى من الغرفة ، أم إننا سقطنا من السماء وربما نكون قد عشنا ثم وافتنا المنية أو تلاشينا أو تحطمنا وتكسرنا ؟ لم أجد إجابات لأسئلتي وحين اكتشف صاحب المكتبة حيرتي نصحني بالأبتعاد عن مثل هذه الموضوعات الشائكة ، فأنا ما زلت صغيراً ، وربما في المستقبل استطيع أن أفهم وأعرف أكثر . بعد سنوات اكتشفت ان من السهل طرح هذه الاسئلة ، ومن السهل الإجابة عليها وقرأت إن فيلسوفاً اغريقياً اسمه " طاليس " عاش قبل أكثر من ألفي عام كان يعتقد أن الكتب ولدت بفضل اسئلة البشر ، وظل يردد على تلامذته عبارة شهيرة :" كلما زادت الأسئلة ، كلما تظهر الكتب من تلقاء نفسها " .
يخبرنا صاحب مقبرة الكتب الاسباني كارلوس زافون أن أحد زبائن المكتبة قال له يوما :" لاشيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يلمس قلبه حقاً .إذ إن صدى الكلمات التي نظن إننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة ، ويشيد في ذاكرتنا منزلاً سنعود إليه عاجلاً ام آجلاً. "
في ذلك الوقت اعتقدت انني أستطيع الحصول على أي كتاب لأن المكتبة لاتبعد عن بيتنا سوى عشرات الأمتار ، ثم إنني وجدت في شخصية صاحب المكتبة محفزاً لي على اختيار ما أريد قراءته ، ولهذا كنت سعيدا حين دلّني ذات يوم ، على سلسلة من الروايات المصورة: وقد جذبني كتاب كان يمتلئ بالرسوم الملونة عنوانه " الكونت دي مونت كريستو " أما مؤلفه فمكتوب اسمه على الغلاف وبالألوان " الروائي المشهور الكسندر دوماس " .
كان هذا أول عهدي بالروايات ، لم اسمع بأسماء الذين يروي الكاتب حكاياتهم ، ولا أعرف معنى " مونت كريستو ، ، وما الذي يمكن أن تنفعني مغامراته ؟ لكن الحكاية استولت على عقلي ، وأتذكر إنني قرأته خلال يومين ، أتمدد على فراشي وأعيد قراءة الصفحة الواحدة أربع أو خمس مرات لأفهم مغزي القصة .
بعد سنوات تعرفت جيدا على صاحب الرواية " الكسندر دوماس الأب " تميزا له عن ابنه حامل الاسم نفسه " الكسندر دوماس الابن " مؤلف الرواية الشهيرة " غادة الكاميليا " . واكتشفت إن هذا المؤلف الذي عاش ثمانية وستين عاماً - ولد في الرابع والعشرين من تموز عام 1802 - كانت له عادات غريبة ، يتباهى بان له أكثر من مئة ابن غير شرعي ، ويؤكد في كل مناسبة انه لن يتزوج ، ويقال انه كان لايرى إلا وهو يتأبط كتاباً ، صاحب مزاج خاص في الكتابة ، ويذكر كاتب سيرته انه كان يكتب قصصه على ورق ازرق ، أما اشعاره فيستخدم لها الورق الاصفر ، ويخصص الورق الوردي لكتابة مقالاته السياسية اللاذعة ، يعاني من مرض الدوار ، لايستطيع القراءة والكتابة وهو جالس على منضدة ،وإنما وهو متمدد على بطنه ،ويضع تحته وسائد عديدة ، وبرغم هذه النزوات ، فقد أصدر اكثر من اربعمائة مجلد ، وكتب للمسرح مئة مسرحية، مُثلت جميعها في زمنه ، وقامت بإداء ادوارها ممثلات معظمهن وقعن في أسر شخصيته المرحة ، ربح من وراء كتبه اكثر من مليون جنيه استرليني ، انفقها جميعها على ملذاته ، وحين حاصرته الديون قررت إحدى المعجبات به ان تشتري ديونه كي لايدخل السجن ، ثم ساومته بين قفص الزواج أو قضبان السجن ، فقرر في النهاية ان يرضخ لطلبها ويتزوجها .
الكونت دي مونت كريستو التي قرأتها ، سحرتني منذ اللحظة الاولى ، ولم ينفع فيما بعد انني اكتشفت انها عمل يتسم بالبساطة وإن احداثها لاتختلف عن اي فيلم عربي بالابيض والاسود مليئة بالمشاهد الميلودرامية والدموع والآهات ، فهي برغم ذلك شغلت النقاد بسبب انها لاقت اقبالا كبيرا في مختلف العصور ، ولاتزال على قائمة الكتب الاكثر مبيعا .
************
تدور أحداث رواية " الكونت دي مونت كريستو " حول البحار إدمون دانتيس، الذي نراه في الصفحات الاولى ، وهو يستعد للزواج ، إلا أن حادث القاء القبض عليه بتهمة مناصرة نابليون ، وايداعه في حصن إيفان الرهيب ، يدمر مخططاته ، وخلال الاثني عشر عاما التي قضاها في الحبس كان يؤمن انه بريء مما نسب إليه من تهم ، وأن سبب سجنه إنما هي مؤامرة حاكها ثلاثة أشخاص ، كان لكل منهم سبب للتخلص منه. الأول فرنان الذي كان ينافسه على خطيبته مرسيدس، والثاني انغلار منافسا له في أعماله ، أما الثالث فكان القاضي فيلفور الذي أيقن منذ اللحظة الاولى ان القضية ستعود عليه بقوائد كثيرة إن هو حكم على إدمون . وخلال سنوات حبسه الطويلة لا تشغله قضية سوى وضع الخطط للهرب من جحيم السجن واثبات براءته والانتقام من الذين ظلموه .
وبفضل مساعدة يقدمها صديقه الأب فاريا الذي يخبره قبل موته بمكان وجود كنز يمثل ثروة هائلة، في جزيرة مونت - كريستو. يتمكن إدمون من الهرب ؟، وبعد مغامرات وأهوال يحصل على الكنز ، فيقرر العودة الى الحياة العامة بهيئة جديدة واسم جديد " الكونت دي مونت كريستو " الثري الذي لا يعرف أحد شيئاً عن حياته الماضية ، ويبدأ بوضع خطه للانتقام مستخدما ثروته الهائلة لتحقيق أهدافه في مطاردة الذين ظلموه . لقد تحول الى قدر يلاحق ضحاياه ، وتمضي الرواية لتخبرنا أن خطة السجين السابق تنجح ، وإنه أخيراً استطاع تحقيق العدالة الغائبة ..ويعود في النهاية ليكشف عن نفسه بعد رحلة عاشها مع اسماء وهمية ومؤامرات كان يخطط لها بالخفاء ، ليلتقي أخيرا بخطيبته مرسيدس ليعلن لها انه لايزال يحبها ويتمنى الارتباط بها .
نشر الكسندر دوماس الأب روايته " الكونت دي مونت كريستو " عام 1844 ، في ذلك العام توفت الفتاة ماري دوبليسيس عن عمر 23 عاما نتيجة الآم شديدة في المعدة لم تمهلها طويلا ، كانت قد أخبرت إحدى صديقاتها انها تشعر دائما بان حياتها ستعود من جديد ، ولم تكن تدري أن هناك مؤلفاً شاباً أراد ان يقلد والده الأديب المشهور فقرر أن يكتب قصة هذه الفتاة التي شغلت البلاط الفرنسي بجمالها ، لينشر عام 1848 روايته " غادة الكاميليا " ، وأصرّ الشاب أن يطلق على نفسه اسم " الكسندر دوماس الابن " . كان الابن أحد الاطفال غير الشرعيين للكاتب الشهير ، الجميع يعامله كفتى منبوذ ، إلا انه كان شديد الاعجاب بشخصية والده ، فاختار أن يسير على نفس الدرب .
اذن هذه هي الرواية ، وفي ذلك الوقت لو طلب مني أن أكتب تعريفاً عن هذه الرواية لاختصرته بعبارة " ممتعة ". في رسالة يبعثها الكاتب الانكليزي مالكولم لاوري الى ناشره يشرح له فيها المغزى من كتابة روايته الشهيرة ( ما تحت البركان ) :" يمكن ببساطة قراءتها على انها قصة ستستفيد منها إن لم تتجاوزها ، ويمكن اعتبارها موسيقى ساخنة ، قصيدة ، أغنية ، مأساة ، كوميديا ، مهزلة ، وهكذا إنها سطحية ، عميقة ، ممتعة ومملة ، على حسب الذوق" .
ممتعة حسب الذوق ، كانت هذه العبارة التي يمكن أن أطلقها على رواية الكسندر دوماس التي أخذني فيها أنا الصبي الذي لايعرف من العالم سوى الشارع المؤدي من البيت الى المدرسة ، الى بلد غريب وبعيد ، وأدخلني عالماً مسحوراً ، وكنت وأنا التهم صفحات الرواية وأتخيل نفسي أدخل الى شوارع باريس التي تدور فيها حكاية السجين إدمون وانني التقي بأناس أشعر بانني قريب منهم ، هكذا قرأت أول رواية مثل طفل يمتلئ دهشةً من عجائب العالم .لم أكن أعرف أن سياسياً مثل لينين كان يصرح لمعارفه بأن روايته المفضلة تظل " الكونت دي مونت كريستو " وإن هذا الكاتب الذي حصد الشهرة والمجد باع ذات يوم كل ما يملك ليشتري بنادق ساهمت في تحرير وتوحيد أيطاليا ، وإنه كان يطلق عليه لقب ملك المسلسلات الروائية التي علمت الشعب الفرنسي قراءة التاريخ من خلال الأدب حتى أن دار النشر التي تولت إصدار أعماله في القرن التاسع عشر ، كتبت على غلاف الطبعة الكاملة " التاريخ " كما يرويه دوماس " .
في الثلاثين من تشرين الأول عام2002 ، وفي باريس ، امتد بساط الى البانثيون "مقبرة العظماء" . وعلى أنغام النشيد القومي الفرنسي ، كان الحرس الرئاسي يسير ببطء ، كانت الآلاف التي وقفت تشارك في المشهد المثير تنثر الزهور عند مرور الموكب الذي يتكون من أعضاء الاكاديمية الفرنسية. وعند اقتراب الموكب من البانثيون انتشر الطلاب وتطلعوا الى المنصة المقامة تحت القبة الكبرى التي جلس عليها اعضاء الحكومة وعلى رأسهم الرئيس جاك شيراك ، الذي كان قد وقع مرسوما جمهوريا لنقل رفات دوماس الأب من قريته في الجنوب الفرنسي الى مقبرة العظماء، ليدفن الى جوار فولتير وروسو وفكتور هيجو .
، وفي رحلته الأخيرة يمر جثمان الاكسندر دوماس بقصر مونت كريستو الذي تحوّل الى متحف ، حيث يمضي ليلة واحدة فيه ، يستعيد مع جدران القصر الأحداث التي صاغها كاتب عاش ومات من أجل الكتابة ومغامرة الحياة.
* عن المدى
علي حسين
-1-
• هناك من لا يستطيع تخيل العالم بلا طيور، وهناك من لا يتخيل العالم بلا ماء، أما بالنسبة إليّ، فأنا غير قادر على تخيل العالم بلا كتب.
بورخيس
عند سؤال الشاعر الفرنسي بول فاليري حول الحالة المثالية التي يتفرغ فيها للقراءة ..قال هناك فرق بين أن نرى شيئاً ونحن نمسك كتاب ، وبين أن نراه دون ذلك: " مجرد فتحنا لصفحات الكتاب يمكنه أن يمنح أفعالنا رؤيا جديدة " . فاليري يحذرنا من مخاطر القراءة التي لانتتج شيئاً :" أنني لا أبحث في الكتب ، إلا عما يسمح لكتاباتي بأن تفعل شيئاً ما " .
كان المطبخ المكان المناسب الذي يقرأ فيه وليم فوكنر كتبه :" كنت أفضّل أن أبقى في منزلي ، في مطبخي مع كتبي وعائلتي من حولي ، ويداي تلاعبان الأوراق " .كان فوكنر يمضي ساعات طويلة بين القراءة والكتابة أمام طاولة صغيرة أهدتها له أمه ، حيث يستيقظ في الرابعة صباحاً ، ينزل من غرفته الكائنة بالطابق الاول من البيت ، ويجلس الى الطاولة المزدحمة بالكتب والاأوراق ، يحب ارتداء ملابسه الكاملة وهو يقرأ أو يكتب ، يفتح النافذة المطلة على الحديقة ، يبقى لساعات طويلة منغمساً بالقراءة والكتابة . يحرص على الاحتفاظ بخصوصياته ، وعندما حصل على جائزة نوبل عام 1949 وذاعت شهرته ، دفع الصحافة والنقاد ومحبي الأدب الى الذهاب الى منزله أملاً في رؤيته والتعرّف على طقوس الكاتب اليومية ، مما اضطره لأن يبني جدارا عاليا أحاط به منزله من أجل أن يحافظ على حياته الخاصة ، لم يكن يريد لأي أحد أن يزعجه في خلوته . يواصل الكتابة والقراءة :" سأستمر على هذا الحال الى نهاية عمري ، وأتمنى أن اتلاشى من حياة الاخرين وأحُذف من التاريخ ّمن دون أن يترك لي أي أثر ما عدا كتبي " .
كثيرا ما يفاجأ الروائي والمترجم جبرا إبراهيم جبرا ، بسؤال زوار بيته وهم ينظرون الى المكتبة التي انتشرت على الحيطان لتأخذ حيزا كبيرا من البيت : هل قرأت كل هذه الكتب؟، وتكون اجابته التي تعوّد أن يقولها لقد إطلعت عليها كلها .. لم يكن الكتاب بالنسبة لجبرا سوى ضرب من العشق وهو يحفظ مقولة فرنسيس بيكون الشهيرة " بعض الكتب وجد لكيما يذاق ، وبعضها لكيما يبتلع ، والبعض القليل لكيما يمضغ ويهضم " يتذكر جبرا ماقراه عن د.ه. لورنس عندما دخل يوماً الى مكتبة اكسفورد وكانت تحوي مائة الف كتاب وفي ثلاث سنوات من الدراسة تعرف عليها جميعا هذا التعرف بمفهوم جبرا هو أساس الكثير من المعرفة ، وهو الذي يدل القارئ الى الاتجاه الذي عليه أن يسير فيه لطلب المزيد من المعرفة .. لنا ان نتذوق الكتاب اونبتلع بعضه او نمضغه ونهضمه ببطء في كل الأحوال نحن نعيش حالة عشق لاتملها النفس يكتب جبرا في مقال بعنوان عشق من نوع اخر يقول : " كانت تراودني فكرة اشبه بالحلم فكرت في كتابتها منذ اكثر من اربعين سنة ، وهي عن رجل كان يعشق الكتب اشترى بقعة نائية على كتف عال لتلة صخرية ‘ مشرفة على واد كثير التعاريج والشعاب ، وبنى عليها فندقا جميلا يجتذب الناس اولئك الذين يريدون الاختلاء بالطبيعة البعيدة عن ضوضاء المدن طلباً للتعمق في ذواتهم ، مقابل أجور معقولة وكان ذلك جزءاً من خطة وضعها لنفسه . فهو ينفق معظم ربحه في كتب يشتريها بالمئات . وفي بضع سنوات تجمع لديه من المال مايكفيه أخيراً لان يحول الفندق الى صوامع ، رتب فيها الكتب على رفوف لاتنتهي وجعلها داراً مفتوحة لكل من يريد أن يقرأ ويكتب ، شريطة أن ينتهي مايكتب الى مؤلفٍ يزيد من حس الانسان بروعة الوجود " .لم يكتب جبرا قصته تلك فقد كان يدرك آنذاك وهو في أواسط العشرينيات من عمره انها غير معقولة واشبه بالحلم .. لكن الحلم زامله سنوات طويلة حتى استطاع في منتصف الستينيات من القرن الماضي ان يحققه ولو بشكل بسيط ، فالدار التي حلم بها اكتملت ولم يبق غير المكتبة وهي في نظره الجزء الأهم في هذا البيت .. فجبرا الأنسان عاش طفولة ضنكة ونشأ في بيت ليس فيه الابضعة كتب حسب ما جاء بشهادته ، والإدخار انذاك كان صعبا ، فلما سنحت له الفرصة أن يدخل الجامعة في انكلترا كان أول شيء عمله وهو المبتلي بعشق الكتب أن سعى الى شراء الكتب بالجملة ، بالعشرات كما كان يحلم بطل قصته الخيالية وماهي إلاسنوات على الدراسة حتى وجد نفسه محاطا بالكتب من كل مكان ، وهو يتذكر في سني دراسته مصاطب الكتب في مدينة كمبردج وقد تزاحمت عليها كتب نادرة ونفيسة تباع جميعها باسعار زهيدة ، يقف جبرا متأملا هذه المصاطب المليئة بالكتب يقلب هذا ويقتني ذاك وهو أشبه بسارق المعرفة على حد تعبير الناقد الانكليزي وليم هازلت ، سراق المعرفة الذين يطيلون الوقوف أمام اكوام الكتب ليقرأوا بمتعة وتلذذ ، حيث يؤكد هازلت ان " سرقة المعرفة هي السرقة المشروعة الوحيدة في حياة المجتمع " وكان جبرا باعترافه واحداً من هؤلاء السراق حين تختفي النقود من جيبه فلا يجد بديلاً من ان يقف ساعات ليقرأ بمتعة وتلذذ فقرة هنا أو فقرة هناك.
في روايته " إذا في ليلة شتاء" يكتب إيتالو كالفينو إن :" القراءة تعني الاقتراب من شيء في اللحظة التي هو فيها على وشك أن يُخلَق " .
************
• وانت ماتزال صغيرا كن حريصاً على أن تقرأ الكثير من الكتب ، إعط وقتا لهذا أكثر مما تعطي لأي شيء آخر .
الروائية البريطانية زادي سميث
ذات مرة كتب الروائي الاميركي أرسكين كالدويل :" دائما ما تصبح الكتب التي اقرأها جزءاً من تجاربي الشخصية ، وأتخيل انني عشتها " .ولعله يقصد إنه يحاول أن يعيش تلك التجارب التي استمدها من الكتب ، ويتبناها يوما بعد آخر بحيث تصير جزءاً من عالمه الواقعي ومع هذا يظل السؤال ماذا نقرأ؟.
ربما تكون مثلي قد قرأت ذات يوم نصيحة غوستاف فلوبير التي يقول فيها :" لا تقرأ مثل الأطفال، من أجل المتعة، ولا مثل الطموحين، بغرض التعلم. لا، أقرأ كي تعيش " . ولعل معظمنا يبدأ أولى خطواته في القراءة منطلقين من الفضول لمعرفة ماذا تخبيء هذه الصفحات ، وكثير من القراء يؤمنون بمقولة :اقرأ من أجل المعرفة . ينصحنا الفيلسوف ديكارت بإعداد قوائم لتحديد الكتب التي يجب أن نقراها ، كتمرين من تمارين العقل واستكشاف العالم ويكتب هذه النصيحة :" إن قراءة الكتب هي بمثابة محادثة مع أفضل الشخصيات من القرون الماضية " ، كان ديكارت مصاباً بأمراض في الصدر ، وكان الأطباء ينصحونه بإراحة جسمه ، فاجازوا له البقاء في الفراش طويلا ، ما ساعده على الاهتمام بقراءة الأدب الكلاسيكي او كما يخبرنا هو :"لأقوم بجولات فكرية في الماضي السحيق فآخذ بطرف الحوار مع النبلاء الطاعنين في السن" .
تمثل القراءة إحدى أجمل ذكرياتي في الصغر ، وكل شيء بدأ عندي اشيه برحلة ، ذات يوم وانا ابن العاشرة من عمري وفي احدى مناطق بغداد ، اخذتني قدماي الى مكتبة يملكها أحد أقاربي يبيع فيها الكتب والمجلات والصحف ، في ذلك النهار وأنا أتجول بين العناوين وصور الأغلفة الملونة ، اكتشفت إن هذا المكان يمكن أن يصبح كل عالمي .. عندما استرجع كيف قضيت سنوات طويلة من عمري في رفقة الكتب ، أتساءل أحيانا إن كانت هذه الكتب غيرت حياتي ، أم انها سجنتني في عوالم مثالية وخيالية .
كنت وأنا أدخل المكتبة ، التفت باتجاه الرفوف التي تحوي مئات العناوين، وأشعر ان هذه الكتب تنظر ألي وإنها تعرف عني أكثر مما أعرف عنها ، وأحيانا أتخيل ان كل كتاب يخفي داخله عالماً سحرياً لانهاية له ..وفي المكتبة وقع في يدي ذات يوم كتاب مجلد بشكل جميل غني بالرسوم الملونة ومطبوع على ورق من نوعية فاخرة عنوانه " المعرفة " ، فيه الكثير الموضوعات التي لم أكن افهمها ، لكن ذلك لم يكن هدفي ، في واحدة من صفحات المجلد لاحت لي صورة رجل لديه لحية كثة اسمه داروين ، كانت عيناي تتنقل بين صورة الرجل الملتحي وبين سطور الكلمات التي أحاول أن أحل الغازها ووجدت نفسي وأنا ألتهم السطور منشغلاً بسؤال محيّر يطرحه صاحب هذه اللحية البيضاء : من نحن ؟ هل ولدنا أم إننا جئنا نتيجة بذور غُرست في الارض ، أم نتيجة لبيضة مفقوسة أم اننا خرجنا الى من الغرفة ، أم إننا سقطنا من السماء وربما نكون قد عشنا ثم وافتنا المنية أو تلاشينا أو تحطمنا وتكسرنا ؟ لم أجد إجابات لأسئلتي وحين اكتشف صاحب المكتبة حيرتي نصحني بالأبتعاد عن مثل هذه الموضوعات الشائكة ، فأنا ما زلت صغيراً ، وربما في المستقبل استطيع أن أفهم وأعرف أكثر . بعد سنوات اكتشفت ان من السهل طرح هذه الاسئلة ، ومن السهل الإجابة عليها وقرأت إن فيلسوفاً اغريقياً اسمه " طاليس " عاش قبل أكثر من ألفي عام كان يعتقد أن الكتب ولدت بفضل اسئلة البشر ، وظل يردد على تلامذته عبارة شهيرة :" كلما زادت الأسئلة ، كلما تظهر الكتب من تلقاء نفسها " .
يخبرنا صاحب مقبرة الكتب الاسباني كارلوس زافون أن أحد زبائن المكتبة قال له يوما :" لاشيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يلمس قلبه حقاً .إذ إن صدى الكلمات التي نظن إننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة ، ويشيد في ذاكرتنا منزلاً سنعود إليه عاجلاً ام آجلاً. "
في ذلك الوقت اعتقدت انني أستطيع الحصول على أي كتاب لأن المكتبة لاتبعد عن بيتنا سوى عشرات الأمتار ، ثم إنني وجدت في شخصية صاحب المكتبة محفزاً لي على اختيار ما أريد قراءته ، ولهذا كنت سعيدا حين دلّني ذات يوم ، على سلسلة من الروايات المصورة: وقد جذبني كتاب كان يمتلئ بالرسوم الملونة عنوانه " الكونت دي مونت كريستو " أما مؤلفه فمكتوب اسمه على الغلاف وبالألوان " الروائي المشهور الكسندر دوماس " .
كان هذا أول عهدي بالروايات ، لم اسمع بأسماء الذين يروي الكاتب حكاياتهم ، ولا أعرف معنى " مونت كريستو ، ، وما الذي يمكن أن تنفعني مغامراته ؟ لكن الحكاية استولت على عقلي ، وأتذكر إنني قرأته خلال يومين ، أتمدد على فراشي وأعيد قراءة الصفحة الواحدة أربع أو خمس مرات لأفهم مغزي القصة .
بعد سنوات تعرفت جيدا على صاحب الرواية " الكسندر دوماس الأب " تميزا له عن ابنه حامل الاسم نفسه " الكسندر دوماس الابن " مؤلف الرواية الشهيرة " غادة الكاميليا " . واكتشفت إن هذا المؤلف الذي عاش ثمانية وستين عاماً - ولد في الرابع والعشرين من تموز عام 1802 - كانت له عادات غريبة ، يتباهى بان له أكثر من مئة ابن غير شرعي ، ويؤكد في كل مناسبة انه لن يتزوج ، ويقال انه كان لايرى إلا وهو يتأبط كتاباً ، صاحب مزاج خاص في الكتابة ، ويذكر كاتب سيرته انه كان يكتب قصصه على ورق ازرق ، أما اشعاره فيستخدم لها الورق الاصفر ، ويخصص الورق الوردي لكتابة مقالاته السياسية اللاذعة ، يعاني من مرض الدوار ، لايستطيع القراءة والكتابة وهو جالس على منضدة ،وإنما وهو متمدد على بطنه ،ويضع تحته وسائد عديدة ، وبرغم هذه النزوات ، فقد أصدر اكثر من اربعمائة مجلد ، وكتب للمسرح مئة مسرحية، مُثلت جميعها في زمنه ، وقامت بإداء ادوارها ممثلات معظمهن وقعن في أسر شخصيته المرحة ، ربح من وراء كتبه اكثر من مليون جنيه استرليني ، انفقها جميعها على ملذاته ، وحين حاصرته الديون قررت إحدى المعجبات به ان تشتري ديونه كي لايدخل السجن ، ثم ساومته بين قفص الزواج أو قضبان السجن ، فقرر في النهاية ان يرضخ لطلبها ويتزوجها .
الكونت دي مونت كريستو التي قرأتها ، سحرتني منذ اللحظة الاولى ، ولم ينفع فيما بعد انني اكتشفت انها عمل يتسم بالبساطة وإن احداثها لاتختلف عن اي فيلم عربي بالابيض والاسود مليئة بالمشاهد الميلودرامية والدموع والآهات ، فهي برغم ذلك شغلت النقاد بسبب انها لاقت اقبالا كبيرا في مختلف العصور ، ولاتزال على قائمة الكتب الاكثر مبيعا .
************
تدور أحداث رواية " الكونت دي مونت كريستو " حول البحار إدمون دانتيس، الذي نراه في الصفحات الاولى ، وهو يستعد للزواج ، إلا أن حادث القاء القبض عليه بتهمة مناصرة نابليون ، وايداعه في حصن إيفان الرهيب ، يدمر مخططاته ، وخلال الاثني عشر عاما التي قضاها في الحبس كان يؤمن انه بريء مما نسب إليه من تهم ، وأن سبب سجنه إنما هي مؤامرة حاكها ثلاثة أشخاص ، كان لكل منهم سبب للتخلص منه. الأول فرنان الذي كان ينافسه على خطيبته مرسيدس، والثاني انغلار منافسا له في أعماله ، أما الثالث فكان القاضي فيلفور الذي أيقن منذ اللحظة الاولى ان القضية ستعود عليه بقوائد كثيرة إن هو حكم على إدمون . وخلال سنوات حبسه الطويلة لا تشغله قضية سوى وضع الخطط للهرب من جحيم السجن واثبات براءته والانتقام من الذين ظلموه .
وبفضل مساعدة يقدمها صديقه الأب فاريا الذي يخبره قبل موته بمكان وجود كنز يمثل ثروة هائلة، في جزيرة مونت - كريستو. يتمكن إدمون من الهرب ؟، وبعد مغامرات وأهوال يحصل على الكنز ، فيقرر العودة الى الحياة العامة بهيئة جديدة واسم جديد " الكونت دي مونت كريستو " الثري الذي لا يعرف أحد شيئاً عن حياته الماضية ، ويبدأ بوضع خطه للانتقام مستخدما ثروته الهائلة لتحقيق أهدافه في مطاردة الذين ظلموه . لقد تحول الى قدر يلاحق ضحاياه ، وتمضي الرواية لتخبرنا أن خطة السجين السابق تنجح ، وإنه أخيراً استطاع تحقيق العدالة الغائبة ..ويعود في النهاية ليكشف عن نفسه بعد رحلة عاشها مع اسماء وهمية ومؤامرات كان يخطط لها بالخفاء ، ليلتقي أخيرا بخطيبته مرسيدس ليعلن لها انه لايزال يحبها ويتمنى الارتباط بها .
نشر الكسندر دوماس الأب روايته " الكونت دي مونت كريستو " عام 1844 ، في ذلك العام توفت الفتاة ماري دوبليسيس عن عمر 23 عاما نتيجة الآم شديدة في المعدة لم تمهلها طويلا ، كانت قد أخبرت إحدى صديقاتها انها تشعر دائما بان حياتها ستعود من جديد ، ولم تكن تدري أن هناك مؤلفاً شاباً أراد ان يقلد والده الأديب المشهور فقرر أن يكتب قصة هذه الفتاة التي شغلت البلاط الفرنسي بجمالها ، لينشر عام 1848 روايته " غادة الكاميليا " ، وأصرّ الشاب أن يطلق على نفسه اسم " الكسندر دوماس الابن " . كان الابن أحد الاطفال غير الشرعيين للكاتب الشهير ، الجميع يعامله كفتى منبوذ ، إلا انه كان شديد الاعجاب بشخصية والده ، فاختار أن يسير على نفس الدرب .
اذن هذه هي الرواية ، وفي ذلك الوقت لو طلب مني أن أكتب تعريفاً عن هذه الرواية لاختصرته بعبارة " ممتعة ". في رسالة يبعثها الكاتب الانكليزي مالكولم لاوري الى ناشره يشرح له فيها المغزى من كتابة روايته الشهيرة ( ما تحت البركان ) :" يمكن ببساطة قراءتها على انها قصة ستستفيد منها إن لم تتجاوزها ، ويمكن اعتبارها موسيقى ساخنة ، قصيدة ، أغنية ، مأساة ، كوميديا ، مهزلة ، وهكذا إنها سطحية ، عميقة ، ممتعة ومملة ، على حسب الذوق" .
ممتعة حسب الذوق ، كانت هذه العبارة التي يمكن أن أطلقها على رواية الكسندر دوماس التي أخذني فيها أنا الصبي الذي لايعرف من العالم سوى الشارع المؤدي من البيت الى المدرسة ، الى بلد غريب وبعيد ، وأدخلني عالماً مسحوراً ، وكنت وأنا التهم صفحات الرواية وأتخيل نفسي أدخل الى شوارع باريس التي تدور فيها حكاية السجين إدمون وانني التقي بأناس أشعر بانني قريب منهم ، هكذا قرأت أول رواية مثل طفل يمتلئ دهشةً من عجائب العالم .لم أكن أعرف أن سياسياً مثل لينين كان يصرح لمعارفه بأن روايته المفضلة تظل " الكونت دي مونت كريستو " وإن هذا الكاتب الذي حصد الشهرة والمجد باع ذات يوم كل ما يملك ليشتري بنادق ساهمت في تحرير وتوحيد أيطاليا ، وإنه كان يطلق عليه لقب ملك المسلسلات الروائية التي علمت الشعب الفرنسي قراءة التاريخ من خلال الأدب حتى أن دار النشر التي تولت إصدار أعماله في القرن التاسع عشر ، كتبت على غلاف الطبعة الكاملة " التاريخ " كما يرويه دوماس " .
في الثلاثين من تشرين الأول عام2002 ، وفي باريس ، امتد بساط الى البانثيون "مقبرة العظماء" . وعلى أنغام النشيد القومي الفرنسي ، كان الحرس الرئاسي يسير ببطء ، كانت الآلاف التي وقفت تشارك في المشهد المثير تنثر الزهور عند مرور الموكب الذي يتكون من أعضاء الاكاديمية الفرنسية. وعند اقتراب الموكب من البانثيون انتشر الطلاب وتطلعوا الى المنصة المقامة تحت القبة الكبرى التي جلس عليها اعضاء الحكومة وعلى رأسهم الرئيس جاك شيراك ، الذي كان قد وقع مرسوما جمهوريا لنقل رفات دوماس الأب من قريته في الجنوب الفرنسي الى مقبرة العظماء، ليدفن الى جوار فولتير وروسو وفكتور هيجو .
، وفي رحلته الأخيرة يمر جثمان الاكسندر دوماس بقصر مونت كريستو الذي تحوّل الى متحف ، حيث يمضي ليلة واحدة فيه ، يستعيد مع جدران القصر الأحداث التي صاغها كاتب عاش ومات من أجل الكتابة ومغامرة الحياة.
* عن المدى