صدِّقوا أو لا تصدقوا، فمعذرةً لا يهمني أبدًا رأيكم، يكفي أني رأيته وحادثته وقابلته وشاهدت الكرسي، فاعتبرت أني رأيت معجزة، ولكن المعجزة الأكبر، الكارثة، أن لا الرجل ولا الكرسي ولا القصة كانت تستوقف أحدًا لا من المارة في ميدان الأوبرا لحظتها ولا في شارع الجمهورية ولا في القاهرة أو ربما الدنيا كلها، كرسي هائل تراه فتظن أنه قادم من عالم آخر أو أقيم من أجل مهرجان، ضخم كأنه مؤسسة، واسع القاعدة، ناعم، فرشه من جلد النمر، ومسانده من الحرير، وحلمك كله إذا رأيته أن تجلس عليه مرة أو لحظة، كرسي متحرك، يتقدم بتؤدة كأنه موكب المحمل حتى لتظن أنه يتحرك من تلقاء نفسه وتكاد من الرعب أو الذهول تخر أمامه وتعبده وتقدم له القرابين، ولكن في آخر وقت ألمح بين الأرجل الأربع الغليظة المنتهية بحوافر مذهبة تلمع، ساقًا خامسة، ضامرة، غريبة على الفخامة والضخامة، ولكن لا، لم تكن ساقًا كانت إنسانًا نحيفًا معروقًا قد صنع العرق على جسده ترعًا ومصارف وأنبت شعرًا وغابات وأحراشًا، صدقني فأنا، بالأمانة المقدسة، لا أكذب، ولا أبالغ، بل أنقل في عجز ما رأيت، كيف استطاع نحيف هش كهذا الرجل أن يحمل كرسيًّا كهذا لا يقل وزنه عن الطن أو ربما أطنان؟ ذلك هو المذهِب للعقل وكأنه شغل حواة، ولكنك تتمعن وتعود تتفحص فتجد أن ليس في الأمر خديعة، وأن الرجل حقيقةً يحمل الكرسي وحده ويتحرك به.
والأعجب والأغرب والمثير للذعر أن لا أحد من المارة في الأوبرا أو في شارع الجمهورية أو ربما القاهرة كلها يندهش أو يستعجب أو يعامل الأمر إلا وكأنه مسألة عادية مفروغ منها وكأنه كرسي فراشة، يحمله صبي، ويمضي به، أنظر إلى الناس وإلى الكرسي والرجل علِّي ألمح ارتفاعة حاجب، مصمصة شفاه أو صيحة عجب. لا شيء مطلقًا.
وبدأت أحس أن الموقف كله شيء من المرعب استمرار التفكير فيه، وفي تلك اللحظة كان الرجل بحمله قد أصبح على قيد خطوة مني، وأصبحت أرى وجهه الطيب رغم كثرة ما فيه من تجاعيد، ومع هذا لا تستطيع أن تحدد له عمرًا، ورأيت ما هو أكثر، فقد كان عاري الجسد لا يغطيه إلا حزام وسط متين يتدلى منه ساتر أمامي وخلفي من قماش قلوع المراكب ولكنك لا بد تتوقف، وتحس بعقلك قد بدأ، كالغرفة الخالية يصنع صدى، إنه يبدو في لباسه غريبًا ليس على القاهرة وإنما على العصر كله، تحس أنك رأيت له شبهًا في كتب التاريخ أو الحفريات، وفوجئت، هكذا، بابتسامة فيها ذلة السؤال، وبصوت، وبكلام.
– الله يرحم والديك يا بني، شفتش عمك بتاح رع؟
أهو هيروغليفي منطوق بالعربية أم عربية منطوقة بالهيروغليفية؟ أيكون الرجل من المصريين القدماء؟
وهجمت عليه: اسمع، أوع تقول إنك من المصريين القدماء.
– لهو فيه قدماء وجداد؟ أنا من المصريين وبس.
– وإيه الكرسي ده؟
– شيلتي، أمال أنا بادور على عمك بتاح رع ليه؟
عشان زي ما أمرني أشيله يؤمرني إني أنزله، أنا اتهد حيلي.
– أنت بقالك كتير شايله؟
– كتير أوي ما تعدش.
– من سنة؟
– سنة إيه يا بني، قول من ييجي سنة وشوية آلافات.
– آلافات إيه؟
– سنين.
– من أيام الهرم يعني؟
– من قبل، من أيام النيل.
– نيل إيه؟
– من أيام ما سمو النيل نيل، ونقلوا العاصمة من الجبل للضفة، جابني عمك بتاح وقال لي يا شيال: شيل، شلت، وأدور عليه في سلقط في ملقط بعد كده عشان يقول لي: حط، من يوميها للنهارده مش لاقيه.
وتمامًا توقفت كل قدرة أو رغبة في الدهشة عندي، أن من يحمل كرسيًّا بهذه الضخامة والثقل للحظة ممكن أن يحمله لآلاف السنين، لا دهشة ولا اعتراض، كل ما في الأمر سؤال: وافرض ما لقيتشي عمنا بتاح رع تفضل شايله؟
– أعمل إيه، أنا شيال، ودي أمانة، خدت الأمر إني أشيلها أحطها ازاي من غير أمر؟
ربما الغضب.
– تحطها زهق يا أخي، تعب، ترميها، تكسرها، تحرقها، دا الكراسي اتعملت عشان تشيل الناس مش عشان الناس تشيلها.
– ما أقدرش، هو أنا شايله غية، أنا شايله أكل عيش.
– ولو، ما دام هادد حيلك وقاطم وسطك يبقى ترميه، ومن زمان ترميه.
– دا عندك أنت لأنك ع البر مش شايل ما يهمكش، أنا شايل ودي أمانة وشايل الأمانة مسئول عنها.
– لغاية امتى إن شاء الله.
– لما يجيني الأمر من بتاح رع.
– دا مات وشبع موت.
– من خليفته، من وكيله، من ولد من ولاد ولاده، من حد معاه أمارة منه.
– طيب أنا بأمرك أهه إنك تنزله.
– أمرك مطاع وكتر خيرك، بس أنت تقرب له؟
– للأسف لا.
– معاك أمارة منه؟
– ما معاييش.
– يبقى عن إذنك.
ولكني صرخت، وقد بدأ يتحرك، أوقفه، فقد لاحظت شيئًا كالإعلان أو اللافتة مثبتة في مقدمة الكرسي، بالضبط كانت قطعة من جلد غزال وكان عليها كتابة قديمة وكأنها النسخ الأولى للكتب المنزلة، وبصعوبة طالعت:
يا حمال الكراسي.
لقد حملت ما فيه الكفاية.
وآن لك أن يحملك كرسي.
هذا الكرسي العظيم.
الذي لم يصنع مثله.
لك أنت وحدك.
احمله.
وخذه إلى بيتك.
وضعه في الصدر.
وتربع فوقه طول عمرك.
وحين تموت.
يكون لأبنائك.
وهذا هو أمر بتاح رع يا سيادة شيال الكراسي، أمر صريح صادر في نفس اللحظة التي أمرك أن تحمل فيها الكرسي، وممهور بإمضائه وخطوشه.
بفرح عظيم قلت له كل هذا، فرح متفجر كمن كاد يختنق، فمنذ رأيت الكرسي وعرفت القصة وأنا أحس وكأني أنا الذي أحمله وحملته عبر آلاف السنين وكأن الذي انقطم ظهري أنا، وكأن الفرحة التي انتابتني هي فرحتي للخلاص يأتي أخيرًا.
برأس منكس استمع الرجل ولا اختلاجة، إنما انتظار منكَّس أيضًا، أن انتهى وما كدت أفعل، حتى رفع رأسه، كنت أتوقع فرحة مماثلة، انفراجة حتى، ولكني وجدت لا شيء.
– الأمر مكتوب فوق راسك أهه ومن زمان مكتوب.
– بس أنا ما باعرفش أقرا.
– مانا قريته لك.
– أنا ما باصدقش إلا بأمارة، معاك أمارة؟
ولما لم أجب، غمغم غاصبًا وهو يستدير: أهو ما بينوبنيش منكو غير العطلة، يا ناس، والشيلة تقيلة، والنهار الواحد يدوبك لفة.
ووقفت أرقبه، وقد بدأ الكرسي يتحرك، حركته المتئدة الوقورة التي تظن أنها من تلقاء نفسه، والرجل قد أصبح مرة أخرى ساقه النحيلة الخامسة، القادرة وحدها على تحريكه.
وقفت أرقبه، وهو يبتعد، لاهثًا، يئن وعرقه يسيل.
وقفت حائرًا أتساءل أألحقه وأقتله لأنفِّس عن غيظي؟
أأندفع أسقط الكرسي عن كتفه بالقوة وأريحه رغمًا عنه، أم أكتفي بالسخط المغيظ منه؟
أم أهدأ وأرثي لحاله؟
أم أصب اللوم على نفسي أنا لأني لا أعرف الأمارة؟
١ كُتِبَت في أواخر ١٩٦٨.
والأعجب والأغرب والمثير للذعر أن لا أحد من المارة في الأوبرا أو في شارع الجمهورية أو ربما القاهرة كلها يندهش أو يستعجب أو يعامل الأمر إلا وكأنه مسألة عادية مفروغ منها وكأنه كرسي فراشة، يحمله صبي، ويمضي به، أنظر إلى الناس وإلى الكرسي والرجل علِّي ألمح ارتفاعة حاجب، مصمصة شفاه أو صيحة عجب. لا شيء مطلقًا.
وبدأت أحس أن الموقف كله شيء من المرعب استمرار التفكير فيه، وفي تلك اللحظة كان الرجل بحمله قد أصبح على قيد خطوة مني، وأصبحت أرى وجهه الطيب رغم كثرة ما فيه من تجاعيد، ومع هذا لا تستطيع أن تحدد له عمرًا، ورأيت ما هو أكثر، فقد كان عاري الجسد لا يغطيه إلا حزام وسط متين يتدلى منه ساتر أمامي وخلفي من قماش قلوع المراكب ولكنك لا بد تتوقف، وتحس بعقلك قد بدأ، كالغرفة الخالية يصنع صدى، إنه يبدو في لباسه غريبًا ليس على القاهرة وإنما على العصر كله، تحس أنك رأيت له شبهًا في كتب التاريخ أو الحفريات، وفوجئت، هكذا، بابتسامة فيها ذلة السؤال، وبصوت، وبكلام.
– الله يرحم والديك يا بني، شفتش عمك بتاح رع؟
أهو هيروغليفي منطوق بالعربية أم عربية منطوقة بالهيروغليفية؟ أيكون الرجل من المصريين القدماء؟
وهجمت عليه: اسمع، أوع تقول إنك من المصريين القدماء.
– لهو فيه قدماء وجداد؟ أنا من المصريين وبس.
– وإيه الكرسي ده؟
– شيلتي، أمال أنا بادور على عمك بتاح رع ليه؟
عشان زي ما أمرني أشيله يؤمرني إني أنزله، أنا اتهد حيلي.
– أنت بقالك كتير شايله؟
– كتير أوي ما تعدش.
– من سنة؟
– سنة إيه يا بني، قول من ييجي سنة وشوية آلافات.
– آلافات إيه؟
– سنين.
– من أيام الهرم يعني؟
– من قبل، من أيام النيل.
– نيل إيه؟
– من أيام ما سمو النيل نيل، ونقلوا العاصمة من الجبل للضفة، جابني عمك بتاح وقال لي يا شيال: شيل، شلت، وأدور عليه في سلقط في ملقط بعد كده عشان يقول لي: حط، من يوميها للنهارده مش لاقيه.
وتمامًا توقفت كل قدرة أو رغبة في الدهشة عندي، أن من يحمل كرسيًّا بهذه الضخامة والثقل للحظة ممكن أن يحمله لآلاف السنين، لا دهشة ولا اعتراض، كل ما في الأمر سؤال: وافرض ما لقيتشي عمنا بتاح رع تفضل شايله؟
– أعمل إيه، أنا شيال، ودي أمانة، خدت الأمر إني أشيلها أحطها ازاي من غير أمر؟
ربما الغضب.
– تحطها زهق يا أخي، تعب، ترميها، تكسرها، تحرقها، دا الكراسي اتعملت عشان تشيل الناس مش عشان الناس تشيلها.
– ما أقدرش، هو أنا شايله غية، أنا شايله أكل عيش.
– ولو، ما دام هادد حيلك وقاطم وسطك يبقى ترميه، ومن زمان ترميه.
– دا عندك أنت لأنك ع البر مش شايل ما يهمكش، أنا شايل ودي أمانة وشايل الأمانة مسئول عنها.
– لغاية امتى إن شاء الله.
– لما يجيني الأمر من بتاح رع.
– دا مات وشبع موت.
– من خليفته، من وكيله، من ولد من ولاد ولاده، من حد معاه أمارة منه.
– طيب أنا بأمرك أهه إنك تنزله.
– أمرك مطاع وكتر خيرك، بس أنت تقرب له؟
– للأسف لا.
– معاك أمارة منه؟
– ما معاييش.
– يبقى عن إذنك.
ولكني صرخت، وقد بدأ يتحرك، أوقفه، فقد لاحظت شيئًا كالإعلان أو اللافتة مثبتة في مقدمة الكرسي، بالضبط كانت قطعة من جلد غزال وكان عليها كتابة قديمة وكأنها النسخ الأولى للكتب المنزلة، وبصعوبة طالعت:
يا حمال الكراسي.
لقد حملت ما فيه الكفاية.
وآن لك أن يحملك كرسي.
هذا الكرسي العظيم.
الذي لم يصنع مثله.
لك أنت وحدك.
احمله.
وخذه إلى بيتك.
وضعه في الصدر.
وتربع فوقه طول عمرك.
وحين تموت.
يكون لأبنائك.
وهذا هو أمر بتاح رع يا سيادة شيال الكراسي، أمر صريح صادر في نفس اللحظة التي أمرك أن تحمل فيها الكرسي، وممهور بإمضائه وخطوشه.
بفرح عظيم قلت له كل هذا، فرح متفجر كمن كاد يختنق، فمنذ رأيت الكرسي وعرفت القصة وأنا أحس وكأني أنا الذي أحمله وحملته عبر آلاف السنين وكأن الذي انقطم ظهري أنا، وكأن الفرحة التي انتابتني هي فرحتي للخلاص يأتي أخيرًا.
برأس منكس استمع الرجل ولا اختلاجة، إنما انتظار منكَّس أيضًا، أن انتهى وما كدت أفعل، حتى رفع رأسه، كنت أتوقع فرحة مماثلة، انفراجة حتى، ولكني وجدت لا شيء.
– الأمر مكتوب فوق راسك أهه ومن زمان مكتوب.
– بس أنا ما باعرفش أقرا.
– مانا قريته لك.
– أنا ما باصدقش إلا بأمارة، معاك أمارة؟
ولما لم أجب، غمغم غاصبًا وهو يستدير: أهو ما بينوبنيش منكو غير العطلة، يا ناس، والشيلة تقيلة، والنهار الواحد يدوبك لفة.
ووقفت أرقبه، وقد بدأ الكرسي يتحرك، حركته المتئدة الوقورة التي تظن أنها من تلقاء نفسه، والرجل قد أصبح مرة أخرى ساقه النحيلة الخامسة، القادرة وحدها على تحريكه.
وقفت أرقبه، وهو يبتعد، لاهثًا، يئن وعرقه يسيل.
وقفت حائرًا أتساءل أألحقه وأقتله لأنفِّس عن غيظي؟
أأندفع أسقط الكرسي عن كتفه بالقوة وأريحه رغمًا عنه، أم أكتفي بالسخط المغيظ منه؟
أم أهدأ وأرثي لحاله؟
أم أصب اللوم على نفسي أنا لأني لا أعرف الأمارة؟
١ كُتِبَت في أواخر ١٩٦٨.