السُّولامي حيٌّ بالفكرة وليس الصورة !
محمد بشكار
لا أنْكُر أنِّي انْتشَيْتُ بالإنْشاد الشِّعري فِي الأمْسية الاحْتِفائية بالقنيطرة، وَلا أنْكُر أنِّي اغْتبطتُ بالرأسمال الرمزي وأنا أوقِّع نُسَخاً من هزائمي المُنْتصرة، ولكن بِمُجرد ما تنْطفىء الأضواء، تَنْهَض بَعضُ التَّفاصيل الصَّغيرة لِتُمارسَ حقَّها في القلق، وأحدُ هذه التفاصيل تِلْكُمُ الصُّورة التي جَمعتْنِي بأديبنا النَّاقد الكبير إبراهيم السولامي، لا عيْب أبداً في الصُّورة ولا في الباقة التي سلَّمني ورْدَها كاتبُ "رأي غير مألوف"، ومِنْ أيْن تأتي شائِبةُ العيْب للورْد وهي من يدٍ نديَّةٍ تَرْتعش في نبْضِها الكلمة، وتُورق في كلِّ الفُصول، إنّما العيبُ في بعض من رأوا الصُّورة، فقد أيقنتُ أنَّهم الأموات بعد أنْ بَادروني بالسُّؤال: هل حقّاً الدكتور إبراهيم السولامي ما زال بيننا في الحياة !
الاسم الذي لا يعرفه أحدٌ لا أحد أيضاً يعْلم هل مات أوْ ما زال على قَيْدها يأكل القُوت، ويُمكن أن نَسْتَتْبع هذه الحقيقة التي لا ينال جاهلِيَّتها في زمننا إلا ذو حظٍّ عظيم، بالسؤال ما جدوى أن تكون اسما معروفاً محليّاً أو عالميا، ومَنْ حواليك قد أنْشَأوا من الذَّاكرة مَقبرةً جماعية للأحياء والأموات، أحياناً تُشفْق الكلمات القاسية على كاتِبِها، ولا تُناوله ما يصفُ مشاعر الإحْباط بِالبشاعة التي قد تُؤْذيه وتُؤْلم ذوي القُلُوب الضَّعيفة، وإلا أيّ الكلمات تَصْلُح صَرخَتُها ردَّةَ فِعْل بليغة، حين يُسْألُ الكَاتبُ وهو ما زال يَتمتَّع بِنصيبه من العُمْر، كما يُسْألُ الموتى في أوّل يومٍ بالقبْر!
يَا لَفلْسَفة الصُّورة التي أوْصلتِ القيمة الأدبية في عصْرنا إلى مَهاوي الإفْلاس، لم يَعُدِ المرْء موجوداً بِمنْتوجه الفِكْري والأدبي، وإنّما بظُهوره كلَّما سَنحتِ الكَامِيرا في صُورٍ وفيديوهات تحترف تحت الحزام، أصْبحتِ الأعين تتّسع بالمُشاهدة والعُقول تَضيق ولا يُرجى من تفكيرها الضحل فائدة، ابراهيم السولامي ما زال بيننا بأكثر من حياة، وإنَّ روحَه لَتَتجدَّد كل يوم في طلبة الأمس الذين بتعبيره "يملأون الساحة تلقينا وتأليفا وإبداعا"، السولامي أكبر من الصُّورة لأنّه سبقها بالتمرُّس على فلسفة الوجه الآخر، أليْس هو من قال في رأي غير مألوف "في الأدب، كما في الحياة، ظاهرة إنسانية مُثيرة هي: الظاهر والخفي، أو البراني والجواني كما يحلو لأستاذنا الدكتور عثمان أمين أن يقول. فالنظر السَّطحي للإنسان يُوهِم الرائي أنَّ ما يراه هو الحقُّ، ولكن الدِّراسة كثيرا ما تُعدِّلُ الصورة وقد تُغيِّرها"، صحيح أنّي لا أستطيع أن أحْصِي عدد الصور النَّمطية الأحوج في واقعنا الثقافي العقيم للتَّغْيير، ولكن أستطيع أن أفْضح الصورة المُزيّفة التي تقتل يومياً رموز الأدب المغربي الأصيل، أستطيع أنْ أقلب المائدة على المؤسسة الثقافية الرسمية للبلد، وأسْتعرض كل المسامير التي تحتها اسماً..اسماً، ثم أصيح هل كان يجبُ أن ألْتَقط صورةً مَع السولامي ليعود في نظر البعض للحياة !
يُخيَّلُ إليَّ أنَّ الشاعر العميد إبراهيم السولامي يميل الآن إلى أذني هامساً، أيْ بشكار إنّني لا أحْتاج أن أجدد بطاقة التعريف في مُحيطٍ مَوْبوء تَتصدّر واجِهته الأشْباح، فأنا أعْشق المُستحيل الذي يَسْتوقِد الشُّعْلة في الرّماد لِيعُم القبيلةَ النور، لا تَسْتعرض أرْجوكَ عضلاتي أو ألْقَابي فهو لا يَصِحُّ حتّى مع الأنداد، لا تُمْعِن في المدائح، وتقول لِلأصمِّ إنّي نشرتُ الـ"حب" ديواناً في الستينيات قبل أنْ تجفَّ بالكراهية القرائح، لا تَقُل إنِّي مزّقتُ الأقنعة وقلْتُ كلمتي اللاذعة بوجْهٍ مكْشُوف، ربّما لذلك تخْجلُ الأضواء من ظِلّي المهيب، أنا لستُ مِمَّن يُدْلون بالألْقاب، كَما تُدْلي الدّوابُ بأحْمالِها من القِراب، ويلٌ للظّمآن يَحْسبُ كل سرابٍ مجرى نبع، لا تَقلْ إنَّ شهاداتي العليا من مصر وفرنسا والجزائر والمغرب، أوْ أنّي روّضتُ نفسي مُنذ أزمنة طويلة على الغُرْبة الّتي يعيشُ عُزْلتها المثقف اليوم، فكتبتُ عن الاغتراب السياسي في الشعر العربي الحديث، فأنا مثل الكاتب النمساوي "ستيفان زفايج" الذي كتب رواية "الخوف" ليتخلّص من كل هاجسٍ مُخيف، لقد جاريته في اللعبة حين ترجمتها أنا وبرادة لأنْعم بنفْس الخلاص، أنا هُنا يَا صديقي حي بقُوة الفكرة وليس وهم الصورة !
..................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 14 أبريل 2022.
محمد بشكار
لا أنْكُر أنِّي انْتشَيْتُ بالإنْشاد الشِّعري فِي الأمْسية الاحْتِفائية بالقنيطرة، وَلا أنْكُر أنِّي اغْتبطتُ بالرأسمال الرمزي وأنا أوقِّع نُسَخاً من هزائمي المُنْتصرة، ولكن بِمُجرد ما تنْطفىء الأضواء، تَنْهَض بَعضُ التَّفاصيل الصَّغيرة لِتُمارسَ حقَّها في القلق، وأحدُ هذه التفاصيل تِلْكُمُ الصُّورة التي جَمعتْنِي بأديبنا النَّاقد الكبير إبراهيم السولامي، لا عيْب أبداً في الصُّورة ولا في الباقة التي سلَّمني ورْدَها كاتبُ "رأي غير مألوف"، ومِنْ أيْن تأتي شائِبةُ العيْب للورْد وهي من يدٍ نديَّةٍ تَرْتعش في نبْضِها الكلمة، وتُورق في كلِّ الفُصول، إنّما العيبُ في بعض من رأوا الصُّورة، فقد أيقنتُ أنَّهم الأموات بعد أنْ بَادروني بالسُّؤال: هل حقّاً الدكتور إبراهيم السولامي ما زال بيننا في الحياة !
الاسم الذي لا يعرفه أحدٌ لا أحد أيضاً يعْلم هل مات أوْ ما زال على قَيْدها يأكل القُوت، ويُمكن أن نَسْتَتْبع هذه الحقيقة التي لا ينال جاهلِيَّتها في زمننا إلا ذو حظٍّ عظيم، بالسؤال ما جدوى أن تكون اسما معروفاً محليّاً أو عالميا، ومَنْ حواليك قد أنْشَأوا من الذَّاكرة مَقبرةً جماعية للأحياء والأموات، أحياناً تُشفْق الكلمات القاسية على كاتِبِها، ولا تُناوله ما يصفُ مشاعر الإحْباط بِالبشاعة التي قد تُؤْذيه وتُؤْلم ذوي القُلُوب الضَّعيفة، وإلا أيّ الكلمات تَصْلُح صَرخَتُها ردَّةَ فِعْل بليغة، حين يُسْألُ الكَاتبُ وهو ما زال يَتمتَّع بِنصيبه من العُمْر، كما يُسْألُ الموتى في أوّل يومٍ بالقبْر!
يَا لَفلْسَفة الصُّورة التي أوْصلتِ القيمة الأدبية في عصْرنا إلى مَهاوي الإفْلاس، لم يَعُدِ المرْء موجوداً بِمنْتوجه الفِكْري والأدبي، وإنّما بظُهوره كلَّما سَنحتِ الكَامِيرا في صُورٍ وفيديوهات تحترف تحت الحزام، أصْبحتِ الأعين تتّسع بالمُشاهدة والعُقول تَضيق ولا يُرجى من تفكيرها الضحل فائدة، ابراهيم السولامي ما زال بيننا بأكثر من حياة، وإنَّ روحَه لَتَتجدَّد كل يوم في طلبة الأمس الذين بتعبيره "يملأون الساحة تلقينا وتأليفا وإبداعا"، السولامي أكبر من الصُّورة لأنّه سبقها بالتمرُّس على فلسفة الوجه الآخر، أليْس هو من قال في رأي غير مألوف "في الأدب، كما في الحياة، ظاهرة إنسانية مُثيرة هي: الظاهر والخفي، أو البراني والجواني كما يحلو لأستاذنا الدكتور عثمان أمين أن يقول. فالنظر السَّطحي للإنسان يُوهِم الرائي أنَّ ما يراه هو الحقُّ، ولكن الدِّراسة كثيرا ما تُعدِّلُ الصورة وقد تُغيِّرها"، صحيح أنّي لا أستطيع أن أحْصِي عدد الصور النَّمطية الأحوج في واقعنا الثقافي العقيم للتَّغْيير، ولكن أستطيع أن أفْضح الصورة المُزيّفة التي تقتل يومياً رموز الأدب المغربي الأصيل، أستطيع أنْ أقلب المائدة على المؤسسة الثقافية الرسمية للبلد، وأسْتعرض كل المسامير التي تحتها اسماً..اسماً، ثم أصيح هل كان يجبُ أن ألْتَقط صورةً مَع السولامي ليعود في نظر البعض للحياة !
يُخيَّلُ إليَّ أنَّ الشاعر العميد إبراهيم السولامي يميل الآن إلى أذني هامساً، أيْ بشكار إنّني لا أحْتاج أن أجدد بطاقة التعريف في مُحيطٍ مَوْبوء تَتصدّر واجِهته الأشْباح، فأنا أعْشق المُستحيل الذي يَسْتوقِد الشُّعْلة في الرّماد لِيعُم القبيلةَ النور، لا تَسْتعرض أرْجوكَ عضلاتي أو ألْقَابي فهو لا يَصِحُّ حتّى مع الأنداد، لا تُمْعِن في المدائح، وتقول لِلأصمِّ إنّي نشرتُ الـ"حب" ديواناً في الستينيات قبل أنْ تجفَّ بالكراهية القرائح، لا تَقُل إنِّي مزّقتُ الأقنعة وقلْتُ كلمتي اللاذعة بوجْهٍ مكْشُوف، ربّما لذلك تخْجلُ الأضواء من ظِلّي المهيب، أنا لستُ مِمَّن يُدْلون بالألْقاب، كَما تُدْلي الدّوابُ بأحْمالِها من القِراب، ويلٌ للظّمآن يَحْسبُ كل سرابٍ مجرى نبع، لا تَقلْ إنَّ شهاداتي العليا من مصر وفرنسا والجزائر والمغرب، أوْ أنّي روّضتُ نفسي مُنذ أزمنة طويلة على الغُرْبة الّتي يعيشُ عُزْلتها المثقف اليوم، فكتبتُ عن الاغتراب السياسي في الشعر العربي الحديث، فأنا مثل الكاتب النمساوي "ستيفان زفايج" الذي كتب رواية "الخوف" ليتخلّص من كل هاجسٍ مُخيف، لقد جاريته في اللعبة حين ترجمتها أنا وبرادة لأنْعم بنفْس الخلاص، أنا هُنا يَا صديقي حي بقُوة الفكرة وليس وهم الصورة !
..................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 14 أبريل 2022.