المقدمة
أمامي صحيفة ناصعة البياض سأجري عليها قلمي لأملأها بما يمليه عليَّ ضميري، سأكتب فيها كلَّ ما أعتقده صحيحًا، وأتحاشى مواقع الزلل؛ حتى لا يُقال إني حابيتُ صديقًا أو تمسحت بأذيال كبير. أجل، سأكتب وإنْ ظنَّ الناس في كتابتي الظنون، سيقولون: «أيكتب تيمور مقالًا شديدًا عن عبد الرحمن ينتقده فيه نقدًا صريحًا خاليًا من المحاباة، وتيمور ممَّن اتخذهم عبد الرحمن أعوانًا له يشدون أزره وينصرونه على خصمه؟» ولماذا لا أكتب عن صديقي، وقد كتبت منذ يومين مقالات عن صديق آخَر أحبه وأعزه وأعجب بقدرته وكفاءته، انتقدتُه انتقادًا صريحًا لا أخال صديقي تقبَّلَه بغير سعة الصدر وابتسام الثغر؟ عبد الرحمن صديقي، وجورج أبيض صديقي، تربطني بهما رابطة الإخاء والود، ولكن التمثيل اتخذ له في نفسي مكانًا أكبر من مكانهما، ولهذا كتبتُ ما كتبتُ وسأكتب ما سأكتب. جورج رجل عاهدنا على خدمة التمثيل، فهو من رجال الفن، بل هو أكبر رجل يخدم الفن، وعبد الرحمن أيضًا ممَّن انبرَوا لخدمة الفن والقيام بنصرته، فهو أيضًا من رجال الفن، وسيُكتَب اسمهما الاثنين في تاريخ الفن، وكلاهما صاحب جوق يكد به ويعمل، والبلد الذي يمثِّلان فيه لم يضق عليهما برحبه، والعهد الذي رأيناهما فيه على خشبة المسرح ما زال قصيرًا، والمستقبل أمامهما كبير جدًّا، والتمثيل أمٌّ حنون تدرُّ عليهما أخلاف الرزق، وتمدُّ لهما أكناف العيش، وكلاهما لا يرد الخوف بادرته أن يخرص عدوًّا منافقًا، فلماذا لا نكتب عنهما ليقرأ الجمهور الحقيقةَ الناصعة، ويكون للرئيسين من ذلك وازع يردهما عن خطئهما؟ وكل كبير عرضة للخطأ، وكفى المرء نبلًا أن تُعَدَّ معايبُه، ونحن إن كتبنا اليوم عن كل واحد منهما مقالًا، فسنكتب عن بقية الممثلين وبينهم عبد القدوس وطليمات، وهما أقرب الناس إلى قلبي، كما أني أقرب الناس إلى قلبَيْهما. أجل، سأكتب عنهما وأقول الحقيقة؛ لأني أكتب تاريخ الفن، والفن حي أبدي، أما الصداقة فستموت بموت الأصحاب، أو ترحل وراءهم إلى العالم الذي سينتقلون إليه، فلا يظن الناس أني أتيتُ أمرًا إدًّا، أو أني نقضت عهدًا وخنتُ ودًّا، فالصديق مَن يقبل النصيحة وإن كانت قاسية مؤلمة، وإنه لَيؤلمني كثيرًا أن أكتب عن عيوب هؤلاء الأصحاب، ولكن ما حيلتي وهم ممَّن قاموا بعمل كبير يحتِّم عليَّ الكتابةَ عنهم؟ ولو كانوا كغيرهم من سواد الناس لما أمسكتُ القلم ولا كتبتُ.
النقاد في أوروبا فريقان: الأول يكتب في مجلات محلَّاة بالتصاوير الجميلة أُنشِئت لمدح الممثلين والروائيين، فهي خالية من الحقيقة. والثاني يكتب في ذيل الجرائد الكبيرة مقالات انتقادية، ولا رائدَ له غير الحق الصراح والحقيقة، حلوةً كانت أو مرة. فلأيِّ فريق يريد أصدقاؤنا أصحاب الأجواق والممثلون أن ننحاز؟ أظنهم يحبِّذون الفريق الثاني؛ لأنهم بلا نزاع يحبون التمثيل، ويفضِّلون خدمته قبل خدمة أنفسهم.
لقد كتبتُ أمس عن صديقي جورج أبيض، وكنت أثناء الكتابة كأني لا أعرفه شخصيًّا، واليوم أفعل مع عبد الرحمن ما فعلتُه مع جورج، وكل هذا لأجل الفن، فَلْنصرخ جميعًا قائلين: «ليحيَ الفن.»
عبد الرحمن رشدي: نشأته – عيوبه
أَلَمْ تَرَ ذلك الطفل الصغير؟ إنه يقفز ويلعب ويضحك ويصرخ، ولكنه فوق ذلك يحب التمثيل. أجل، يحب التمثيل ولا يدري لماذا؟ ثم أَلَمْ تَرَ ذلك اليافع الذي يذهب في الصباح للمدرسة ويعود منها في المساء؟ إنه أيضًا يحب التمثيل ولا يدري لماذا؟ ثم أَلَمْ تَرَ المحامي الذي إذا صرخ في قاعة الجلسة ظنَّ نفسه يصرخ على خشبة المسرح؟ ثم أَلَمْ تسمع بأول رجل هجر حِرْفته الراقية الشريفة إلى حِرْفة أخرى تساويها مقامًا وقدرًا، ولكنها تظهر في نظر الناس ملوَّثةً محقرة؟
هذا هو عبد الرحمن رشدي الذي أصبح اليوم مدير جوق تمثيلي في العاصمة وفي جميع بلدان القُطْر.
وإذا أردنا الآن أن نكتب عنه وعن مجهوده الفني، حتَّمَ علينا الفنُّ أن نبدأ بهذه الحسنة الكبيرة؛ حسنة هجره المحاماة واحترافه التمثيل. أقْدَمَ عبد الرحمن على احتراف التمثيل، والتمثيل حصن تتقدمه النكبات وتحجبه الشدائد وتعصمه الأهوال وتحفه سيول الضر والأذى، ولكنه خرق هذه الحجب، وما زال يتخبَّط على باب هذا الحصن إلى يومنا هذا، راجيًا أن يصل إلى فتح بابه الحديدي، ناسيًا الهوَّة السحيقة التي حفرها القدر بجانب هذا الباب، فعسى أن ينتبه إليها قبل أن تزلَّ به القدمُ، فيهوي إلى قرارها، وفي ذلك السكون الأبدي الهزيمة الكبرى، وذلك ما لا نرجوه له ولا لغيره.
عبد الرحمن رشدي بلا نزاع يحب التمثيل، ويسعى جهده لترقيته، ولكنه ذو عيوب كثيرة، كلما تقدَّمَ خطوة أرجعَتْه عشرًا؛ أولها همته الكبيرة التي تبدو لك في كل كلمة يقولها، بل في كل حرف يتفوَّه به، تراه كبير الخيال كلما عنَّ له أمر ودَّ تحقيقه، فإذا قرأ رواية إفرنجية كلَّف أحد الكتاب بترجمتها، وإن كانت لا توافق الذوق المصري، وإذا سمع صوت منشد بحث عنه وضمَّه لفرقته، راجيًا أن يضع بيده في مصر أساس الأوبريت والأوبرا كوميك ثم الأوبرا، وإذا رأى ممثِّلًا أعجبه تمثيله ضمَّ إليه هذا الممثلَ، ولكن هذه الهمة كبيرة في القول فقط، أما في العمل فهي صغيرة؛ لأنك تراه يعرِّب الرواية ويمثِّلها فلا تصادِف إقبالًا من الجمهور، وترى المنشد ذا الصوت الجميل قد خفَتَ صوته هاجرًا الجوق ومَن فيه، وترى الممثِّل الذي أُعجِب به عبد الرحمن لا يمثِّل غير الأدوار الصغيرة، وإن قُدِّر له أن يمثِّل دورًا كبيرًا كان هذا الدور لا يوافِق مزاجه ولا طبيعته. وإذا حادثت عبدَ الرحمن بعد ذلك في هذا الأمر، تراه ما زال يلتهب غيرة على الفن، ويذوب شوقًا إلى الجميل، مُلقِيًا الذنب كله على الجمهور لأنه لم يفهم الرواية، ثم على المنشد لأنه يريد أن يحول الجوق إلى تمثيل الأوبريت والجوق بعيد عن ذلك، ثم على الممثل لأنه كسلان لا يقوم بواجبه. هذا هو أول عيوب عبد الرحمن، فيا حبَّذا لو كانت همة عبد الرحمن لا تتطلع لكثير من الأعمال؛ حتى تتحوَّل من حيِّز القول إلى حيِّز العمل لنرى أعماله ناضجة. ثم يأتي بعد ذلك عيب آخَر، وهو العناد الكبير الذي لم أَرَه في مخلوق آخَر، وتراه دائمًا راكبًا رأسه في كل شيء، لا يخنع لرأي صديق، ولا لنصيحة ناصح، فإذا أتيتَه برأي يخالف رأيه واعتقد أنك على صواب، مكَثَ هنيهة يفكِّر ليخلق لنفسه أسبابًا يتوكَّأ عليها لتعزيز رأيه، وكأنه يقول لنفسه: «مَن الذي يؤمنني أنك على صواب؟» أما عيبه الثالث، فهو وثوقه في قدرته الفنية تلك الثقة العمياء، حتى يظن أنه قادر على تمثيل كل دور من أي نوع كان، كأنه يجمع في نفسه نفس مونيه سللي وجيتري ولوبارجي وكوكلان ودي فرودي، وهذا ما لم نَرَه في ممثل إفرنكي قبل اليوم، فمونيه سللي خُلِق للتراجيدي، وجيتري ولوبارجي للدرام والكوميدي دراماتيك، وكوكلان ودي فرودي للكوميدي، ولهذا نرى عبد الرحمن يمثِّل أدوارًا كثيرة، ولكنه لا يتقن غير الأدوار التي توافق طبيعته وعواطفه. أما عيبه الرابع فهو عواطفه، وعبد الرحمن رجل ذو عواطف كبيرة جدًّا، وكم من مرة رأيناه يبكي في التجارب التمثيلية، نحن نود أن يكون الممثل القادر ذا عواطف، ولكننا لا نريد أن تكون هذه العواطف سببًا في محو شخصية الدور الذي يمثِّله، حتى نرى الممثل هو هو في بيته خالعًا لباس الدور ومرتديًا لباس نفسه. أما عيبه الخامس فهو «فنيَّته»؛ ترى عبد الرحمن إذا حادثَكَ تعدَّدت في فمه كلمة «فن»، فمن حرف فني إلى كلمة فنية، ومن مشهد فني إلى منظر فني، ومن دور فني إلى رواية فنية، ومن معرب فني إلى مؤلف فني، ومن جوق فني إلى جمهور فني. يريد عبد الرحمن أن يكون عمله فنيًّا، ولهذا نراه إذا أخطأ في شيء أتاه بعذر فني، وهكذا لا حديث لعبد الرحمن غير كلمة «فني»، ويا حبذا لو سمعناه يومًا يقول: «هذا ما تناله يدي ويبلغه جهدي.» أما عيبه السادس فهو اشتغاله بجميع أشغال جوقه، ولهذا جهل السياسة، وهي من ضروريات كل مدير، ومَن جهل السياسة وكان مديرًا أصبح كالعاثر الذي تزلُّ به قدمه في الطريق الوعر، ظلَّ عبد الرحمن كذلك إلى أن فرَّقَ أعمالَه على قوم أخلصوا له، وقام هو بالقسم الفني، فعسى ألَّا يسهده بعد اليوم شاغلٌ.
مجهوده الفني
لو نظرنا إلى حياة عبد الرحمن التمثيلية نجدها تنقسم إلى ستة أطوار: الأول يبتدئ من عهد احترافه التمثيل في أول جوق ألَّفه أبيض إلى عهد رجوعه للمحاماة، والطور الثاني يبتدئ من عهد رجوعه للمحاماة إلى عهد انضمامه لأبيض للمرة الثانية، والطور الثالث يبتدئ من عهد انضمامه لأبيض إلى عهد افتراقه عنه، والطور الرابع من عهد افتراقه عن أبيض إلى عهد تأليفه الشركة التي يديرها، والطور الخامس من عهد تأليف هذه الشركة إلى أن تحوَّلت هذه الشركة إلى جوق يحمل اسم عبد الرحمن، والطور السادس من عهد هذا التحويل إلى يومنا هذا.
الطور الأول
رأينا اسم عبد الرحمن على إعلانات أبيض فدهشنا، ووقفنا أمام الإعلان ونحن نكذِّب أعينَنا، حتى رأيناه على المسرح فاطمأنت قلوبنا وقرت عيوننا. عاش عبد الرحمن بين قوم ليسوا من طبقته في المبدأ ولا في المقام ولا في التعليم (اللهم إلا أبيض وسليم)، فكان أرفعهم رأسًا وأكثرهم علمًا، ومكث حينًا يمثِّل على المسرح فما لانَتْ قشرته ولا طابَتْ عشرته، فهجر التمثيل ولوى بوعده بعد طول ضمانه، وهو الذي دخل التمثيل وهو يعلم علم اليقين أن وراء ذلك عظيمات النوازل وجسيمات الحوادث. فما الذي قدَّمه لنا عبد الرحمن من المجهود الفني في هذه المدة القصيرة؟
مثَّل عبد الرحمن دور رسول القصر في أوديب، ودور نيمور في لويس، ودورًا بسيطًا في عطيل، ودورًا أبسط منه في الأحدب، ودور فرنسوا الأول في مضحك الملك، ودورًا بلديًّا في الشيخ متلوف، ودور العاشق في الساحرة. أما دور رسول القصر، فقد ظهر فيه عبد الرحمن مظهر الممثل الذي يمثِّل لأول مرة، وقد أفرغ جهده ليخرج الدور بشكل يخالف به إخوانه، فكان كثير الحركات والإشارات والصراخ، ولكن صوته كان يخونه كثيرًا؛ لأنه لم يُخلَق للتراجيدي، على أن الجمهور كان كبير الأمل في عبد الرحمن، وكان هذا الأمل نتيجةً للتضحية الكبيرة التي أقْدَمَ عليها عبد الرحمن، والتي خدَّرت أعصاب الجمهور. أما دور نيمور، فهو دور طويل عريض، دور المنتقم الجبَّار والعاشق الحزين، ولقد أخرجه عبد الرحمن لجمهورٍ مخدَّر الأعصاب — كما قلنا — فأدهش ذلك الجمهور، واسترعف زنده، فهتفت الحمية في قلبه، وظلَّ يتحدَّث عن عبد الرحمن عهدًا طويلًا.
عبد الرحمن جميل الصورة عَبْل الذراعين فيَّاض الإحساس؛ ولهذا أخرج الدور متقنًا من هذه الجهة، ولكنه أخرجه ناقصًا من وجهة أخرى، وجهة الجبروت والوحشية، وهي من لوازم الدور ولكنها لا تتفق مع طبيعة عبد الرحمن، ولهذا كنت تراه وهو يقص قصته على وزير لويس كثيرَ العواطف، حتى خُيِّل للناس أن المنولوج خالٍ من كل شيء ما عدا الحزن والألم، هذا ما نقوله عن عبد الرحمن في دور نيمور وإن خالفنا الرأي العام. أما أدوار عبد الرحمن في عطيل والأحدب، فهي بسيطة وإن كانت في نظره «فنية» ذات مقام كبير. أما دوره في رواية مضحك الملك، فقد أتقنه عبد الرحمن وأخرجه للناس تامَّ الخلقة، غير أنَّا نعيب عليه في ذلك الدور استرساله في الخلاعة في المواقف التي لا تحتاج لها؛ لأن الملك مهما كان ميَّالًا للمجون والخلاعة، فإن له مواقف أخرى يظهر فيها بمظهر الجد والعظمة. أما دوره في الشيخ متلوف فقد كان متقنًا، ولكنه مشى في دور أنريكو برواية الساحرة على آثار نيمور.
الطور الثاني
اعتزل عبد الرحمن التمثيلَ في ذلك الطور، واشتغل بالمحاماة في الفيوم، ولم تظهر لنا آثاره التمثيلية في ذلك الوقت، وكان في مقدوره أن يشحذ قلمه ويكتب، ولكنَّا لم نقرأ غير مقالين في مجلة الأدب والتمثيل أمضاهما باسم أسرته «ابن شاهين»، وهذا كل ما فعله عبد الرحمن في هذه الغيبة، وهو مجهود ضعيف.
الطور الثالث
ثم انضَمَّ عبد الرحمن لأبيض بعد قبولٍ ورفضٍ وتردُّدٍ وإذعانٍ إلى أن سكنت ريح فؤاده، وأصبح ممثِّلًا، وظلَّ ممثلًا إلى يومنا هذا. فما الذي فعله عبد الرحمن في ذلك العهد؟ مثَّل عبد الرحمن مكدوف في مكبث، وروجيه في العرائس، وبحيري بك في الضحايا. أما مكدوف فقد أخرجه عبد الرحمن ناقصًا بل مهشمًا ومحطمًا، اللهم إلا في بعض مواقف تجلَّت فيها عواطفه، لا أدري علامَ كانت إشاراته لا تتفق مع كلامه؟ وعلامَ كان يُكثِر من الخبط برجليه ومن هز رأسه؟ وعلامَ اتخذ له من ذلك العهد طريقةَ التلعثم في الكلام؟ وخانه صوته في جميع مواقف الدور، فخرج الجمهور وهو يقول: «ما الذي حدث لعبد الرحمن؟ ما كان عهدنا به كذلك. ما هذا التقهقر المريع؟ أين نيمور؟» ولكنه في الليلة الثانية أخرج روجيه متقنًا، وهذا الإتقان محا ما رآه الجمهور منه في دور مكدوف من التقهقر، غير أنه كانت تنقصه الخلاعة الباريسية والعظمة المركيزية. كما أننا نعيب عليه بكاءه وشهيقه ساعةَ أن باغَتَ زوجتَه تحادث رجلًا آخَر في التليفون بعد منتصف الليل؛ لأن الإنسان مهما ذهب عقله وتحرَّقت كبده حبًّا ووجدًا، فإنه لا يبكي إذا باغَتَ حبيبته تفعل ما يثير في قلبه لواعج الحب والغيرة، ولكنه يثور ويهيج وإن شاء هشم وحطم، ولكنه لا يبكي ولا يشهق إلا إذا انفرَدَ بنفسه. أما دور بحيري بك فقد أخرجه عبد الرحمن متقنًا إتقانًا مدهشًا لا ينقصه فيه شيء، وساعده في ذلك أن الدور وافَقَ طبيعته، وعلى الأخص صوته، فبلغ فيه الغاية القصوى، وكان جديرًا بكل ثناء وإعجاب. أما رواية كين فقد أبَى عبد الرحمن تمثيلَ دور البرنس الملوكي، وما من سبب لذلك غير العناد، مع أن الدور من نوع دور فرنسوا الأول، وعبد الرحمن أجادَ في ذلك الدور.
الطور الرابع
ثم حلَّ جورج أبيض تلك الفرقة، وبانحلالها افترق عبد الرحمن عن جورج، وظلَّ حينًا يعمل ويجاهد لتأليف جوق يرأسه، وقد ظهر لنا على المسرح في تلك المدة في ليلةٍ أقامَها النادي الأهلي في دار الأوبرا السلطانية، ولكنه لم يكن مِن بدورِ تلك الليلة، بل كان نجمه خافتًا؛ لأنه قدَّم للجمهور جزءًا مبتورًا من رواية الضحايا، والجمهور لا يقنع بمثل ذلك، ثم اتفق عبد الرحمن مع جمعية رقي الآداب والتمثيل، واشتغل في إخراج رواية الأرليزية، ولكنه انفصل عنهم أو انفصلوا عنه، وأخرج الرواية في الشركة التي كوَّنها في نهاية هذه المدة.
الطور الخامس
وجب علينا الآن أن ننظر لعبد الرحمن نظرة أخرى؛ لأنه أصبح مديرًا بعد أن كان ممثِّلًا، وأصبح هو الذي يُخرِج الروايات بعد أن كان لا شأن له في ذلك، وأصبحت تبعة نجاح العمل تقع على رأسه، فإنْ نجح هنَّأته الناس، وإن فشل لاموه أو عذروه. أخرج لنا عبد الرحمن في ذلك الوقت روايات عدة: «الأرليزية، دوران ودوران، العصفور في القفص، طريدة الأسرة، الرداء الأحمر، توسكا، الشمس المشرقة». أما «الأرليزية» فهي من تأليف دوديه، رواية قيِّمة عمادها الحب، بل هي صفحة من الحب ظاهرة للعيون كالشمس، ولقد أحسن عبد الرحمن في إخراجها، ومثَّلَ فيها دور فريدري، فكان فيه كما كان في نيمور. أما «دوران ودوران» فهي فودفيل لا قيمة لها، ولم يمثِّل فيها عبد الرحمن. «وعشرين يوم في السجن» كوميدي جميلة خالية من الألفاظ البذيئة والتعبيرات المخجلة، ولقد مثَّل فيها أخيرًا عبد الرحمن دورًا مضحكًا، فلم يضحك الناس، وعبد الرحمن كما نعلم لا يفلح في هذه الأدوار، ولهذا تخلَّى عنه أخيرًا لعبد القدوس أيام كان يمثِّل معه. أما «الموت المدني» فهي رواية إيطالية عرَّبها حسين بك رمزي، وهي من خير ما كتبه الروائيون الإيطاليون، ويصح أن يُطلَق عليها كلمة «تراجيدي عصرية»، ولقد نجح المؤلف نجاحًا هائلًا في بنائها، كما أنه نجح أيضًا في تحليل نفوس أبطالها، والرواية كلها أبطال.
ولقد أتقن عبد الرحمن دور البطل إتقانًا كبيرًا، وكاد أن يكون فيه كما كان في دور بحيري بك، لولا أن صوته كان يخونه أحيانًا. أما رواية «الممثلة فيوليت»، فهي من أسخف ما أخرجه المديرون من الروايات، وهي من نوع كين، ولكنها أقل منها تأثيرًا على الجمهور، ومثَّل عبد الرحمن فيها دور «جريمالدي»، ولم ينبغ فيه؛ لأن الدور لا يوافقه كثيرًا، بل هو من الأدوار التي توافق مزاج عزيز عيد. أما «النائب هالير» فقد سقطت سقوطًا فادحًا مع شهرتها العظيمة في أوروبا، وكيف لا تسقط وهي من الروايات التي يصعب على الجمهور فهمها؟ ومثَّلَ فيها عبد الرحمن دورَ النائب ذي الشخصيتين، وكان في شخصية المتشرد خيرًا منه في شخصية النائب. أما «مدرسة النميمة» فهي خير رواية أخرجها عبد الرحمن، بل خير ما عرب للجمهور المصري، وهنا يصح لنا أن نقول إن الفضل كل الفضل في إخراجها على المسرح خاليةً من العيوب لعبد القدوس الذي كان يمثِّل فيها دور البطل. ثم أخرج عبد الرحمن رواية «جاكلين» و«الشعلة»، وقد تكلمنا عنهما في مقالنا عن أبيض، أما الأولى فكانت كالغيث طارت بروقه والرعد دوى هديره؛ وذلك لعودة السيدة ميليا للتمثيل بعد وفاة الشيخ سلامة حجازي ووقوفها بجوار عبد الرحمن رشدي، أما دور ريمون فليس فيه شيء نحكم به على نجاح عبد الرحمن، اللهم إلا مرافعته التي نعيب عليه فيها البكاء، والثانية مثَّلت فيها أيضًا السيدة ميليا الدورَ المهمَّ، ولكن عزيز أفندي عيد وروزا اليوسف بزَّا في الفصل الثاني عبد الرحمن وميليا ديان. أما «العصفور في القفص» فَلْيعذرنا القراء إذا لم نكتب عنها شيئًا إلا عن طريقة إخراجها؛ إذ الفضل فيها لعبد القدوس وسليمان نجيب وعمر وصفي. أما «طريدة الأسرة» تأليف حسين بك رمزي، فهي رواية تحتاج لكثير من التغيير والتبديل والبتر والزيادة، أنا لا أُنكِر أن المؤلف نجح في تحليل أخلاق أشخاصها، ولكن كثرة المناقشة بين المؤلف وعبد الرحمن قبل إخراج الرواية حدت بالاثنين إلى تغيير كثير من حوادث الرواية، وبتر الفصل الرابع الذي ما زلنا نتشوَّق لسماعه، كما أني لا أوافق المؤلف كثيرًا على تحليل موضوعين في رواية واحدة، ويا حبذا لو أدخل فيها بعض مواقف مضحكة كما فعل في الضحايا؛ إذ المجال عنده واسع والكوميدي دراماتيك تتطلب منه ذلك، وقد أتقن عبد الرحمن دورَ الابن وازداد إتقانه في الفصل الذي جُنَّ فيه. أما «الرداء الأحمر» فهي من نوع «النائب هالير»، ولكن عبد الرحمن — كما قلنا — عنيد يتفانى في كل شيء فني. أما رواية «توسكا» فهي من تأليف ساردو، رواية ذات مواقف مدهشة ومباغتات مزعجة، وساردو خير مَن يكتب من هذه الوجهة، ولكن قيمتها الفنية ليست بالشيء الكبير، وكان عبد الرحمن في دور سكاريبا العاتي هو هو صديقنا صاحب الوجه الضحوك والعواطف الفيَّاضة والثغر الباسم والظرف واللطف كما عهدنا فيه من قديم، أي إنه كان يمثِّل سكاريبا في شخص ماريو. أما رواية «الشمس المشرقة» فهي رواية وطنية جميلة، ولكني لم أَرَ تمثيلَها.
الطور السادس
ثم تحوَّلت شركة عبد الرحمن إلى جوق يحمل اسمه، له فيه النهي والأمر، وسيبدأ حياته الجديدة بافتتاح تياترو برنتانيا ممثِّلًا رواية البدوية لإبراهيم أفندي رمزي، فعسى أن يكون عبد الرحمن في حياته الجديدة أكثر أناةً ورويةً وأقل تعصُّبًا وعنادًا، حتى يرقى بالتمثيل إلى قمة المجد والعلياء، ونحن نرجو له في نهضته الأخيرة النجاحَ والفلاح؛ لأنه ممَّن وهبوا حياتهم للتمثيل.
عبد الرحمن كممثل
عبد الرحمن بلا نزاع ممثِّل قادر يمثِّل الدرام والكوميدي دراماتيك والكوميدي الأخلاقية، وكفاه فخرًا نبوغه في رواية «الضحايا» و«لويس والموت المدني»، ولكنه يعجز عن تمثيل التراجيدي؛ لأن صوته لا يساعده على ذلك، كما أنه يعجز عن تمثيل الأدوار المضحكة؛ لأن طبيعته لا تتفق مع هذه الأدوار، ونحن نعيب عليه كثيرًا ظنه في نفسه أنه قادر على تمثيل أي دور من أي نوع، ولهذا تراه في بعض الأحايين يحضر أدواره في مدة قصيرة لثقته بنفسه؛ ولهذا أخرج عبد الرحمن بعض أدواره ناقصة. وكم من مرة سقت معه الحديث في هذا الموضوع، فكان لا يرجع عن رأيه، ولا يتحوَّل عن اعتقاده في نفسه. وهناك عيب آخَر لعبد الرحمن، وهو أن لفظه يسبق فكره؛ ولهذا تراه يتلعثم في الكلام كثيرًا، وفي قدرته إصلاح هذا العيب لو تأنَّى قليلًا.
فإذا فهم عبد الرحمن حقيقته وأصلح عيوبه، مشى في الطريق الذي رسمَتْه له طبيعته دون أن يتعثَّر أو تزلُّ به القدم، هذا ما نكتبه عن صديقنا، ونحن نكتب بكتابة هذا المقال جزءًا من تاريخ الفن — كما قلنا في مقال جورج — وضميرنا هادئ ساكن لا تعبث به الأهواء، والحكم في كل شيء للقرَّاء.
أمامي صحيفة ناصعة البياض سأجري عليها قلمي لأملأها بما يمليه عليَّ ضميري، سأكتب فيها كلَّ ما أعتقده صحيحًا، وأتحاشى مواقع الزلل؛ حتى لا يُقال إني حابيتُ صديقًا أو تمسحت بأذيال كبير. أجل، سأكتب وإنْ ظنَّ الناس في كتابتي الظنون، سيقولون: «أيكتب تيمور مقالًا شديدًا عن عبد الرحمن ينتقده فيه نقدًا صريحًا خاليًا من المحاباة، وتيمور ممَّن اتخذهم عبد الرحمن أعوانًا له يشدون أزره وينصرونه على خصمه؟» ولماذا لا أكتب عن صديقي، وقد كتبت منذ يومين مقالات عن صديق آخَر أحبه وأعزه وأعجب بقدرته وكفاءته، انتقدتُه انتقادًا صريحًا لا أخال صديقي تقبَّلَه بغير سعة الصدر وابتسام الثغر؟ عبد الرحمن صديقي، وجورج أبيض صديقي، تربطني بهما رابطة الإخاء والود، ولكن التمثيل اتخذ له في نفسي مكانًا أكبر من مكانهما، ولهذا كتبتُ ما كتبتُ وسأكتب ما سأكتب. جورج رجل عاهدنا على خدمة التمثيل، فهو من رجال الفن، بل هو أكبر رجل يخدم الفن، وعبد الرحمن أيضًا ممَّن انبرَوا لخدمة الفن والقيام بنصرته، فهو أيضًا من رجال الفن، وسيُكتَب اسمهما الاثنين في تاريخ الفن، وكلاهما صاحب جوق يكد به ويعمل، والبلد الذي يمثِّلان فيه لم يضق عليهما برحبه، والعهد الذي رأيناهما فيه على خشبة المسرح ما زال قصيرًا، والمستقبل أمامهما كبير جدًّا، والتمثيل أمٌّ حنون تدرُّ عليهما أخلاف الرزق، وتمدُّ لهما أكناف العيش، وكلاهما لا يرد الخوف بادرته أن يخرص عدوًّا منافقًا، فلماذا لا نكتب عنهما ليقرأ الجمهور الحقيقةَ الناصعة، ويكون للرئيسين من ذلك وازع يردهما عن خطئهما؟ وكل كبير عرضة للخطأ، وكفى المرء نبلًا أن تُعَدَّ معايبُه، ونحن إن كتبنا اليوم عن كل واحد منهما مقالًا، فسنكتب عن بقية الممثلين وبينهم عبد القدوس وطليمات، وهما أقرب الناس إلى قلبي، كما أني أقرب الناس إلى قلبَيْهما. أجل، سأكتب عنهما وأقول الحقيقة؛ لأني أكتب تاريخ الفن، والفن حي أبدي، أما الصداقة فستموت بموت الأصحاب، أو ترحل وراءهم إلى العالم الذي سينتقلون إليه، فلا يظن الناس أني أتيتُ أمرًا إدًّا، أو أني نقضت عهدًا وخنتُ ودًّا، فالصديق مَن يقبل النصيحة وإن كانت قاسية مؤلمة، وإنه لَيؤلمني كثيرًا أن أكتب عن عيوب هؤلاء الأصحاب، ولكن ما حيلتي وهم ممَّن قاموا بعمل كبير يحتِّم عليَّ الكتابةَ عنهم؟ ولو كانوا كغيرهم من سواد الناس لما أمسكتُ القلم ولا كتبتُ.
النقاد في أوروبا فريقان: الأول يكتب في مجلات محلَّاة بالتصاوير الجميلة أُنشِئت لمدح الممثلين والروائيين، فهي خالية من الحقيقة. والثاني يكتب في ذيل الجرائد الكبيرة مقالات انتقادية، ولا رائدَ له غير الحق الصراح والحقيقة، حلوةً كانت أو مرة. فلأيِّ فريق يريد أصدقاؤنا أصحاب الأجواق والممثلون أن ننحاز؟ أظنهم يحبِّذون الفريق الثاني؛ لأنهم بلا نزاع يحبون التمثيل، ويفضِّلون خدمته قبل خدمة أنفسهم.
لقد كتبتُ أمس عن صديقي جورج أبيض، وكنت أثناء الكتابة كأني لا أعرفه شخصيًّا، واليوم أفعل مع عبد الرحمن ما فعلتُه مع جورج، وكل هذا لأجل الفن، فَلْنصرخ جميعًا قائلين: «ليحيَ الفن.»
عبد الرحمن رشدي: نشأته – عيوبه
أَلَمْ تَرَ ذلك الطفل الصغير؟ إنه يقفز ويلعب ويضحك ويصرخ، ولكنه فوق ذلك يحب التمثيل. أجل، يحب التمثيل ولا يدري لماذا؟ ثم أَلَمْ تَرَ ذلك اليافع الذي يذهب في الصباح للمدرسة ويعود منها في المساء؟ إنه أيضًا يحب التمثيل ولا يدري لماذا؟ ثم أَلَمْ تَرَ المحامي الذي إذا صرخ في قاعة الجلسة ظنَّ نفسه يصرخ على خشبة المسرح؟ ثم أَلَمْ تسمع بأول رجل هجر حِرْفته الراقية الشريفة إلى حِرْفة أخرى تساويها مقامًا وقدرًا، ولكنها تظهر في نظر الناس ملوَّثةً محقرة؟
هذا هو عبد الرحمن رشدي الذي أصبح اليوم مدير جوق تمثيلي في العاصمة وفي جميع بلدان القُطْر.
وإذا أردنا الآن أن نكتب عنه وعن مجهوده الفني، حتَّمَ علينا الفنُّ أن نبدأ بهذه الحسنة الكبيرة؛ حسنة هجره المحاماة واحترافه التمثيل. أقْدَمَ عبد الرحمن على احتراف التمثيل، والتمثيل حصن تتقدمه النكبات وتحجبه الشدائد وتعصمه الأهوال وتحفه سيول الضر والأذى، ولكنه خرق هذه الحجب، وما زال يتخبَّط على باب هذا الحصن إلى يومنا هذا، راجيًا أن يصل إلى فتح بابه الحديدي، ناسيًا الهوَّة السحيقة التي حفرها القدر بجانب هذا الباب، فعسى أن ينتبه إليها قبل أن تزلَّ به القدمُ، فيهوي إلى قرارها، وفي ذلك السكون الأبدي الهزيمة الكبرى، وذلك ما لا نرجوه له ولا لغيره.
عبد الرحمن رشدي بلا نزاع يحب التمثيل، ويسعى جهده لترقيته، ولكنه ذو عيوب كثيرة، كلما تقدَّمَ خطوة أرجعَتْه عشرًا؛ أولها همته الكبيرة التي تبدو لك في كل كلمة يقولها، بل في كل حرف يتفوَّه به، تراه كبير الخيال كلما عنَّ له أمر ودَّ تحقيقه، فإذا قرأ رواية إفرنجية كلَّف أحد الكتاب بترجمتها، وإن كانت لا توافق الذوق المصري، وإذا سمع صوت منشد بحث عنه وضمَّه لفرقته، راجيًا أن يضع بيده في مصر أساس الأوبريت والأوبرا كوميك ثم الأوبرا، وإذا رأى ممثِّلًا أعجبه تمثيله ضمَّ إليه هذا الممثلَ، ولكن هذه الهمة كبيرة في القول فقط، أما في العمل فهي صغيرة؛ لأنك تراه يعرِّب الرواية ويمثِّلها فلا تصادِف إقبالًا من الجمهور، وترى المنشد ذا الصوت الجميل قد خفَتَ صوته هاجرًا الجوق ومَن فيه، وترى الممثِّل الذي أُعجِب به عبد الرحمن لا يمثِّل غير الأدوار الصغيرة، وإن قُدِّر له أن يمثِّل دورًا كبيرًا كان هذا الدور لا يوافِق مزاجه ولا طبيعته. وإذا حادثت عبدَ الرحمن بعد ذلك في هذا الأمر، تراه ما زال يلتهب غيرة على الفن، ويذوب شوقًا إلى الجميل، مُلقِيًا الذنب كله على الجمهور لأنه لم يفهم الرواية، ثم على المنشد لأنه يريد أن يحول الجوق إلى تمثيل الأوبريت والجوق بعيد عن ذلك، ثم على الممثل لأنه كسلان لا يقوم بواجبه. هذا هو أول عيوب عبد الرحمن، فيا حبَّذا لو كانت همة عبد الرحمن لا تتطلع لكثير من الأعمال؛ حتى تتحوَّل من حيِّز القول إلى حيِّز العمل لنرى أعماله ناضجة. ثم يأتي بعد ذلك عيب آخَر، وهو العناد الكبير الذي لم أَرَه في مخلوق آخَر، وتراه دائمًا راكبًا رأسه في كل شيء، لا يخنع لرأي صديق، ولا لنصيحة ناصح، فإذا أتيتَه برأي يخالف رأيه واعتقد أنك على صواب، مكَثَ هنيهة يفكِّر ليخلق لنفسه أسبابًا يتوكَّأ عليها لتعزيز رأيه، وكأنه يقول لنفسه: «مَن الذي يؤمنني أنك على صواب؟» أما عيبه الثالث، فهو وثوقه في قدرته الفنية تلك الثقة العمياء، حتى يظن أنه قادر على تمثيل كل دور من أي نوع كان، كأنه يجمع في نفسه نفس مونيه سللي وجيتري ولوبارجي وكوكلان ودي فرودي، وهذا ما لم نَرَه في ممثل إفرنكي قبل اليوم، فمونيه سللي خُلِق للتراجيدي، وجيتري ولوبارجي للدرام والكوميدي دراماتيك، وكوكلان ودي فرودي للكوميدي، ولهذا نرى عبد الرحمن يمثِّل أدوارًا كثيرة، ولكنه لا يتقن غير الأدوار التي توافق طبيعته وعواطفه. أما عيبه الرابع فهو عواطفه، وعبد الرحمن رجل ذو عواطف كبيرة جدًّا، وكم من مرة رأيناه يبكي في التجارب التمثيلية، نحن نود أن يكون الممثل القادر ذا عواطف، ولكننا لا نريد أن تكون هذه العواطف سببًا في محو شخصية الدور الذي يمثِّله، حتى نرى الممثل هو هو في بيته خالعًا لباس الدور ومرتديًا لباس نفسه. أما عيبه الخامس فهو «فنيَّته»؛ ترى عبد الرحمن إذا حادثَكَ تعدَّدت في فمه كلمة «فن»، فمن حرف فني إلى كلمة فنية، ومن مشهد فني إلى منظر فني، ومن دور فني إلى رواية فنية، ومن معرب فني إلى مؤلف فني، ومن جوق فني إلى جمهور فني. يريد عبد الرحمن أن يكون عمله فنيًّا، ولهذا نراه إذا أخطأ في شيء أتاه بعذر فني، وهكذا لا حديث لعبد الرحمن غير كلمة «فني»، ويا حبذا لو سمعناه يومًا يقول: «هذا ما تناله يدي ويبلغه جهدي.» أما عيبه السادس فهو اشتغاله بجميع أشغال جوقه، ولهذا جهل السياسة، وهي من ضروريات كل مدير، ومَن جهل السياسة وكان مديرًا أصبح كالعاثر الذي تزلُّ به قدمه في الطريق الوعر، ظلَّ عبد الرحمن كذلك إلى أن فرَّقَ أعمالَه على قوم أخلصوا له، وقام هو بالقسم الفني، فعسى ألَّا يسهده بعد اليوم شاغلٌ.
مجهوده الفني
لو نظرنا إلى حياة عبد الرحمن التمثيلية نجدها تنقسم إلى ستة أطوار: الأول يبتدئ من عهد احترافه التمثيل في أول جوق ألَّفه أبيض إلى عهد رجوعه للمحاماة، والطور الثاني يبتدئ من عهد رجوعه للمحاماة إلى عهد انضمامه لأبيض للمرة الثانية، والطور الثالث يبتدئ من عهد انضمامه لأبيض إلى عهد افتراقه عنه، والطور الرابع من عهد افتراقه عن أبيض إلى عهد تأليفه الشركة التي يديرها، والطور الخامس من عهد تأليف هذه الشركة إلى أن تحوَّلت هذه الشركة إلى جوق يحمل اسم عبد الرحمن، والطور السادس من عهد هذا التحويل إلى يومنا هذا.
الطور الأول
رأينا اسم عبد الرحمن على إعلانات أبيض فدهشنا، ووقفنا أمام الإعلان ونحن نكذِّب أعينَنا، حتى رأيناه على المسرح فاطمأنت قلوبنا وقرت عيوننا. عاش عبد الرحمن بين قوم ليسوا من طبقته في المبدأ ولا في المقام ولا في التعليم (اللهم إلا أبيض وسليم)، فكان أرفعهم رأسًا وأكثرهم علمًا، ومكث حينًا يمثِّل على المسرح فما لانَتْ قشرته ولا طابَتْ عشرته، فهجر التمثيل ولوى بوعده بعد طول ضمانه، وهو الذي دخل التمثيل وهو يعلم علم اليقين أن وراء ذلك عظيمات النوازل وجسيمات الحوادث. فما الذي قدَّمه لنا عبد الرحمن من المجهود الفني في هذه المدة القصيرة؟
مثَّل عبد الرحمن دور رسول القصر في أوديب، ودور نيمور في لويس، ودورًا بسيطًا في عطيل، ودورًا أبسط منه في الأحدب، ودور فرنسوا الأول في مضحك الملك، ودورًا بلديًّا في الشيخ متلوف، ودور العاشق في الساحرة. أما دور رسول القصر، فقد ظهر فيه عبد الرحمن مظهر الممثل الذي يمثِّل لأول مرة، وقد أفرغ جهده ليخرج الدور بشكل يخالف به إخوانه، فكان كثير الحركات والإشارات والصراخ، ولكن صوته كان يخونه كثيرًا؛ لأنه لم يُخلَق للتراجيدي، على أن الجمهور كان كبير الأمل في عبد الرحمن، وكان هذا الأمل نتيجةً للتضحية الكبيرة التي أقْدَمَ عليها عبد الرحمن، والتي خدَّرت أعصاب الجمهور. أما دور نيمور، فهو دور طويل عريض، دور المنتقم الجبَّار والعاشق الحزين، ولقد أخرجه عبد الرحمن لجمهورٍ مخدَّر الأعصاب — كما قلنا — فأدهش ذلك الجمهور، واسترعف زنده، فهتفت الحمية في قلبه، وظلَّ يتحدَّث عن عبد الرحمن عهدًا طويلًا.
عبد الرحمن جميل الصورة عَبْل الذراعين فيَّاض الإحساس؛ ولهذا أخرج الدور متقنًا من هذه الجهة، ولكنه أخرجه ناقصًا من وجهة أخرى، وجهة الجبروت والوحشية، وهي من لوازم الدور ولكنها لا تتفق مع طبيعة عبد الرحمن، ولهذا كنت تراه وهو يقص قصته على وزير لويس كثيرَ العواطف، حتى خُيِّل للناس أن المنولوج خالٍ من كل شيء ما عدا الحزن والألم، هذا ما نقوله عن عبد الرحمن في دور نيمور وإن خالفنا الرأي العام. أما أدوار عبد الرحمن في عطيل والأحدب، فهي بسيطة وإن كانت في نظره «فنية» ذات مقام كبير. أما دوره في رواية مضحك الملك، فقد أتقنه عبد الرحمن وأخرجه للناس تامَّ الخلقة، غير أنَّا نعيب عليه في ذلك الدور استرساله في الخلاعة في المواقف التي لا تحتاج لها؛ لأن الملك مهما كان ميَّالًا للمجون والخلاعة، فإن له مواقف أخرى يظهر فيها بمظهر الجد والعظمة. أما دوره في الشيخ متلوف فقد كان متقنًا، ولكنه مشى في دور أنريكو برواية الساحرة على آثار نيمور.
الطور الثاني
اعتزل عبد الرحمن التمثيلَ في ذلك الطور، واشتغل بالمحاماة في الفيوم، ولم تظهر لنا آثاره التمثيلية في ذلك الوقت، وكان في مقدوره أن يشحذ قلمه ويكتب، ولكنَّا لم نقرأ غير مقالين في مجلة الأدب والتمثيل أمضاهما باسم أسرته «ابن شاهين»، وهذا كل ما فعله عبد الرحمن في هذه الغيبة، وهو مجهود ضعيف.
الطور الثالث
ثم انضَمَّ عبد الرحمن لأبيض بعد قبولٍ ورفضٍ وتردُّدٍ وإذعانٍ إلى أن سكنت ريح فؤاده، وأصبح ممثِّلًا، وظلَّ ممثلًا إلى يومنا هذا. فما الذي فعله عبد الرحمن في ذلك العهد؟ مثَّل عبد الرحمن مكدوف في مكبث، وروجيه في العرائس، وبحيري بك في الضحايا. أما مكدوف فقد أخرجه عبد الرحمن ناقصًا بل مهشمًا ومحطمًا، اللهم إلا في بعض مواقف تجلَّت فيها عواطفه، لا أدري علامَ كانت إشاراته لا تتفق مع كلامه؟ وعلامَ كان يُكثِر من الخبط برجليه ومن هز رأسه؟ وعلامَ اتخذ له من ذلك العهد طريقةَ التلعثم في الكلام؟ وخانه صوته في جميع مواقف الدور، فخرج الجمهور وهو يقول: «ما الذي حدث لعبد الرحمن؟ ما كان عهدنا به كذلك. ما هذا التقهقر المريع؟ أين نيمور؟» ولكنه في الليلة الثانية أخرج روجيه متقنًا، وهذا الإتقان محا ما رآه الجمهور منه في دور مكدوف من التقهقر، غير أنه كانت تنقصه الخلاعة الباريسية والعظمة المركيزية. كما أننا نعيب عليه بكاءه وشهيقه ساعةَ أن باغَتَ زوجتَه تحادث رجلًا آخَر في التليفون بعد منتصف الليل؛ لأن الإنسان مهما ذهب عقله وتحرَّقت كبده حبًّا ووجدًا، فإنه لا يبكي إذا باغَتَ حبيبته تفعل ما يثير في قلبه لواعج الحب والغيرة، ولكنه يثور ويهيج وإن شاء هشم وحطم، ولكنه لا يبكي ولا يشهق إلا إذا انفرَدَ بنفسه. أما دور بحيري بك فقد أخرجه عبد الرحمن متقنًا إتقانًا مدهشًا لا ينقصه فيه شيء، وساعده في ذلك أن الدور وافَقَ طبيعته، وعلى الأخص صوته، فبلغ فيه الغاية القصوى، وكان جديرًا بكل ثناء وإعجاب. أما رواية كين فقد أبَى عبد الرحمن تمثيلَ دور البرنس الملوكي، وما من سبب لذلك غير العناد، مع أن الدور من نوع دور فرنسوا الأول، وعبد الرحمن أجادَ في ذلك الدور.
الطور الرابع
ثم حلَّ جورج أبيض تلك الفرقة، وبانحلالها افترق عبد الرحمن عن جورج، وظلَّ حينًا يعمل ويجاهد لتأليف جوق يرأسه، وقد ظهر لنا على المسرح في تلك المدة في ليلةٍ أقامَها النادي الأهلي في دار الأوبرا السلطانية، ولكنه لم يكن مِن بدورِ تلك الليلة، بل كان نجمه خافتًا؛ لأنه قدَّم للجمهور جزءًا مبتورًا من رواية الضحايا، والجمهور لا يقنع بمثل ذلك، ثم اتفق عبد الرحمن مع جمعية رقي الآداب والتمثيل، واشتغل في إخراج رواية الأرليزية، ولكنه انفصل عنهم أو انفصلوا عنه، وأخرج الرواية في الشركة التي كوَّنها في نهاية هذه المدة.
الطور الخامس
وجب علينا الآن أن ننظر لعبد الرحمن نظرة أخرى؛ لأنه أصبح مديرًا بعد أن كان ممثِّلًا، وأصبح هو الذي يُخرِج الروايات بعد أن كان لا شأن له في ذلك، وأصبحت تبعة نجاح العمل تقع على رأسه، فإنْ نجح هنَّأته الناس، وإن فشل لاموه أو عذروه. أخرج لنا عبد الرحمن في ذلك الوقت روايات عدة: «الأرليزية، دوران ودوران، العصفور في القفص، طريدة الأسرة، الرداء الأحمر، توسكا، الشمس المشرقة». أما «الأرليزية» فهي من تأليف دوديه، رواية قيِّمة عمادها الحب، بل هي صفحة من الحب ظاهرة للعيون كالشمس، ولقد أحسن عبد الرحمن في إخراجها، ومثَّلَ فيها دور فريدري، فكان فيه كما كان في نيمور. أما «دوران ودوران» فهي فودفيل لا قيمة لها، ولم يمثِّل فيها عبد الرحمن. «وعشرين يوم في السجن» كوميدي جميلة خالية من الألفاظ البذيئة والتعبيرات المخجلة، ولقد مثَّل فيها أخيرًا عبد الرحمن دورًا مضحكًا، فلم يضحك الناس، وعبد الرحمن كما نعلم لا يفلح في هذه الأدوار، ولهذا تخلَّى عنه أخيرًا لعبد القدوس أيام كان يمثِّل معه. أما «الموت المدني» فهي رواية إيطالية عرَّبها حسين بك رمزي، وهي من خير ما كتبه الروائيون الإيطاليون، ويصح أن يُطلَق عليها كلمة «تراجيدي عصرية»، ولقد نجح المؤلف نجاحًا هائلًا في بنائها، كما أنه نجح أيضًا في تحليل نفوس أبطالها، والرواية كلها أبطال.
ولقد أتقن عبد الرحمن دور البطل إتقانًا كبيرًا، وكاد أن يكون فيه كما كان في دور بحيري بك، لولا أن صوته كان يخونه أحيانًا. أما رواية «الممثلة فيوليت»، فهي من أسخف ما أخرجه المديرون من الروايات، وهي من نوع كين، ولكنها أقل منها تأثيرًا على الجمهور، ومثَّل عبد الرحمن فيها دور «جريمالدي»، ولم ينبغ فيه؛ لأن الدور لا يوافقه كثيرًا، بل هو من الأدوار التي توافق مزاج عزيز عيد. أما «النائب هالير» فقد سقطت سقوطًا فادحًا مع شهرتها العظيمة في أوروبا، وكيف لا تسقط وهي من الروايات التي يصعب على الجمهور فهمها؟ ومثَّلَ فيها عبد الرحمن دورَ النائب ذي الشخصيتين، وكان في شخصية المتشرد خيرًا منه في شخصية النائب. أما «مدرسة النميمة» فهي خير رواية أخرجها عبد الرحمن، بل خير ما عرب للجمهور المصري، وهنا يصح لنا أن نقول إن الفضل كل الفضل في إخراجها على المسرح خاليةً من العيوب لعبد القدوس الذي كان يمثِّل فيها دور البطل. ثم أخرج عبد الرحمن رواية «جاكلين» و«الشعلة»، وقد تكلمنا عنهما في مقالنا عن أبيض، أما الأولى فكانت كالغيث طارت بروقه والرعد دوى هديره؛ وذلك لعودة السيدة ميليا للتمثيل بعد وفاة الشيخ سلامة حجازي ووقوفها بجوار عبد الرحمن رشدي، أما دور ريمون فليس فيه شيء نحكم به على نجاح عبد الرحمن، اللهم إلا مرافعته التي نعيب عليه فيها البكاء، والثانية مثَّلت فيها أيضًا السيدة ميليا الدورَ المهمَّ، ولكن عزيز أفندي عيد وروزا اليوسف بزَّا في الفصل الثاني عبد الرحمن وميليا ديان. أما «العصفور في القفص» فَلْيعذرنا القراء إذا لم نكتب عنها شيئًا إلا عن طريقة إخراجها؛ إذ الفضل فيها لعبد القدوس وسليمان نجيب وعمر وصفي. أما «طريدة الأسرة» تأليف حسين بك رمزي، فهي رواية تحتاج لكثير من التغيير والتبديل والبتر والزيادة، أنا لا أُنكِر أن المؤلف نجح في تحليل أخلاق أشخاصها، ولكن كثرة المناقشة بين المؤلف وعبد الرحمن قبل إخراج الرواية حدت بالاثنين إلى تغيير كثير من حوادث الرواية، وبتر الفصل الرابع الذي ما زلنا نتشوَّق لسماعه، كما أني لا أوافق المؤلف كثيرًا على تحليل موضوعين في رواية واحدة، ويا حبذا لو أدخل فيها بعض مواقف مضحكة كما فعل في الضحايا؛ إذ المجال عنده واسع والكوميدي دراماتيك تتطلب منه ذلك، وقد أتقن عبد الرحمن دورَ الابن وازداد إتقانه في الفصل الذي جُنَّ فيه. أما «الرداء الأحمر» فهي من نوع «النائب هالير»، ولكن عبد الرحمن — كما قلنا — عنيد يتفانى في كل شيء فني. أما رواية «توسكا» فهي من تأليف ساردو، رواية ذات مواقف مدهشة ومباغتات مزعجة، وساردو خير مَن يكتب من هذه الوجهة، ولكن قيمتها الفنية ليست بالشيء الكبير، وكان عبد الرحمن في دور سكاريبا العاتي هو هو صديقنا صاحب الوجه الضحوك والعواطف الفيَّاضة والثغر الباسم والظرف واللطف كما عهدنا فيه من قديم، أي إنه كان يمثِّل سكاريبا في شخص ماريو. أما رواية «الشمس المشرقة» فهي رواية وطنية جميلة، ولكني لم أَرَ تمثيلَها.
الطور السادس
ثم تحوَّلت شركة عبد الرحمن إلى جوق يحمل اسمه، له فيه النهي والأمر، وسيبدأ حياته الجديدة بافتتاح تياترو برنتانيا ممثِّلًا رواية البدوية لإبراهيم أفندي رمزي، فعسى أن يكون عبد الرحمن في حياته الجديدة أكثر أناةً ورويةً وأقل تعصُّبًا وعنادًا، حتى يرقى بالتمثيل إلى قمة المجد والعلياء، ونحن نرجو له في نهضته الأخيرة النجاحَ والفلاح؛ لأنه ممَّن وهبوا حياتهم للتمثيل.
عبد الرحمن كممثل
عبد الرحمن بلا نزاع ممثِّل قادر يمثِّل الدرام والكوميدي دراماتيك والكوميدي الأخلاقية، وكفاه فخرًا نبوغه في رواية «الضحايا» و«لويس والموت المدني»، ولكنه يعجز عن تمثيل التراجيدي؛ لأن صوته لا يساعده على ذلك، كما أنه يعجز عن تمثيل الأدوار المضحكة؛ لأن طبيعته لا تتفق مع هذه الأدوار، ونحن نعيب عليه كثيرًا ظنه في نفسه أنه قادر على تمثيل أي دور من أي نوع، ولهذا تراه في بعض الأحايين يحضر أدواره في مدة قصيرة لثقته بنفسه؛ ولهذا أخرج عبد الرحمن بعض أدواره ناقصة. وكم من مرة سقت معه الحديث في هذا الموضوع، فكان لا يرجع عن رأيه، ولا يتحوَّل عن اعتقاده في نفسه. وهناك عيب آخَر لعبد الرحمن، وهو أن لفظه يسبق فكره؛ ولهذا تراه يتلعثم في الكلام كثيرًا، وفي قدرته إصلاح هذا العيب لو تأنَّى قليلًا.
فإذا فهم عبد الرحمن حقيقته وأصلح عيوبه، مشى في الطريق الذي رسمَتْه له طبيعته دون أن يتعثَّر أو تزلُّ به القدم، هذا ما نكتبه عن صديقنا، ونحن نكتب بكتابة هذا المقال جزءًا من تاريخ الفن — كما قلنا في مقال جورج — وضميرنا هادئ ساكن لا تعبث به الأهواء، والحكم في كل شيء للقرَّاء.