مَا أيْسر أن نَشْحنَ الكلمات بمشاعرِ الشَّجن أو الفرح، لِتَكْتسِبَ أصابع مُرْهَفةً تعْزِف على جميع الأوْتَار في الأنْفُس، ولكن مَا أصْعَب أن نَضُخَّ هذه الكلمات بأفكارٍ اسْتشرافيةٍ تَسْتعْجِل المستقبل، تُقوِّي العزائمَ، وتُخاطبُ العُقول، ولكَ أن تقْرأ ما تَشاء، أنْ تَرْكَن للكلماتِ التي تَسْتدِرُّ البُكاء، قدْ تجدُ مَنْ يَمُدُّك بمناديلَ تُجفِّف الجُفون، ولكنْ هل تصِل حقّاً هذه المناديلُ لأعماق الأنُفس، هل تُضمِّد الأثر البليغ لِكلماتٍ ما أكْثر في زمننا من يَكتُبها بدون ضمير، كلماتٍ تُعوِّق الذَّاتَ وتجعلُها مريضةً تفيء إلى النَّرجس، لكَ أيضاً أنْ تُحْسن الاختيار، وتكونَ كما أنَا اليوم على مقعدٍ مَحْفُوفٍ بالصِّدق إلى جِوار أكبر أديبةٍ في الكوْن، بعيداً بالمسافة الكافيةِ التي تفْصِل الجنّة عنِ النَّار!
خناتة بنُّونة التي أفضِّلُ أنْ أنْطِقَ اسمها حافياً لأنَّها أكْبرُ مِن كلِّ الألقاب، لا أُبالغ إذا قلتُ إنّها تجاوزت بعض الأدبَ كمُعْطَى تجْميلي أو تخييلي مَحْسوس، إلى الواقع الذي وُجِد لأجْلِه الأدب، أيْ الرُّقِي بالأرواح دون إغْفال الاشتغال على القضايا الحياتيّة التي تقُضُّ مَضاجِعَ الناس، ذلك الأدبُ الذي لا ينْتعِل في يديه أو رِجْليه قُفّازاتٍ مُخْملِيّةٍ، بل يُمْعِن في حفْرِ وتعريةِ مكامن العطب بالمَلْمُوس، وأعْلم أنَّ عمليّةَ إسْقاطِ الصَّمْت، ليستْ بالمجَّانيةِ لِمنْ يتبرَّعُ بِقلْبِه لِغُرفِ الجِراحة التي تَسْتنزِفُ البلد، أعْلَم أنَّ الثَّمن الذي أدَّتْهُ أديبتُنا مِنْ أعْصَابها رمزياً ومن جيْبها ماديّاً، باهظٌ لا يُقَدَّرُ بثمن، لأنَّ ما يَشْترِيه التّاريخُ يَكُونُ مُقابِلُهُ دائماً عُمْلةً غير مُتداولةٍ مسْكُوكة فِي دار الخُلود !
أعْلَم أنَّ الحَرْب التي خاضَتْها فتاةٌ من جيلِ خناتة بنُّونة وهي في ريْعانِ الحُب، أشدُّ مضاضةً وتُنْهِكُ القلب، وما ذلكَ إلا لأنَّ مساحةَ الحُرِّية كانت أضْيقَ من أضْيقِ لباسِ إغراءٍ اليوم، ألَمْ تُحَارَب خناتة لِمُجرَّد أنَّها تُريد أنْ تصْنعَ بِأوّلِ مجلّةٍ نسائية الشُّروق، ألَمْ تَحْتجِزْها السُّلْطة ليلةً فِي مَخْفرِ الشرطة بدعوى أنَّ المجلة بدون ترخيصٍ قانوني، بينما محمد فويتح كان يُغني في السَّهرة التي أقيمت احتفالا بصُدور مجلة "الشروق"، وكأنِّي رغْم بوْنِ الزّمنِ بين الأمس واليوم، ما زلتُ أسمع صوتَه الشَّجيَّ يُواسِي خناتة في المَخْفر مُترنِّماً: آوْ مالُو لو..آوْ ما لُولو ثَمَّ بْكِيتْ أنَا.. بل إنَّ هذه الأغنية المغربية الشهيرة تكادُ تَصْلحُ إسقاطاً رمزياً يُجسِّد شططَ السُّلطة وبطْشَ الاحتلال في كل مكانٍ، ولا أعتقدُ أنَّ ميزان السُّلَّمَ الموسيقي سَيخْتلُّ بِتغيُّر مكانِ الجُرْح، كأنِّي أسمعُ الفلسطينيَّ المُضْطَهدَ يُردِّد مع فويتح منذ أزمنة بعيدة: سِيدي يا الغادي بِيّا، بابا يا الغادي بِيّا، خُويا يا الغَادي بِيّا، ردْني لْبْلادي.. ومن قال إنَّ السَّهرة انتهت لِيُخْرِس المُغنِّي قبل الآوان وهو مِلْءَ الحنينِ ما زال يُنادي، منْ قال إنَّ عسس المخْفَر أطلقوا سراح خناتة بنونة، صحيح أنَّها بيننا اليوم أيْقُونةً في مرتبة الشَّرف، ولكنَّها بالقياس النَّفْسي لِلُعبة الزمن، ما زالَتْ هُناكَ تُقاوم وتنْتظِر أنْ تَسْتأنفَ الشَّمسُ الشُّروق!
أفضِّل أنْ أنادي خناتة بنُّونة باسمِها حافياً دون حَشْوٍ أو ألقاب، لأنَّها أكبرُ من كلماتٍ تحدُّها دفَّتَا كتاب، لأنَّ كل ألْقابِها مَسْبُوقةٌ بما هو أجَلُّ وأعْظَم، إنَّه لقبُ الإنْسانِ الذي يَسَعُ قلْبَه الجَميع، وإلّا ما جدْوى أنْ تعْرفَ وأنْتَ جاهلٌ كيفَ تكُون إنساناً، ما جدْوى أن تكونَ مناضلاً ولا تسْعى كخناتة إلى زيارة المُعْتقلين السِّياسيين، أو على الأقل تُضمِّد الجراحَ برسالةٍ تبْعثُ مع أحْرُفها بعْضَ الأمل، أو تُلبِّي رغْبةَ السَّجين في كتابٍ يُعلِّمُه الهروب ولوْ بتوْسيع أفُق التَّخْييل في جدار، ما جَدْوى أن تكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين بشعاراتٍ تحْترفُ لُغةَ الصَّوت والصُّورة فقط، بينما اسمُ خناتة يُكتَبُ أعْلى السَّبورة مع النشيد الوطني.. هُناك في مدرسة بغزَّة تحْملُ اسْمَها بقوَّة القوْلِ والفِعْل وليْس غُبار الطَّباشير، وتشْهدُ الأرض في بلدنا أنّها لا تحْتاجُ لثورة الفلَّاحين، بل لثروةِ الأغْنياء لِدعْم البحث العلمي، وتشْهدُ الأرْضُ أنَّ الفاضلة خناتة بنونة أوَّلُ سيِّدةٍ تَشْكُرها نبْتةُ الشعير، تشْهدُ الأقْنعةُ التي تُبدِّل الوجوهَ كما نُغيِّر الجواربَ المثقوبةَ عادةً بالأصْبُع الكبير، أنَّ خناتة بنُّونة لم تَسْع للظَّفْر بِحَمْلةٍ انتخابيةٍ حين تبرَّعَتْ بثماني عشْرةَ شُقَّةٍ للعُمَّال الكادحين، هي فقط فتحتْ قلْبَها الكبيرَ سكناً وارِفاً بأرْبَعِ خُوخات تُجدِّدُ نوافذُها هواءَ البلد، دون أنْ تجْعل على بابِه حارساً يحصي الأنْفاس ويَمْنع الماعُون، هيَ فقط أكْبرُ من كلِّ الألقاب التي قدْ لا تضُرُّ ولا تنْفَع، تُريد لكلمتها أن تَنْزل للشَّارع لتنْخرِط في هُموم المجتمع، لا تريد أن يبْقى حُلْمَها في التَّغْيير حبيسَ غِلافيْنِ في كِتابْ!
.................................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 26 ماي 2022، وهي شهادة ألقيتها في ندوة نظمتها مؤسسة خناتة بنونة للبحث العلمي، مساء أمس بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط.
خناتة بنُّونة التي أفضِّلُ أنْ أنْطِقَ اسمها حافياً لأنَّها أكْبرُ مِن كلِّ الألقاب، لا أُبالغ إذا قلتُ إنّها تجاوزت بعض الأدبَ كمُعْطَى تجْميلي أو تخييلي مَحْسوس، إلى الواقع الذي وُجِد لأجْلِه الأدب، أيْ الرُّقِي بالأرواح دون إغْفال الاشتغال على القضايا الحياتيّة التي تقُضُّ مَضاجِعَ الناس، ذلك الأدبُ الذي لا ينْتعِل في يديه أو رِجْليه قُفّازاتٍ مُخْملِيّةٍ، بل يُمْعِن في حفْرِ وتعريةِ مكامن العطب بالمَلْمُوس، وأعْلم أنَّ عمليّةَ إسْقاطِ الصَّمْت، ليستْ بالمجَّانيةِ لِمنْ يتبرَّعُ بِقلْبِه لِغُرفِ الجِراحة التي تَسْتنزِفُ البلد، أعْلَم أنَّ الثَّمن الذي أدَّتْهُ أديبتُنا مِنْ أعْصَابها رمزياً ومن جيْبها ماديّاً، باهظٌ لا يُقَدَّرُ بثمن، لأنَّ ما يَشْترِيه التّاريخُ يَكُونُ مُقابِلُهُ دائماً عُمْلةً غير مُتداولةٍ مسْكُوكة فِي دار الخُلود !
أعْلَم أنَّ الحَرْب التي خاضَتْها فتاةٌ من جيلِ خناتة بنُّونة وهي في ريْعانِ الحُب، أشدُّ مضاضةً وتُنْهِكُ القلب، وما ذلكَ إلا لأنَّ مساحةَ الحُرِّية كانت أضْيقَ من أضْيقِ لباسِ إغراءٍ اليوم، ألَمْ تُحَارَب خناتة لِمُجرَّد أنَّها تُريد أنْ تصْنعَ بِأوّلِ مجلّةٍ نسائية الشُّروق، ألَمْ تَحْتجِزْها السُّلْطة ليلةً فِي مَخْفرِ الشرطة بدعوى أنَّ المجلة بدون ترخيصٍ قانوني، بينما محمد فويتح كان يُغني في السَّهرة التي أقيمت احتفالا بصُدور مجلة "الشروق"، وكأنِّي رغْم بوْنِ الزّمنِ بين الأمس واليوم، ما زلتُ أسمع صوتَه الشَّجيَّ يُواسِي خناتة في المَخْفر مُترنِّماً: آوْ مالُو لو..آوْ ما لُولو ثَمَّ بْكِيتْ أنَا.. بل إنَّ هذه الأغنية المغربية الشهيرة تكادُ تَصْلحُ إسقاطاً رمزياً يُجسِّد شططَ السُّلطة وبطْشَ الاحتلال في كل مكانٍ، ولا أعتقدُ أنَّ ميزان السُّلَّمَ الموسيقي سَيخْتلُّ بِتغيُّر مكانِ الجُرْح، كأنِّي أسمعُ الفلسطينيَّ المُضْطَهدَ يُردِّد مع فويتح منذ أزمنة بعيدة: سِيدي يا الغادي بِيّا، بابا يا الغادي بِيّا، خُويا يا الغَادي بِيّا، ردْني لْبْلادي.. ومن قال إنَّ السَّهرة انتهت لِيُخْرِس المُغنِّي قبل الآوان وهو مِلْءَ الحنينِ ما زال يُنادي، منْ قال إنَّ عسس المخْفَر أطلقوا سراح خناتة بنونة، صحيح أنَّها بيننا اليوم أيْقُونةً في مرتبة الشَّرف، ولكنَّها بالقياس النَّفْسي لِلُعبة الزمن، ما زالَتْ هُناكَ تُقاوم وتنْتظِر أنْ تَسْتأنفَ الشَّمسُ الشُّروق!
أفضِّل أنْ أنادي خناتة بنُّونة باسمِها حافياً دون حَشْوٍ أو ألقاب، لأنَّها أكبرُ من كلماتٍ تحدُّها دفَّتَا كتاب، لأنَّ كل ألْقابِها مَسْبُوقةٌ بما هو أجَلُّ وأعْظَم، إنَّه لقبُ الإنْسانِ الذي يَسَعُ قلْبَه الجَميع، وإلّا ما جدْوى أنْ تعْرفَ وأنْتَ جاهلٌ كيفَ تكُون إنساناً، ما جدْوى أن تكونَ مناضلاً ولا تسْعى كخناتة إلى زيارة المُعْتقلين السِّياسيين، أو على الأقل تُضمِّد الجراحَ برسالةٍ تبْعثُ مع أحْرُفها بعْضَ الأمل، أو تُلبِّي رغْبةَ السَّجين في كتابٍ يُعلِّمُه الهروب ولوْ بتوْسيع أفُق التَّخْييل في جدار، ما جَدْوى أن تكون فلسطينياً أكثر من الفلسطينيين بشعاراتٍ تحْترفُ لُغةَ الصَّوت والصُّورة فقط، بينما اسمُ خناتة يُكتَبُ أعْلى السَّبورة مع النشيد الوطني.. هُناك في مدرسة بغزَّة تحْملُ اسْمَها بقوَّة القوْلِ والفِعْل وليْس غُبار الطَّباشير، وتشْهدُ الأرض في بلدنا أنّها لا تحْتاجُ لثورة الفلَّاحين، بل لثروةِ الأغْنياء لِدعْم البحث العلمي، وتشْهدُ الأرْضُ أنَّ الفاضلة خناتة بنونة أوَّلُ سيِّدةٍ تَشْكُرها نبْتةُ الشعير، تشْهدُ الأقْنعةُ التي تُبدِّل الوجوهَ كما نُغيِّر الجواربَ المثقوبةَ عادةً بالأصْبُع الكبير، أنَّ خناتة بنُّونة لم تَسْع للظَّفْر بِحَمْلةٍ انتخابيةٍ حين تبرَّعَتْ بثماني عشْرةَ شُقَّةٍ للعُمَّال الكادحين، هي فقط فتحتْ قلْبَها الكبيرَ سكناً وارِفاً بأرْبَعِ خُوخات تُجدِّدُ نوافذُها هواءَ البلد، دون أنْ تجْعل على بابِه حارساً يحصي الأنْفاس ويَمْنع الماعُون، هيَ فقط أكْبرُ من كلِّ الألقاب التي قدْ لا تضُرُّ ولا تنْفَع، تُريد لكلمتها أن تَنْزل للشَّارع لتنْخرِط في هُموم المجتمع، لا تريد أن يبْقى حُلْمَها في التَّغْيير حبيسَ غِلافيْنِ في كِتابْ!
.................................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 26 ماي 2022، وهي شهادة ألقيتها في ندوة نظمتها مؤسسة خناتة بنونة للبحث العلمي، مساء أمس بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط.