مقدمة كتاب "حزيران الذي لا ينتهيّّ: شظايا ذاكرة 1967- 1982 "
(2018 )
أمشي كأنني واحد غيري :
( حزيران الذي لا ينتهي )
كثيرة هي الروايات التي يلجأ كتابها فيها إلى خدعة ما ، كأن يخترعوا ، مثلا ، شخصية وهمية يقولون ، من خلالها ، ما يريدون قوله ، وربما كانت المقامات ، في الأدب العربي القديم ، مثالا جيدا على هذا . لقد اخترع بديع الزمان الهمذاني راويا هو عيسى بن هشام وتركه يقص الحكايات / المقامات ، كما لو أنه يريد أن يدفع عنه أي اتهام ، أو أن يرد عنه أي أذى يمكن أن يلحق به ، لو تشابهت أحداث مقامة ما مع حدث معيش مشابه . وربما لم يكن هناك إمكانية لأن يبدأ صاحب المقامات كتابه بما يلجأ إليه الكتاب المعاصرون حين يصدرون رواياتهم التصدير المألوف ، درءا لأية إشكالية قد تلم بهم " أي تشابه بين شخصيات هذه الرواية وشخصيات في الواقع تحمل الاسم نفسه هو مجرد صدفة " .
هكذا أعفى صاحب المقامات نفسه من أية مساءلة ومن أية مسؤولية تترتب على تشابه ما في المقامة والمحيط ، ولم تكن فكرة المؤلف الضمني شائعة ومعروفة في حينه ، حتى يقال إن عيسى بن هشام هو المؤلف الضمني للمقامات ، وأما بديع الزمان فهو كاتبها ، وثمة اختلاف بين الكاتب الحقيقي والمؤلف الضمني .
والحقيقة أن فكرة المؤلف الضمني التي كتب عنها ( واين بوث ) في كتابه عن فن الرواية ، ما زالت موضع جدل بين النقاد ، وما زالت تثير أسئلة عديدة حولها ، بل وتثير جدلا حادا ، فمن ناقد يأخذ بها ويدافع عنها ، ومن ناقد يراها مجرد لعب فني ، وأنه لا فرق بين المؤلف الضمني والمؤلف الحقيقي ، ومن الأخيرين الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض في كتابه " نظرية الرواية " 1998 .
شخصيا لم أرفض فكرة المؤلف الضمني ولم آخذ بها على أنها مقولة مسلم بها ، وقد ظللت أسائلها وأفكر فيها منذ سمعت بها ، وتحديدا في العام 1990 ، وكلما قرأت رواية أخذت أنظر في السارد واحدد طبيعته وأبحث عن كينونته الخاصة ، إن استطعت تحديدها ، وأخذت أنظر أيضا في الشخصيات الروائية وفي ملامحها الخاصة ، لأرى مدى اقترابها من المؤلف الروائي / الكاتب وابتعادها عنه ، وقادني هذا إلى كتابة دراسات تطبيقية في الموضوع ، تتبعت فيها ما أعرفه عن الكاتب وما ورد عن المؤلف الضمني في روايته ، بل وأخذت أنظر في الشخصيات الروائية نفسها ، لأطابق أو أمايز بين : الكاتب الروائي والسارد أو المؤلف الضمني والشخصية الروائية ، وهؤلاء الثلاثة قد يتطابقون ، فيكونون شخصية واحدة ، بخاصة في رواية السيرة ، وقد يختلفون ، فيكونون ثلاثة مختلفين ، لا صلة بينهم . وما ذهبت إليه كان نقاد سابقون توقفوا أمامه ، وربما تعود أهمية ما كتبت إلى أنني فتحت بابا في هذا الأمر في الأدب الفلسطيني ، في داخل فلسطين ، إذ لا أعرف من نقادنا من التفت إلى الأمر وتوسع فيه ، وكانت دراستي لرواية إميل حبيبي " خرافية سرايا بنت الغول : إشكالية المؤلف والراوي والشخصية ،" ( مجلة مشارف الحيفاوية ،حزيران ،ع16 1996 ) واحدة من تلك الدراسات .
وظل الموضوع يشغلني عموما ، وفي تناولي الأخير لرواية الكاتب اللبناني إلياس خوري " أولاد الغيتو،اسمي آدم " ( مقال الأحد ، آذار ونيسان وايار وحزيران وتموز وأب 2016 ) بحثت عن إلياس في روايته من خلال بطلها آدم ، وتساءلت عن الفارق بين الروائي وبطله ، وقادني هذا إلى كتاب الناقد السوري المعروف جورج طرابيشي الذي ألف كتابا عنوانه " الروائي وبطله ، مقاربة اللاشعور في الرواية العربية " 1995 ، وفيه لا يذهب إلى التوحيد بين البطل الروائي والكاتب . إنه يقارب لاشعور البطل باعتباره مستقلا عن خالقه .
وستظل فكرة المؤلف والمؤلف الضمني تلح علي ، وسأظل أسائلها واقاربها . هل شهرزاد هي المؤلف الضمني لكتاب " ألف ليلة وليلة " الذي لا نعرف مؤلفه الحقيقي؟ وعليها قس .
وأنا أكتب " حزيران الذي لا ينتهي " ، خلال أشهر حزيران وتموز وبدايات آب ، وجدتني أكتب بطريقة أبدو فيها كاتبا ساخرا ، بل وساخرا من الذات أيضا ، وهذ السخرية ليست طبعا أصيلا في ، فأنا شخص جاد ولا أميل إلى السخرية ، وهكذا وجدت فارقا بين طبيعتي وبين الشخص الذي يبدو في النص . كأنني واحد غيري .
وأنا أتراسل مع إحدى صديقات الفيس بوك ، لمدة ساعة ، وجهت لي نصائح وسألتني عن أحوالي . ووجدتني أكتب لها إنني أعيش أقسى درجات العزلة وأقصاها أيضا ، وإنني لم أعد أرى أفقا .إننا في ورطة في عالم العبث واللاجدوى الذي يعيشه العالم العربي ، وكانت كتابتي ردا على سؤال تسألني فيه عن قدرتي خلق قدر من الانسجام في حياتي ، وكيف أستطيع أن أعيش بقدر من الانسجام في ظل المحيط القاسي والمؤلم .
سأكتب لتلك الصديقة : إن ما يبدو في سلسلة " حزيران الذي لا ينتهي " لا يعكس شخصيتي أنا ، فأنا جاد ولست ساخرا ، ولكن روح شعبي تلبستني وأنا أكتب ، وهذه السخرية وتلك الدعابة التي في النص هما ما يبدوان لدى بعض أبناء شعبي ، وغالبا ما كنت ، وأنا أكتب ، استحضر شخصياتهم وروحهم .
هل ما سبق يوضح فكرة المؤلف الضمني ، لي ولغيري ، وهل أصبحت أكثر اقتناعا بأن المؤلف الضمني هو غير الكاتب ؟
هذه الكتابة هي شظايا ذاكرة ، وقد كنت كتبت بعضها في بعض قصصي ، وقد كنت شرعت في كتابتها في العام 1979 / 1980 ، فنشرت ثلاث رسائل ، في جريدة الفجر ، تحت عنوان " رسائل من المخيم ، وبقلم : عادل الراوي " ، وكنت يومها واقعا تحت تأثير رواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " .
وكما كتب محمود درويش في إحدى قصائد " لا تعتذر عما فعلت " 2003 :
أنا ملك الصدى
لا عرش لي إلا الهوامش . والطريق
هو الطريقة ، ربما نسي الأوائل وصف
شيء ما أحرك فيه ذاكرة وحسا
**********
لما كتب إميل حبيبي روايته " المتشائل " لاحظ بعض قرائها أنه يقلد رواية ( فولتير ) " كنديد " ما دفعه لأن يرد عليهم في الجزء الثاني ، وكان هؤلاء القراء قالوا " تحفز الأستاذ ليشب ، فوقع دون كنديد مائتي عام " - أي أن إميل كتب بأسلوب القرن الثامن عشر ولم يأت بجديد .( انظر دراستي عنها في كتابي " أوراق مقارنة في الأدب الفلسطيني " 2015 )
*****
هذه الكتابة كتبتها مباشرة على الفيس ، ولم أجر عليها تعديلات إلا فيما يمس الأسلوب والأخطاء الطباعية.
***
1
( في الخامس من حزيران 1967:
كنت يومها في الإجازة الصيفية ، ووجدت عملا نادلا في مقهى في نابلس ، صاحبه جارنا من مخيم عسكر ، وهو لاجيء من اللد ، ومات الرجل ، وما زال المقهى مقهى ، حتى اليوم .
أحيانا أفكر في الجلوس في المقهى ، ثم أجدني أسير وأسير .
هل وزع صاحب المقهى ، يومها ، الطلبات مجانا ؟
لا أذكر ، وما أذكره أن الناس كانت تردد ، فرحة :
عبد الناصر يا حبيب
اضرب اضرب تل أبيب .
كنت أتابع الأخبار التي تابعها الناس من خلال استماعهم إلى إذاعة " صوت العرب " ومذيعها أحمد سعيد الذي تحدث عن إسقاط الطائرات كالذباب . وكان البيان الأول يتحدث عن إسقاط 23 طائرة ، بلغت في المساء 48 .
لم نسأل عن الطائرات العربية ، وكانت طائرتا ال ( هوكر هنتر ) لسلاح الجو الأردني تمر فوق سماء المخيم ، وكما أسقط المصريون الطائرات فقد احتل الجيش الأردني ، في البلاغات جبل المكبر ، وكذلك في الأغاني :
"هلل كبر هلل كبر ، احتلينا جبل المكبر " ، وأما الجيش السوري فقد وصل إلى طبرية .
في المخيم كان الناس في بيوتهم ، وكنا ، نحن الصغار ، لا نلتزم بالتعليمات ، وما زلت أذكر جنديا أردنيا يقود دبابته .
توقف الجندي في وسط الشارع الرئيس ، وهبط من دبابته ، وأخذ يبحث عن برغي ما أو شيء ما إثر فقدانه السيطرة على قيادة الدبابة .
هل نبقى في المخيم ؟
ولم يجد الظافر والقاهر شيئا ، ووجدتني مساء ، محشورا في بيت خالتي أم عارف ، في البلدة القديمة ، من نابلس ، مع أهلي ، ومع جارتنا وأولادها .
تلك الأيام ، يا للهزيمة في مساء اليوم التالي .
***
2
كم رجل وكم امرأة كان في بيت خالتي أم عارف في ذلك اليوم الحزيراني؟
الرجال في غرفة والنساء في أخرى ، وأتجول في شوارع المدينة .
المدينة شوارعها خالية وأنا أسير ولا أذكر شيئا أكثر من هذا . بحثا عن صيدلية لشراء مسكن لوجع أسنان أمي . وتشغلني أفلام السينما فاتفقد مناظرها وواجهات العرض : سينما العاصي ، سينما غرناطة ، سينما ريفولي .
الناس بإيش وانا بإيش.
طفل في ال13 من عمره والحرب في بداياتها .
سينما وأبحث عن أفلام السينما .
خربشات
6 / 6 / 1967
***
3
الشوارع خالية وليس فيها إلا قليلون . بدأت الهزيمة تلوح في الأفق مع انكسار صوت المذيع .
وأنا أبحث عن مسكن للأوجاع صادفت امرأة من قلقيلية فسألتها من أين وماذا تريد ؟
المرأة قالت لي :
- اليهود احتلوا قلقيلية .
وأنا عائد إلى بيت خالتي رأيت الرجال ، ومنهم أبي ، جالسين أمام دكان الحلاق ابن اللد ومعهم بنادقهم ، ولما سألوني ماذا رأيت على الدوار أجبتهم بما قالته المرأة ،
سيلطمني الحلاق على وجهي وسيقول لي : طابور خامس .
وأنا أفر - أي أهرب لا أشخ - كانت الطائرات الإسرائيلية تلقي منشورات على المدينة تطلب من سكانها الاستسلام ورفع الأعلام البيض . وسأظل ، كلما رأيت أبا محمود ، سأظل أذكره بالكف الذي ضربني وبعبارته لي ، ولم أكن أفهم معناها ، ولا أدري إن كان هو أيضا يفهم معناها .
بعد 35 عاما تقريبا سيستشهد الحلاق ، وهو أبو محمود صبرة ، برصاصة إسرائيلية ، في انتفاضة الأقصى ، وكان جالسا في بيته ولم تكن معه بندقية ، ولبنادق هؤلاء الرجال خربشة خاصة .
يا لي من طابور خامس منذ الخامس من حزيران .
***
4
بدأت الهزيمة تنجلي.كانت الطائرات الإسرائيلية تغير عصرا على أطراف نابلس وتقصف.وكان بيت خالتي مكتظا بالناس.غرفة بخمسين ستين رجلا وطفلا وثانية ومثلهم من النساء.ومرحاض واحد لهؤلاء كلهم.
الطائرات تغير والدبابة تقاوم والمدفع المضاد للطائرات يحاول شيئا.
هل كان اسم القائد (ابو هاشم )؟
سيشاع أن ضابطا اسرائيليا نزل من دبابته وأدى التحية العسكرية للشهيد أبي هاشم في وادي التفاح ، لأنه قاوم مقاومة باسلة ولم يترك دبابته لينجو بنفسه.
ساعات المغرب كان ثمة خوف وصمت . صمت بدأ يخيم فقد صمتت المدافع مساء وما عادت الطائرات تغير .
ماذا كان الرجال يفعلون بالبنادق؟
جارتنا القادمة من المخيم ( أم الشكر ) كانت تفكر بزوجها . ماذا سيفعل حين يعود ولا يجدها وأطفاله في البيت ؟
خربشات 8/6/1967
***
حزيران الذي لا ينتهي: استدراك
وأنا أمسح شقتي ، هذا الصباح ، تذكرت المرحوم المغفور له بإذن الله الملك حسين وخطابه في حزيران في نهاية الحرب :
خرمشوهم بأيديكم بأسنانكم . ( لماذا غضب مني صديقي حين قيل له : إنني وصفته في نصي " ليل الضفة الطويل " ١٩٩٣ بأنه كلب ، علما بأنني لم أذكر اسمه ؟ ) .
قلت : لعل خربشاتي هذه مستوحى عنوانها من خطاب جلالة الملك .
لعل هناك صلة بين خرمشات وخربشات . حكامنا أيضا ملهمون لنا .
8 / 6 / 1967 :
(حزيران الذي لا ينتهي ) 4
بدأت الهزيمة تنجلي.كانت الطائرات الإسرائيلية تغير عصرا على أطراف نابلس وتقصف.وكان بيت خالتي مكتظا بالناس.غرفة بخمسين ستين رجلا وطفلا وثانية ومثلهم من النساء.ومرحاض واحد لهؤلاء كلهم.
الطائرات تغير والدبابة تقاوم والمدفع المضاد للطائرات يحاول شيئا.
هل كان اسم القائد (ابو هاشم )؟
سيشاع أن ضابطا اسرائيليا نزل من دبابته وأدى التحية العسكرية للشهيد أبي هاشم في وادي التفاح ، لأنه قاوم مقاومة باسلة ولم يترك دبابته لينجو بنفسه.
ساعات المغرب كان ثمة خوف وصمت . صمت بدأ يخيم فقد صمتت المدافع مساء وما عادت الطائرات تغير .
ماذا كان الرجال يفعلون بالبنادق؟
جارتنا القادمة من المخيم ( أم الشكر ) كانت تفكر بزوجها . ماذا سيفعل حين يعود ولا يجدها وأطفاله في البيت ؟
خربشات 8/6/1967
***
5
المدينة تحت الاحتلال ، وثمة صوت يخاطب أهل المدينة بتسليم أسلحتهم وعدم إطلاق النار.
ويتساءل الرجال الذين بحوزتهم بنادق عما يفعلون : هل نسلم البنادق أم نحتفظ بها ؟
وسيختلفون في هذا ، والذين وافقوا خافوا من أن تكون القوائم التي وقعوا عليها ، يوم تسلم البنادق ، ما زالت في المقاطعة .
سيقر قرار أبي على تسليم بندقيته ، ومثله ابن خالتي ، خلافا لآخرين قرروا أن يلقوا بها في أماكن محددة ، ولكن من سيقوم بالمهمة ؟
سأجدني وابن خالتي يحمل كل بندقية الشخص الذي يخصه ، وكان ابن خالتي في مثل سني ، ونسير باتجاه مبنى البلدية الجديد ، حيث أعلن مكانا للتسليم .
على مقدمة البندقية شارة بيضاء ، دلالة على الاستسلام ، وبوز البندقية إلى الأسفل . ونسير بلا خوف ولا وجل .
شوارع المدينة فارغة ويسودها الهدوء ، وثمة فراغ ، وثمة شوارع بلا بشر . أهي مدينة النحاس تصفر فيها الريح ؟
ونمشي غير خائفين لإنجاز المهمة حفاظا على سلامة الكبار ، أنا أبي ، وابن خالتي على سلامة أخيه .
ولأول مرة أرى اليهود وجها لوجه .
أسلم البندقية وأعود من حيث أتيت ، تاركا مبنى البلدية الجديد والبنادق فيه تكوم ، البنادق الإنجليزية ام . واحد . الأشبه بالخشبة .
***
6
( المدينة تحت حكم جديد ) :
المدينة احتلت والمحتل يسمح لسكانها بالتجول فيها لساعات قليلة حتى يتسوقوا .
ماذا سنظل نفعل في بيت مكتظ بالبشر الذين ضاقوا ذرعا بالضيق ؟
جارتنا التي اتت معنا من المخيم مازالت تفكر بأمر زوجها وما زالت تشعر بالغربة في بيت هي ضيفة فيه مع ضيوف تعرفهم .
نغادر عائدين إلى المخيم مشيا على الأقدام ويبقى أبي خوفا من أن تكون هناك قائمة بأسماء الذين حملوا البنادق وتدربوا لقتال الاحتلال .
أسير وأهلي ونمشي فليس ثمة حافلات.الناس في سوق الخضار المركزي تفتش عما تبقى فيه من خضار لم يصبها التلف . مشاع . السوق مشاع ولا أخلاق في الحرب ولا فضيلة سوى فضيلة البقاء .
أسير ماشيا . وفي أول شارع عمان مقابل المقاطعة أرى الدبابات الإسرائيلية والجنود اوروبيي الملامح وايديهم على الزناد . أسير وأمي واخوتي لا أفهم شيئا مما جرى .
المدينة غدت محتلة والجيش دخلها من شرقها . وأهل المخيم ما زالوا في المخيم الا بعضهم ممن هرب إلى الحقول والشرق بحثا عن أمان . و الناس تتحدث عن ترحيب بعض السكان بالجيش الجزائري ذي الملامح الأوروبية . الناس تتحدث عن الزغاريد التي قوبل بها الجزائريون القادمون لتحرير فلسطين لولا مزحة بعض الجنود الذين وجهوا مدافع الدبابات باتجاه المرحبين بجيش الجزائر ولولا التفات بعض الأهالي الكبار إلى الحروف العبرية على الدبابات وتحذير الناس من ان المحررين هم أبناء عمنا اليهود حررونا من إخوتنا الأردنيين وربع اقلب .
الأهالي ما زالوا يصغون إلى صوت العرب وفي المساء يعرفون ،من خلال صوت عبد الناصر أننا خسرنا الحرب وأن نكسة المت بنا .
10 / 6 / 1967
***
7
عدنا إلى المخيم مهزومين ولم نعد إلى يافا، وحي النزهة فيها، منتصرين
كثيرون من شباب المخيم في الحقول المحيطة ومنهم من رحل إلى الأردن هاربـا مـن عـدو
ارتكب مذابح في دير ياسين واغتصب النساء فيها.
سأعود إلى ما كنت عليه قبل العودة.توفير المياه لأهلي وخبزالعجين في فرن أبو توما الذي كان
بلا توما وبلا امرأة ايضا.
قبل أيام كنت أحصل على المياه من عين المخيم أو من عين عسكر في القرية المجاورة او من
معسكر المزرعة القريب حيث يتواطا معنا جندي أردني ويسمح لنا بتعبئة الميـاه أحيانـا فـي
ساعات الصباح.
الأن غدا المعسكر بلاعساكر فقد تفرق جنوده أيدي سبأ.ولم يترك بعض أهل المخيم المعسكر
على حاله فقد نهبوا ما فيه وكنا من الناهبين.نهبنابقايا البقايا فقد عدنا إلى المخيم ولم نكن يـوم
احتلال المخيم فيه.كان نصيبنا تختا واحدا من تخوته الكثيرة ولم نابه لتخويفات بعض الناس من
آن عساكرالنظام الأردني قد يعودون ويسجوننا.
حركة النهب شملت مركز الشرطة الذي أصبح خاويا من الجنود وخاليا من الأثاث.
ساسال عن مصير الجنود ومنهم أبو كمال الذي جلدني ذات نهار لأنني بصـقت فـي إبريـق
الممرضة زكية التي اعتدت على دوري في انتظار تعبئة المياه من عين المخيم.
الناس في المخيم خائفون ومنهم من يفكر بالرحيل شرقا.هل سنهاجر إلى عمان؟وإلى مخيم جديد.
ولم يعد بعض جيراننا جيرانا فقد رحلوا وخلت بعض البيوت من سكانها و..و..
ولا بد من أن أذهب إلى الفرن لاخبز الخبز لناكل.
ها أنا مواطن في دولة جديدة
***
8
اختلاط الأشياء ، ولا تعود الذاكرة تطابق بين اليوم وما جرى فيه.
الناس في حيرة من أمرهم، وهم يتشاورون ويتساءلون: انبقى أم نرحل.؟
لقد جاؤوا من الشرق ،ولو كانوا قدموا من الغرب لرحل أكثر الناس.هل أرادوا خداعنا؟
حديث الناس في المخيم مازال حول دخولهم إلى المدينة واستقبال الناس لهم.وعلىالرغم مـن
الهزيمة،فإن الشباب بدؤوا يواجهونها بالضحك.أخذوا يسترجعون اصطفافهم على الشارع الرئيس
مرحبين بهم على أنهم جزائريون وعراقيون و.و.و.
استرجعوا سير النساء اللاتي زغردن، وتساءلوا عن بنادق الشباب.
في اليوم الأول ، قبل ان نذهب إلى المدينة كانت زوامير الخطر تزعق بين حـين وحين، وكـان
شباب الدفاع المدني يتجولون حاثين الناس على البقاء في بيوتهم، وكلما كانت هناك طائرة فـي
الجو استعد حملة البنادق، وأطلق ابو العزم أو أبي طلقة لاسقاطها. كانـت عبـارة أبـي العـزم
هي: طلقة لعيون الشباب. وقد ذهبت مثلا، وأخذ الناس دائما ، ولسنوات يتذكرونها، ويتذكرون ايضا
ما كان يقوم به الصديقان. (طلقة لعيون الشباب.)
غير ان الناس لم تنس ، ولسنوات طويلة ايضا زغاريد نعوم وام النمر-يذكر الناس الاسم الحقيقي
لام النمر-وكنت اعرفهما من خلال عين الماء التي كنا نزود ، من خلالها، بالماء..
ماذا فعل أبو العزم ببندقيته؟
لا أدري ، والبندقية التي سلمتها ، في مبنى البلدية في نابلس، كانت بندقية ابي (كم انا انهزامي منذ
جزيران) غالبا ما أقول هذا.
ننتظر مجيء أبي لنقرر إن كنا سنرحل الـى الأردن ، فالنـاس خـائفون، وابي مـا زال فـي
المدينة، وبعض الناس بدؤوا يرحلون، والمخيم غدا بلا مخفر شرطةذ
***
9
( تشوش الذاكرة ) :
حين أتيت إلى هذه الدنيا كان أهلي يقيمون في الخيام ، وسأعرف أنني ولدت في خيمة . كان عمر النكبة ست سنوات ، وبدأت تدخل عامها السابع ، ومع حزيران هذا أدخل عامي الرابع عشر .
إسرائيل تحتفل بانتصارها وأنا لا أحتفل بعيد ميلادي ، وتلك عادة برجوازية لم أحتفل بها ذات يوم..
عدت يا يوم مولدي ، عدت مع الهزيمة ، وعاد أبي إلى البيت ، فقد أخذ الاحتلال يسمح للناس بالتجول والتبضع ، والناس بدوا مذهولين حقا مما جرى ، وكانوا يتساءلون ، وبدؤوا يتحدثون عن خيانات الحكام العرب ، وهو ما كانوا يرددونه بعد النكبة ، بل وفي أثناء حدوتها . ولطالما كنت أصغي إلى أبي معزوز اللداوي يردد ( فلسطين ، فلسطين بيعوك البياعين ) ، وكنت أردد هذا مقلدا أبا معزوز الذي كان يلدغ ولا يفصح . ( هل أقول : عاد المحارب الذي لم يحارب ؟ ولكنه لم يدرب ليحارب ، وكل ما تدرب عليه قبل الحرب بأيام كان الوقوف في الطابور العسكري والتدرب على المشية العسكرية ، وتسلم بندقيته وبضع رصاصات وهي لا تكفي لتحية الطائرات ) .
الناس تساءلت عن الظافر والقاهر الصواريخ التي أملوا ، من خلالها ، بتحقيق عبد الناصر النصر على إسرائيل والعودة إلى يافا وحيفا .
وبيت الشعر الذي أخذ أبي يكرره بكثرة ، ولا أدري من أين سمعه ، فحفظه ، هو :
" من استلم البلاد بغير حرب
يهون عليه تسليم البلاد "
وهو بيت سيترك أثرأ كبيرا على سلوكي ، وسيكرره أبي على مسامعي قبل أن يموت ، حاثا إياي على عدم مساعدة بعض ( .. ) ماديا ، لأنه ينفق المال دون حساب ، ولأنه لا يتعب في الحصول عليه..
كان أبي ، باستمرار ، وهو يصغي إلى خطابات الملك يكرر هذا البيت ، حتى إنه وبيتا شعريا آخر ، بيتا عنصريا ويحث على العنصرية ، كانا كل محفوظه الشعري ، وكلا البيتين كانا يعبران عن معاناته من اللجوء والإقامة في المخيم ، بعيدا عن يافا .
أنا اليوم أدخل عاما جديدا ، وأصبحت أقيم تحت حكم جديد ، وهكذا ولدت ، بعد النكبة ، في الخيمة ، وولدت من جديد ، في الهزيمة /النكسة ، ويا لي من شقي .
عدت يا يوم مولدي
عدت يا أيها الشقي .
13 / 6 / 2016
***
10
تشوش الذاكرة
الناس ما زالت تتحدث عن مصير الجنود الأردنيين الذين كانوا في المعسـكر ، وفي مخفـر
الشرطة ، بل وفي مركز المقاطعة في المدينة. هل كان اسم قائد الشرطة في المدينة نصـوح؟ هل
هرب؟ وكيف هرب؟
الناس تتحدث عن طلب بعض هؤلاء الجنود، منهم ملابس مدنيـة ليرتـدوها وليغـادروا إلـى
الشرق، إلى دولتهم. هل تحدث الناس يومها عن بعض جنود ارتدوا ملابـس نسـاء؟ هل حـدث
هذا؟ هل أرادت الناس أن تسخر من الجنود الذين اهانوهم فـي العـام1966، فـي مظـاهرات
السموع؟
ربما نسي الناس ما حدث في العام1966، وربما انستهم حادثة والدة الفران الحرب وما حـدث
قبل الحرب.
ثمة جندي في اليوم الأول من الحرب أخذ يتجول في شوارع المخيم، يطلـب مـن النـاس أن
يلتزموا بيوتهم، وقيل إنه تلصص على بيت (ام محمد) فضربته وصرخت ليتجمع الناس، وشاعت
الحكاية، وغدت على لسان أهل الحارة.
ثمة جندي شهيد ما بين مخيمي عسكر وبلاطة،قرب محل صناعة الجفت، وثمة ثلاثة شهداء في
طريق الباذان، والناس تتحدث عما ألم بهم، ولسوف يقبرهم الناس، ولسوف يزورون قبورهم فـي
الأعياد، ويضعون سعف النخيل على قبورهم، كل عيد، كما لو أنهم من أفراد عائلاتهم. والنـاس
تتحدث عن الشهيد الذي يأتي يوم القيامة ولونه لون الدم ورائحته رائحة المسك،
ونحن أخذنا نواصل حياتنا: الحصول على الماء من عين المخيم أو عين القرية القريبة ،ونخبـز
خبزنا في أفران المخيم، و..و..و.
***
11
تشوش الذاكرة
هزم الجيش الأردني وخلف معسكراته ومخافره وراءه. نهب ما نهب وما لم ينهب غـدا باعثـا
للفضول. قبل حزيران أقيم معسكر مؤقت للجيش قرب المخيم.خيام وآليات نقل ودبابات، والحرب
وشيكة، وثمة طائرتا (هوكر هنتر) تقومان بطلعات جوية. ثمة زوامير خطر ، ورجال دفاع مـدني
،من شباب المخيم، وثمة كشافة يتجولون يعطون التعليمات.
تحرك الجيش وذهب الى أماكن أخرى تاركا بعض المخلفات التي أثارت فضول بعض الشباب
وأراد قسم منهم أن يعدها لأيام قادمة، ربما من أجل المقاومة. وفجأة انقلبت أحوال المخيم. ثلاثـة
شباب في السابعة عشرة من أعمارهم يعبثون بقنبلة تنفجر بهم. مات أحدهم ، وأصيب أخر إصابة
خفيفة، فيم فقد الثالث نظره وبتر مرفق يده.والجيش الذي انسـحب لـم يسـحب معـه بعـض
مخلفاته. هل تركها خطا؟ هل تركها قصدا ليقاوم المقاومون؟ هل...؟
صار أبو علي، أجمل شباب المخيم، عنترة العبسي المحب، صار معاقا، وغـدا صـديقا لكثيـرين
يساعدونه في تسيير أموره. وربما احتاج مساحة خاصة لكتابة قصة طويلة.
ها هي الحرب تعني الخسران. شاب من أجمل شباب المخيم، الأنيق ذو الشعر النـاعم الاملـس
اللامع المتزيي باجمل الثياب، المحب العاشق، ها هو يشوه.
ثمة خسارات كثيرة، وثمة مفقودون، وبعد اثني عشر عاما، مساء، ينتظر الناس عودة أم زياد مـن
عملها في المدينة، ليخبروها إن زوجها الذي فقد في الحرب عاد؟
هل عاد الفرواني؟ وساكتب من وحي هذه الحادثة قصة "هل هو الفرواني"؟
الحرب لم تنته. من قال ان الحرب انتهت.
ابو علي عاد الى يافا، بلده، فقد تزوج من هناك، وانجب ولكنه يرى البحر باذنيه، لا بعينيه، واحيانا
اساله: هل انت راضيا ابا علي؟
احيانا يجيب بنعم ، واحيانا كثيرة يجيب: لا. ويافا بلا يافاويين ليست يافا.
***
12
( تشوش الذاكرة ) :
كان لأبي سيارة من نوع ( بلايموت ) سماوية اللون ، وهي من موديل 1958 ، وكان يسوقها متنقلا بين نابلس وعمان والشام وبيروت . الآن ما عاد هناك خطوط خارجية ، والجسر ،بين ضفتي النهر ، غدا الحد الفاصل بين دولتي الجديدة ودولتي القديمة ، ولم أكن أشعر بأن هذه دولتي - الجديدة - ولا تلك - القديمة -.
في العام 1966شهدت الضفة الغربية مظاهرات ، بسبب أحداث السموع ، وقمعت قوات البادية الأردنية المتظاهرين ، ولا أدري ما الذي كان يجعلني أذهب من المخيم إلى المدينة لمشاهدة المظاهرات التي يرشق فيها المتظاهرون أفراد الشرطة الأردنية . أهو كلام أبي عن الأنظمة العربية ؟ ولم يغير لقاء الملك حسين مع عبد الناصر ، قبل الحرب بقليل ، من الامر شيئا،وإن تظاهرت مع المتظاهرين ،مؤيدا البطلين ؛ عبد الناصر والحسين ، كما كان المتظاهرون ، يهتفون ، فقد تصالح البطلان واللي معانا الله معاه واللي علينا الله عليه .
كان أبي يعرف العبرية ، فقد كان له ، قبل العام 1948أصدقاء يهود يعملون معا ، ويتحدثون معا ، ولطالما حدثني عن صديقه اليهودي الذي كان يقول له في الحرب العالمية الثانية : اسمع يا مصطفى : إن انتصر الالمان صرنا حميركم وركبتمونا ، وإن انتصر الانجليز صرتم حميرنا وركبناكم ، وليت الامر اقتصر على الركوب ، فقد طردونا من بلادنا ، لنصبح ، لا حمير اليهود فقط،بل وحمير العرب وحمير العالم .
صار أبي مطلوبا ، لا للبندقية التي حملها ، ولا للاحتلال ، فقد كان يعرف الحكاية من طقطق حتى سلام عليكم ، وإنما صار مطلوبا لانه يعرف العبرية - مع أن ابي مثل كثيرين : يحب بسرعة ويكره بسرعة والذين تظاهروا ضد الملك قبل أشهر تظاهروا يؤيدونه حين سافر إلى القاهرة .
ولأنه سائق ولديه سيارة يعيش من وراء عمله عليها،وكانت السيارات قليلة ، فقد يسر الله له الزبائن،وأخذ هؤلاء يعرضون عليه السفر إلى القدس لزيارة مرضاهم في مشافيها أو للذهاب إلى يافا وحيفا،طبعا بعد فترة.
في تلك الأيام زرت القدس ، مع ابي ،ومع شخص أخر لعيادة مريض ، ورأيت ،من جديد ، جنود الاحتلال ، ورايتهم في شوارع القدس،وبدا ابي يستعيد لغته العبرية . ها هو يتكلم العبرية التي لا أدري لم لم أبذل جهدا مضاعفا في اتقانها .
وسنصبح بعد النكسة-،اي بعد هزيمة 1967حمير الدولة العبرية،ولسوف يحمد بعضنا أننا غدونا هكذا ، إذ سيجدون أعمالا برواتب تمكنهم من العيش ،،،
في حزيران 1967،لا في 1948صرنا حميرا ، وبعد سنوات ، وأنا أقرأ رواية اميل حبيبي ( المتشائل ) سأعرف ان حياته في تلك الدولة كانت بفضل تلك الدابة المسكينة ، أي الحمار ، فهل كنا حميرا منذ 1948دون ان ندري؟
16/6/2016
***
13
تشوش الذاكرة
بدا الناس يتساءلون عن مدة الاحتلال.هل سينسحبون ،كما حدث في غزة ،في العـام1956أم
أنهم سيبقون طويلا؟
غدا الناس كائنات سياسية. ما من أحد ، تقريبا، إلا أخذ يخوض في أمر الاحتلال واليهـود وعبـد
الناصر والملك حسين و....
عادت الحياة شيئا فشيئا إلى بعض ما كانت عليه. أخذ بعض أهل المخيم يذهبون إلـى المدينـة
للتسوق أو لتفقد المحلات التي كانوا يعملون فيها. وأخذ أبي يقل، في سيارته، الركاب.
في الحافلة بدأت أصغي إلى حديث الناس عن الاحتلال ومدته.
ولأن اﷲ خلق الارض في سبعة أيام، ولأن سورة يوسف تأتي على سبع سنوات عجاف ، بعـد سبع سمان، فإن الرقم سبعة كان رقما متميزا وله حضوره. أحد الركاب ، وهو ممن أعرفهم ، ولـم يكن يتجاوز الرابعة عشرة، وما كان ذات يوم يهتم بالسياسة، لصغر سنه طبعا، تحدث كما لو أنـه خبير سياسي، وهذا ما سيكون عليه ، زمن الاحتلال ، اكثرنا، تحدث هذا الفتى اليافع وقال: سيمكثون
سبعة أسابيع أو سبعة أشهر أو سبع سنوات، ولعله كان اصغى إلى من هم أكبر منه سنا، فكرر ما
سمع. وربما لم يقل سبعة أيام لأن الاحتلال اعتلى عرش الضفة في اليوم السابع وخـش اليـوم
السابع للاحتلال فينا كما يخش السبت، مساء الجمعة، في مؤخرات اليهود، حسب المقولة الشـائعة
التي لا أعرف قصتها.
نحن الأن ندخل في العام الخمسين للاحتلال، وما لم يذكره الفتى اليافع هو الـرقم سـبعون ، أو
الأرقام سبعمائة أو سبعة آلاف أو سبعون ألفا أو سبعمائة الف، وإذا أخذنا بالمقولـة الصـهيونية
الاسرائيلية، من أن القدس هي العاصمة الأبدية لدولة اسرائيل، فمعنى ذلك أن الاحتلال سـيدوم إلى الأبد الذي لا ندري متى ينتهي. ولولا أن الاتحاد السـوفيتي انهار، وانهـارت معـه مقولـة: الحتمية التاريخية ، لقلت: إن اليهود لا ينطقون عن الهوى، وإن هم إلا وحي يوحى إليهم ، وربما وجب أن اسأل الطائفة السامرية في الأمر.
مرت الأسابيع السبعة ومرت الأشهر السبعة، ومرت السنوات السبعة، وها هي الدولة العبرية تقترب من عامها السبعين، فإذا لم تنته في عامها السبعين ، فعلينا أن ننتظر عشرين عاما أخـرى، عسى احتلال الضفة يزول، فقد أقر العرب بأن المناطق المحتلة في العام1948 غـدت خـارج الصراع، وهي دولة عربية قد تدخل إلى الجامعة العربية عما قريب.
***
14
( تشوش الذاكرة ) :
في تلك الأيام بدأ الناس يتحدثون عن أبناء المخيم المفقودين ، فقد غادر قسم من هؤلاء إلى الأردن ، بعد أن تركوا المخيم وساروا في الحقول ، كما لو أن هؤلاء لم يتعلموا من تجربة أهاليهم في العام 1948، أو كما لو أنهم لم يتذكروا إلا مجازر اليهود في دير ياسين وقبية ، وكان أكثر هؤلاء من شباب المخيم الذين انخرطوا في الدفاع المدني . وقصة خروج الناس ،والأسئلة التي دارت على الألسن ، في حينه ، حولها ، سترد في قصة " الخروج " لمحمود شقير ، القصة التي ظهرت في مجموعته " الولد الفلسطيني " ( 1977 ) ، وهي قصة تقليدية الشكل ، كتبها القاص من منظور الفكر اليساري الذي اعتنقه ، وتأتي على ثنائية الأرض والعرض ، وهي ثنائية تركت أثرها العميق في أبناء الشعب الفلسطيني ، فقد ارتكب اليهود الصهيونيون مجازر واغتصبوا بعض النسوة ، والطريف أنني ، مؤخرا ، قرأت في رواية الكاتبة الايرلندية ( ايثيل مانين ) " الطريق إلى بئر السبع " 1963ما لم أقرأه في روايات النكبة ، إلا إذا خانتني ذاكرتي ، حيث تكتب المؤلفة عن اغتصاب جنديين من عصابات الصهاينة لامرأة من اللد ولخادمتها أيضأ ، وكان من آثار الاغتصاب جنين سيتم إجهاضه .
ومن القصص التي شاعت في المخيم ، في حينه ، عن الشباب واختفاء آثارهم قصة أبو زياد الفرواني التي أتيت على ذكرها من قبل ، وقصة الشهيد راضي الذي التحق بالفدائيين واشترك في إحدى العمليات فاستشهد ، ولم أر والده ، منذ استشهاده ، إلا حزينا وصامتا . لم أر في حياتي كلها رجلا ترك استشهاد ابنه أثره عليه مثل أبو راضي ، والغريب أنني لم أقرأ في الأدب الفلسطيني من وصف ما ألم بالاباء ، بأسلوب يبعث الحزن ، ما ترك أثرا في وجعلني استحضر نصه ، وفي العام 2002 سيكتب الشاعر محمود درويش ديوانه " حالة حصار " وسيأتي على وصف أثر الشهادة على الآباء والأمهات ( أتذكر مارسيل خليفة وأغنيته " أجمل الأمهات " ) . ربما كانت سحر خليفة أتت على الفكرة في روايتها " باب الساحة " وصورت فلسطين على أنها غولة تأكل أبناءها . دائما أرى أبو راضي حزينا ، وإن كان هناك حادث آخر شخصي أثر أيضا فيه . حزن ابو راضي وصمته هو من الأشياء التي ستترك أثرا في .
أحيانا كثيرة أعود إلى ديوان " حالة حصار " لأسترجع ما كتبه درويش عن فقدان الآباء لأبنائهم ، في الصراع ، لأنني أرى مدى نجاح الشاعر في تمثل حالة الآباء ، حتى أنني لأحزن وأنا أقرأ المقطع :
" الشهيد يحذرني : لا تصدق زغاريدهن
وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيا :
كيف بدلت أدوارنا ، يا بني ،
وسرت أمامي ؟
أنا أولا
وأنا أولا ."
.........
كأن أبو راضي ، وأنا أكتب يقف أمامي يبكي ابنه الشهيد راضي ، كما لو أنه بالفعل مازال يسير في شوارع المخيم صامتا حزينا لا يفكر إلا في ابنه الشهيد .
18 / 6 / 2016
***
15
دجاج وبيض اسرائيلي
هل انتهى مخزون البيض والدجاج في الضفة؟
تحت الاحتلال سنعرف البيض مرقما. نمـرة1 نمـرة2، ونمـرة3. وسـنعتاد علـى البيض الاسرائيلي، فلقد انهزمنا، وجلسنا على الخازوق، ولسوف يكتب إميل حبيبي في متشائله فصلا عن الجلوس على الخازوق والتمسك به.
كما لو أن لا فضيلة سوى فضيلة البقاء على قيد الحياة، كما كتب غسـان كنفـاني فـي قصـته "الصغير يذهب إلى المخيم" من مجموعة "عن الرجال والبنادق"، وماذا إذا كان البيض إسرائيليا أو غير إسرائيلي؟ كله بيض ، وإن أخذ الناس يتحدثون عن بيض مسوس وبيض ثلاجات.
لو اقتصر الأمر على البيض لهـان-الأمـر. سـوف يغرقنـا الاسـرائيليون بـدجاج سـعره رخيص. يتجول الباعة في السيارات وينادون عليه ليبيعوه بأسعار زهيدة، وسيقبل النـاس علـى شرائه، فالاموال شحيحة والسعر مغر، ولكنهم سيفاجاون بأن الدجاج لا يستوي، على الرغم مـن أنهم سلقوه لمدة ساعتين وأكثر. إنه دجاج بياض، وسيكتشف الناس أن اسـرائيل تبيـع الـدجاج البياض الذي ما عاد يبيض. دجاج هرم، وهات بوابير كاز وطناجر الومنيـوم وكاز، والـدجاج لا يستوي.
في روايته"المتشائل"1974 يكتب إميل حبيبي عن (النقنيق) المصنوع من لحم الحمير ، والذي بيع
في مطاعم حيفا،وفيما بعد، في نادي المخيم، سيقص أبو زيتون قصـته مـع صـاحب المطعـم
الإسرائيلي.
كان صاحب المطعم اليهودي كريما جدا، على خلاف ما يشاع عن اليهود فـي الآداب ونعـتهم بالبخل. اما من أين جاءه الكرم؟ فقد تساءل أبو زيتون والعمال وعرفوا القصة.
كان صاحب المطعم يأتي بالحمار إلى مطعمه مكللا بكيس الخيش ، دون أن يراه أحد ، ويذبحـه على الطريقة اليهودية، ثم يعطي عماله سقط المتاع ، من كبد وطحال و.. و.. وسيكتشف أبو زيتون أن سمنته الزائدة عن حدها، والتي عزاها إلى كرم صاحب المطعم إنما هي بفضل لحم الحمير.
في منتصف80ق20 وانا أنظر في ملامح ابنتي لاحظت ان انف كل منهمـا صـغير ، خلافـا لانوفنا ، ولسوف اعزو الأمر إلى الدجاج الإسرائيلي. فهذا الجيل هو جيل الدجاج الاسرائيلي.
وسياكل الناس البيض الاسرائيلي حتى يشبعوا منه، ولسوف يأكلون الدجاج الاسرائيلي، وأما بنعمة
ربك فحدث.
***
16
إنهم يعبرون النهر....
أصبح نهر الأردن الحد الفاصل بين دولتين، ولكن ما عاد يسمح بالتنقل بينهما ، وهنا بدات ظاهرة
التسلل عبر النهر،وهي ظاهرة قديمة ، ولكنها كانت تتم من المناطق المحتلة في العام1948 وما
تبقى من فلسطين، وقد انعكست في الأدب الفلسطيني بشكل لافت ، وتعـد قصـة حنـا ابـراهيم
"سارة" أو "المتسلل" مثالا جيدا.
الآن غدا التسلل يتم عبر النهر، من منطقة قرب طوباس اسمها عين البيضة، وغدا الناس يتنقلون
بين الضفتين منها، ويبدو أن مياه النهر هناك ذات منسوب منخفض.الذين أرادوا الخروج خرجوا
منها، والذين أرادوا العودة عادوا منها، ونشط المهربون أيضا في تهريب البضاعة منها، وفيمـا بعد، بعد أسابيع قليلة أخذ الفدائيون يتسللون منها.
أخذ أبي يعمل على خط نابلس طوباس وطمون، يقل الركاب من هذين المكـانين إلـى نـابلس
ويعيدهما ثانية إلى هناك.مرة مساء، كنت مع عمي ، في سيارة أبي ،وقد أقل ركابا إلـى قريـة طمون. وفي أثناء العودة اوقفه رجل معه شوالان كبيران ممتلئان بالبضائع. اقله عمي مقابل مبلغ من المال دون أن يحسب أي حساب.
بعد أشهر قليلة سوف تفرض قوات (الدفاع) (؟(الاسرائيلي حصـارا علـى مخيمنـا/عسكر القديم، وتجمع من هم فوق السادسة عشرة في مكان قرب مخيم عسـكر الجديد، وسوف تحيط المكان الذي حشرت الرجال فيه باسلاك شائكة، ما بث الرعب في الأهالي الذين حثونـا علـى الذهاب إلى المكان لمتابعة ما يجري واخبارهم بما يحدث. يومها عرض الرجال علـى مقنعـين على رؤوسهم شوالات خيش مثقوبة لكي يتمكن هؤلاء من رؤية من يعرض عليهم ، وسـينتهي الطوق بعد اعتقال عدد من أبناء المخيم واغلبهم من السائقين، وكان عمي واحدا منهم.
خاف الناس مما جرى، وأخذوا يتذكرون ما حدث في العام1948 من مجازر. وفيما بعد سـتوجه
التهمة لهؤلاء السائقين بأنهم كانوا يهربون الفدائيين، وسيسجن عمـي لأشهر، وسـيخرج دون أن يعترف، على الرغم من الضرب والتعـذيب الشـديد، وكان أن سـبب اعتقالـه، لأبي، مرض السكر، وسيظل عمي يتذكر تلك الأيام إلى أن توفي قبل خمسة أعوام.
إنهم يعبرون النهر، ومنذ عبورهم تبدأ المقاومة الليلية، وتستمر لفترة، كنا نصغي، خلالها إلى أصوات الرصاص، ليلا، كما لو أنه يكاد يلامس غرفنا الواطئة السقف، في المخيم. كم كنا، تلـك الليالي، نصاب بالرعب لغزارة إطلاق النار
***
17
( تشوش الذاكرة ) :
( شتات العائلة ،لقاء العائلة )
في حزيران سنتعرف إلى أقارب جدد . كان لأمي أقارب في يافا ، وكان لأبي أخت في غزة .
وحين أقرأ الأدب الفلسطيني ، لاحقا ، سأتوقف مطولا أمام قصة أميل حبيبي " حين سعد مسعود بابن عمه " من مجموعة " سداسية الأيام الستة " 1968 ، وأعتقد أنها من القصص القليلة التي قاربت لقاء العائلات الفلسطينية التي انفصلت عن بعضها إثر نكبة 1948. وكان غسان كنفاني في روايته " ما تبقى لكم " 1966 أتى على شتات العائلة في النكبة . يستشهد الأب في العام 1948 وتغادر الأم إلى الأردن ، فيما يجد حامد نفسه مع أخته في غزة .
كان لأمي عم هاجرت أسرته و ظل في يافا ، وعادت إليه عائلته ، إلى يافا،بعد العام 1948 ، لأنه كان موظفا مع الانجليز ، وفي حزيران سيأتي ابن عم أمي مع أختيه لزيارة عائلة عمه ، وكان عمه قد توفي قبل الهزيمة. هكذا ستلتقي العائلات الفلسطينية، وستسعد بلقائها، كما سعد مسعود بابن عمه أيضا في قصة حبيبي، وستزورنا عمتي قادمة من غزة، ولم نكن نكرر: "لماذا نحن يا ابتي، لماذا نحن أغراب ، أليس لنا بهذا الكون أحباب وأصحاب ؟ " فقد كان أعمامي في المخيم نفسه، ولم نكن نعرف عائلة عم أمي، كما لم نكن نعرف عمتي التي استقرت في غزة منذ1948، وعمي الكبير الذي كان متزوجا من امراة مصرية هو الذي عرف الشتات ، فقد هاجرت زوجته مع ابنها إلى القاهرة ، ولم نعد نعرف عنهما شيئا .
يجمعنا حزيران ، مهزومين ، باقاربنا ، بعد شتات تسعة عشر عاما ، ولكنه يفرق العائلة من جديد .
أحد اعمامي آثر أن يستقر في الشام ، وكان قبل الهزيمة يزورنا ، كما كان أبي يزوره باستمرار ، بحكم عمله سائقا على خط نابلس عمان دمشق بيروت ، وسيموت عمي لاحقا دون أن يشارك ، في جنازته ، أو عزائه ، أحد من إخوته ، فقد مات في ظل انتفاضة الأقصى ، كما عرفت.
هل حقا نيسان هو أقسى الشهور ؟ ربما ! ولكني أظن أن حزيران هو أقساها على الإطلاق ، ربما لأنني من مواليده . وقد يرى آخرون أيار أقسى . قد
خربشات 21/6/2016
***
18
تبديل عوالم
فجأة غدت بعض البيوت فارغة من سكانها. غادر قاطنوها إلى الضفة الشرقية من نهـر الأردن، وافتقد المرء بعض معارفه وأصدقائه، ولقد حل سكان جدد. كما لو كان هناك تبديل عـوالم أو تبادل سكاني. قدمت من غزة بعض العائلات واستقرت في المخيم، وفيما بعد، سيظل هؤلاء يحنون إلى غزة، ومع ذلك لا يعودون إليها، وبعض هؤلاء سينشط في مجال الرياضة، وسيظل يعير أبناء المخيم، ومن ورائهم أهل الضفة بأن الضفة لا تساوي شيئا مقارنة بغزة،وتحديدا في ملاعب كرة القدم، والعبارة التي أخذ أبناء المخيم يرددونها بلهجة غزاوية هي (هو في الضـفة ملاعب، الملاعب في غزة وبس) . عبارة لطالما كررت من باب السخرية.
واللافت أيضا أن بعض سكان المخيم غدوا يزورون أقاربهم في فلسـطين المحتلـة، كما أخذ أقاربهم، من هناك، يزورون المخيم.لقد التقت العائلة بالعائلة، وذهبت الأمور مـذهبا أبعد من ذلك، فقد أرادت هذه العائلات أن تتوحد من جديد، من خلال التزاوج. كما لو أنهم يريدون لم شمل العائلات.
من العائلات التي أقامت في المخيم ، بعد النكبة، عائلة من البروة، وهي من أقارب الشاعر محمود
درويش، غير أن احدا قبل1994 لم يلتفت إلى أمر قرابة العائلة بالشاعر، وربما يعود الأمر إلى أن الشاعر لم يكن حقق من الشهرة ما حقق بعد العودة إلى الوطن، وربما لم يلتفت أقاربه إليـه التفاتهم إليه بعد أن غدا مشهورا. ربما ، مع أنني سألت بعض أقاربـه إن كـانوا زاروا البـروة والتقوا بأهل الشاعر.
أتذكر صديقي محمد ابن حيفا. كان محمد معي في المدرسة، وكان له أقارب فـي حيفا، ولطالمـا
زارهم وزاروه، ولطالما التقى بقريبته الجميلة التي نوى الاقتران بها، ولكن هذا لم يتم. وقد حـدث
أن نجحت علاقات عديدة، اقترن فيها الأقارب، ومنها بعض أقاربي، وسيمكننا هذا من زيارة مدننا والشعور بأننا ، حقا، من هناك، وأن المخيم طاريء وعابر ومؤقت.
والآن اسأل: لماذا كانت الكتابة في هذا الموضوع، في ادبياتنا الفلسطينية قليلة، وتكاد تقتصـر على عمل أو عملين، وهما لاميل حبيبي الـذي عـاد وكتـب فـي الموضـوع فـي روايتـه "المتشائل" 1974، حين عادت يعاد لتزور فلسطين،ثم طردتها القوات الإسرائيلية، بعد انتهاء مـدة التصريح؟
فقدنا أصدقاء لم نعد نعرف عنهم، وحين أخذنا نزور الأردن لم نترك فرصة ، فـي عمـان ، إلا وسالنا عنهم، أو التقينا بهم.
ثمة تبديل عوالم، تبديل مساكن، تبديل أصدقاء وصداقات و...و..
***
19
( تشوش الذاكرة )
سماسرة عمل :
ساسير في شوارع المخيم مع رجال أتوا ليسألوا عن عاملات .
لم أكن أعرف أنهم سماسرة عمل ، ولم تكن أفكار التطبيع وعدمه شائعة . غدا أكثر الرجال بلا عمل ، علما بأن عملهم كان ، من قبل الاحتلال ، عملا موسميا .
أكثر رجال المخيم يعملون في الكسارات أو في الأشغال العامة أو عمال نظافة في وكالة غوث اللاجئين ، وهناك بعض نسوة كن ممرضات في عيادة المخيم ، أو كن موظفات في قسم الرعاية ، يطبخن ويقدمن الوجبات لأطفال المخيم ، وثمة معلمات في مدرسة الوكالة ، ونادرا ما كانت نساء المخيم يعملن . كن ربات بيوت يطبخن وينجبن ويربين اولادهن وحسب .
فجأة جاء سماسرة العمل وأخذوا يسالون عن نساء عاملات ، وكنت دليلهم ، أقودهم في زقاق المخيم ، وندخل البيوت لنسأل عن فتيات عاملات . المصانع الإسرائيلية بحاجة إلى العمال ، والفقر ابن حرام ، والدول العربية انهزمت بعد أن هزمت الفلسطينيين من جديد .
في تلك الأيام أخذت بعض النسوة تعمل في المصانع الإسرائيلية ، وكان هذا موضع استهجان:نساء يعملن في مصانع اليهود.لقد ضاع الشرف العربي ثانية وهذه هي الهزيمة .
في روايتها " الصبار " كتبت سحر خليفة عن ردود أفعال الناس إزاء العمل في المناطق المحتلة في العام 1948 ، وكان الناس يقولون :
- العمل في اسرائيل خيانة .
وقد انقسم الناس إلى قسمين ، منهم من أخذ يعمل ، لأنه يريد أن يعيش ، فلا فرص عمل ، ومنهم من رأى في العمل خيانة وتعاونا مع المحتلين .
كان السماسرة يقدمون عروضا مغرية للنساء ، حتى يقدمن على العمل ، ويتعهدوا بالمحافظة عليهن ، وأنهم سيقلونهم من المخيم وسيعيدونهم إليه ، وأن النساء بحفظ الله ورعايته ، وبدأت الشاحنات تأتي فجرا وتعود مساءو. شاحنات أشبه بشاحنات نقل الجنود ، وكان عذاب هؤلاء العمال ومعاناتهم المزدوجة ، وغربتهم القومية ، ذا حضور في بعض الأدبيات ، وحين كتب إميل حبيبي " المتشائل" 1974 أتى على وضعهم المأساوي ، وسارت سحر خليفة على خطاه ، ثم كتب غريب عسقلاني قصته " الجوع " 1978، وستظل حياة هؤلاء العمال موضوعا خصبا للأدباء يخوضون فيه .
قبل أربع خمس ست سنوات قرأت الكاتبة سعاد العامري ، من جامعة بير زيت ، وصاحبة الكتاب المتميز " شارون وحماتي " في حمام الشفاء ، في مدينة نابلس ، فصلا من كتابها الثاني " مراد "، ولكي تكتبه ، وموضوعه حياة العمال في ظل انتفاضة الاقصى ، فقد ارتدت ملابس الرجال ، وتسللت إلى فلسطين المحتلة 1948 ، مع العمال ، لتعيش تجربتهم في المعاناة ، وكانت سحر خليفة فعلت ، من قبلو، الشيء نفسه حين كتبت الجزء الثاني من روايتها " الصبارز" وعنوانه " عباد الشمس ".
الآن اتذكر انني سرت مع السماسرة ، لكي أدلهم على البيوت التي يمكن أن يعثر فيها على فتيات عاملات .
يا لوعيي البائس في حينه ، او يا لحياتنا في المخيم ، ومن بعد سنجد أنفسنا ادلاء لزوار أجانب قدموا إلى المخيم ليتعرفوا على حياة أهله .
خربشات 23/6/2016
***
20
الفرح عندما يخون (مع الاعتذار لمحمود درويش)
ما زلت اتذكره جيدا (غ.ق) صاحب محل زيت سيارات. قبل الهزيمة أخذت أعمل في محل بيـع قطع سيارات لشخص أظن أن اسمه وصفي يعيش.كان أبي يتعامل معه، وفي إجازة المدرسة قال لي: اقض العطلة في هذا المحل.كان ذلك قبل عام الهزيمة بعام، وكان أبي يجلـس فـي محـل (غ.ق) المقابل ، والجميع يتحدث في السياسة وتحرير فلسطين القريب ، ويوم ذهب الملك حسين إلى القاهرة ، قبل الهزيمة بأيام ، واتفق مع عبد الناصر ، موقعا اتفاقية دفاع مشترك، خرج أهل نابلس عن بكرة أبيهم إلى الشوارع يحيون البطلين،فقد تحقق لهم ما أرادوا قبل فترة وجيزة "بدنا الوحدة
باكر باكر ، مع هالأسمر عبد الناصر"،وتناسى الناس تظاهراتهم ضد الملك الاردني ، إثر احداث
السموع، وتناسوا تخوينهم له.
كان (غ.ق) متحمسا للحرب، وهتف بحياة عبد الناصر، وكنت ألاحظ مقدار فرحه باللقاء، ومقدار
حبه لعبد الناصر.كما لو أن الرجل كان مستعدا لأن يضحي بنفسه، كما لو أنه على استعداد لحمل
السلاح والذهاب إلى أرض المعركة فورا. ولم يكن الوحيد المتحمس لهذا، فابي تـرك عملـه، قبل الحرب بأيام ، وانضم إلى مجموعة المتدربين الذين انتظموا في طوابير ، فـي الصـباح، وتدربوا على حمل السلاح.لم يكن يخطر ببال أي منا أنه قد يستشهد ، مخلفا وراءه ثمانيـة أبنـاء مـع زوجة. كل شيء في سبيل يافا يهون.
فجأة أخذ الناس يتحدثون عن (غ.ق)، فقد أخذ يستورد زيت السـيارات مـن اسـرائيل، واختلفت
أحواله وأصبح يلعب بالنقود، والرجل ناصري الميول نسي ميوله أو تناساها في سبيل الحصـول
على لقمة العيش، مثله مثل آخرين ، ومثل بعض الشرطة الذين عادوا إلـى وظائفهم، واسـتبدلوا
نجمة بتاج، وأخذوا يداومون في مقر الشرطة، وكان من بينهم (أبو ع.ح)، وقد كثرت حوله الأقاويل وانتشرت ايضا حول سلوكه الشائعات، وبعد أشهر قليلة، سينتشر في المدينة خبر مقتـل عملاء، كان (غ.ق) و(أبو.ع.ح) منهم.
في المساء كانت أصوات الرصاص تلعلع، وأحيانا، ونحن نيـام فـي غـرف المخـيم واطئـة السقف، كنا نرى لمعان الرصاص يكاد يلامس أسطح الغرف، وقد فكر أبي فـي تـرك المخـيم، والإقامة في المدينة.
***
21
شكاديما توف يا خواجة
على طرفي المخيم ،قرب المدرسة الصناعية وقرب مدرسة البنات كان هناك كرما لوز. ولما كانت الهزيمة قد حلت فلم يعد هناك حراس، وغدا الكرمان مستباحين لأبناء المخيم الـذين أكلوا اللوز كما لم ياكلوه من قبل، فلا حارس ولا مخفر شرطة يمكن أن يـذهب إليـه صـاحب الكرم.
بعد فترة،حين غدت الضفة كلها حديقة حيوانات للاسرائيليين، حيث بدأت زياراتهم لمدن الضفة،
أخذ المواطنون يعرضون بضاعتهم للبيع، وكان من بينها اللوز.
(شكاديما توف يا خواجة، شكاديما توف) كان أصحاب بعض المحلات في المدينـة يصـرخون، عارضين ما لديهم من لوز جف وبقي بقشره. ونظرا لأن العبـارة تكـررت مئات،بـل آلاف، المرات فقد ظلت عالقة في ذهني،وكلما مررت بالمحلات التي كانـت تعـرض اللـوز للبيـع، تذكرت تلك الايام.
أصحاب المحلات ريفيون، وكانت شوالات اللوز تتكوم أمام محلهم، وكانوا يصرخون (شـكاديما
توف يا خواجة شكاديما توف)، ولم يعد الناس يخافون ملتزمين بيوتهم، فقد بدأت الحياة تعود إلى
طبيعتها. كما لو أن الناس لم ينهزموا، وكما لو أن لسان حالهم يقول: حمار حي خير مـن أسـد
ميت، ولا بد من أن تسير الحياة.
(شكاديما توف يا خواجة، شكاديما توف) وسيبيع الناس ما لديهم مـن بضـاعة، وسيشتري
الإسرائيليون ما يعرض عليهم فرحين راضين، وربما عن قصد،حتى يفرغوا الضفة من مخزونها، وحتى يقبل أهل الضفة على شراء البضائع الإسرائيلية، وكما ورد ، لاحقا، في قصص خليل السواحري (مقهى الباشورة) فإن ما أكله الفلسطينيون بيضا سيخرجونه فروجا، وأن الاحتلال، كما
قال سعيد لأبي بلطة "مثل الفجل ، أوله منافع وآخره مدافع."
كما لو أن العبارة ما زالت تتردد.إنها ترن في أذني الآن (شكاديما توف يا خواجـة ،شـكاديما
توف)
وربما كان يراودني السؤال: من أين عرفوا معنى كلمة "لـوز" وأنـه (شـكاديما)، ولا شـك أن
اسرائيليا سالهم عن سعره، ونطق المفردة العبرية أمامهم فلقطوها، وبعد سنوات، وحين قرات رواية إميل حبيبي (المتشائل) فهمت أن الحاجة أم الاختراع، فقد أتى على تعلم سعيد اللغة العبرية
واتقانها وإلقاء خطاب بها في الكنيست، بل وأتى على تعلم تجار أهل نابلس، بخاصة صـبانوها وتجار ال(شايش)، العبرية بسرعة،وعلى رأيه ، فإن حاجة القوم ارخصت أمهاتهم، ولعل الذاكرة
لم تخني.
***
22
( تشوش الذاكرة )
( كله بليرة يا خواجة ) :
كل شيء غدا قابلا للبيع . هزمنا وجاؤوا . ماذا سيفعل الناس . أفواج الإسرائيليين تغزو مدن الضفة . ال ( باصات ) وال( تركات ) ، وهم يأتون جماعات جماعات ، والناس تريد أن تبيع ( كله بليرة يا خواجة ) . الاسكيمو( ارتيكا توف ) والعلكة ومطبقيات الأعراس .
في تلك الأيام انتقلنا من المخيم إلى المدينة ، وأقمنا في غرفتين لزوج خالتي . ربما هو الخوف الذي جعلنا نعود إلى المدينة ثانية ، وربما هو الاشتباكات الليلية ، وما ينجم عنها .
في النهار كان الأمر عاديا . كل شيء عادي ، وفي الليل يبدأ الرصاص يلعلع .
كانت خالتي تحتفظ بهدايا الأعراس ، من مطبقيات ، وكان لديها كم كبير منها . كلما حضرت عرسا احتفظت بالمطبقية ، وجاء أوان بيعها . و سأجد نفسي في شوارع نابلس ، وعلى دوار المدينة ، وقرب المشفى الوطني . سأجد نفسي اصرخ مع الصارخين ( كله بليرة يا خواجة،كله بليرة ) ، وكان ثمة من يسخر منا ، ويغمز ويلمز .
لقد بعت المطبقيات أكثرها ، وكنت أعود إلى خالتي بالليرات الوفيرة ، فتسر لها،ولم نكن نفكر فيما هو أبعد من البيع والعودة بالليرات . لم يكن ثمة وعي وطني. كأننا ، أكثرنا ، كنا مثل( غ . ق ) ، يعني مشاريع متعاونين ، بطريقة أو أخرى ، ولهذا عودة .
وما إن انتهيت من بيع مطبقيات خالتي حتى وجدتني أبيع العلكة الشائعة في حينه . اشتري علبة من العلكة وادور أصرخ مع الصارخين ، وربما بصوت رخو ، كما لو أن فيه مذلة . فها نحن نستجدي من المحتلين بعض ليراتهم واغوراتهم ( كله بليرة يا خواجة ، كله بليرة ) .
الشوارع مكتظة الإسرائيليين ، والناس في الشوارع تبيع . هل كنا نلتفت إلى نظراتهم ونقارنها بنظراتنا ؟ هل كنا نتساءل عن انكساراتنا وانتصاراتهم أم أننا كنا اصغر من ان ندرك معنى الهزيمة ؟
فيما بعد ساواصل مسيرتي التعليمية ، وسيدرسني أستاذ تاريخ شاب درس في بغداد وكان متحمسا جدا ووطنيا ويؤمن بالعرب والعروبة ، ولكن ما إن حلت الهزيمة حتى لجأ إلى الصمت ، ولم يعد يخوض في السياسة ، وكأنما غدا شعاره ( ما فيش فايدة،غطي لي راسي يا صفية ) ، وسيشار إلى الست يسرى صلاح ، وكانت موجهة للغة الانجليزية بالبنان ، فلقد رفضت ان تاخذ هوية اسرائيلية ، لأنها ظلت رافضة للاحتلال وغير مصدقة أنه وقع . وظلت الست يسرى صلاح تقيم في نابلس ، ولم تغادرها،حتى وفاتها .
( كله بليرة يا خواجة،كله بليرة ) ، وإذا كان الخواجة يملك نصف ليرة ، فماذا نحن فاعلون ؟ هل نعطيه النصف ؟
لقد أخذوا البلاد كلها بنصف ليرة ، ولا أدري إن كانوا دفعوها .
خربشات
26 / 6 / 2016
***
23
مخافر الشرطة مراكز شباب ، والسجون مدارس وجامعات
لا أذكر ما الذي دعاني إلى ترك المدينة والعودة إلى المخيم.ربما طلبت مني أمي أن آخذ الخبز
إلى الفرن القريب من سكننا الجديد فرفضت وضربتني ،ووجدت نفسي عائدا إلـى بيتنـا فـي
المخيم.
مخفر الشرطة الذي حجزت فيه قبل الهزيمة بأيام، لساعات،لأنني بصقت في إبريق الست زكية
الممرضة التي اعتدت على دوري بتعبئة المياه ،مخفر الشرطة غدا مركز شباب.
قبل الهزيمة لم يكن هناك مركز شباب مستقل في المخيم،وكان مركز الرعاية ،وهو المطعم الذي
يقدم الوجبات لأبناءاللاجئين،وكذلك الحليب لأبناء المدارس،،كان المركز يتحول فـي سـاعات
المساء إلى مركز شباب،وتحديدا بعد الرابعة عصرا.ثمة طاولة للعـب التـنس ،وثمـة مجلـة
حائط،وثمة مسابقات شعرية ،وثمة طاولات نرد ،وهناك أبو حسين الذي يقدم الشـاي للشـباب، بأسعار رمزية.
جاءت الهزيمة لتحل المشكلة ،فاﷲ يكسر جملا ليتعشى واوي،وغدا مركز الشرطة نادي شـباب
المخيم،وكانت وكالة الغوث هي من أشرفت عليه،ولأن المدارس عطلت ،وهي أصلا كانت فـي
عطلة ،فقد أخذ النادي يفتتح في ساعات الصباح،وهناك يتجمع الشباب ،ليمارسوا الألعاب إياهـا
،وسيواصل أبو حسين تقديم الشايبثمن زهيد.
مخفر الشرطة غدا مركز تثقيف،ففيه تعقد المبارزات الشعرية وفيه يجتمع بعض الشـباب مـع
موظف الوكالة عبد المنعم البوز المتخصص في الفلسفة ليتحـدث عـن الوجوديـة وسـارتر
واسبنيوزا وأسماء أخرى)ها هنا حجزت ذات يوم،لانظف المـراحيض عقابـا علـى فعلتـي
الشنيعة:كيف ابصق في إبريق العيادة ،إبريق الست زكية.هنا جلدت بالكرباج ،قبل أن اغدو ،بعد
أيام ،طابورا خامسا،لأنني فقط أجبت أحد أصدقاء ابي عن سؤاله:مـاذا رأيـت فـي شـوارع
المدينة؟(
بعد سنوات من الاحتلال سينضم شباب كثيرون إلى حركة المقاومة الفلسطينية،وسيدخلون السجن
بعد أن ألقي القبض عليهم.ستنسف بيوتهم،وسيقضون ،في السجن ،سنوات،وسيشيع التعبير التالي
عن السجن":وردة لازم الكل يشمها)"يا لتعسي لم اسـجن ،ويبـدو أننـي لـم اكـن مواطنـا
وطنيا،والحمدﷲ على ما جرى،فبعض المناضلين تحولوا إلى لصوص بارعين،بعضهم،ورحم اﷲ
الشهداء ومنهم راضي).(سينتقل مركز الشباب إلى مكان قريب وسيتحول المكان/المخفـر الـى
مركز خياطة(
وحين أعلم في الجامعة،بعد سبعة عشر عاما من الهزيمة سيكون خريجو السجون من الطـلاب
المتميزين،فهل أقول إن الاحتلال عاد علينا ببعض الفوائد؟)ليتنا بقينا حميرا وبلا احتلال(
)ستكتب سحر خليفة في روايتيها"الصـبار"1976عبـاد ،و الشـمس"1979عـن السـجناء
وثقافتهم،واعتقد انه لولا هؤلاء الذين امدوها بالمعلومات عن تجربـة السـجن ،لمـا انجـزت
روايتيها،واخص بالذكر هنا)ابو العز،بلال الشخشير.(
***
24
بين ريتا وعيوني
الشاحنات الإسرائيلية تملأ شوارع المدينة.الإسرائيليونيتجولون في مدن الضفة.إنهم الفـاتحون
الجدد وقد أصابهم الغرور.لقد انتصروا ،واخذنا نسـتقبلهم عارضـين بضـائعنا،وهم يـدفعون
ويشترون فرحين.
في معسكر الجيش الأردني السابق ،في مخيم عسكر ،يركنون شاحناتهم،ليتناولوا وجباتهم.فتيات
يهوديات بضات ممتلئات،يرتدين الملابس الصيفية الأنيقـة التـي تليـق بالانتصـار السـريع
السهل،ونحن نتجول أيضا في المعسكر نصرخ على بضاعتنا)ارتيك،ارتيك توف.(
في تلك الأيام كانت معامل الاسكيمو في نابلس تعمل ،معمل الأرز ومعمل الافرست/ركب).ما
زال مصنع الارز يعمل،وأما مصنع الافرست فقد أغلق ولا أدري متى.(
يتجولون في المعسكر ويجلسون بين الأشجار ،كما لو أنهم في نزهة.كما لو أن المعسكر لم يكن
،ذات يوم،معسكرا لجيش سيحارب.أين الدبابات،وأين المدافع؟ربما بقيت في الأغـاني ،وربمـا
كانت الحرب في الأغاني. (مرحى لمدرعاتنا ،رمز القوة لبلادنا،مرحى مرحـى مرحى،مـدفع
وعيار كبير...الخ)
أين نحن من الفتيات البضات الممتلئات الجميلات الانيقات ؟
ومع أنني كنت من أسرة لا تعد فقيرة فقرا مدقعا،ومع أن أبي كان سائقا واحوالنا عادية ،إلا أن
المرء كان يلاحظ الفرق بين ثراء المحتلين وفقرنا.بين الملابس الأنيقة وبين ملابس)البقج(التي
يرتديها اكثرنا.
وسأظل أتذكرها تلك الفتاة اليهودية البضة.وفيما بعد،حين أقرأ أشعار محمود درويش،سـاكرر
"والذي يعرف ريتا،ينحني ويصلي لاله في العيون العسلية."لقـد كـان فقرنـا وبؤسـنا ،فـي المخيمات،وهو ناجم عن خروجنا من بلادنا في العام1948،أمام الثراء الإسرائيلي ، لافتا (مـا
متع اسرائيلي إلا بما جاع به فلسطيني..)
فيما بعد،وأنا أقرأ الأدبيات العربية وأبحث عن صورة اليهود فيها،كنت أقرأ تصـورات نمطيـة
لهم،منها أنهم يتسمون بالبخل،ولم يخطر ببـالي ،فـي حزيـران1967،أننـا ،خـلال فتـرة
قصيرة،سنعيش ،في بيوتنا،على ال)التي ساخه)(altesache(التي سيبيعونها،بل التي سيتخلصون
منها.لقد أغرقت الضفة ،خلال فترة ،بالثلاجات ال)امكور(المصنوعة في اسرائيل،وما من بيـت
أخذ يخلو منها.لقد احتوت بيوتنا زبالة الإسرائيليين ،وكان أهلنا يشترونها فرحين.لقد صار فـي
بيوتنا ثلاجات.
(ارتيكا،ارتيكا توف يا خواجة)
***
25
( تشوش الذاكرة )
( الساحرة المستديرة )
في المخيم ستعود الأمور إلى ما كانت عليه : مشاكل تأمين المياه من عين المخيم أو من نبع عسكر البلد ، خبز العجين في الأفران ، استلام المعونة الشهرية من وكالة الغوث( طحين وسكر وأرز وسمن وبعض حبات من التمر ) ، و...والفراغ . ( في أثناء توزيع المؤن ، أي مساعدات الوكالة ، كانت تحدث مشاكل كثيرة ، منها احتكاك بعض الرجال بالنساء ، وأحيانا كانت تتولد طوشات بين الناس ، وكان ابناء المخيم يراقبون بعض الشاذين ، ممن يستغلون المناسبة لممارسة كبتهم ، والأمر ليس مقتصرا على المخيم ، على اية حال ) ( حين درست في الجامعة الأردنية في العام 1972 طبقت الجامعة نظام الساعات المعتمدة ، وكان على الطلبة ان يسجلوا موادهم في مبنى التسجيل ، حتى يعتمدوا على انفسهم ، وكجزء من بناء شخصية الطالب ، ولأننا كنا منظمين جدا ، فلم ننتظم في صفين ، أو صف واحد ، وكانت الفوضى واضحة تذكر بمقولة ( موشي دايان ) وزير الدفاع الاسرائيلي" سينتصر العرب ، حين يعرفون النظام " ، وحدث من بعض الطلبة ما حدث في المخيم ، في اثناء توزيع المؤن ،، و .. و .. ) ( فيما بعد ، حين اقرا غسان كنفاني وقصته " زمن الاشتباك ، أو الصغير يذهب الى المخيم " سأظل أردد العبارة " وكنا نتقاتل على كل شيء " )
طلاب المدارس في عطلة ، والذين يبيعون البضائع للإسرائيليين في ساعات الصباح ، ويعودون إلى المخيم ، في ساعات المساء ، لديهم وقت فراغ كبير ، فماذا يفعلون ؟
إنها الساحرة المستديرة ، ولقد حولوا المساحات الفارغة بين البيوت ، إلى ملاعب كرة طائرة ، ومن لم يفعل فهناك ملاعب السلة في مدرستي الإناث والذكور ، وحرس المدرستين لا يعارضون ، ولكن اللعبة الأكثر شعبية كانت هي كرة القدم .
في السابق ، قبل حزيران الهزيمة كان أبناء المخيم يمارسون هذه اللعبة في السهول الكثيرة الواسعة المحيطة بالمخيم من كل اتجاه ، فلم تكن البلاد ، ولا المخيمات ، قد ورمت ، كما سيحدث منذ مجيء السلطة الوطنية في 1994. كل حارة ولها ملعبها ، وهناك مباريات بين الحارات ، ولكن الملعب الدولي كان ملعب المدرسة الصناعية القريبة جدا من المخيم .
قبل 5/6/1967لم يكن أبناء المخيم يقدرون على استخدام الملعب كما يريدون، فهو خاص بالمدرسة ولا بد من إذن ، وبين الملعب والمخيم كان هناك معسكر الجيش ، وأظن أن الملك حسين كان زاره ، كما زار المخيم ، ذات عام ، لقد غدا الملعب مستباحا . وغدا أيضا مكانا لإجراء المباريات بين فرق الحارات ، بل وفريق مخيم بلاطة . هناك ،في الملعب تجمع عشرات الشباب لممارسة لعبة كرة القدم . لقد كانت نوعا من الحل لقتل وقت الفراغ الرهيب ، ولتحقيق المتعة ، وستغدو الرياضة ، وكرة القدم تحديدا ، ولسنوات لاحقة شاغل الشباب وهاجسهم ، وستعقد المباريات في نابلس وفي البيرة وفي جمعية الشبان المسيحية ، بل وفي غزة ، وكثيرون زاروا غزة ، في 70 و 80 ق 20 بسبب المباريات ، وصار لنا نجوم نتحدث عنهم ، وكما ذكرت ، من قبل ، فقد كان الغزيون الذين استقروا في المخيم يعيروننا بملاعبهم : هي نابلس مدينة وفيها ملاعب ، يقولون ساخرين ، ويتابعون : الملاعب في غزة . وبردة فعل طفولية كنا نرد عليهم : هي غزة مدينة.عودوا إلى غزة .
لم أكن ، ذات يوم ، لاعب رياضة متميزا ، لا في كرة القدم ولا في كرة الطائرة ولا في كرة السلة ، وفقط في لعبة التنس ، في نادي المخيم كنت لاعبا لا بأس به ، ولكني لم أكن محترفا ، ومع ذلك فقد كانت طاولة التنس مخرجا لحل مشاكلنا النابعة من كثرة الوقت . ) ( فيما بعد،وفي 70 ق 20 ، وحين يدخل التلفاز إلى البيوت سأتابع مباريات كأس العالم بشغف ، وستتواصل هذه العادة حتى اليوم ، وهذا العام أتابع مباريات الأمم الأوروبية بشغف وكعلاج لقلة النوم )
حربشات 29/6/2016
***
.../...
يتبع
(2018 )
أمشي كأنني واحد غيري :
( حزيران الذي لا ينتهي )
كثيرة هي الروايات التي يلجأ كتابها فيها إلى خدعة ما ، كأن يخترعوا ، مثلا ، شخصية وهمية يقولون ، من خلالها ، ما يريدون قوله ، وربما كانت المقامات ، في الأدب العربي القديم ، مثالا جيدا على هذا . لقد اخترع بديع الزمان الهمذاني راويا هو عيسى بن هشام وتركه يقص الحكايات / المقامات ، كما لو أنه يريد أن يدفع عنه أي اتهام ، أو أن يرد عنه أي أذى يمكن أن يلحق به ، لو تشابهت أحداث مقامة ما مع حدث معيش مشابه . وربما لم يكن هناك إمكانية لأن يبدأ صاحب المقامات كتابه بما يلجأ إليه الكتاب المعاصرون حين يصدرون رواياتهم التصدير المألوف ، درءا لأية إشكالية قد تلم بهم " أي تشابه بين شخصيات هذه الرواية وشخصيات في الواقع تحمل الاسم نفسه هو مجرد صدفة " .
هكذا أعفى صاحب المقامات نفسه من أية مساءلة ومن أية مسؤولية تترتب على تشابه ما في المقامة والمحيط ، ولم تكن فكرة المؤلف الضمني شائعة ومعروفة في حينه ، حتى يقال إن عيسى بن هشام هو المؤلف الضمني للمقامات ، وأما بديع الزمان فهو كاتبها ، وثمة اختلاف بين الكاتب الحقيقي والمؤلف الضمني .
والحقيقة أن فكرة المؤلف الضمني التي كتب عنها ( واين بوث ) في كتابه عن فن الرواية ، ما زالت موضع جدل بين النقاد ، وما زالت تثير أسئلة عديدة حولها ، بل وتثير جدلا حادا ، فمن ناقد يأخذ بها ويدافع عنها ، ومن ناقد يراها مجرد لعب فني ، وأنه لا فرق بين المؤلف الضمني والمؤلف الحقيقي ، ومن الأخيرين الناقد الجزائري عبد الملك مرتاض في كتابه " نظرية الرواية " 1998 .
شخصيا لم أرفض فكرة المؤلف الضمني ولم آخذ بها على أنها مقولة مسلم بها ، وقد ظللت أسائلها وأفكر فيها منذ سمعت بها ، وتحديدا في العام 1990 ، وكلما قرأت رواية أخذت أنظر في السارد واحدد طبيعته وأبحث عن كينونته الخاصة ، إن استطعت تحديدها ، وأخذت أنظر أيضا في الشخصيات الروائية وفي ملامحها الخاصة ، لأرى مدى اقترابها من المؤلف الروائي / الكاتب وابتعادها عنه ، وقادني هذا إلى كتابة دراسات تطبيقية في الموضوع ، تتبعت فيها ما أعرفه عن الكاتب وما ورد عن المؤلف الضمني في روايته ، بل وأخذت أنظر في الشخصيات الروائية نفسها ، لأطابق أو أمايز بين : الكاتب الروائي والسارد أو المؤلف الضمني والشخصية الروائية ، وهؤلاء الثلاثة قد يتطابقون ، فيكونون شخصية واحدة ، بخاصة في رواية السيرة ، وقد يختلفون ، فيكونون ثلاثة مختلفين ، لا صلة بينهم . وما ذهبت إليه كان نقاد سابقون توقفوا أمامه ، وربما تعود أهمية ما كتبت إلى أنني فتحت بابا في هذا الأمر في الأدب الفلسطيني ، في داخل فلسطين ، إذ لا أعرف من نقادنا من التفت إلى الأمر وتوسع فيه ، وكانت دراستي لرواية إميل حبيبي " خرافية سرايا بنت الغول : إشكالية المؤلف والراوي والشخصية ،" ( مجلة مشارف الحيفاوية ،حزيران ،ع16 1996 ) واحدة من تلك الدراسات .
وظل الموضوع يشغلني عموما ، وفي تناولي الأخير لرواية الكاتب اللبناني إلياس خوري " أولاد الغيتو،اسمي آدم " ( مقال الأحد ، آذار ونيسان وايار وحزيران وتموز وأب 2016 ) بحثت عن إلياس في روايته من خلال بطلها آدم ، وتساءلت عن الفارق بين الروائي وبطله ، وقادني هذا إلى كتاب الناقد السوري المعروف جورج طرابيشي الذي ألف كتابا عنوانه " الروائي وبطله ، مقاربة اللاشعور في الرواية العربية " 1995 ، وفيه لا يذهب إلى التوحيد بين البطل الروائي والكاتب . إنه يقارب لاشعور البطل باعتباره مستقلا عن خالقه .
وستظل فكرة المؤلف والمؤلف الضمني تلح علي ، وسأظل أسائلها واقاربها . هل شهرزاد هي المؤلف الضمني لكتاب " ألف ليلة وليلة " الذي لا نعرف مؤلفه الحقيقي؟ وعليها قس .
وأنا أكتب " حزيران الذي لا ينتهي " ، خلال أشهر حزيران وتموز وبدايات آب ، وجدتني أكتب بطريقة أبدو فيها كاتبا ساخرا ، بل وساخرا من الذات أيضا ، وهذ السخرية ليست طبعا أصيلا في ، فأنا شخص جاد ولا أميل إلى السخرية ، وهكذا وجدت فارقا بين طبيعتي وبين الشخص الذي يبدو في النص . كأنني واحد غيري .
وأنا أتراسل مع إحدى صديقات الفيس بوك ، لمدة ساعة ، وجهت لي نصائح وسألتني عن أحوالي . ووجدتني أكتب لها إنني أعيش أقسى درجات العزلة وأقصاها أيضا ، وإنني لم أعد أرى أفقا .إننا في ورطة في عالم العبث واللاجدوى الذي يعيشه العالم العربي ، وكانت كتابتي ردا على سؤال تسألني فيه عن قدرتي خلق قدر من الانسجام في حياتي ، وكيف أستطيع أن أعيش بقدر من الانسجام في ظل المحيط القاسي والمؤلم .
سأكتب لتلك الصديقة : إن ما يبدو في سلسلة " حزيران الذي لا ينتهي " لا يعكس شخصيتي أنا ، فأنا جاد ولست ساخرا ، ولكن روح شعبي تلبستني وأنا أكتب ، وهذه السخرية وتلك الدعابة التي في النص هما ما يبدوان لدى بعض أبناء شعبي ، وغالبا ما كنت ، وأنا أكتب ، استحضر شخصياتهم وروحهم .
هل ما سبق يوضح فكرة المؤلف الضمني ، لي ولغيري ، وهل أصبحت أكثر اقتناعا بأن المؤلف الضمني هو غير الكاتب ؟
هذه الكتابة هي شظايا ذاكرة ، وقد كنت كتبت بعضها في بعض قصصي ، وقد كنت شرعت في كتابتها في العام 1979 / 1980 ، فنشرت ثلاث رسائل ، في جريدة الفجر ، تحت عنوان " رسائل من المخيم ، وبقلم : عادل الراوي " ، وكنت يومها واقعا تحت تأثير رواية إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل " .
وكما كتب محمود درويش في إحدى قصائد " لا تعتذر عما فعلت " 2003 :
أنا ملك الصدى
لا عرش لي إلا الهوامش . والطريق
هو الطريقة ، ربما نسي الأوائل وصف
شيء ما أحرك فيه ذاكرة وحسا
**********
لما كتب إميل حبيبي روايته " المتشائل " لاحظ بعض قرائها أنه يقلد رواية ( فولتير ) " كنديد " ما دفعه لأن يرد عليهم في الجزء الثاني ، وكان هؤلاء القراء قالوا " تحفز الأستاذ ليشب ، فوقع دون كنديد مائتي عام " - أي أن إميل كتب بأسلوب القرن الثامن عشر ولم يأت بجديد .( انظر دراستي عنها في كتابي " أوراق مقارنة في الأدب الفلسطيني " 2015 )
*****
هذه الكتابة كتبتها مباشرة على الفيس ، ولم أجر عليها تعديلات إلا فيما يمس الأسلوب والأخطاء الطباعية.
***
1
( في الخامس من حزيران 1967:
كنت يومها في الإجازة الصيفية ، ووجدت عملا نادلا في مقهى في نابلس ، صاحبه جارنا من مخيم عسكر ، وهو لاجيء من اللد ، ومات الرجل ، وما زال المقهى مقهى ، حتى اليوم .
أحيانا أفكر في الجلوس في المقهى ، ثم أجدني أسير وأسير .
هل وزع صاحب المقهى ، يومها ، الطلبات مجانا ؟
لا أذكر ، وما أذكره أن الناس كانت تردد ، فرحة :
عبد الناصر يا حبيب
اضرب اضرب تل أبيب .
كنت أتابع الأخبار التي تابعها الناس من خلال استماعهم إلى إذاعة " صوت العرب " ومذيعها أحمد سعيد الذي تحدث عن إسقاط الطائرات كالذباب . وكان البيان الأول يتحدث عن إسقاط 23 طائرة ، بلغت في المساء 48 .
لم نسأل عن الطائرات العربية ، وكانت طائرتا ال ( هوكر هنتر ) لسلاح الجو الأردني تمر فوق سماء المخيم ، وكما أسقط المصريون الطائرات فقد احتل الجيش الأردني ، في البلاغات جبل المكبر ، وكذلك في الأغاني :
"هلل كبر هلل كبر ، احتلينا جبل المكبر " ، وأما الجيش السوري فقد وصل إلى طبرية .
في المخيم كان الناس في بيوتهم ، وكنا ، نحن الصغار ، لا نلتزم بالتعليمات ، وما زلت أذكر جنديا أردنيا يقود دبابته .
توقف الجندي في وسط الشارع الرئيس ، وهبط من دبابته ، وأخذ يبحث عن برغي ما أو شيء ما إثر فقدانه السيطرة على قيادة الدبابة .
هل نبقى في المخيم ؟
ولم يجد الظافر والقاهر شيئا ، ووجدتني مساء ، محشورا في بيت خالتي أم عارف ، في البلدة القديمة ، من نابلس ، مع أهلي ، ومع جارتنا وأولادها .
تلك الأيام ، يا للهزيمة في مساء اليوم التالي .
***
2
كم رجل وكم امرأة كان في بيت خالتي أم عارف في ذلك اليوم الحزيراني؟
الرجال في غرفة والنساء في أخرى ، وأتجول في شوارع المدينة .
المدينة شوارعها خالية وأنا أسير ولا أذكر شيئا أكثر من هذا . بحثا عن صيدلية لشراء مسكن لوجع أسنان أمي . وتشغلني أفلام السينما فاتفقد مناظرها وواجهات العرض : سينما العاصي ، سينما غرناطة ، سينما ريفولي .
الناس بإيش وانا بإيش.
طفل في ال13 من عمره والحرب في بداياتها .
سينما وأبحث عن أفلام السينما .
خربشات
6 / 6 / 1967
***
3
الشوارع خالية وليس فيها إلا قليلون . بدأت الهزيمة تلوح في الأفق مع انكسار صوت المذيع .
وأنا أبحث عن مسكن للأوجاع صادفت امرأة من قلقيلية فسألتها من أين وماذا تريد ؟
المرأة قالت لي :
- اليهود احتلوا قلقيلية .
وأنا عائد إلى بيت خالتي رأيت الرجال ، ومنهم أبي ، جالسين أمام دكان الحلاق ابن اللد ومعهم بنادقهم ، ولما سألوني ماذا رأيت على الدوار أجبتهم بما قالته المرأة ،
سيلطمني الحلاق على وجهي وسيقول لي : طابور خامس .
وأنا أفر - أي أهرب لا أشخ - كانت الطائرات الإسرائيلية تلقي منشورات على المدينة تطلب من سكانها الاستسلام ورفع الأعلام البيض . وسأظل ، كلما رأيت أبا محمود ، سأظل أذكره بالكف الذي ضربني وبعبارته لي ، ولم أكن أفهم معناها ، ولا أدري إن كان هو أيضا يفهم معناها .
بعد 35 عاما تقريبا سيستشهد الحلاق ، وهو أبو محمود صبرة ، برصاصة إسرائيلية ، في انتفاضة الأقصى ، وكان جالسا في بيته ولم تكن معه بندقية ، ولبنادق هؤلاء الرجال خربشة خاصة .
يا لي من طابور خامس منذ الخامس من حزيران .
***
4
بدأت الهزيمة تنجلي.كانت الطائرات الإسرائيلية تغير عصرا على أطراف نابلس وتقصف.وكان بيت خالتي مكتظا بالناس.غرفة بخمسين ستين رجلا وطفلا وثانية ومثلهم من النساء.ومرحاض واحد لهؤلاء كلهم.
الطائرات تغير والدبابة تقاوم والمدفع المضاد للطائرات يحاول شيئا.
هل كان اسم القائد (ابو هاشم )؟
سيشاع أن ضابطا اسرائيليا نزل من دبابته وأدى التحية العسكرية للشهيد أبي هاشم في وادي التفاح ، لأنه قاوم مقاومة باسلة ولم يترك دبابته لينجو بنفسه.
ساعات المغرب كان ثمة خوف وصمت . صمت بدأ يخيم فقد صمتت المدافع مساء وما عادت الطائرات تغير .
ماذا كان الرجال يفعلون بالبنادق؟
جارتنا القادمة من المخيم ( أم الشكر ) كانت تفكر بزوجها . ماذا سيفعل حين يعود ولا يجدها وأطفاله في البيت ؟
خربشات 8/6/1967
***
حزيران الذي لا ينتهي: استدراك
وأنا أمسح شقتي ، هذا الصباح ، تذكرت المرحوم المغفور له بإذن الله الملك حسين وخطابه في حزيران في نهاية الحرب :
خرمشوهم بأيديكم بأسنانكم . ( لماذا غضب مني صديقي حين قيل له : إنني وصفته في نصي " ليل الضفة الطويل " ١٩٩٣ بأنه كلب ، علما بأنني لم أذكر اسمه ؟ ) .
قلت : لعل خربشاتي هذه مستوحى عنوانها من خطاب جلالة الملك .
لعل هناك صلة بين خرمشات وخربشات . حكامنا أيضا ملهمون لنا .
8 / 6 / 1967 :
(حزيران الذي لا ينتهي ) 4
بدأت الهزيمة تنجلي.كانت الطائرات الإسرائيلية تغير عصرا على أطراف نابلس وتقصف.وكان بيت خالتي مكتظا بالناس.غرفة بخمسين ستين رجلا وطفلا وثانية ومثلهم من النساء.ومرحاض واحد لهؤلاء كلهم.
الطائرات تغير والدبابة تقاوم والمدفع المضاد للطائرات يحاول شيئا.
هل كان اسم القائد (ابو هاشم )؟
سيشاع أن ضابطا اسرائيليا نزل من دبابته وأدى التحية العسكرية للشهيد أبي هاشم في وادي التفاح ، لأنه قاوم مقاومة باسلة ولم يترك دبابته لينجو بنفسه.
ساعات المغرب كان ثمة خوف وصمت . صمت بدأ يخيم فقد صمتت المدافع مساء وما عادت الطائرات تغير .
ماذا كان الرجال يفعلون بالبنادق؟
جارتنا القادمة من المخيم ( أم الشكر ) كانت تفكر بزوجها . ماذا سيفعل حين يعود ولا يجدها وأطفاله في البيت ؟
خربشات 8/6/1967
***
5
المدينة تحت الاحتلال ، وثمة صوت يخاطب أهل المدينة بتسليم أسلحتهم وعدم إطلاق النار.
ويتساءل الرجال الذين بحوزتهم بنادق عما يفعلون : هل نسلم البنادق أم نحتفظ بها ؟
وسيختلفون في هذا ، والذين وافقوا خافوا من أن تكون القوائم التي وقعوا عليها ، يوم تسلم البنادق ، ما زالت في المقاطعة .
سيقر قرار أبي على تسليم بندقيته ، ومثله ابن خالتي ، خلافا لآخرين قرروا أن يلقوا بها في أماكن محددة ، ولكن من سيقوم بالمهمة ؟
سأجدني وابن خالتي يحمل كل بندقية الشخص الذي يخصه ، وكان ابن خالتي في مثل سني ، ونسير باتجاه مبنى البلدية الجديد ، حيث أعلن مكانا للتسليم .
على مقدمة البندقية شارة بيضاء ، دلالة على الاستسلام ، وبوز البندقية إلى الأسفل . ونسير بلا خوف ولا وجل .
شوارع المدينة فارغة ويسودها الهدوء ، وثمة فراغ ، وثمة شوارع بلا بشر . أهي مدينة النحاس تصفر فيها الريح ؟
ونمشي غير خائفين لإنجاز المهمة حفاظا على سلامة الكبار ، أنا أبي ، وابن خالتي على سلامة أخيه .
ولأول مرة أرى اليهود وجها لوجه .
أسلم البندقية وأعود من حيث أتيت ، تاركا مبنى البلدية الجديد والبنادق فيه تكوم ، البنادق الإنجليزية ام . واحد . الأشبه بالخشبة .
***
6
( المدينة تحت حكم جديد ) :
المدينة احتلت والمحتل يسمح لسكانها بالتجول فيها لساعات قليلة حتى يتسوقوا .
ماذا سنظل نفعل في بيت مكتظ بالبشر الذين ضاقوا ذرعا بالضيق ؟
جارتنا التي اتت معنا من المخيم مازالت تفكر بأمر زوجها وما زالت تشعر بالغربة في بيت هي ضيفة فيه مع ضيوف تعرفهم .
نغادر عائدين إلى المخيم مشيا على الأقدام ويبقى أبي خوفا من أن تكون هناك قائمة بأسماء الذين حملوا البنادق وتدربوا لقتال الاحتلال .
أسير وأهلي ونمشي فليس ثمة حافلات.الناس في سوق الخضار المركزي تفتش عما تبقى فيه من خضار لم يصبها التلف . مشاع . السوق مشاع ولا أخلاق في الحرب ولا فضيلة سوى فضيلة البقاء .
أسير ماشيا . وفي أول شارع عمان مقابل المقاطعة أرى الدبابات الإسرائيلية والجنود اوروبيي الملامح وايديهم على الزناد . أسير وأمي واخوتي لا أفهم شيئا مما جرى .
المدينة غدت محتلة والجيش دخلها من شرقها . وأهل المخيم ما زالوا في المخيم الا بعضهم ممن هرب إلى الحقول والشرق بحثا عن أمان . و الناس تتحدث عن ترحيب بعض السكان بالجيش الجزائري ذي الملامح الأوروبية . الناس تتحدث عن الزغاريد التي قوبل بها الجزائريون القادمون لتحرير فلسطين لولا مزحة بعض الجنود الذين وجهوا مدافع الدبابات باتجاه المرحبين بجيش الجزائر ولولا التفات بعض الأهالي الكبار إلى الحروف العبرية على الدبابات وتحذير الناس من ان المحررين هم أبناء عمنا اليهود حررونا من إخوتنا الأردنيين وربع اقلب .
الأهالي ما زالوا يصغون إلى صوت العرب وفي المساء يعرفون ،من خلال صوت عبد الناصر أننا خسرنا الحرب وأن نكسة المت بنا .
10 / 6 / 1967
***
7
عدنا إلى المخيم مهزومين ولم نعد إلى يافا، وحي النزهة فيها، منتصرين
كثيرون من شباب المخيم في الحقول المحيطة ومنهم من رحل إلى الأردن هاربـا مـن عـدو
ارتكب مذابح في دير ياسين واغتصب النساء فيها.
سأعود إلى ما كنت عليه قبل العودة.توفير المياه لأهلي وخبزالعجين في فرن أبو توما الذي كان
بلا توما وبلا امرأة ايضا.
قبل أيام كنت أحصل على المياه من عين المخيم أو من عين عسكر في القرية المجاورة او من
معسكر المزرعة القريب حيث يتواطا معنا جندي أردني ويسمح لنا بتعبئة الميـاه أحيانـا فـي
ساعات الصباح.
الأن غدا المعسكر بلاعساكر فقد تفرق جنوده أيدي سبأ.ولم يترك بعض أهل المخيم المعسكر
على حاله فقد نهبوا ما فيه وكنا من الناهبين.نهبنابقايا البقايا فقد عدنا إلى المخيم ولم نكن يـوم
احتلال المخيم فيه.كان نصيبنا تختا واحدا من تخوته الكثيرة ولم نابه لتخويفات بعض الناس من
آن عساكرالنظام الأردني قد يعودون ويسجوننا.
حركة النهب شملت مركز الشرطة الذي أصبح خاويا من الجنود وخاليا من الأثاث.
ساسال عن مصير الجنود ومنهم أبو كمال الذي جلدني ذات نهار لأنني بصـقت فـي إبريـق
الممرضة زكية التي اعتدت على دوري في انتظار تعبئة المياه من عين المخيم.
الناس في المخيم خائفون ومنهم من يفكر بالرحيل شرقا.هل سنهاجر إلى عمان؟وإلى مخيم جديد.
ولم يعد بعض جيراننا جيرانا فقد رحلوا وخلت بعض البيوت من سكانها و..و..
ولا بد من أن أذهب إلى الفرن لاخبز الخبز لناكل.
ها أنا مواطن في دولة جديدة
***
8
اختلاط الأشياء ، ولا تعود الذاكرة تطابق بين اليوم وما جرى فيه.
الناس في حيرة من أمرهم، وهم يتشاورون ويتساءلون: انبقى أم نرحل.؟
لقد جاؤوا من الشرق ،ولو كانوا قدموا من الغرب لرحل أكثر الناس.هل أرادوا خداعنا؟
حديث الناس في المخيم مازال حول دخولهم إلى المدينة واستقبال الناس لهم.وعلىالرغم مـن
الهزيمة،فإن الشباب بدؤوا يواجهونها بالضحك.أخذوا يسترجعون اصطفافهم على الشارع الرئيس
مرحبين بهم على أنهم جزائريون وعراقيون و.و.و.
استرجعوا سير النساء اللاتي زغردن، وتساءلوا عن بنادق الشباب.
في اليوم الأول ، قبل ان نذهب إلى المدينة كانت زوامير الخطر تزعق بين حـين وحين، وكـان
شباب الدفاع المدني يتجولون حاثين الناس على البقاء في بيوتهم، وكلما كانت هناك طائرة فـي
الجو استعد حملة البنادق، وأطلق ابو العزم أو أبي طلقة لاسقاطها. كانـت عبـارة أبـي العـزم
هي: طلقة لعيون الشباب. وقد ذهبت مثلا، وأخذ الناس دائما ، ولسنوات يتذكرونها، ويتذكرون ايضا
ما كان يقوم به الصديقان. (طلقة لعيون الشباب.)
غير ان الناس لم تنس ، ولسنوات طويلة ايضا زغاريد نعوم وام النمر-يذكر الناس الاسم الحقيقي
لام النمر-وكنت اعرفهما من خلال عين الماء التي كنا نزود ، من خلالها، بالماء..
ماذا فعل أبو العزم ببندقيته؟
لا أدري ، والبندقية التي سلمتها ، في مبنى البلدية في نابلس، كانت بندقية ابي (كم انا انهزامي منذ
جزيران) غالبا ما أقول هذا.
ننتظر مجيء أبي لنقرر إن كنا سنرحل الـى الأردن ، فالنـاس خـائفون، وابي مـا زال فـي
المدينة، وبعض الناس بدؤوا يرحلون، والمخيم غدا بلا مخفر شرطةذ
***
9
( تشوش الذاكرة ) :
حين أتيت إلى هذه الدنيا كان أهلي يقيمون في الخيام ، وسأعرف أنني ولدت في خيمة . كان عمر النكبة ست سنوات ، وبدأت تدخل عامها السابع ، ومع حزيران هذا أدخل عامي الرابع عشر .
إسرائيل تحتفل بانتصارها وأنا لا أحتفل بعيد ميلادي ، وتلك عادة برجوازية لم أحتفل بها ذات يوم..
عدت يا يوم مولدي ، عدت مع الهزيمة ، وعاد أبي إلى البيت ، فقد أخذ الاحتلال يسمح للناس بالتجول والتبضع ، والناس بدوا مذهولين حقا مما جرى ، وكانوا يتساءلون ، وبدؤوا يتحدثون عن خيانات الحكام العرب ، وهو ما كانوا يرددونه بعد النكبة ، بل وفي أثناء حدوتها . ولطالما كنت أصغي إلى أبي معزوز اللداوي يردد ( فلسطين ، فلسطين بيعوك البياعين ) ، وكنت أردد هذا مقلدا أبا معزوز الذي كان يلدغ ولا يفصح . ( هل أقول : عاد المحارب الذي لم يحارب ؟ ولكنه لم يدرب ليحارب ، وكل ما تدرب عليه قبل الحرب بأيام كان الوقوف في الطابور العسكري والتدرب على المشية العسكرية ، وتسلم بندقيته وبضع رصاصات وهي لا تكفي لتحية الطائرات ) .
الناس تساءلت عن الظافر والقاهر الصواريخ التي أملوا ، من خلالها ، بتحقيق عبد الناصر النصر على إسرائيل والعودة إلى يافا وحيفا .
وبيت الشعر الذي أخذ أبي يكرره بكثرة ، ولا أدري من أين سمعه ، فحفظه ، هو :
" من استلم البلاد بغير حرب
يهون عليه تسليم البلاد "
وهو بيت سيترك أثرأ كبيرا على سلوكي ، وسيكرره أبي على مسامعي قبل أن يموت ، حاثا إياي على عدم مساعدة بعض ( .. ) ماديا ، لأنه ينفق المال دون حساب ، ولأنه لا يتعب في الحصول عليه..
كان أبي ، باستمرار ، وهو يصغي إلى خطابات الملك يكرر هذا البيت ، حتى إنه وبيتا شعريا آخر ، بيتا عنصريا ويحث على العنصرية ، كانا كل محفوظه الشعري ، وكلا البيتين كانا يعبران عن معاناته من اللجوء والإقامة في المخيم ، بعيدا عن يافا .
أنا اليوم أدخل عاما جديدا ، وأصبحت أقيم تحت حكم جديد ، وهكذا ولدت ، بعد النكبة ، في الخيمة ، وولدت من جديد ، في الهزيمة /النكسة ، ويا لي من شقي .
عدت يا يوم مولدي
عدت يا أيها الشقي .
13 / 6 / 2016
***
10
تشوش الذاكرة
الناس ما زالت تتحدث عن مصير الجنود الأردنيين الذين كانوا في المعسـكر ، وفي مخفـر
الشرطة ، بل وفي مركز المقاطعة في المدينة. هل كان اسم قائد الشرطة في المدينة نصـوح؟ هل
هرب؟ وكيف هرب؟
الناس تتحدث عن طلب بعض هؤلاء الجنود، منهم ملابس مدنيـة ليرتـدوها وليغـادروا إلـى
الشرق، إلى دولتهم. هل تحدث الناس يومها عن بعض جنود ارتدوا ملابـس نسـاء؟ هل حـدث
هذا؟ هل أرادت الناس أن تسخر من الجنود الذين اهانوهم فـي العـام1966، فـي مظـاهرات
السموع؟
ربما نسي الناس ما حدث في العام1966، وربما انستهم حادثة والدة الفران الحرب وما حـدث
قبل الحرب.
ثمة جندي في اليوم الأول من الحرب أخذ يتجول في شوارع المخيم، يطلـب مـن النـاس أن
يلتزموا بيوتهم، وقيل إنه تلصص على بيت (ام محمد) فضربته وصرخت ليتجمع الناس، وشاعت
الحكاية، وغدت على لسان أهل الحارة.
ثمة جندي شهيد ما بين مخيمي عسكر وبلاطة،قرب محل صناعة الجفت، وثمة ثلاثة شهداء في
طريق الباذان، والناس تتحدث عما ألم بهم، ولسوف يقبرهم الناس، ولسوف يزورون قبورهم فـي
الأعياد، ويضعون سعف النخيل على قبورهم، كل عيد، كما لو أنهم من أفراد عائلاتهم. والنـاس
تتحدث عن الشهيد الذي يأتي يوم القيامة ولونه لون الدم ورائحته رائحة المسك،
ونحن أخذنا نواصل حياتنا: الحصول على الماء من عين المخيم أو عين القرية القريبة ،ونخبـز
خبزنا في أفران المخيم، و..و..و.
***
11
تشوش الذاكرة
هزم الجيش الأردني وخلف معسكراته ومخافره وراءه. نهب ما نهب وما لم ينهب غـدا باعثـا
للفضول. قبل حزيران أقيم معسكر مؤقت للجيش قرب المخيم.خيام وآليات نقل ودبابات، والحرب
وشيكة، وثمة طائرتا (هوكر هنتر) تقومان بطلعات جوية. ثمة زوامير خطر ، ورجال دفاع مـدني
،من شباب المخيم، وثمة كشافة يتجولون يعطون التعليمات.
تحرك الجيش وذهب الى أماكن أخرى تاركا بعض المخلفات التي أثارت فضول بعض الشباب
وأراد قسم منهم أن يعدها لأيام قادمة، ربما من أجل المقاومة. وفجأة انقلبت أحوال المخيم. ثلاثـة
شباب في السابعة عشرة من أعمارهم يعبثون بقنبلة تنفجر بهم. مات أحدهم ، وأصيب أخر إصابة
خفيفة، فيم فقد الثالث نظره وبتر مرفق يده.والجيش الذي انسـحب لـم يسـحب معـه بعـض
مخلفاته. هل تركها خطا؟ هل تركها قصدا ليقاوم المقاومون؟ هل...؟
صار أبو علي، أجمل شباب المخيم، عنترة العبسي المحب، صار معاقا، وغـدا صـديقا لكثيـرين
يساعدونه في تسيير أموره. وربما احتاج مساحة خاصة لكتابة قصة طويلة.
ها هي الحرب تعني الخسران. شاب من أجمل شباب المخيم، الأنيق ذو الشعر النـاعم الاملـس
اللامع المتزيي باجمل الثياب، المحب العاشق، ها هو يشوه.
ثمة خسارات كثيرة، وثمة مفقودون، وبعد اثني عشر عاما، مساء، ينتظر الناس عودة أم زياد مـن
عملها في المدينة، ليخبروها إن زوجها الذي فقد في الحرب عاد؟
هل عاد الفرواني؟ وساكتب من وحي هذه الحادثة قصة "هل هو الفرواني"؟
الحرب لم تنته. من قال ان الحرب انتهت.
ابو علي عاد الى يافا، بلده، فقد تزوج من هناك، وانجب ولكنه يرى البحر باذنيه، لا بعينيه، واحيانا
اساله: هل انت راضيا ابا علي؟
احيانا يجيب بنعم ، واحيانا كثيرة يجيب: لا. ويافا بلا يافاويين ليست يافا.
***
12
( تشوش الذاكرة ) :
كان لأبي سيارة من نوع ( بلايموت ) سماوية اللون ، وهي من موديل 1958 ، وكان يسوقها متنقلا بين نابلس وعمان والشام وبيروت . الآن ما عاد هناك خطوط خارجية ، والجسر ،بين ضفتي النهر ، غدا الحد الفاصل بين دولتي الجديدة ودولتي القديمة ، ولم أكن أشعر بأن هذه دولتي - الجديدة - ولا تلك - القديمة -.
في العام 1966شهدت الضفة الغربية مظاهرات ، بسبب أحداث السموع ، وقمعت قوات البادية الأردنية المتظاهرين ، ولا أدري ما الذي كان يجعلني أذهب من المخيم إلى المدينة لمشاهدة المظاهرات التي يرشق فيها المتظاهرون أفراد الشرطة الأردنية . أهو كلام أبي عن الأنظمة العربية ؟ ولم يغير لقاء الملك حسين مع عبد الناصر ، قبل الحرب بقليل ، من الامر شيئا،وإن تظاهرت مع المتظاهرين ،مؤيدا البطلين ؛ عبد الناصر والحسين ، كما كان المتظاهرون ، يهتفون ، فقد تصالح البطلان واللي معانا الله معاه واللي علينا الله عليه .
كان أبي يعرف العبرية ، فقد كان له ، قبل العام 1948أصدقاء يهود يعملون معا ، ويتحدثون معا ، ولطالما حدثني عن صديقه اليهودي الذي كان يقول له في الحرب العالمية الثانية : اسمع يا مصطفى : إن انتصر الالمان صرنا حميركم وركبتمونا ، وإن انتصر الانجليز صرتم حميرنا وركبناكم ، وليت الامر اقتصر على الركوب ، فقد طردونا من بلادنا ، لنصبح ، لا حمير اليهود فقط،بل وحمير العرب وحمير العالم .
صار أبي مطلوبا ، لا للبندقية التي حملها ، ولا للاحتلال ، فقد كان يعرف الحكاية من طقطق حتى سلام عليكم ، وإنما صار مطلوبا لانه يعرف العبرية - مع أن ابي مثل كثيرين : يحب بسرعة ويكره بسرعة والذين تظاهروا ضد الملك قبل أشهر تظاهروا يؤيدونه حين سافر إلى القاهرة .
ولأنه سائق ولديه سيارة يعيش من وراء عمله عليها،وكانت السيارات قليلة ، فقد يسر الله له الزبائن،وأخذ هؤلاء يعرضون عليه السفر إلى القدس لزيارة مرضاهم في مشافيها أو للذهاب إلى يافا وحيفا،طبعا بعد فترة.
في تلك الأيام زرت القدس ، مع ابي ،ومع شخص أخر لعيادة مريض ، ورأيت ،من جديد ، جنود الاحتلال ، ورايتهم في شوارع القدس،وبدا ابي يستعيد لغته العبرية . ها هو يتكلم العبرية التي لا أدري لم لم أبذل جهدا مضاعفا في اتقانها .
وسنصبح بعد النكسة-،اي بعد هزيمة 1967حمير الدولة العبرية،ولسوف يحمد بعضنا أننا غدونا هكذا ، إذ سيجدون أعمالا برواتب تمكنهم من العيش ،،،
في حزيران 1967،لا في 1948صرنا حميرا ، وبعد سنوات ، وأنا أقرأ رواية اميل حبيبي ( المتشائل ) سأعرف ان حياته في تلك الدولة كانت بفضل تلك الدابة المسكينة ، أي الحمار ، فهل كنا حميرا منذ 1948دون ان ندري؟
16/6/2016
***
13
تشوش الذاكرة
بدا الناس يتساءلون عن مدة الاحتلال.هل سينسحبون ،كما حدث في غزة ،في العـام1956أم
أنهم سيبقون طويلا؟
غدا الناس كائنات سياسية. ما من أحد ، تقريبا، إلا أخذ يخوض في أمر الاحتلال واليهـود وعبـد
الناصر والملك حسين و....
عادت الحياة شيئا فشيئا إلى بعض ما كانت عليه. أخذ بعض أهل المخيم يذهبون إلـى المدينـة
للتسوق أو لتفقد المحلات التي كانوا يعملون فيها. وأخذ أبي يقل، في سيارته، الركاب.
في الحافلة بدأت أصغي إلى حديث الناس عن الاحتلال ومدته.
ولأن اﷲ خلق الارض في سبعة أيام، ولأن سورة يوسف تأتي على سبع سنوات عجاف ، بعـد سبع سمان، فإن الرقم سبعة كان رقما متميزا وله حضوره. أحد الركاب ، وهو ممن أعرفهم ، ولـم يكن يتجاوز الرابعة عشرة، وما كان ذات يوم يهتم بالسياسة، لصغر سنه طبعا، تحدث كما لو أنـه خبير سياسي، وهذا ما سيكون عليه ، زمن الاحتلال ، اكثرنا، تحدث هذا الفتى اليافع وقال: سيمكثون
سبعة أسابيع أو سبعة أشهر أو سبع سنوات، ولعله كان اصغى إلى من هم أكبر منه سنا، فكرر ما
سمع. وربما لم يقل سبعة أيام لأن الاحتلال اعتلى عرش الضفة في اليوم السابع وخـش اليـوم
السابع للاحتلال فينا كما يخش السبت، مساء الجمعة، في مؤخرات اليهود، حسب المقولة الشـائعة
التي لا أعرف قصتها.
نحن الأن ندخل في العام الخمسين للاحتلال، وما لم يذكره الفتى اليافع هو الـرقم سـبعون ، أو
الأرقام سبعمائة أو سبعة آلاف أو سبعون ألفا أو سبعمائة الف، وإذا أخذنا بالمقولـة الصـهيونية
الاسرائيلية، من أن القدس هي العاصمة الأبدية لدولة اسرائيل، فمعنى ذلك أن الاحتلال سـيدوم إلى الأبد الذي لا ندري متى ينتهي. ولولا أن الاتحاد السـوفيتي انهار، وانهـارت معـه مقولـة: الحتمية التاريخية ، لقلت: إن اليهود لا ينطقون عن الهوى، وإن هم إلا وحي يوحى إليهم ، وربما وجب أن اسأل الطائفة السامرية في الأمر.
مرت الأسابيع السبعة ومرت الأشهر السبعة، ومرت السنوات السبعة، وها هي الدولة العبرية تقترب من عامها السبعين، فإذا لم تنته في عامها السبعين ، فعلينا أن ننتظر عشرين عاما أخـرى، عسى احتلال الضفة يزول، فقد أقر العرب بأن المناطق المحتلة في العام1948 غـدت خـارج الصراع، وهي دولة عربية قد تدخل إلى الجامعة العربية عما قريب.
***
14
( تشوش الذاكرة ) :
في تلك الأيام بدأ الناس يتحدثون عن أبناء المخيم المفقودين ، فقد غادر قسم من هؤلاء إلى الأردن ، بعد أن تركوا المخيم وساروا في الحقول ، كما لو أن هؤلاء لم يتعلموا من تجربة أهاليهم في العام 1948، أو كما لو أنهم لم يتذكروا إلا مجازر اليهود في دير ياسين وقبية ، وكان أكثر هؤلاء من شباب المخيم الذين انخرطوا في الدفاع المدني . وقصة خروج الناس ،والأسئلة التي دارت على الألسن ، في حينه ، حولها ، سترد في قصة " الخروج " لمحمود شقير ، القصة التي ظهرت في مجموعته " الولد الفلسطيني " ( 1977 ) ، وهي قصة تقليدية الشكل ، كتبها القاص من منظور الفكر اليساري الذي اعتنقه ، وتأتي على ثنائية الأرض والعرض ، وهي ثنائية تركت أثرها العميق في أبناء الشعب الفلسطيني ، فقد ارتكب اليهود الصهيونيون مجازر واغتصبوا بعض النسوة ، والطريف أنني ، مؤخرا ، قرأت في رواية الكاتبة الايرلندية ( ايثيل مانين ) " الطريق إلى بئر السبع " 1963ما لم أقرأه في روايات النكبة ، إلا إذا خانتني ذاكرتي ، حيث تكتب المؤلفة عن اغتصاب جنديين من عصابات الصهاينة لامرأة من اللد ولخادمتها أيضأ ، وكان من آثار الاغتصاب جنين سيتم إجهاضه .
ومن القصص التي شاعت في المخيم ، في حينه ، عن الشباب واختفاء آثارهم قصة أبو زياد الفرواني التي أتيت على ذكرها من قبل ، وقصة الشهيد راضي الذي التحق بالفدائيين واشترك في إحدى العمليات فاستشهد ، ولم أر والده ، منذ استشهاده ، إلا حزينا وصامتا . لم أر في حياتي كلها رجلا ترك استشهاد ابنه أثره عليه مثل أبو راضي ، والغريب أنني لم أقرأ في الأدب الفلسطيني من وصف ما ألم بالاباء ، بأسلوب يبعث الحزن ، ما ترك أثرا في وجعلني استحضر نصه ، وفي العام 2002 سيكتب الشاعر محمود درويش ديوانه " حالة حصار " وسيأتي على وصف أثر الشهادة على الآباء والأمهات ( أتذكر مارسيل خليفة وأغنيته " أجمل الأمهات " ) . ربما كانت سحر خليفة أتت على الفكرة في روايتها " باب الساحة " وصورت فلسطين على أنها غولة تأكل أبناءها . دائما أرى أبو راضي حزينا ، وإن كان هناك حادث آخر شخصي أثر أيضا فيه . حزن ابو راضي وصمته هو من الأشياء التي ستترك أثرا في .
أحيانا كثيرة أعود إلى ديوان " حالة حصار " لأسترجع ما كتبه درويش عن فقدان الآباء لأبنائهم ، في الصراع ، لأنني أرى مدى نجاح الشاعر في تمثل حالة الآباء ، حتى أنني لأحزن وأنا أقرأ المقطع :
" الشهيد يحذرني : لا تصدق زغاريدهن
وصدق أبي حين ينظر في صورتي باكيا :
كيف بدلت أدوارنا ، يا بني ،
وسرت أمامي ؟
أنا أولا
وأنا أولا ."
.........
كأن أبو راضي ، وأنا أكتب يقف أمامي يبكي ابنه الشهيد راضي ، كما لو أنه بالفعل مازال يسير في شوارع المخيم صامتا حزينا لا يفكر إلا في ابنه الشهيد .
18 / 6 / 2016
***
15
دجاج وبيض اسرائيلي
هل انتهى مخزون البيض والدجاج في الضفة؟
تحت الاحتلال سنعرف البيض مرقما. نمـرة1 نمـرة2، ونمـرة3. وسـنعتاد علـى البيض الاسرائيلي، فلقد انهزمنا، وجلسنا على الخازوق، ولسوف يكتب إميل حبيبي في متشائله فصلا عن الجلوس على الخازوق والتمسك به.
كما لو أن لا فضيلة سوى فضيلة البقاء على قيد الحياة، كما كتب غسـان كنفـاني فـي قصـته "الصغير يذهب إلى المخيم" من مجموعة "عن الرجال والبنادق"، وماذا إذا كان البيض إسرائيليا أو غير إسرائيلي؟ كله بيض ، وإن أخذ الناس يتحدثون عن بيض مسوس وبيض ثلاجات.
لو اقتصر الأمر على البيض لهـان-الأمـر. سـوف يغرقنـا الاسـرائيليون بـدجاج سـعره رخيص. يتجول الباعة في السيارات وينادون عليه ليبيعوه بأسعار زهيدة، وسيقبل النـاس علـى شرائه، فالاموال شحيحة والسعر مغر، ولكنهم سيفاجاون بأن الدجاج لا يستوي، على الرغم مـن أنهم سلقوه لمدة ساعتين وأكثر. إنه دجاج بياض، وسيكتشف الناس أن اسـرائيل تبيـع الـدجاج البياض الذي ما عاد يبيض. دجاج هرم، وهات بوابير كاز وطناجر الومنيـوم وكاز، والـدجاج لا يستوي.
في روايته"المتشائل"1974 يكتب إميل حبيبي عن (النقنيق) المصنوع من لحم الحمير ، والذي بيع
في مطاعم حيفا،وفيما بعد، في نادي المخيم، سيقص أبو زيتون قصـته مـع صـاحب المطعـم
الإسرائيلي.
كان صاحب المطعم اليهودي كريما جدا، على خلاف ما يشاع عن اليهود فـي الآداب ونعـتهم بالبخل. اما من أين جاءه الكرم؟ فقد تساءل أبو زيتون والعمال وعرفوا القصة.
كان صاحب المطعم يأتي بالحمار إلى مطعمه مكللا بكيس الخيش ، دون أن يراه أحد ، ويذبحـه على الطريقة اليهودية، ثم يعطي عماله سقط المتاع ، من كبد وطحال و.. و.. وسيكتشف أبو زيتون أن سمنته الزائدة عن حدها، والتي عزاها إلى كرم صاحب المطعم إنما هي بفضل لحم الحمير.
في منتصف80ق20 وانا أنظر في ملامح ابنتي لاحظت ان انف كل منهمـا صـغير ، خلافـا لانوفنا ، ولسوف اعزو الأمر إلى الدجاج الإسرائيلي. فهذا الجيل هو جيل الدجاج الاسرائيلي.
وسياكل الناس البيض الاسرائيلي حتى يشبعوا منه، ولسوف يأكلون الدجاج الاسرائيلي، وأما بنعمة
ربك فحدث.
***
16
إنهم يعبرون النهر....
أصبح نهر الأردن الحد الفاصل بين دولتين، ولكن ما عاد يسمح بالتنقل بينهما ، وهنا بدات ظاهرة
التسلل عبر النهر،وهي ظاهرة قديمة ، ولكنها كانت تتم من المناطق المحتلة في العام1948 وما
تبقى من فلسطين، وقد انعكست في الأدب الفلسطيني بشكل لافت ، وتعـد قصـة حنـا ابـراهيم
"سارة" أو "المتسلل" مثالا جيدا.
الآن غدا التسلل يتم عبر النهر، من منطقة قرب طوباس اسمها عين البيضة، وغدا الناس يتنقلون
بين الضفتين منها، ويبدو أن مياه النهر هناك ذات منسوب منخفض.الذين أرادوا الخروج خرجوا
منها، والذين أرادوا العودة عادوا منها، ونشط المهربون أيضا في تهريب البضاعة منها، وفيمـا بعد، بعد أسابيع قليلة أخذ الفدائيون يتسللون منها.
أخذ أبي يعمل على خط نابلس طوباس وطمون، يقل الركاب من هذين المكـانين إلـى نـابلس
ويعيدهما ثانية إلى هناك.مرة مساء، كنت مع عمي ، في سيارة أبي ،وقد أقل ركابا إلـى قريـة طمون. وفي أثناء العودة اوقفه رجل معه شوالان كبيران ممتلئان بالبضائع. اقله عمي مقابل مبلغ من المال دون أن يحسب أي حساب.
بعد أشهر قليلة سوف تفرض قوات (الدفاع) (؟(الاسرائيلي حصـارا علـى مخيمنـا/عسكر القديم، وتجمع من هم فوق السادسة عشرة في مكان قرب مخيم عسـكر الجديد، وسوف تحيط المكان الذي حشرت الرجال فيه باسلاك شائكة، ما بث الرعب في الأهالي الذين حثونـا علـى الذهاب إلى المكان لمتابعة ما يجري واخبارهم بما يحدث. يومها عرض الرجال علـى مقنعـين على رؤوسهم شوالات خيش مثقوبة لكي يتمكن هؤلاء من رؤية من يعرض عليهم ، وسـينتهي الطوق بعد اعتقال عدد من أبناء المخيم واغلبهم من السائقين، وكان عمي واحدا منهم.
خاف الناس مما جرى، وأخذوا يتذكرون ما حدث في العام1948 من مجازر. وفيما بعد سـتوجه
التهمة لهؤلاء السائقين بأنهم كانوا يهربون الفدائيين، وسيسجن عمـي لأشهر، وسـيخرج دون أن يعترف، على الرغم من الضرب والتعـذيب الشـديد، وكان أن سـبب اعتقالـه، لأبي، مرض السكر، وسيظل عمي يتذكر تلك الأيام إلى أن توفي قبل خمسة أعوام.
إنهم يعبرون النهر، ومنذ عبورهم تبدأ المقاومة الليلية، وتستمر لفترة، كنا نصغي، خلالها إلى أصوات الرصاص، ليلا، كما لو أنه يكاد يلامس غرفنا الواطئة السقف، في المخيم. كم كنا، تلـك الليالي، نصاب بالرعب لغزارة إطلاق النار
***
17
( تشوش الذاكرة ) :
( شتات العائلة ،لقاء العائلة )
في حزيران سنتعرف إلى أقارب جدد . كان لأمي أقارب في يافا ، وكان لأبي أخت في غزة .
وحين أقرأ الأدب الفلسطيني ، لاحقا ، سأتوقف مطولا أمام قصة أميل حبيبي " حين سعد مسعود بابن عمه " من مجموعة " سداسية الأيام الستة " 1968 ، وأعتقد أنها من القصص القليلة التي قاربت لقاء العائلات الفلسطينية التي انفصلت عن بعضها إثر نكبة 1948. وكان غسان كنفاني في روايته " ما تبقى لكم " 1966 أتى على شتات العائلة في النكبة . يستشهد الأب في العام 1948 وتغادر الأم إلى الأردن ، فيما يجد حامد نفسه مع أخته في غزة .
كان لأمي عم هاجرت أسرته و ظل في يافا ، وعادت إليه عائلته ، إلى يافا،بعد العام 1948 ، لأنه كان موظفا مع الانجليز ، وفي حزيران سيأتي ابن عم أمي مع أختيه لزيارة عائلة عمه ، وكان عمه قد توفي قبل الهزيمة. هكذا ستلتقي العائلات الفلسطينية، وستسعد بلقائها، كما سعد مسعود بابن عمه أيضا في قصة حبيبي، وستزورنا عمتي قادمة من غزة، ولم نكن نكرر: "لماذا نحن يا ابتي، لماذا نحن أغراب ، أليس لنا بهذا الكون أحباب وأصحاب ؟ " فقد كان أعمامي في المخيم نفسه، ولم نكن نعرف عائلة عم أمي، كما لم نكن نعرف عمتي التي استقرت في غزة منذ1948، وعمي الكبير الذي كان متزوجا من امراة مصرية هو الذي عرف الشتات ، فقد هاجرت زوجته مع ابنها إلى القاهرة ، ولم نعد نعرف عنهما شيئا .
يجمعنا حزيران ، مهزومين ، باقاربنا ، بعد شتات تسعة عشر عاما ، ولكنه يفرق العائلة من جديد .
أحد اعمامي آثر أن يستقر في الشام ، وكان قبل الهزيمة يزورنا ، كما كان أبي يزوره باستمرار ، بحكم عمله سائقا على خط نابلس عمان دمشق بيروت ، وسيموت عمي لاحقا دون أن يشارك ، في جنازته ، أو عزائه ، أحد من إخوته ، فقد مات في ظل انتفاضة الأقصى ، كما عرفت.
هل حقا نيسان هو أقسى الشهور ؟ ربما ! ولكني أظن أن حزيران هو أقساها على الإطلاق ، ربما لأنني من مواليده . وقد يرى آخرون أيار أقسى . قد
خربشات 21/6/2016
***
18
تبديل عوالم
فجأة غدت بعض البيوت فارغة من سكانها. غادر قاطنوها إلى الضفة الشرقية من نهـر الأردن، وافتقد المرء بعض معارفه وأصدقائه، ولقد حل سكان جدد. كما لو كان هناك تبديل عـوالم أو تبادل سكاني. قدمت من غزة بعض العائلات واستقرت في المخيم، وفيما بعد، سيظل هؤلاء يحنون إلى غزة، ومع ذلك لا يعودون إليها، وبعض هؤلاء سينشط في مجال الرياضة، وسيظل يعير أبناء المخيم، ومن ورائهم أهل الضفة بأن الضفة لا تساوي شيئا مقارنة بغزة،وتحديدا في ملاعب كرة القدم، والعبارة التي أخذ أبناء المخيم يرددونها بلهجة غزاوية هي (هو في الضـفة ملاعب، الملاعب في غزة وبس) . عبارة لطالما كررت من باب السخرية.
واللافت أيضا أن بعض سكان المخيم غدوا يزورون أقاربهم في فلسـطين المحتلـة، كما أخذ أقاربهم، من هناك، يزورون المخيم.لقد التقت العائلة بالعائلة، وذهبت الأمور مـذهبا أبعد من ذلك، فقد أرادت هذه العائلات أن تتوحد من جديد، من خلال التزاوج. كما لو أنهم يريدون لم شمل العائلات.
من العائلات التي أقامت في المخيم ، بعد النكبة، عائلة من البروة، وهي من أقارب الشاعر محمود
درويش، غير أن احدا قبل1994 لم يلتفت إلى أمر قرابة العائلة بالشاعر، وربما يعود الأمر إلى أن الشاعر لم يكن حقق من الشهرة ما حقق بعد العودة إلى الوطن، وربما لم يلتفت أقاربه إليـه التفاتهم إليه بعد أن غدا مشهورا. ربما ، مع أنني سألت بعض أقاربـه إن كـانوا زاروا البـروة والتقوا بأهل الشاعر.
أتذكر صديقي محمد ابن حيفا. كان محمد معي في المدرسة، وكان له أقارب فـي حيفا، ولطالمـا
زارهم وزاروه، ولطالما التقى بقريبته الجميلة التي نوى الاقتران بها، ولكن هذا لم يتم. وقد حـدث
أن نجحت علاقات عديدة، اقترن فيها الأقارب، ومنها بعض أقاربي، وسيمكننا هذا من زيارة مدننا والشعور بأننا ، حقا، من هناك، وأن المخيم طاريء وعابر ومؤقت.
والآن اسأل: لماذا كانت الكتابة في هذا الموضوع، في ادبياتنا الفلسطينية قليلة، وتكاد تقتصـر على عمل أو عملين، وهما لاميل حبيبي الـذي عـاد وكتـب فـي الموضـوع فـي روايتـه "المتشائل" 1974، حين عادت يعاد لتزور فلسطين،ثم طردتها القوات الإسرائيلية، بعد انتهاء مـدة التصريح؟
فقدنا أصدقاء لم نعد نعرف عنهم، وحين أخذنا نزور الأردن لم نترك فرصة ، فـي عمـان ، إلا وسالنا عنهم، أو التقينا بهم.
ثمة تبديل عوالم، تبديل مساكن، تبديل أصدقاء وصداقات و...و..
***
19
( تشوش الذاكرة )
سماسرة عمل :
ساسير في شوارع المخيم مع رجال أتوا ليسألوا عن عاملات .
لم أكن أعرف أنهم سماسرة عمل ، ولم تكن أفكار التطبيع وعدمه شائعة . غدا أكثر الرجال بلا عمل ، علما بأن عملهم كان ، من قبل الاحتلال ، عملا موسميا .
أكثر رجال المخيم يعملون في الكسارات أو في الأشغال العامة أو عمال نظافة في وكالة غوث اللاجئين ، وهناك بعض نسوة كن ممرضات في عيادة المخيم ، أو كن موظفات في قسم الرعاية ، يطبخن ويقدمن الوجبات لأطفال المخيم ، وثمة معلمات في مدرسة الوكالة ، ونادرا ما كانت نساء المخيم يعملن . كن ربات بيوت يطبخن وينجبن ويربين اولادهن وحسب .
فجأة جاء سماسرة العمل وأخذوا يسالون عن نساء عاملات ، وكنت دليلهم ، أقودهم في زقاق المخيم ، وندخل البيوت لنسأل عن فتيات عاملات . المصانع الإسرائيلية بحاجة إلى العمال ، والفقر ابن حرام ، والدول العربية انهزمت بعد أن هزمت الفلسطينيين من جديد .
في تلك الأيام أخذت بعض النسوة تعمل في المصانع الإسرائيلية ، وكان هذا موضع استهجان:نساء يعملن في مصانع اليهود.لقد ضاع الشرف العربي ثانية وهذه هي الهزيمة .
في روايتها " الصبار " كتبت سحر خليفة عن ردود أفعال الناس إزاء العمل في المناطق المحتلة في العام 1948 ، وكان الناس يقولون :
- العمل في اسرائيل خيانة .
وقد انقسم الناس إلى قسمين ، منهم من أخذ يعمل ، لأنه يريد أن يعيش ، فلا فرص عمل ، ومنهم من رأى في العمل خيانة وتعاونا مع المحتلين .
كان السماسرة يقدمون عروضا مغرية للنساء ، حتى يقدمن على العمل ، ويتعهدوا بالمحافظة عليهن ، وأنهم سيقلونهم من المخيم وسيعيدونهم إليه ، وأن النساء بحفظ الله ورعايته ، وبدأت الشاحنات تأتي فجرا وتعود مساءو. شاحنات أشبه بشاحنات نقل الجنود ، وكان عذاب هؤلاء العمال ومعاناتهم المزدوجة ، وغربتهم القومية ، ذا حضور في بعض الأدبيات ، وحين كتب إميل حبيبي " المتشائل" 1974 أتى على وضعهم المأساوي ، وسارت سحر خليفة على خطاه ، ثم كتب غريب عسقلاني قصته " الجوع " 1978، وستظل حياة هؤلاء العمال موضوعا خصبا للأدباء يخوضون فيه .
قبل أربع خمس ست سنوات قرأت الكاتبة سعاد العامري ، من جامعة بير زيت ، وصاحبة الكتاب المتميز " شارون وحماتي " في حمام الشفاء ، في مدينة نابلس ، فصلا من كتابها الثاني " مراد "، ولكي تكتبه ، وموضوعه حياة العمال في ظل انتفاضة الاقصى ، فقد ارتدت ملابس الرجال ، وتسللت إلى فلسطين المحتلة 1948 ، مع العمال ، لتعيش تجربتهم في المعاناة ، وكانت سحر خليفة فعلت ، من قبلو، الشيء نفسه حين كتبت الجزء الثاني من روايتها " الصبارز" وعنوانه " عباد الشمس ".
الآن اتذكر انني سرت مع السماسرة ، لكي أدلهم على البيوت التي يمكن أن يعثر فيها على فتيات عاملات .
يا لوعيي البائس في حينه ، او يا لحياتنا في المخيم ، ومن بعد سنجد أنفسنا ادلاء لزوار أجانب قدموا إلى المخيم ليتعرفوا على حياة أهله .
خربشات 23/6/2016
***
20
الفرح عندما يخون (مع الاعتذار لمحمود درويش)
ما زلت اتذكره جيدا (غ.ق) صاحب محل زيت سيارات. قبل الهزيمة أخذت أعمل في محل بيـع قطع سيارات لشخص أظن أن اسمه وصفي يعيش.كان أبي يتعامل معه، وفي إجازة المدرسة قال لي: اقض العطلة في هذا المحل.كان ذلك قبل عام الهزيمة بعام، وكان أبي يجلـس فـي محـل (غ.ق) المقابل ، والجميع يتحدث في السياسة وتحرير فلسطين القريب ، ويوم ذهب الملك حسين إلى القاهرة ، قبل الهزيمة بأيام ، واتفق مع عبد الناصر ، موقعا اتفاقية دفاع مشترك، خرج أهل نابلس عن بكرة أبيهم إلى الشوارع يحيون البطلين،فقد تحقق لهم ما أرادوا قبل فترة وجيزة "بدنا الوحدة
باكر باكر ، مع هالأسمر عبد الناصر"،وتناسى الناس تظاهراتهم ضد الملك الاردني ، إثر احداث
السموع، وتناسوا تخوينهم له.
كان (غ.ق) متحمسا للحرب، وهتف بحياة عبد الناصر، وكنت ألاحظ مقدار فرحه باللقاء، ومقدار
حبه لعبد الناصر.كما لو أن الرجل كان مستعدا لأن يضحي بنفسه، كما لو أنه على استعداد لحمل
السلاح والذهاب إلى أرض المعركة فورا. ولم يكن الوحيد المتحمس لهذا، فابي تـرك عملـه، قبل الحرب بأيام ، وانضم إلى مجموعة المتدربين الذين انتظموا في طوابير ، فـي الصـباح، وتدربوا على حمل السلاح.لم يكن يخطر ببال أي منا أنه قد يستشهد ، مخلفا وراءه ثمانيـة أبنـاء مـع زوجة. كل شيء في سبيل يافا يهون.
فجأة أخذ الناس يتحدثون عن (غ.ق)، فقد أخذ يستورد زيت السـيارات مـن اسـرائيل، واختلفت
أحواله وأصبح يلعب بالنقود، والرجل ناصري الميول نسي ميوله أو تناساها في سبيل الحصـول
على لقمة العيش، مثله مثل آخرين ، ومثل بعض الشرطة الذين عادوا إلـى وظائفهم، واسـتبدلوا
نجمة بتاج، وأخذوا يداومون في مقر الشرطة، وكان من بينهم (أبو ع.ح)، وقد كثرت حوله الأقاويل وانتشرت ايضا حول سلوكه الشائعات، وبعد أشهر قليلة، سينتشر في المدينة خبر مقتـل عملاء، كان (غ.ق) و(أبو.ع.ح) منهم.
في المساء كانت أصوات الرصاص تلعلع، وأحيانا، ونحن نيـام فـي غـرف المخـيم واطئـة السقف، كنا نرى لمعان الرصاص يكاد يلامس أسطح الغرف، وقد فكر أبي فـي تـرك المخـيم، والإقامة في المدينة.
***
21
شكاديما توف يا خواجة
على طرفي المخيم ،قرب المدرسة الصناعية وقرب مدرسة البنات كان هناك كرما لوز. ولما كانت الهزيمة قد حلت فلم يعد هناك حراس، وغدا الكرمان مستباحين لأبناء المخيم الـذين أكلوا اللوز كما لم ياكلوه من قبل، فلا حارس ولا مخفر شرطة يمكن أن يـذهب إليـه صـاحب الكرم.
بعد فترة،حين غدت الضفة كلها حديقة حيوانات للاسرائيليين، حيث بدأت زياراتهم لمدن الضفة،
أخذ المواطنون يعرضون بضاعتهم للبيع، وكان من بينها اللوز.
(شكاديما توف يا خواجة، شكاديما توف) كان أصحاب بعض المحلات في المدينـة يصـرخون، عارضين ما لديهم من لوز جف وبقي بقشره. ونظرا لأن العبـارة تكـررت مئات،بـل آلاف، المرات فقد ظلت عالقة في ذهني،وكلما مررت بالمحلات التي كانـت تعـرض اللـوز للبيـع، تذكرت تلك الايام.
أصحاب المحلات ريفيون، وكانت شوالات اللوز تتكوم أمام محلهم، وكانوا يصرخون (شـكاديما
توف يا خواجة شكاديما توف)، ولم يعد الناس يخافون ملتزمين بيوتهم، فقد بدأت الحياة تعود إلى
طبيعتها. كما لو أن الناس لم ينهزموا، وكما لو أن لسان حالهم يقول: حمار حي خير مـن أسـد
ميت، ولا بد من أن تسير الحياة.
(شكاديما توف يا خواجة، شكاديما توف) وسيبيع الناس ما لديهم مـن بضـاعة، وسيشتري
الإسرائيليون ما يعرض عليهم فرحين راضين، وربما عن قصد،حتى يفرغوا الضفة من مخزونها، وحتى يقبل أهل الضفة على شراء البضائع الإسرائيلية، وكما ورد ، لاحقا، في قصص خليل السواحري (مقهى الباشورة) فإن ما أكله الفلسطينيون بيضا سيخرجونه فروجا، وأن الاحتلال، كما
قال سعيد لأبي بلطة "مثل الفجل ، أوله منافع وآخره مدافع."
كما لو أن العبارة ما زالت تتردد.إنها ترن في أذني الآن (شكاديما توف يا خواجـة ،شـكاديما
توف)
وربما كان يراودني السؤال: من أين عرفوا معنى كلمة "لـوز" وأنـه (شـكاديما)، ولا شـك أن
اسرائيليا سالهم عن سعره، ونطق المفردة العبرية أمامهم فلقطوها، وبعد سنوات، وحين قرات رواية إميل حبيبي (المتشائل) فهمت أن الحاجة أم الاختراع، فقد أتى على تعلم سعيد اللغة العبرية
واتقانها وإلقاء خطاب بها في الكنيست، بل وأتى على تعلم تجار أهل نابلس، بخاصة صـبانوها وتجار ال(شايش)، العبرية بسرعة،وعلى رأيه ، فإن حاجة القوم ارخصت أمهاتهم، ولعل الذاكرة
لم تخني.
***
22
( تشوش الذاكرة )
( كله بليرة يا خواجة ) :
كل شيء غدا قابلا للبيع . هزمنا وجاؤوا . ماذا سيفعل الناس . أفواج الإسرائيليين تغزو مدن الضفة . ال ( باصات ) وال( تركات ) ، وهم يأتون جماعات جماعات ، والناس تريد أن تبيع ( كله بليرة يا خواجة ) . الاسكيمو( ارتيكا توف ) والعلكة ومطبقيات الأعراس .
في تلك الأيام انتقلنا من المخيم إلى المدينة ، وأقمنا في غرفتين لزوج خالتي . ربما هو الخوف الذي جعلنا نعود إلى المدينة ثانية ، وربما هو الاشتباكات الليلية ، وما ينجم عنها .
في النهار كان الأمر عاديا . كل شيء عادي ، وفي الليل يبدأ الرصاص يلعلع .
كانت خالتي تحتفظ بهدايا الأعراس ، من مطبقيات ، وكان لديها كم كبير منها . كلما حضرت عرسا احتفظت بالمطبقية ، وجاء أوان بيعها . و سأجد نفسي في شوارع نابلس ، وعلى دوار المدينة ، وقرب المشفى الوطني . سأجد نفسي اصرخ مع الصارخين ( كله بليرة يا خواجة،كله بليرة ) ، وكان ثمة من يسخر منا ، ويغمز ويلمز .
لقد بعت المطبقيات أكثرها ، وكنت أعود إلى خالتي بالليرات الوفيرة ، فتسر لها،ولم نكن نفكر فيما هو أبعد من البيع والعودة بالليرات . لم يكن ثمة وعي وطني. كأننا ، أكثرنا ، كنا مثل( غ . ق ) ، يعني مشاريع متعاونين ، بطريقة أو أخرى ، ولهذا عودة .
وما إن انتهيت من بيع مطبقيات خالتي حتى وجدتني أبيع العلكة الشائعة في حينه . اشتري علبة من العلكة وادور أصرخ مع الصارخين ، وربما بصوت رخو ، كما لو أن فيه مذلة . فها نحن نستجدي من المحتلين بعض ليراتهم واغوراتهم ( كله بليرة يا خواجة ، كله بليرة ) .
الشوارع مكتظة الإسرائيليين ، والناس في الشوارع تبيع . هل كنا نلتفت إلى نظراتهم ونقارنها بنظراتنا ؟ هل كنا نتساءل عن انكساراتنا وانتصاراتهم أم أننا كنا اصغر من ان ندرك معنى الهزيمة ؟
فيما بعد ساواصل مسيرتي التعليمية ، وسيدرسني أستاذ تاريخ شاب درس في بغداد وكان متحمسا جدا ووطنيا ويؤمن بالعرب والعروبة ، ولكن ما إن حلت الهزيمة حتى لجأ إلى الصمت ، ولم يعد يخوض في السياسة ، وكأنما غدا شعاره ( ما فيش فايدة،غطي لي راسي يا صفية ) ، وسيشار إلى الست يسرى صلاح ، وكانت موجهة للغة الانجليزية بالبنان ، فلقد رفضت ان تاخذ هوية اسرائيلية ، لأنها ظلت رافضة للاحتلال وغير مصدقة أنه وقع . وظلت الست يسرى صلاح تقيم في نابلس ، ولم تغادرها،حتى وفاتها .
( كله بليرة يا خواجة،كله بليرة ) ، وإذا كان الخواجة يملك نصف ليرة ، فماذا نحن فاعلون ؟ هل نعطيه النصف ؟
لقد أخذوا البلاد كلها بنصف ليرة ، ولا أدري إن كانوا دفعوها .
خربشات
26 / 6 / 2016
***
23
مخافر الشرطة مراكز شباب ، والسجون مدارس وجامعات
لا أذكر ما الذي دعاني إلى ترك المدينة والعودة إلى المخيم.ربما طلبت مني أمي أن آخذ الخبز
إلى الفرن القريب من سكننا الجديد فرفضت وضربتني ،ووجدت نفسي عائدا إلـى بيتنـا فـي
المخيم.
مخفر الشرطة الذي حجزت فيه قبل الهزيمة بأيام، لساعات،لأنني بصقت في إبريق الست زكية
الممرضة التي اعتدت على دوري بتعبئة المياه ،مخفر الشرطة غدا مركز شباب.
قبل الهزيمة لم يكن هناك مركز شباب مستقل في المخيم،وكان مركز الرعاية ،وهو المطعم الذي
يقدم الوجبات لأبناءاللاجئين،وكذلك الحليب لأبناء المدارس،،كان المركز يتحول فـي سـاعات
المساء إلى مركز شباب،وتحديدا بعد الرابعة عصرا.ثمة طاولة للعـب التـنس ،وثمـة مجلـة
حائط،وثمة مسابقات شعرية ،وثمة طاولات نرد ،وهناك أبو حسين الذي يقدم الشـاي للشـباب، بأسعار رمزية.
جاءت الهزيمة لتحل المشكلة ،فاﷲ يكسر جملا ليتعشى واوي،وغدا مركز الشرطة نادي شـباب
المخيم،وكانت وكالة الغوث هي من أشرفت عليه،ولأن المدارس عطلت ،وهي أصلا كانت فـي
عطلة ،فقد أخذ النادي يفتتح في ساعات الصباح،وهناك يتجمع الشباب ،ليمارسوا الألعاب إياهـا
،وسيواصل أبو حسين تقديم الشايبثمن زهيد.
مخفر الشرطة غدا مركز تثقيف،ففيه تعقد المبارزات الشعرية وفيه يجتمع بعض الشـباب مـع
موظف الوكالة عبد المنعم البوز المتخصص في الفلسفة ليتحـدث عـن الوجوديـة وسـارتر
واسبنيوزا وأسماء أخرى)ها هنا حجزت ذات يوم،لانظف المـراحيض عقابـا علـى فعلتـي
الشنيعة:كيف ابصق في إبريق العيادة ،إبريق الست زكية.هنا جلدت بالكرباج ،قبل أن اغدو ،بعد
أيام ،طابورا خامسا،لأنني فقط أجبت أحد أصدقاء ابي عن سؤاله:مـاذا رأيـت فـي شـوارع
المدينة؟(
بعد سنوات من الاحتلال سينضم شباب كثيرون إلى حركة المقاومة الفلسطينية،وسيدخلون السجن
بعد أن ألقي القبض عليهم.ستنسف بيوتهم،وسيقضون ،في السجن ،سنوات،وسيشيع التعبير التالي
عن السجن":وردة لازم الكل يشمها)"يا لتعسي لم اسـجن ،ويبـدو أننـي لـم اكـن مواطنـا
وطنيا،والحمدﷲ على ما جرى،فبعض المناضلين تحولوا إلى لصوص بارعين،بعضهم،ورحم اﷲ
الشهداء ومنهم راضي).(سينتقل مركز الشباب إلى مكان قريب وسيتحول المكان/المخفـر الـى
مركز خياطة(
وحين أعلم في الجامعة،بعد سبعة عشر عاما من الهزيمة سيكون خريجو السجون من الطـلاب
المتميزين،فهل أقول إن الاحتلال عاد علينا ببعض الفوائد؟)ليتنا بقينا حميرا وبلا احتلال(
)ستكتب سحر خليفة في روايتيها"الصـبار"1976عبـاد ،و الشـمس"1979عـن السـجناء
وثقافتهم،واعتقد انه لولا هؤلاء الذين امدوها بالمعلومات عن تجربـة السـجن ،لمـا انجـزت
روايتيها،واخص بالذكر هنا)ابو العز،بلال الشخشير.(
***
24
بين ريتا وعيوني
الشاحنات الإسرائيلية تملأ شوارع المدينة.الإسرائيليونيتجولون في مدن الضفة.إنهم الفـاتحون
الجدد وقد أصابهم الغرور.لقد انتصروا ،واخذنا نسـتقبلهم عارضـين بضـائعنا،وهم يـدفعون
ويشترون فرحين.
في معسكر الجيش الأردني السابق ،في مخيم عسكر ،يركنون شاحناتهم،ليتناولوا وجباتهم.فتيات
يهوديات بضات ممتلئات،يرتدين الملابس الصيفية الأنيقـة التـي تليـق بالانتصـار السـريع
السهل،ونحن نتجول أيضا في المعسكر نصرخ على بضاعتنا)ارتيك،ارتيك توف.(
في تلك الأيام كانت معامل الاسكيمو في نابلس تعمل ،معمل الأرز ومعمل الافرست/ركب).ما
زال مصنع الارز يعمل،وأما مصنع الافرست فقد أغلق ولا أدري متى.(
يتجولون في المعسكر ويجلسون بين الأشجار ،كما لو أنهم في نزهة.كما لو أن المعسكر لم يكن
،ذات يوم،معسكرا لجيش سيحارب.أين الدبابات،وأين المدافع؟ربما بقيت في الأغـاني ،وربمـا
كانت الحرب في الأغاني. (مرحى لمدرعاتنا ،رمز القوة لبلادنا،مرحى مرحـى مرحى،مـدفع
وعيار كبير...الخ)
أين نحن من الفتيات البضات الممتلئات الجميلات الانيقات ؟
ومع أنني كنت من أسرة لا تعد فقيرة فقرا مدقعا،ومع أن أبي كان سائقا واحوالنا عادية ،إلا أن
المرء كان يلاحظ الفرق بين ثراء المحتلين وفقرنا.بين الملابس الأنيقة وبين ملابس)البقج(التي
يرتديها اكثرنا.
وسأظل أتذكرها تلك الفتاة اليهودية البضة.وفيما بعد،حين أقرأ أشعار محمود درويش،سـاكرر
"والذي يعرف ريتا،ينحني ويصلي لاله في العيون العسلية."لقـد كـان فقرنـا وبؤسـنا ،فـي المخيمات،وهو ناجم عن خروجنا من بلادنا في العام1948،أمام الثراء الإسرائيلي ، لافتا (مـا
متع اسرائيلي إلا بما جاع به فلسطيني..)
فيما بعد،وأنا أقرأ الأدبيات العربية وأبحث عن صورة اليهود فيها،كنت أقرأ تصـورات نمطيـة
لهم،منها أنهم يتسمون بالبخل،ولم يخطر ببـالي ،فـي حزيـران1967،أننـا ،خـلال فتـرة
قصيرة،سنعيش ،في بيوتنا،على ال)التي ساخه)(altesache(التي سيبيعونها،بل التي سيتخلصون
منها.لقد أغرقت الضفة ،خلال فترة ،بالثلاجات ال)امكور(المصنوعة في اسرائيل،وما من بيـت
أخذ يخلو منها.لقد احتوت بيوتنا زبالة الإسرائيليين ،وكان أهلنا يشترونها فرحين.لقد صار فـي
بيوتنا ثلاجات.
(ارتيكا،ارتيكا توف يا خواجة)
***
25
( تشوش الذاكرة )
( الساحرة المستديرة )
في المخيم ستعود الأمور إلى ما كانت عليه : مشاكل تأمين المياه من عين المخيم أو من نبع عسكر البلد ، خبز العجين في الأفران ، استلام المعونة الشهرية من وكالة الغوث( طحين وسكر وأرز وسمن وبعض حبات من التمر ) ، و...والفراغ . ( في أثناء توزيع المؤن ، أي مساعدات الوكالة ، كانت تحدث مشاكل كثيرة ، منها احتكاك بعض الرجال بالنساء ، وأحيانا كانت تتولد طوشات بين الناس ، وكان ابناء المخيم يراقبون بعض الشاذين ، ممن يستغلون المناسبة لممارسة كبتهم ، والأمر ليس مقتصرا على المخيم ، على اية حال ) ( حين درست في الجامعة الأردنية في العام 1972 طبقت الجامعة نظام الساعات المعتمدة ، وكان على الطلبة ان يسجلوا موادهم في مبنى التسجيل ، حتى يعتمدوا على انفسهم ، وكجزء من بناء شخصية الطالب ، ولأننا كنا منظمين جدا ، فلم ننتظم في صفين ، أو صف واحد ، وكانت الفوضى واضحة تذكر بمقولة ( موشي دايان ) وزير الدفاع الاسرائيلي" سينتصر العرب ، حين يعرفون النظام " ، وحدث من بعض الطلبة ما حدث في المخيم ، في اثناء توزيع المؤن ،، و .. و .. ) ( فيما بعد ، حين اقرا غسان كنفاني وقصته " زمن الاشتباك ، أو الصغير يذهب الى المخيم " سأظل أردد العبارة " وكنا نتقاتل على كل شيء " )
طلاب المدارس في عطلة ، والذين يبيعون البضائع للإسرائيليين في ساعات الصباح ، ويعودون إلى المخيم ، في ساعات المساء ، لديهم وقت فراغ كبير ، فماذا يفعلون ؟
إنها الساحرة المستديرة ، ولقد حولوا المساحات الفارغة بين البيوت ، إلى ملاعب كرة طائرة ، ومن لم يفعل فهناك ملاعب السلة في مدرستي الإناث والذكور ، وحرس المدرستين لا يعارضون ، ولكن اللعبة الأكثر شعبية كانت هي كرة القدم .
في السابق ، قبل حزيران الهزيمة كان أبناء المخيم يمارسون هذه اللعبة في السهول الكثيرة الواسعة المحيطة بالمخيم من كل اتجاه ، فلم تكن البلاد ، ولا المخيمات ، قد ورمت ، كما سيحدث منذ مجيء السلطة الوطنية في 1994. كل حارة ولها ملعبها ، وهناك مباريات بين الحارات ، ولكن الملعب الدولي كان ملعب المدرسة الصناعية القريبة جدا من المخيم .
قبل 5/6/1967لم يكن أبناء المخيم يقدرون على استخدام الملعب كما يريدون، فهو خاص بالمدرسة ولا بد من إذن ، وبين الملعب والمخيم كان هناك معسكر الجيش ، وأظن أن الملك حسين كان زاره ، كما زار المخيم ، ذات عام ، لقد غدا الملعب مستباحا . وغدا أيضا مكانا لإجراء المباريات بين فرق الحارات ، بل وفريق مخيم بلاطة . هناك ،في الملعب تجمع عشرات الشباب لممارسة لعبة كرة القدم . لقد كانت نوعا من الحل لقتل وقت الفراغ الرهيب ، ولتحقيق المتعة ، وستغدو الرياضة ، وكرة القدم تحديدا ، ولسنوات لاحقة شاغل الشباب وهاجسهم ، وستعقد المباريات في نابلس وفي البيرة وفي جمعية الشبان المسيحية ، بل وفي غزة ، وكثيرون زاروا غزة ، في 70 و 80 ق 20 بسبب المباريات ، وصار لنا نجوم نتحدث عنهم ، وكما ذكرت ، من قبل ، فقد كان الغزيون الذين استقروا في المخيم يعيروننا بملاعبهم : هي نابلس مدينة وفيها ملاعب ، يقولون ساخرين ، ويتابعون : الملاعب في غزة . وبردة فعل طفولية كنا نرد عليهم : هي غزة مدينة.عودوا إلى غزة .
لم أكن ، ذات يوم ، لاعب رياضة متميزا ، لا في كرة القدم ولا في كرة الطائرة ولا في كرة السلة ، وفقط في لعبة التنس ، في نادي المخيم كنت لاعبا لا بأس به ، ولكني لم أكن محترفا ، ومع ذلك فقد كانت طاولة التنس مخرجا لحل مشاكلنا النابعة من كثرة الوقت . ) ( فيما بعد،وفي 70 ق 20 ، وحين يدخل التلفاز إلى البيوت سأتابع مباريات كأس العالم بشغف ، وستتواصل هذه العادة حتى اليوم ، وهذا العام أتابع مباريات الأمم الأوروبية بشغف وكعلاج لقلة النوم )
حربشات 29/6/2016
***
.../...
يتبع