مقالي هذا موجّه إلى طائفة محدودة من الشعراء ، أو مَنْ هم في حكمهم ممّن يتعاطون الشعر تبجّحاً أو ادّعاءً، وممّن يرون في اللغة وقوانينها قيوداً صارمة تكبّل معانيَهم ، وتكبح إبداعهم.
الأدب في أوضح تعريف له هو التعبير الفنّي عن الحياة ونقدها.
أمّا الشعر ، وهو قسيم النثر الفنّي، فهو وِفقَ تعريف الجاحظ الوارد في كتابه ( الحيوان): " الشعر صياغة وضرب من التصوير".
هذا..وقد أغفلت عامداً تعريف بعض نقّادنا القدماء للشعر بأنّه" كلام موزون مقفّى" لأنّه أقرب إلى تعاريف أهل الفقه والمنطق- مع كلّ الاحترام والتوقير لهؤلاء وأولئك- إذ هو لا يلحظ من الشعر سوى مظهره الخارجيّ، لكي لا أقول السطحيّ.
أعود إلى صُلب الموضوع لأؤكّد على مقدّمة جوهريّة بقدر ما هي بدَهية ؛ ذلك أنّ مادة الشعر التي يستمدُّ منها الشاعر ماهيّة هذا الفنّ الأدبي التصويري إنّما هي اللغة .ومن الواضح أنّ الصدور عن هذا المعين الثرّ
يفترض الإلمام العميق بمكنوناته ، والالتزام الأمين بمقتضيات قواعده وقوانينه ، وذلك من أساسيات فن القريض التي لا يجادل فيها إلا غافل أو متغافل.
فقيدة الشعر العربيّ الحديث الشاعرة العربية العراقية نازك الملائكة(١٩٢٣-٢٠٠٧م) إنْ لم تكن رائدة " الشعر الحرّ" في العالم العربي ، فإنّها ، دون ريب، واحدة من روّاده الكبار إبداعاً وتنظيراً ونقداً.
ومن مؤلّفاتها الأساسية في هذا المجال كتابها القيِّم " قضايا الشعر المعاصر" ، وقد صدرتْ الطبعة الأولى منه عام( ١٩٦٢م) ، وهو كتاب موضوعيّ منهجيّ تناولت فيه الباحثة والشاعرة الكبيرة نازك الملائكة جلّ القضايا والتساؤلات والإشكالات المرتبطة بقضية" الشعر الحرّ".
أُورِد فيما يلي هذه السطور النقدية الدّالة من أحد فصول القسم الثاني من الكتاب ، الذي يحمل عنوان:
"الناقد العربيّ والمسؤولية اللغوية"
مع التنويه إلى أنّ كاتب هذه السطور قد استعار عنوان مقاله من هذا الفصل.
جاء في هذا الفصل: *
" تتجلّى، لمَن يراقب النقد العربي المعاصر، ظاهرة خطيرة شائعة فيه، ملخّصها أنّ النقّاد يتغاضَون تغاضياً تاماً عن الأخطاء اللغويّة والنحْويّة والإملائية فلا يشيرون إليها ولا يحتجّون عليها. وكأنّهم، بذلك، يفترضون أنّ من حقّ أيّ إنسان أنْ يخرق القواعد الراسخة وأن يصوغ الكلمات على غير القياس الوارد، وأن يبتدع أنماطاً من التعابير الركيكة التي تخدش السمع المرهَف، وكأنّ من واجب الناقد أن يوافق على ذلك كلّه موافقة تامة، فلا يشير إلى الأخطاء ولا يحاول حتّى أن يعطي تلك الأخطاء تخريجاً أو مسامحة.
........ .... . ...... ... .... .
والواقع أنّ ازدراء الناقد للجانب اللغويّ من النقد ليس إلّا صورة من ازدراء الشاعر نفسه للغة وقواعدها.
......... ......... .....
إنّ الجذور الرئيسية لهذه الظاهرة تختبىء في شبه عقيدة موهومة وقع فيها الجيل العربي المعاصر، مؤدّاها أنّ الاهتمام باللغة والحرص على قواعدها المختلفة، يدلّان على جمود فكريّ في الأديب، وقد يشيران إلى نقص صريح في ثقافته الحديثة. وقد تبلّورت هذه العقيدة الزائفة في أنفس الشعراء والكتّاب حتى أصبحت تعني لديهم أنّ التجديد يتجلّى فعلاً في ازدراء القواعد النحْوية وإهمال المعجم والمقاييس اللغوية التي تعترف بها الأمة كلّها............... .. ..... ...
.......... ....... . ... ..
على أنّنا لا ندعو إلى التمسك بقواعد اللغة لذاتها. ولسنا نحبّ أنْ ننصب مشانق أدبية لكلّ من يستعمل لفظة استعمالاً يهبها حياة جديدة، أو يدعو إلى الاستغناء عن بعض شكليات النّحْو البالية التي لم نعد نستعملها. لا بل إنّنا نؤمن أعمق إيمان بالتجديد المبدِع، ونعتقد أنّ هذا التجديد لا يتمّ إلّا على أيدي الشعراء والأدباء والنّقّاد المثقّفين الموهوبين. غير أنّ هذا كلّه شيء، والعبث بالمقاييس شيء آخر. نحن نرفض بقوة وصرامة أنْ يبيح الشاعر لنفسه أنْ يلعب بقواعد النحو واللغة لمجرّد أنّ قافية تضايقه أو أنّ تفعيلة تضغط عليه . وإنّه لسخف عظيم أن يمنح الشاعر نفسه أيّة حريّة لغوية لا يملكها الناثر. (١) فمَن قال إنّ الشاعر الموهوب يستطيع أن يبدع أيّ شيء في غير الإطار اللغوي لعصره؟
إنّ كلّ خروج على القواعد المعتبرة ينقص من تعبيرية الشعر ويبعده عن روحيّة العصر. ولسنا، على كلّ، نفهم لماذا يريد الناقد أن يكون الشاعر الحديث طفل اللغة المدلّل، فيخطئ
ويرتكب المحذورات ما شاء دون أنْ يُحاسَب؟
-(١) هذا رأيي، على الرغم من علمي بوجود باب سمّاه الألوسيّ( الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر).
* نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين ، بيروت،
ط٤ ، ١٩٧٤م، ص ص، ٣١٥-٣٢٢.
د. زياد العوف
الأدب في أوضح تعريف له هو التعبير الفنّي عن الحياة ونقدها.
أمّا الشعر ، وهو قسيم النثر الفنّي، فهو وِفقَ تعريف الجاحظ الوارد في كتابه ( الحيوان): " الشعر صياغة وضرب من التصوير".
هذا..وقد أغفلت عامداً تعريف بعض نقّادنا القدماء للشعر بأنّه" كلام موزون مقفّى" لأنّه أقرب إلى تعاريف أهل الفقه والمنطق- مع كلّ الاحترام والتوقير لهؤلاء وأولئك- إذ هو لا يلحظ من الشعر سوى مظهره الخارجيّ، لكي لا أقول السطحيّ.
أعود إلى صُلب الموضوع لأؤكّد على مقدّمة جوهريّة بقدر ما هي بدَهية ؛ ذلك أنّ مادة الشعر التي يستمدُّ منها الشاعر ماهيّة هذا الفنّ الأدبي التصويري إنّما هي اللغة .ومن الواضح أنّ الصدور عن هذا المعين الثرّ
يفترض الإلمام العميق بمكنوناته ، والالتزام الأمين بمقتضيات قواعده وقوانينه ، وذلك من أساسيات فن القريض التي لا يجادل فيها إلا غافل أو متغافل.
فقيدة الشعر العربيّ الحديث الشاعرة العربية العراقية نازك الملائكة(١٩٢٣-٢٠٠٧م) إنْ لم تكن رائدة " الشعر الحرّ" في العالم العربي ، فإنّها ، دون ريب، واحدة من روّاده الكبار إبداعاً وتنظيراً ونقداً.
ومن مؤلّفاتها الأساسية في هذا المجال كتابها القيِّم " قضايا الشعر المعاصر" ، وقد صدرتْ الطبعة الأولى منه عام( ١٩٦٢م) ، وهو كتاب موضوعيّ منهجيّ تناولت فيه الباحثة والشاعرة الكبيرة نازك الملائكة جلّ القضايا والتساؤلات والإشكالات المرتبطة بقضية" الشعر الحرّ".
أُورِد فيما يلي هذه السطور النقدية الدّالة من أحد فصول القسم الثاني من الكتاب ، الذي يحمل عنوان:
"الناقد العربيّ والمسؤولية اللغوية"
مع التنويه إلى أنّ كاتب هذه السطور قد استعار عنوان مقاله من هذا الفصل.
جاء في هذا الفصل: *
" تتجلّى، لمَن يراقب النقد العربي المعاصر، ظاهرة خطيرة شائعة فيه، ملخّصها أنّ النقّاد يتغاضَون تغاضياً تاماً عن الأخطاء اللغويّة والنحْويّة والإملائية فلا يشيرون إليها ولا يحتجّون عليها. وكأنّهم، بذلك، يفترضون أنّ من حقّ أيّ إنسان أنْ يخرق القواعد الراسخة وأن يصوغ الكلمات على غير القياس الوارد، وأن يبتدع أنماطاً من التعابير الركيكة التي تخدش السمع المرهَف، وكأنّ من واجب الناقد أن يوافق على ذلك كلّه موافقة تامة، فلا يشير إلى الأخطاء ولا يحاول حتّى أن يعطي تلك الأخطاء تخريجاً أو مسامحة.
........ .... . ...... ... .... .
والواقع أنّ ازدراء الناقد للجانب اللغويّ من النقد ليس إلّا صورة من ازدراء الشاعر نفسه للغة وقواعدها.
......... ......... .....
إنّ الجذور الرئيسية لهذه الظاهرة تختبىء في شبه عقيدة موهومة وقع فيها الجيل العربي المعاصر، مؤدّاها أنّ الاهتمام باللغة والحرص على قواعدها المختلفة، يدلّان على جمود فكريّ في الأديب، وقد يشيران إلى نقص صريح في ثقافته الحديثة. وقد تبلّورت هذه العقيدة الزائفة في أنفس الشعراء والكتّاب حتى أصبحت تعني لديهم أنّ التجديد يتجلّى فعلاً في ازدراء القواعد النحْوية وإهمال المعجم والمقاييس اللغوية التي تعترف بها الأمة كلّها............... .. ..... ...
.......... ....... . ... ..
على أنّنا لا ندعو إلى التمسك بقواعد اللغة لذاتها. ولسنا نحبّ أنْ ننصب مشانق أدبية لكلّ من يستعمل لفظة استعمالاً يهبها حياة جديدة، أو يدعو إلى الاستغناء عن بعض شكليات النّحْو البالية التي لم نعد نستعملها. لا بل إنّنا نؤمن أعمق إيمان بالتجديد المبدِع، ونعتقد أنّ هذا التجديد لا يتمّ إلّا على أيدي الشعراء والأدباء والنّقّاد المثقّفين الموهوبين. غير أنّ هذا كلّه شيء، والعبث بالمقاييس شيء آخر. نحن نرفض بقوة وصرامة أنْ يبيح الشاعر لنفسه أنْ يلعب بقواعد النحو واللغة لمجرّد أنّ قافية تضايقه أو أنّ تفعيلة تضغط عليه . وإنّه لسخف عظيم أن يمنح الشاعر نفسه أيّة حريّة لغوية لا يملكها الناثر. (١) فمَن قال إنّ الشاعر الموهوب يستطيع أن يبدع أيّ شيء في غير الإطار اللغوي لعصره؟
إنّ كلّ خروج على القواعد المعتبرة ينقص من تعبيرية الشعر ويبعده عن روحيّة العصر. ولسنا، على كلّ، نفهم لماذا يريد الناقد أن يكون الشاعر الحديث طفل اللغة المدلّل، فيخطئ
ويرتكب المحذورات ما شاء دون أنْ يُحاسَب؟
-(١) هذا رأيي، على الرغم من علمي بوجود باب سمّاه الألوسيّ( الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر).
* نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين ، بيروت،
ط٤ ، ١٩٧٤م، ص ص، ٣١٥-٣٢٢.
د. زياد العوف