رسمي رحومي الهيتي - دراجة جابر.. قصة

... يتغابش الوقت في مسيرة الزمن لصبح قادم .. ينهض مسرعا ، يفحص العجلتين ، ويأذن لدراجته انطلاقة آخرى ، غاذة دورانها ، مخترقة الحقول والمزارع ، عند اول الدرب الى المدرسة التي تم تعيينه فيها ، والتي عدها مكانا سيضخ فيه كل شبابه وعناده وحيويته .. !!
.... دراجة وبأعتراف من نفض يديه من غبار المراقبة الدنيئة ، من الشرطة السرية ، كانت تشكل لهم هما يتجول .... مطلوب منهم ملاحقتها في كل ارجاء " الدغارة " مدينتي ، منذ كنت طالبا في دار المعلمين الى يوم عينت معلما في ريفها .... !!
- ابني جابر ، انت صرت معلما ، وهذا يعني انك ستكون مهما !! .... " شوية خفف من نشاطك ، ودعنا نعيش بأمان ، وليدي آني تعبت " .. !
- استاذ جابر ، ستقوم بتدريس التربية الوطنية والتأريخ والجغرافية .
- بل اتمنى ان ادرس العلوم والرياضيات .
- لدينا معلم رياضيات وعلوم .
- الجغرافية ، لا تتغير ! التربية الوطنية والتأريخ ، مادتان لا تدرسان ، سيتعلم التلاميذ مستقبلا ما الوطن ، وما تأريخه ؟ !! اجاب جابر الاعسم مديره بطريقة فيها اليقين الاكيد .
.... الحرب تزفر الشهيق ، وتصادر الرئات ، تتنفس السواتر موتا لتصادر بهجة الحالمين .. تزج في اتونها كل نيران الاسلحة .... الحرب ، ولا احقر منها في قاموس الكلمة التي يتصفح حروفها اغبياء الهزيمة في كتب التأريخ .
ورقة مكتوبة بعناية فائقة ، سطرها " جابر الاعسم " في اليوم الثاني بعد ان تأكد عن طريق الاذاعة الرسمية لايران ، ان ابنه " طارق " قد حل ضيفا على " الجمهورية " .... وفي اسفل الصفحة التي ثبت فيها اسم اليوم وتأريخه ، كتب مع العلم اننا ايضا جمهورية .... !!
لم تمض فترة طويلة ، حتى اضحى " جابر " يهيمن على المزاج العام للمدرسة .... يضع جدول الدروس ، ويساعد الفراش في بعض شؤونه ، يقرع احيانا الجرس .... وعند الظهر يقيم الصلاة ، هو يحب الصلاة ، وذلك ما يسر المدير . وما يثير في نفس هذا المدير التوجس اهتمام جابر بزراعة الورود ، وبالاخص الجوري الاحمر .. !!
يزدهر سوق الدغارة بالبهجة ، ومشاكسات اهلها وبساطتهم وهي تنطوي على فرح بهيج ، الا انهم يكتمون في ثنايا ارواحهم اسى قادم ، وظلمة قاتمة مؤجل حضورها .
الاطفال فيها لم يفقهوا ما يجري ، لذلك كانوا ينشرون في مسراتها الضجيج ، ودوران الخطى بين الازقة والدروب .
كم تمنى " جابر " ان يكون معلما في مدينته ، لا في احدى قراها .. ثلاثة من معلمي المدرسة هو من بينهم تربطهم علاقات عديدة ، فهم عدى كونهم من " دغارة " واحدة الا ان رابطة انتمائهم الى منظمة سياسية ، هي محط تجاذب واختلاف اهل المدينة ! كذلك حارس المدرسة وهو شخصية تحظى بأحترام الجميع ، وهو بالاضافة الى واجب الحراسة فأنه يقوم بمهام آخرى ، منها تلبية طلبات معلمي المدرسة التي من بينها ايصال بعض " الوريقات " الى القرى المجاورة .
- جابر طراد جاسم ..... القاضي
- جابر طراد جاسم ..... المنادي
- نعم ، نعم ........ ويدخل الى قاعة المحكمة .
..... حاولت جاهدا قبل المرافعة ان اعرف التهمة المسندة اليّ من الجهة التي اقتادتني اول الامر الى مركز الشرطة ، ثم بعد ذلك من حراس السجن ، ولكن دون جدوى . في قاعة المحكمة وعلى لسانه قال ليّ القاضي :- أأنت شوعي ؟ ! ...... اين ذهبت بـ " الياء " يا ابن الكلب ؟ !! ........ مع ان الجو في المحكمة كان ثقيلا وبرغم ان بريق عيون الحاضرين كان يشي بالترقب والرهبة ، الا ان شيئا ما كان يبعث السرور في داخلي وهو ان القاضي لحد الآن لم يجابهني بموضوع هو اخطر من كوني شيوعيا ، حيث ان تمة الانتساب الى الشيوعية في تلك الفترة كانت رائجة ، والمسألة الاخرى التي اشاعت فيّ قدرا من الطمأنينة ان القاضي الذي ينظر اليّ بين الفترة والآخرى لم يتعرف عليّ بعد ، حيث كان زميلي في المدرسة الابتدائية ، وها انذا احمد الله ان ذاكرته مثقوبة ..... !!
- كلا ، سيادة القاضي ، لست شيوعيا .
- ان بين يديّ من الوثائق والتقارير ، والمنشورات التي تم ضبطها في منزلكم يشير الى انك من " الخطرين " بالاضافة الى ان هنالك تقرير من مصدر موثوق يؤكد انك تستخدم دراجتك الهوائية لاستلام وتسليم البريد الحزبي ، فماذا تقول ؟
مشادة كلامية كانت قد حصلت قبل اشهر من اعتقاله ، بين جابر ومدير المدرسة بسبب غيابه عن المدرسة ، الامر الذي اربك انتظام الدراسة لثلاثة ايام ، حيث انتهت تلك المشادة بسيل من التهديدات التي اطلقها المدير ، وكان آخرها انه سيلقن جابر درسا لن ينساه !!
استطاع " طراد جاسم " ابو جابر ان يسوي ويعالج موضوع مذكرة المدير المرسلة الى دائرة تربية " لواء الديوانية " .... ولم يكن يعلم المدير ان تلك الايام الثلاثة التي غاب فيها جابر عن المدرسة انما كان بضيافة دائرة الامن .
تمارس المدينة ليلها بهدوء مرتب ، ينحر القها خطر داهم ومرتقب .... وجابر يعتلي دراجته الهوائية وهو يطوف شوارع الدغارة ويوزع على بيوتها اوراق انذار بقدوم ذلك الخطر .
في تلك الليلة من " شباط الدم " شاهده مدير المدرسة وهو في طريقه الى بيته ، فسأل جابر مناكدا وشامتا :- هل سنحظى بمثل هذه الهبات التي توزعها ؟ !!
من الذي وشى به عند الحكومة ؟ !! ومن اين لجوقة المحقيقين معه كل هذه المعلومات عن تحركاته ونشاطه ؟ .... هذا ما كان يقض مضجعه .... !!
بعد اكثر من ثلاثين سنة ، وجابر يستقل تلك الدراجة الهوائية التي انتقلت مع اثاث بيته الى بغداد ، وهي لم تزل بكامل نشاطها وقدرتها وهي تجوب شوارع العاصمة .
جابر طراد جاسم عامل في احد فنادق شارع الرشيد ، الشارع الذي كان في ايام سابقة واحدا من قلاع " يسار البهجة " ومسراتها .... صاحب الفندق هو من اهل الديوانية ايضا ، وهو زميل دراسة لجابر ايام دار المعلمين الريفية ....
- مهمتك يا جابر ، الاشراف على عمال النظافة في الفندق ، وبعد ذلك الاعداد والتهيئة لزبائن جدد قادمون .... لا عليك يا جابر بهذا وذاك من الزبائن ، لدينا رواد دائميون وغرفهم معلومة .... موظفون ، عمال ، تجار وآخرون غير ذلك .
- من هم الآخرون ؟ !!
- بصراحة يا جابر انهم ينتسبون الى جهات أمنية !!
التهمة الآخرى التي وجهها القاضي لجابر كانت صاعقة ومزلزلة ، وكانت على هيئة سؤال :- هل سبق وان آويت في داركم رجل من غير اهل الدغارة ؟
- ماذا تقصد يا سيادة القاضي ؟
- سؤالي واضح ، ان مجرما تلاحقه الحكومة في بغداد كان مختبئا في دارك .
..... ما لم يعرفه " جابر " بل واربك كل قدراته على التفكير لبيان السبب الذي دفع بالقاضي وهو يتلو قرار الحكم بحقه ان يتضمن القرار مصادرة دراجته الهوائية .... لماذا ؟ ليس هنالك ما يدعو لمصادرة الدراجة .
.... كان ابي في طريقه الى المنزل بعد قضاء ليلة سمر عند احد اصدقائه ، والليل قد تأخر ، لم يكن يعرف ان " الانكليز " يفرضون حظرا للتجوال في المدينة .... لذلك القوا القبض عليه وفرضوا عليه غرامة مالية !! في تلك الليلة رزقنا بأختنا الكبيرة مولودا فأسماها " جزة " ويقصد الجزية !!
تدريجيا وبمرور الزمن استطاع الحزب الذي ينتظم فيه جابر قد فرض قانونا صارما من السرية التنظيمية ، والكتمان الشديد على نشاطه ، وبالاخص حين استلم الحكم في العراق اشد الناس كراهية وحقدا وخصومة لذلك الحزب !! لقد جاء البعثيون الى السلطة مرة آخرى وهم مدججون بكل اساليب المكر والخداع وقدرتهم على اصطناع الثورية ، ومحاكاة رموز اليسار العالمي ، ليبدأ بعد ذلك رحلة مخاتلة ومشوشة ، ولكنها قوية ، صارمة ، قاسية ، حيث تستمد كل تفاصيل امساكها بالسلطة من افكار غريبة متخمة بالقمع والقسوة .
حين حل هذا " النجفي " ضيفا لأيام قليلة ، كما اخبره مسؤوله الحزبي ، فأن مقتضيات الضيافة كانت توجب عليه ان يقوم بأكبر قدر من العناية والرعاية . في ذلك اليوم وهو يحاول ان يعد له عشاء يليق به كضيف ، قام بأرسال احد اولاد جيرانه لأستدعاء " فراش " المدرسة الذي كان يسكن قريبا من منزله ، وطلب منه ان يجلب من المطعم الوحيد في سوق المدينة ما يتوفر من المشويات .
الفندق الذي عمل به جابر ، والذي كان يأوي زبائن غير متجانسين ، فأن على مالكه او مديره ان يزود الجهات الامنية بكل اسماء المسافرين الوافدين اليه ، كذلك المغادرين ، مع ان هنالك من النزلاء من يقيم فيه بشكل دائم .
جابر الذي اخذ على عاتقه ادارة الفندق يباشر عمله في الثامنة صباحا وحتى الرابعة مساء ، وهذا الفندق لا يختلف عن بقية الفنادق في شارع الرشيد .... يركن دراجته الهوائية التي يقطع بها مسافة لا تقل عن عشرة كيلو مترات ، حيث منزله ، يركنها عند حانوت صغير لبيع الشاي بالقرب من باب الفندق .... يشرب الشاي ، ويشكو لبائعه احواله وتمنياته في ان تقف الحرب مع ايران ، ثم وعلى عجل وبصوت هامس يلعن " السيد الرئيس " وكل الطغاة !! .... بائع الشاي هذا يعد انشط " وكيل أمن " !! .... ليست هي المرة الاولى التي يمارس فيها جابر ابو " طارق " الأسير لدى ايران ، هوايته الاثيرة السب والشتم .... تكررت تلك الحالة وفي كل يوم يسلم جابر من شرور بائع الشاي ، الا في هذه المرة التي لم تمر ساعة واحدة على تلك الشتيمة حتى وجد نفسه وجها لوجه مع مفرزة مدججة بالسلاح وهي تقتاده الى حيث لا يعلم . بعد فترة سيق الى المحكمة ، وصدر بحقه قرار بالسجن لعشر سنوات ، لم يكملها بسبب تردي حالته الصحية ، حيث توفي في منتصف تلك العقوبة ، كذلك تضمن قرار الحكم مصادرة دراجته الهوائية !! .... كم كان يتمنى ان تضع الحرب اوزارها ويعود ابن طارق من الاسر .... امنية رافقته في القبر .
صفت الكراسي بعناية واضحة ، والمدعوون بدأوا يتقاطرون لحضور حفل زفاف " طارق " بعد ان عاد من الأسر ، واخذت الحكومة على عاتقها امر تعينه براتب ممتاز ودرجة وظيفية تليق بالذين يضحون من اجل الوطن !! .... مكبرات الصوت تصدح بالاغاني الجميلة التي كان طارق يسمعها قبل الأسر .... ام طارق واخواته وكل اقربائه مبتهجون وهم يطبخون وجبة عشاء باذخة !!
- لا عليكم – يقول جابر الاعسم – ان كاتب القصة يخون الحكاية !! فأنا لم اقض نصف محكوميتي في السجن ، والصحيح هو ان جرعات من السم قد دست لي في وجبات الطعام ، ولم يمض اكثر من شهر حتى فارقت الحياة .... ابنتي الكبرى اضطرت لترك وظيفتها وهاجرت .... ام طارق ظلت تصارع المرض منذ اسر ولدها .
كما ان القاص قد اخفى عليكم معلومة غاية في الاهمية ، وهي ان القاضي الذي اصدر عليّ الحكم هو ذاته الذي مثلت امامه في قضية انتمائي لحزب ضد الحكومة انذاك ، وهو في حينها لم يكن يعرف برغم كثرة الادلة التي بين يديه ان الشخص الذي كان يختبأ في بيتنا هو زعيم الحزب في عموم العراق .... !!
وهنالك مسألة في غاية الطرافة ، تعمدت اخفاءها عن السيد " كاتب " هذه القصة ، وكنت اظنه الثاني في حكايتي والذي اصدر قرارا بسجني عشر سنوات ، هو ذاته القاضي الاول ! نعم هو زميلي في ايام الدراسة الابتدائية ، والذي كانت تأتي به امه الى " العارفة " والدتي ، لكي تعالجه من حالة التبول في الفراش ، وهو ابن العاشرة !! سعيد انا كنت لأنه يزاول النسيان الذي اظن واعتقد جازما انه ساعدني في تخفيف احكامه الصادرة بحقي .
ويضيف " الشوعي " ابو طارق ، اما ولدي طارق ، فهو عندما عاد من الاسر ، استقبلته مفرزة مدججة بالتقارير والكراهية عند الحدود .... التقطوا له صورة بعدسات بدائية ، واقتيد حالا الى المطار في رحلة بلا عودة ، بعد ان سلموه جواز سفر .... نعم جوازا لم يكن بالمجان ، ولكن لقاء نصف عمره...!!!

رسمي رحومي الهيتي
مجلة الشرارة الغراء / العدد الاخير 109
أعلى