رسمي رحومي الهيتي - موت بارد..

لسوء حظه هذا اليوم ان عينيه قد سقطتا على لوحة من المرمر يعرضها هذا الخطاط من ضمن الاعمال الفنية المنجزة ، على جدار مشغله .. لم يستطيع للوهلة الاولى استيعاب كل هذا الاضطراب الذي تلبسه وحوله الى ما يشه المخذول قسرا .!!
ان هذا الخطاط وعلى قطعة من حجر المرمر قد اعلن موته وبما لا يدع مجالا للشك .. اسمه الرباعي ولقبه و " كل من عليها فان " .. وعلى مايبدو ان احدا من ذويه لم يجد متسعا من الوقت ليذهب بها ويضعها عند قبره ...
هل يذعن لهذا الموت المفاجئ الذي يتمدد على قطعة المرمر تلك ؟
هل يؤسس على خذلانه هذا يوم قيامته الذي باغته مسرعا وبلا موعد ؟
تدريجيا بدأت تشيخ في مخيلته معاني الحياة وتتساقط على اسفلت الشارع لتمجد العدم القادم وتؤذن لمهب ريح في ليل شامت .
لم يثر دخوله الدار الرغبة عند احد للسؤال او الاستفسار عن هذا الدخول الذي يعد مستحيلا بحكم مقتضيات الموت والحياة ، حيث اعلن الجميع عن لا مبالاتهم .
راح يتجول في ارجاء البيت وزواياه وهو يتلمس اشياءه العادية واليومية بيد واهية كمن يتلمس الهواء فلا شيء البته ... لا ملابس ، لا احذية لا مدخرات .. لا حياة .. ورقة واحدة طويت بعناية فائقة هي شهادة وفاته .
كانت الهمة التي سيطرت عليه في قيادة حركته واستفزاز خموله قد ايقظت فيه قدرا هائلا من التحسس ازاء ما يجري ، وايقن ان توجساته وخوفه انما ينطوي على قدر كبير من الاستسلام .
نتيجة اعدت سلفا وبالرغم منه اذهله فرط اللامبالاة التي قوبل بها من ذلك الخطاط الذي لم يابه لوجوده ... رفع لوحة المرمر بعد ان اعاد التدقيق فيها كمن يفعل الطاعن بالسن عندما يحدق في الاشياء الصغيرة ... ولا مجال للشك سار في طريق ملتوية واخرى مستقيمة .. كان ريقه يجف تدريجيا .
دخل مقبرة "الشيخ احمد " كما لم يدخلها احد من قبل ... وبخطوات رشيقة قادته الى حفرة ذات ابعاد معلومة ... اندس في حفرته تلك بعد ان ترك لوحة المرمر في مكانها المناسب .
في بادئ الأمر احس برطوبة لزجة وعتمة قاتمة وذرات تراب تملأ حدقات عينيه ... تناهى الى سمعه طرقات خفيفة ذكرته بمشغل الخطاط واشياء اخرى تحاذي اوهامه واحلامه وموته القسري .
كان عزاؤه الوحيد في فجيعته هذه انه الاول في هذا الكون قد دخل قبره وهو يمسك بيده شهادة موته...!!

رسمي رحومي الهيتي

___________________________________________
منشورة في المجموعة القصصية " باب السنجة " / الاتحاد العام للادباء
أعلى