د. عبدالصمد صقر - في أثر إدوارد سعيد

قد يمكنني القول: إن إدوارد سعيد أثر في كل من قرأه مهما علت ثقافته؛ لأن مشروعه الفكري اهتم بحوار الآخر من منطلقات ليس في وسع هذا الآخر أن ينكرها، وكان يعرض القضية المعنية مؤصلا لها، ثم محاورا ومفندا للحجج التي تقوم عليها، وينتهي إلى تقويض أركان الفكرة بما أوتي من نظر بعيد ثاقب ووضوح بيان وغزارة ثقافة وإخلاص لما يراه حقا، فينسفها حتى يجعلها دكاء.
كل ذلك منبن على عقل حر، ومنهج علمي يحسن فيه التحليل والاستنباط والنقد موظفا أدوات ووسائل متقدمة في الحجاج العقلي القائم على أسس منطقية يحشدها في سبيل ما يراه التزاما وأمانة في عنق المثقف بعيدا عن الادعاءات الجوفاء .. من تلك الأدوات توظيفه لفكرة الداخل والخارج التي كان ميشيل فوكو أول من قال بها وأخذها منه إدوارد سعيد -كما قال في مقدمته لكتابه (الاستشراق)- ولكن إدوارد سعيد طبقها على طريقته هو ومنهجيته التي كانت مزيجا من البنيوية، والجدلية، وقد أثبت بها براعة وتفوقا في الحجاج والمناظرة.
كما أن من مزايا خطابه وتآليفه الثرة أنه كان يشتق مصطلحات جديدة من ابتكاره في خلال ذلك كله.
وكانت له طريقته المؤثرة في عرض المفارقة؛ من ذلك ما مهد به لكتابه (تغطية الإسلام)؛إذ ذكر أن كلمة "تغطية" تعني الستر أينما وردت إلا في الإعلام فإنها تعني الكشف والفضح.
ولعل في متابعاته فكرة الشرق والغرب في سفره المحكم (الاستشراق) التي بدأها من إحدى أقدم المسرحيات، وهي (الفرس) لإيسخيلوس ما يبدي عن ثقافة مرموقة لديه قل نظيرها؛ إذ سار في هذه المتابعات حتى نازل في طريقه كثيرا جدا من الكتاب مبدعين (أدباء، وشعراء ...)، وفلاسفة، ومؤرخين، ونقادا، ومنظرين، وأكاديميين ... ومنهم: دانتي أليجيري، وكارل ماركس، وألبرت حوراني، ...؛ وذلك من كل الأزمنة انتهاء بزمانه ورجالات فكر العصر، ومنهم من كانوا زملاءه من مثل برنارد لويس الذي كان بينه وبينه منازلات كبيرة يظفر فيها إدوارد سعيد حتى جعلت من برنارد لويس في وضع لا يتجاوز كونه صياد مواقف يعكر فيها صفو إدوارد سعيد ويفسد عليه مناسباته الفكرية، وإصداراته المتألقة بعد أن صار إدوارد سعيد عقدة في حياة لويس، من ذلك ما كان من موقف للويس حين أصدر سعيد مذكراته، وراح لويس يشكك بدأب مسعور، أو محموم بما كان أورده سعيد؛ لمجرد النكاية التي يلحظها القارئ من أول انطباع له.
وإذا كانت الخاتمة وقوفا عند ذكر برنارد لويس، أفليس للمرء أن يسأل عن حجم الأثر الذي أحدثه إدوارد سعيد في برنارد لويس حتى إن كان أثرا يتسم بالسلبية ربما، فما بال أثره في الآخرين؟!
عندما كنت على مقاعد الدراسة الجامعية كنت قرأت بعض كتب إدوارد سعيد مثل: (الاستشراق)، و(تغطية الإسلام)، و(القضية الفلسطينية و المجتمع الأمريكي)، وكنت مفتتنا به فكريا ومعجبا بثقافته، ولعل ما عزز موقفي منه وثبتني على شغفي بكتابات هذا المفكر المبدع ما كان يذكره عنه أستاذنا الدكتور حسام الخطيب، وكان لا يخفي إعجابه، وفخره به حتى إنه ألقى على مسامعنا مرة -وكنا طلبته في السنة الرابعة- قوله الذي أطرب مسامعي، وفاجأ كثيرا من زملائي:
"... إنه لو عدد خمسة مثقفين في القرن العشرين فسيكون منهم مثلا: ت . س . إليوت، وإدوارد سعيد ...".

عبدالصمد صقر
أعلى