سامح الله من زَيَّنَ لي أن أُنَقِّلَ خُطَايَ في مشوار كهذا ، لا أراه إلا صَعيدًا زَلَقًا كثير العثار لا تؤمن معه عواقب حصائد الألسنة. بيد أن في مستفاد الدروس منه عِوَضًا من مغبة الخوض فيه واحتمال وعثائه ؛ ولأن فيه تفسيرا لكثير مما راكمته حوادث حياتي في قابل السنين.
في يناير من عام ١٩٦٤عُيِّنتُ في قرار واحد مع أخي العبد الصالح والصديق الكريم الأستاذ الدكتور عبد الله جمال الدين معيدين بدار العلوم ، فالتحقَ هاشًّا باشًّا بقسم التاريخ والحضارة ؛ وأسلمت نفسي على الكراهة إلى قسم علم اللغة ثم خَبَّتْ بي الرِّكَابُ ، فما كان شيء أحب إليّ مما قدره الله لي، وعَقَلْتُ على كَرِّ الأيام بعضا من أسرار الجمال والجلال في القول الكريم : ((وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون )) ، ثم اعْتَزي هذا القول الكريم في أرجاء نفسي بنظيره ورصيفه : ((فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرا )). قلت : صدق الله ؛ فما حياتي كلها منذ استَهَلَّت مني صرخة الوليد إلى أن بلغت مني وبيَ السنون ما بلغت إلا دليلُ صدقٍ وبرهانُ يقينٍ ساطعٍ على أنه سبحان هو الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل .
حثني بعض الرفاق - من باب الكياسة -أن أعَرِّفَ بنفسي شيخنا العظيم إبراهيم أنيس ، وكان - رحمه الله -يتهيأ للتخلي عن منصب رئيس القسم. ففعلت ُ، وكان في لقائه من اليبوسة والجفاف والكدرة مافيه.
سألني: اسمك إيه ؟ فأجبته
قال : روح شوف حد من الأساتذة يشوف لك موضوع تشتغل فيه!
هكذا بدأ اللقاء ، وهكذا انتهى. وكان سبقني إلى التعيين في القسم الأخ الصديق صلاح فضل ليكون معيدا في علم الأصوات بإشراف الدكتورأيوب بناء على إعلان نشر بالصحف. ولم يكن متاحا له إلا هذا المكان ؛ إذ لا وجود لشاغر وظيفي آنذاك في قسمه الأثير ؛ قسم النقد والبلاغة . غير أنه لم يطق دراسة الأصوات ، بل سيء بها وضاق بها ذرعا ، ولم تسر الأمور بينه وبين أيوب على ما هو مَروم . ولعل مرد ذلك إلى ميله الأصيل إلى دراسة النقد دون علم اللغة ، وإلى تعارض الطبيعة بين الأستاذ والتلميذ ، وهو ما أيْبَس ما بينه وبين أيوب ، وبتعضيد من أنيس اتخذ فضلٌ عِلْمَ الاصوات وأستاذه وراءه ظِهْرِيًّا ، وانتبذْ بنفسه عنهما مكانا قصيا إلى أن منّ الله عليه بالبعثة الإسبانية. وجئت إلى القسم لأكون البديل، فضيَّفني أيوب رحمه الله أكرم الضيافة، ووثق بي ، وقال : ( والكلام موثق بخطه عندي ) يمكن أن تكون معيدا تقليديا مثل فلان وفلان ، ،ولكن سنك ( وكانت سني في حينها تجاوز العشرين بأشهر قِلال ) ، وانتماءك إلى التعليم العام وموهبتك كل أولئك يؤهلك لأن تكون مختلفا. فكان له الفضل بعد الله إذ ثبتني على صراط اللسانيات ، وأشرع أمامي أبواب النقد الأدبي ولكن من مَسَارٍ مخالف ، ومَدَارٍ ما أخطرته الأيام في حينها لي على بال.
خَلّى أنيس ما بينه وبين الرئاسة ، وخَلَفَ من بعده خَلْفٌ من الرؤساء تباينت طباعهم. و كانت لي مع بعضهم ما أعُدُّه الدرس الأول في حياتي في الكلية ، أو إن شئت فقل : الصدمةَ الأولى. كنت مُغْترَقًا في عملي المختبري ،وعرض عارض للجهاز توقف معه العمل ، فأسرعت أستنجد بالرئيس ، وإذا هو يجلس في مكتبه إلى إحدى موظفات الكلية يتكالمان ويتضاحكان . لم أجد في ذلك بأسا . أما البأس كل البأس فهو ما كان منه حين عرضتُ عليه ما نابني من تعطيل الجهاز ؛ إذ قال لي وعلى مسمع منها
- بسّ ياأخ ! خلينا نتكلم مع اللي أحسن منٌك.
بهتني قوله ، لكني تماسكت ، ووجهت الكلام إليها قائلا :لو سمحتِ تفضلي لأن بيني وبين الدكتور كلاما لا أريدك أن تسمعيه.
تلكأتْ في القيام ، ورددتْ بصرها بيني وبينه ، فأعدتُ لها الكلام في لهجةجافية مغاضبة ، ونظرتْ هي إليه فلم يُنجِدْها ،فَأجَاءَها غضبي إلى القيام ، ونهضتْ وقد التفَّتْ في مشيتها الساقُ بالساق. فلما خلا بَعضُنَا إلى بعض قلت له وأنا أتفَطَّرُ غضبًا : يا أستاذنا ! أنا معيد وهذه موظفة وبيننا تعامل رسمي كيف يمكن أن يكون التعامل بيننا محكوما بالاحترام وهي ترانا وتسمع ما كان بيننا. أترى ذلك يجوز أو يصح ! لقد انقضى الموقف كيفما كان لكني لا أضمن رد فعلي إن تكرر هذا الموقف أو مثيله.
ضحك الرجل ضحكة باهتة غير ذات معنى أراد بها تمييع الغضبة ، وقال : هم الصعايدة كدا ، مقفولين وما يعرفوا شيء اسمه الهزار.
كانت تلكم هي الصدمة الأولى.
وكانت تلكم هي تجربة الصبر الأول.
ومن الصدمة بعد الصدمة لا غَرْوَى .. يكون الصدام بعد الصدام
في يناير من عام ١٩٦٤عُيِّنتُ في قرار واحد مع أخي العبد الصالح والصديق الكريم الأستاذ الدكتور عبد الله جمال الدين معيدين بدار العلوم ، فالتحقَ هاشًّا باشًّا بقسم التاريخ والحضارة ؛ وأسلمت نفسي على الكراهة إلى قسم علم اللغة ثم خَبَّتْ بي الرِّكَابُ ، فما كان شيء أحب إليّ مما قدره الله لي، وعَقَلْتُ على كَرِّ الأيام بعضا من أسرار الجمال والجلال في القول الكريم : ((وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لاتعلمون )) ، ثم اعْتَزي هذا القول الكريم في أرجاء نفسي بنظيره ورصيفه : ((فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرا )). قلت : صدق الله ؛ فما حياتي كلها منذ استَهَلَّت مني صرخة الوليد إلى أن بلغت مني وبيَ السنون ما بلغت إلا دليلُ صدقٍ وبرهانُ يقينٍ ساطعٍ على أنه سبحان هو الذي يقول الحق وهو يهدي السبيل .
حثني بعض الرفاق - من باب الكياسة -أن أعَرِّفَ بنفسي شيخنا العظيم إبراهيم أنيس ، وكان - رحمه الله -يتهيأ للتخلي عن منصب رئيس القسم. ففعلت ُ، وكان في لقائه من اليبوسة والجفاف والكدرة مافيه.
سألني: اسمك إيه ؟ فأجبته
قال : روح شوف حد من الأساتذة يشوف لك موضوع تشتغل فيه!
هكذا بدأ اللقاء ، وهكذا انتهى. وكان سبقني إلى التعيين في القسم الأخ الصديق صلاح فضل ليكون معيدا في علم الأصوات بإشراف الدكتورأيوب بناء على إعلان نشر بالصحف. ولم يكن متاحا له إلا هذا المكان ؛ إذ لا وجود لشاغر وظيفي آنذاك في قسمه الأثير ؛ قسم النقد والبلاغة . غير أنه لم يطق دراسة الأصوات ، بل سيء بها وضاق بها ذرعا ، ولم تسر الأمور بينه وبين أيوب على ما هو مَروم . ولعل مرد ذلك إلى ميله الأصيل إلى دراسة النقد دون علم اللغة ، وإلى تعارض الطبيعة بين الأستاذ والتلميذ ، وهو ما أيْبَس ما بينه وبين أيوب ، وبتعضيد من أنيس اتخذ فضلٌ عِلْمَ الاصوات وأستاذه وراءه ظِهْرِيًّا ، وانتبذْ بنفسه عنهما مكانا قصيا إلى أن منّ الله عليه بالبعثة الإسبانية. وجئت إلى القسم لأكون البديل، فضيَّفني أيوب رحمه الله أكرم الضيافة، ووثق بي ، وقال : ( والكلام موثق بخطه عندي ) يمكن أن تكون معيدا تقليديا مثل فلان وفلان ، ،ولكن سنك ( وكانت سني في حينها تجاوز العشرين بأشهر قِلال ) ، وانتماءك إلى التعليم العام وموهبتك كل أولئك يؤهلك لأن تكون مختلفا. فكان له الفضل بعد الله إذ ثبتني على صراط اللسانيات ، وأشرع أمامي أبواب النقد الأدبي ولكن من مَسَارٍ مخالف ، ومَدَارٍ ما أخطرته الأيام في حينها لي على بال.
خَلّى أنيس ما بينه وبين الرئاسة ، وخَلَفَ من بعده خَلْفٌ من الرؤساء تباينت طباعهم. و كانت لي مع بعضهم ما أعُدُّه الدرس الأول في حياتي في الكلية ، أو إن شئت فقل : الصدمةَ الأولى. كنت مُغْترَقًا في عملي المختبري ،وعرض عارض للجهاز توقف معه العمل ، فأسرعت أستنجد بالرئيس ، وإذا هو يجلس في مكتبه إلى إحدى موظفات الكلية يتكالمان ويتضاحكان . لم أجد في ذلك بأسا . أما البأس كل البأس فهو ما كان منه حين عرضتُ عليه ما نابني من تعطيل الجهاز ؛ إذ قال لي وعلى مسمع منها
- بسّ ياأخ ! خلينا نتكلم مع اللي أحسن منٌك.
بهتني قوله ، لكني تماسكت ، ووجهت الكلام إليها قائلا :لو سمحتِ تفضلي لأن بيني وبين الدكتور كلاما لا أريدك أن تسمعيه.
تلكأتْ في القيام ، ورددتْ بصرها بيني وبينه ، فأعدتُ لها الكلام في لهجةجافية مغاضبة ، ونظرتْ هي إليه فلم يُنجِدْها ،فَأجَاءَها غضبي إلى القيام ، ونهضتْ وقد التفَّتْ في مشيتها الساقُ بالساق. فلما خلا بَعضُنَا إلى بعض قلت له وأنا أتفَطَّرُ غضبًا : يا أستاذنا ! أنا معيد وهذه موظفة وبيننا تعامل رسمي كيف يمكن أن يكون التعامل بيننا محكوما بالاحترام وهي ترانا وتسمع ما كان بيننا. أترى ذلك يجوز أو يصح ! لقد انقضى الموقف كيفما كان لكني لا أضمن رد فعلي إن تكرر هذا الموقف أو مثيله.
ضحك الرجل ضحكة باهتة غير ذات معنى أراد بها تمييع الغضبة ، وقال : هم الصعايدة كدا ، مقفولين وما يعرفوا شيء اسمه الهزار.
كانت تلكم هي الصدمة الأولى.
وكانت تلكم هي تجربة الصبر الأول.
ومن الصدمة بعد الصدمة لا غَرْوَى .. يكون الصدام بعد الصدام