منذ مُجادلة الأمس بيني وبين زوجتي، وهي في إضرابٍ مفتوح عن الكلام معي.. لا كلمة، لقد أضاعت النطق بغتةً، وهبط سكون معضلٍ في بيتنا. تكهنت أنّ صمتها زائل وثرثرتها عائدة لا ريب، فكيف لامرأةٍ أن تلوذ طويلاً دون أن تنطق؟ تالله ما ألفنا ذاكَ.. إنما خاب تنبُّئيّ، وعقيلتي تمضي ولسانها مصفّدٌ أمامي. حتى رفعتُ الأعلام البيضاء عاليًا معلنًا الهزيمة، والإقدام على توقيع معاهدة الاستسلام، أمام قوّة زوجتي الهوادة.. فقررت التصرف وأخذ المبادرة لصلحها. في المساء عند رجوعي إلى المنزل بعد يوم عمل شاقٍ طويل؛ جئتُ بهديةٍ لزوجتي وعلى يقينٍ بفَناء صمتها هذه الليلة، وقد دقت الساعات لينطق لسانها بحلول الهدية، فتهادوا تحابوا. ألقيتُ السلام على زوجتي المطلة من الشرفة، ويدي اليسرى تخفي الهدية ورائي، ولم تبادلني التحية، مكثّت تُلقي بأبصارها إلى الشارع دون حركة، كدمية عرض الملابس، أو كأي شيء ثابت يستحضره البال.
- حبيبتي زوجتي كيف أنتْ؟ لقد أتيتُ لك بهدية!
كأن سمعها قد اقتفى أثر لسانها وغادراني إلى الأبد.. شعرت بالحنق للامبالاتها، فاعتراني الانزعاج.. وإذ بأحد أباليسّتي يُفتي عليّ رأيًا: "حاااا.. اضبرها بتلك الهدية في مؤخرة رأسها.. أجّل، فلتُقدّم على ذلك حالاً "
استدارت دون أن ترمقني، ومرت بمحاذاتي صوب مكان مجهول في المنزل، تاركة إيّاي أنتصب من فرط الذهول مما لقيتُ منها، في مشهدٍ لو رآه كلبي النائم في السطح، لضحك ملء أشداقه على صاحبه.
دُستُ - بانفعال - الهدية بين الملابس أعلى الدولاب.. فكرت أن بعد ما أقدمتُ عليه في التوّدّد إليها؛ فما عدت مذنبًا، وحلفتُ على نفسي أن لا أعيرها اهتمامًا، ولنعتّل معًا في جرف السكون هذا، فما ضرري يا زوجتي الصموت؟ فإن زوجك لم ينسَ بعدُ عشرته القديمة مع العزوبة.
مر يومين، وتقلّب حال زوجتي، من خلوة الصمت، إلى الاقدام على أفعال مُدهشة، فتجلسُ وحيدةً في البهو أمام تلفازٍ مطفي وتبصر في شيء مجهول يبدو لها لوحدها.. أتساءل مع نفسي، أجنّنتِ يا هذه؟
وقع ذات ليلة أن استفقت من النعاس، ومدّدت يدي لأُنير مصباح المنبه، وأستطلع أين وصل بي قطار الليل، فألقى عقارب الساعة تهرع لمعانقة الثالثة صباحًا، ثم لكأني أسمع صوت هرولة قادم من البهو! قمتُ من الفراش لأتبيّن الأمر، فظهرت لي امرأةً بشعرٍ منفوخ تهرول بين الأرائك في نصف ظلام، لطّف من وطأته شعاع قنديل الشارع الآتي من بعيد إلى النافذة.. فكرتُ أنّ بصنيعها هذا، تبتغي إخافتي، وعدتُ إلى نومي الجميل تاركًا زوجتي (عيشة قنديشة) تلك تُبدع في فليم رعب هزلي، ما كان ليهلعني، إن لم يُقهقهني.. إلا أنها واظبت في مسعاها في إرعابي بعد أيام من الصمت، فاستبدلته بمواصلة الإتيان بأفعال لا يقوم بها عدا فاقدي العقول.. فأستيقظ في الصباح لألقاها تحدق فيّ وقد اتسعت عيناها ولا ترمش بهما، حتى لون أبصارها مال للحمرة، وبهت محياها.. أحاول أن أتهاون لأفعالها، وإن كنت أُحِسُ بصرخةٍ في وجهها وقد بدأت تخنقني، حتى تستفيق من هذا الجنون.
أعود في المساء لبيتي، ومعي ما سآكله، فما عدتُ متزوجًا، فزوجتي المفترضة، تخوض - باندفاع - في غرائبها، بشعر مغبر أشعث، وملابس مهترئة، وأنفاس سريعة حارّة، تُهرول داخل البيت، فتختفي معظم الوقت، وتظهر على حين غرة، كأنها تلعب مع الأشباح.. تنام جنبي في السرير، ثم تختفي، وتظهر من جديد وترمقني بعيون لكأنهما تُضيئان في وجهي ومسكونتان بأمر مرعب! صوت ضمير يخاطبني: "هذه العيون، ليستا ذاتهما التي عشقت يومًا، فبُعد ما يكونان!" أصرف تلك الأصوات الكفيلة برّج حياتي، حتى ما عدتُ قادرًا على أن أتهاون؛ فأفكر، أكل هذا المجهود العظيم من أجل إخافتي؟ لقد أفلحتِ - حقًا - يا زوجتي بمرادك، فها قد بدأت أمارة الشعور بالريبة تأتيني! ففكرت فيما أصرف تصديقه، وأرتاب منه؛ تُرى أتكون قد جُنّت حقًا، وأنا - يا غافل - أؤمن أنها تتدعي ذلك؟ فما بدر منها، لهُوَ الجنون بدرجة فارس، فما عدتُ مصدقًا أن زوجتي تتقن كل هذا التصنع.. ضاق بي أمري والوساوس تنهال عليّ، ورأسي يغلي كقِدْرٍ، فأخشى أنهم زوجوني مخبلوةً ودّونوا اسمها إلى جانب اسمي في كنانيش الدولة! آهٍ يا مسكين أنا. قررت طلب أباها في الهاتف واستفساره عن ماذا حلّ بابنته؟ علّها نوبات جنون تنتابها، وهو على علم بها.
تركتُ زوجتي وهي تُشاهد تلفازًا مطفيًا في البهو - كعادتها - وردّدتُ باب غرفة النوم، ورفعت سماعة الهاتف لأتصل بوالدها.. تفاقمت نبضات قلبي مع تواصل الرنين "تووووت" ثم صوت والد زوجتي في أذني يلقي عليّ السلام، وبعدُ عجلني بالكلام:
- بالله عليك، كيف يُسّوغ لك خاطرك هذا الصنيع؟
فأصمت لأحاول أن أخمِّن - بإسراعٍ - ماذا يريد من كلامه.. أتكون زوجتي أطلعته عن خصامنا؟ فيردف:
- أكثر من أسبوع، وزوجتك غاضبة في منزل والدها وما تزال، وأنت لا شأن لك بها، ولم تكلف نفسك حتى الاتصال لمعرفة أين استقرت حرمك؟!
وقفتُ كالمسعوق بلا اكتراث للمكالمة والعُتّاب الآتِ منها، وأحاول جمع شتات ذهني، وأن أستوعب ما يقعُ فلا أقدر.. لأستدير ناحية المنبه مخاطبًا إياه في أملٍ أخير:
"رِّن أيها المنبه".
- حبيبتي زوجتي كيف أنتْ؟ لقد أتيتُ لك بهدية!
كأن سمعها قد اقتفى أثر لسانها وغادراني إلى الأبد.. شعرت بالحنق للامبالاتها، فاعتراني الانزعاج.. وإذ بأحد أباليسّتي يُفتي عليّ رأيًا: "حاااا.. اضبرها بتلك الهدية في مؤخرة رأسها.. أجّل، فلتُقدّم على ذلك حالاً "
استدارت دون أن ترمقني، ومرت بمحاذاتي صوب مكان مجهول في المنزل، تاركة إيّاي أنتصب من فرط الذهول مما لقيتُ منها، في مشهدٍ لو رآه كلبي النائم في السطح، لضحك ملء أشداقه على صاحبه.
دُستُ - بانفعال - الهدية بين الملابس أعلى الدولاب.. فكرت أن بعد ما أقدمتُ عليه في التوّدّد إليها؛ فما عدت مذنبًا، وحلفتُ على نفسي أن لا أعيرها اهتمامًا، ولنعتّل معًا في جرف السكون هذا، فما ضرري يا زوجتي الصموت؟ فإن زوجك لم ينسَ بعدُ عشرته القديمة مع العزوبة.
مر يومين، وتقلّب حال زوجتي، من خلوة الصمت، إلى الاقدام على أفعال مُدهشة، فتجلسُ وحيدةً في البهو أمام تلفازٍ مطفي وتبصر في شيء مجهول يبدو لها لوحدها.. أتساءل مع نفسي، أجنّنتِ يا هذه؟
وقع ذات ليلة أن استفقت من النعاس، ومدّدت يدي لأُنير مصباح المنبه، وأستطلع أين وصل بي قطار الليل، فألقى عقارب الساعة تهرع لمعانقة الثالثة صباحًا، ثم لكأني أسمع صوت هرولة قادم من البهو! قمتُ من الفراش لأتبيّن الأمر، فظهرت لي امرأةً بشعرٍ منفوخ تهرول بين الأرائك في نصف ظلام، لطّف من وطأته شعاع قنديل الشارع الآتي من بعيد إلى النافذة.. فكرتُ أنّ بصنيعها هذا، تبتغي إخافتي، وعدتُ إلى نومي الجميل تاركًا زوجتي (عيشة قنديشة) تلك تُبدع في فليم رعب هزلي، ما كان ليهلعني، إن لم يُقهقهني.. إلا أنها واظبت في مسعاها في إرعابي بعد أيام من الصمت، فاستبدلته بمواصلة الإتيان بأفعال لا يقوم بها عدا فاقدي العقول.. فأستيقظ في الصباح لألقاها تحدق فيّ وقد اتسعت عيناها ولا ترمش بهما، حتى لون أبصارها مال للحمرة، وبهت محياها.. أحاول أن أتهاون لأفعالها، وإن كنت أُحِسُ بصرخةٍ في وجهها وقد بدأت تخنقني، حتى تستفيق من هذا الجنون.
أعود في المساء لبيتي، ومعي ما سآكله، فما عدتُ متزوجًا، فزوجتي المفترضة، تخوض - باندفاع - في غرائبها، بشعر مغبر أشعث، وملابس مهترئة، وأنفاس سريعة حارّة، تُهرول داخل البيت، فتختفي معظم الوقت، وتظهر على حين غرة، كأنها تلعب مع الأشباح.. تنام جنبي في السرير، ثم تختفي، وتظهر من جديد وترمقني بعيون لكأنهما تُضيئان في وجهي ومسكونتان بأمر مرعب! صوت ضمير يخاطبني: "هذه العيون، ليستا ذاتهما التي عشقت يومًا، فبُعد ما يكونان!" أصرف تلك الأصوات الكفيلة برّج حياتي، حتى ما عدتُ قادرًا على أن أتهاون؛ فأفكر، أكل هذا المجهود العظيم من أجل إخافتي؟ لقد أفلحتِ - حقًا - يا زوجتي بمرادك، فها قد بدأت أمارة الشعور بالريبة تأتيني! ففكرت فيما أصرف تصديقه، وأرتاب منه؛ تُرى أتكون قد جُنّت حقًا، وأنا - يا غافل - أؤمن أنها تتدعي ذلك؟ فما بدر منها، لهُوَ الجنون بدرجة فارس، فما عدتُ مصدقًا أن زوجتي تتقن كل هذا التصنع.. ضاق بي أمري والوساوس تنهال عليّ، ورأسي يغلي كقِدْرٍ، فأخشى أنهم زوجوني مخبلوةً ودّونوا اسمها إلى جانب اسمي في كنانيش الدولة! آهٍ يا مسكين أنا. قررت طلب أباها في الهاتف واستفساره عن ماذا حلّ بابنته؟ علّها نوبات جنون تنتابها، وهو على علم بها.
تركتُ زوجتي وهي تُشاهد تلفازًا مطفيًا في البهو - كعادتها - وردّدتُ باب غرفة النوم، ورفعت سماعة الهاتف لأتصل بوالدها.. تفاقمت نبضات قلبي مع تواصل الرنين "تووووت" ثم صوت والد زوجتي في أذني يلقي عليّ السلام، وبعدُ عجلني بالكلام:
- بالله عليك، كيف يُسّوغ لك خاطرك هذا الصنيع؟
فأصمت لأحاول أن أخمِّن - بإسراعٍ - ماذا يريد من كلامه.. أتكون زوجتي أطلعته عن خصامنا؟ فيردف:
- أكثر من أسبوع، وزوجتك غاضبة في منزل والدها وما تزال، وأنت لا شأن لك بها، ولم تكلف نفسك حتى الاتصال لمعرفة أين استقرت حرمك؟!
وقفتُ كالمسعوق بلا اكتراث للمكالمة والعُتّاب الآتِ منها، وأحاول جمع شتات ذهني، وأن أستوعب ما يقعُ فلا أقدر.. لأستدير ناحية المنبه مخاطبًا إياه في أملٍ أخير:
"رِّن أيها المنبه".