لا يشك واحد ممن سمعوا سيدة الغناء العربي أم كلثوم أنها كانت تعرف “قصيدة البردة” للإمام البوصيري، وربما حفظت بعض أبياتها أو رددتها وهي صغيرة على الأقل في بيئتها القروية، أو من والدها أو من أحد الفرق أو المشايخ في مناسبات دينية عديدة التي يحتفي بها الشعب المصري في الموالد، والأغنياء في بيوتهم، وهو ما يدعو لسؤال يلح دوما على عشاق صوتها: لماذا لم تغنِ أم كلثوم هذه البردة الشهيرة؟
مع كون قصيدة البردة أو “الكواكب الدرية فى مدح خير البرية” كما سماها صاحبها، من أهم وأشهر القصائد التي قيلت في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أثنى عليها جمهرة من العلماء والنقاد إجماعا ـ في الأغلب ـ بأنها أفضل وأعجب القصائد في باب المديح النبوي، حتى قال الدكتور زكي مبارك أن: (البوصيري بهذه البردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن البردة تلّقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبوابًا من السيرة النبوية، وعن البردة تلّقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال)، إلى أن قال: (وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله والرسول).
لقد حرص على قراءتها بعض المسلمين في كثير من الأقطار العربية والإسلامية كل جمعة نهارا أو في ليلتها، عبر مجالس أطلقوا عليها “مجالس البردة الشريفة”، أو مجالس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنهم في يوم الجمعة يقفون في صفين متقابلين وقد أمسك كل واحد منهم بقصيدة “البردة” مطبوعة فيقرأونها بصوت خفيض دلالة على توقير ما يرددونه من كلمات، ثم يعلو صوتهم رويدا وبطريقة محسوبة، منغمة، محببة، هادئة، تطرب لها الأفئدة قبل الأسماع.
لقد عارض “البردة” عددًا من الشعراء، كما تُرجمت إلى العديد من اللغات، وتم طبعها عشرات المرات، وتحتفظ دار الكتب المصرية بعدة نسخ منها خطوطها محلاة بالذهب، وكذلك مسجد “البوصيري” بالإسكندرية، وتناوب على شرحها العديد من العلماء، وأئمة المسلمين، ومنهم: القسطلاني، والأنصاري، والزركشي، وجلال الدين المحلي، وابن حجر الهيتمي وغيرهم من المعاصرين.
وقد عقد الباحثون والمتخصصون من أهل اللغة العديد من الموازنات الشعرية بين بردة كعب بن زهير وبردة البوصيري ونهج البردة لشوقي، انتهى بعضهم إلى أن كل من البوصيري وشوقي هو ابن مجتمعه، ولهذا غلبت الصوفية على بردة البوصيري بكل أشكالها الروحية التي أفرطت في الخيالات، بينما أحاطت شوقي ثقافة دينه وثقافة معاصرة دنيوية لكونه كان دارسًا للتاريخ العربي وأدبه وشعره، كما كان مطلعًا على الأدب الغربي، حيث نشأ وتربى في بيئة راقية، يضمه قصر الخديوي إسماعيل وما فيه من صنوف العيش الرغيد، والثراء، لذا اتسمت قصيدته بالوسطية والاعتدال دون الانحياز للجوانب المادية التامة أو الميل إلى الروحانية الكاملة، لكن من الإنصاف أن نقول أن شوقي على الرغم من إجادته وصدقه وعلو شأوه في امتطاء صهوة المديح النبوي بما لا يقل عن بردة البوصيري إلا أن بصمات البوصيري جلية في جنبات قصيدته.
ربما كان ما تقدم بيانه هو السبب الأول الذي جعل أم كلثوم تميل إلى الشدو بقصيدة “نهج البردة” لشاعر معاصر ذاع صيته في بلده والبلدان العربية والإسلامية، وبلغ حدًا من الإجادة التي تجعل اختيارها يدور في مقاربة موضوعية مع البردة، حيث تدور أبياتها في سماوات “البردة” غير بعيدة عنها، على الرغم من كون البردة أقل في عدد أبياتها من قصيدة شوقي بثلاثين بيتا؛ فقد بلغت مائة وتسعين بيتا، وجاء ترتيب الموضوعات في قصيدة البردة موازيا لترتيب الأبيات في قصيدة نهج البردة، غير أن أحمد شوقي لم يلتزم تماما بنفس ترتيب موضوعات البردة، لكنه أنه قد أتى بكل موضوعات بردة البوصيري تماما.
وهو ما يقودنا إلى السبب الثاني في تفضيل أم كلثوم الشدو بنهج البردة؛ فمهما كان عدد أبيات أي قصيدة فستخضع لطريقة سيدة الغناء العربي الأثيرة في انتقاء أبيات محددة من أول وآخر ووسط القصيدة، وتعيد ترتيبها على نحو تراه مناسبا من ناحية القبول والمزاجية التي تناسب جمهورها، كما تتدخل في تغيير بعض الكلمات وغالبا ما كانت توكل هذه المهمة لشاعرها الأثير شاعر الشباب أحمد رامي، وهو عين ما صنعته بالفعل مع قصيدة شوقي حيث اختارت منها ثلاثين بيتا، منها: ستة في الغزل، وثلاثا في الحكمة، وخمسة في التضرع لله تعالى تعبدا، واثنا عشر بيتا في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وأربعة في الدعاء اختارتهم جميعهم من الجزء الأول من القصيدة، أي من الخمسين بيتا الأولى، غير أنها أتت بنفس البيت الأخير الذي اختتم به شوقي قصيدته وجعلته الأخير بحسب ترتيبه في قصيدتها المغناه، وهو ما يجعل هذا الترتيب الكلثومي على من يسمعه مكتمل المعنى لا يحس فيه بغرابة.
لكن أم كلثوم لم تغير في كلمات القصيدة سوى كلمة واحدة جاءت ضمن البيت التالي:
لَقَد أَنَلتُكَ أُذناً غَيرَ واعِيَةٍ وَرُبَّ مُنتَصِتٍ وَالقَلبُ في صَمَمِ
فغير رامي “منتصتٍ” وجعلها مستمع.. مخافة أن تكون صعبة على جمهورها بحسب تبريرها له. وهو ما يعني أن هذا الصنيع مع شوقي في قصيدته، لن تستطيعه مع البوصيري في بردته؛ فقد تشوش على من يقرأون البردة بانتظام، ويحترمون ترتيبها، ويجلون مفرداتها، ولا يقبلون الجرأة على تغييرها، وهو ما يعني أن أم كلثوم لا تستطيع مس هذا المقدس وإلا أصابها شرر متطاير غضبا من أتباع البردة، وقد يكون فيهم ـ وغالبا ـ جمهورها وقد تفقدهم، فآثرت السلامة واختارت نهج البردة.
كما يرى الأستاذ كمال النجمي في كتابه: “تراث الغناء العربي”: (الجدير بالذكر أنه كان المفروض أن تغني أم كلثوم “بردة” البوصيري ولكنها عدلت عن ذلك بسبب شهرة هذه القصيدة في الموالد والأذكار وحلقات الصوفية. لم تشأ أم كلثوم أن تنقل “البردة” من جوها هذا الذي عاشت فيه مئات السنين إلى الحفلات الغنائية الحديثة. وهكذا اختارت أبياتًا من نهج البردة لشوقي وأعطتها للسنباطي، فصنع منها ذلك اللحن الفذّ غير المسبوق)، وهو سبب وجيه.
كما يرى “النجمي أن من ضمن الأسباب التي دعت أم كلثوم لغناء نهج البردة، أنها سبقتها بقصيدة دينية من كلمات شوقي ولحن السنباطي، وهي:
سَلوا قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا
وكانت هذه أول قصيدة دينية الطابع تغنيها أم كلثوم من شعر أمير الشعراء وقد كتبها في العشرينيات مدحًا في الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده الشريف، وقد جعلها قسمين: أحدهما في الوعظ بذهاب أيام الشباب وذم الدنيا، والحث على الكرم والبر، والبعد عن الشر، والدعوة إلى طلب العلم.
أما السبب الذي جعل أم كلثوم ترجح كفة قصيدة شوقي ـ ربما ـ أن أحدا من العلماء وخاصة علماء العقيدة الإسلامية لم يتعقب أبيات شوقي بالإنكار لمخالفتها العقيدة الصحيحة الوسطية للإسلام والمسلمين، وهو ما وقعت فيه البردة؛ فقد أحصوا منها عددا من الأبيات وصموها بالشركيات والابتداع، والغلو الشنيع في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
كما يضيف الموسيقار رياض السنباطي سببا خفيا في معناه جليا في مبناه، حيث يقول في إحدى اللقاءات الصحفية مع الكاتب الكبير أنيس منصور: (أن بعض الأغاني تستغرق وقتًا طويلا في تلحينها .. ولكن هناك أغنية لم تستغرق مني ثلاث ساعات هي أغنية “نهج البردة” لدرجة أن أم كلثوم لم تصدق أنني نجحت في ذلك فلما أسمعتها مطلع الأغنية بكت أم كلثوم.. ولما سألتها عن سر هذا البكاء الشديد، قالت: أنها هزتني من أعماقي.. وأنا أعترف لك أنني لا أعرف كيف لحنت نهج البردة.. وإنما والله على ماأقول شهيد، كنت أستمع إلى صوت داخلي وأنا أردد وراءه.. لهذه الدرجة.. فأنا لم ألحنها، وإنما أنا رددتها وراء صوت سماوي في داخلي)..
لقد جمعت نهج البردة بين قامات ثلاث في مجال الكلمة واللحن والغناء فضمنت لها النجاح والخلود، كما ضمنت البردة ونهج البردة للبوصيري وشوقي أن يتردد اسمهما بطول العالم الإسلامي وعرضه عبر الأجيال، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكونهما يلهجان بمدح خير خلق الله كلهم صلى الله عليه وسلم.
مع كون قصيدة البردة أو “الكواكب الدرية فى مدح خير البرية” كما سماها صاحبها، من أهم وأشهر القصائد التي قيلت في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث أثنى عليها جمهرة من العلماء والنقاد إجماعا ـ في الأغلب ـ بأنها أفضل وأعجب القصائد في باب المديح النبوي، حتى قال الدكتور زكي مبارك أن: (البوصيري بهذه البردة هو الأستاذ الأعظم لجماهير المسلمين، ولقصيدته أثر في تعليمهم الأدب والتاريخ والأخلاق، فعن البردة تلّقى الناس طوائف من الألفاظ والتعابير غنيت بها لغة التخاطب، وعن البردة عرفوا أبوابًا من السيرة النبوية، وعن البردة تلّقوا أبلغ درس في كرم الشمائل والخلال)، إلى أن قال: (وليس من القليل أن تنفذ هذه القصيدة بسحرها الأخاذ إلى مختلف الأقطار الإسلامية، وأن يكون الحرص على تلاوتها وحفظها من وسائل التقرب إلى الله والرسول).
لقد حرص على قراءتها بعض المسلمين في كثير من الأقطار العربية والإسلامية كل جمعة نهارا أو في ليلتها، عبر مجالس أطلقوا عليها “مجالس البردة الشريفة”، أو مجالس الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، غير أنهم في يوم الجمعة يقفون في صفين متقابلين وقد أمسك كل واحد منهم بقصيدة “البردة” مطبوعة فيقرأونها بصوت خفيض دلالة على توقير ما يرددونه من كلمات، ثم يعلو صوتهم رويدا وبطريقة محسوبة، منغمة، محببة، هادئة، تطرب لها الأفئدة قبل الأسماع.
لقد عارض “البردة” عددًا من الشعراء، كما تُرجمت إلى العديد من اللغات، وتم طبعها عشرات المرات، وتحتفظ دار الكتب المصرية بعدة نسخ منها خطوطها محلاة بالذهب، وكذلك مسجد “البوصيري” بالإسكندرية، وتناوب على شرحها العديد من العلماء، وأئمة المسلمين، ومنهم: القسطلاني، والأنصاري، والزركشي، وجلال الدين المحلي، وابن حجر الهيتمي وغيرهم من المعاصرين.
وقد عقد الباحثون والمتخصصون من أهل اللغة العديد من الموازنات الشعرية بين بردة كعب بن زهير وبردة البوصيري ونهج البردة لشوقي، انتهى بعضهم إلى أن كل من البوصيري وشوقي هو ابن مجتمعه، ولهذا غلبت الصوفية على بردة البوصيري بكل أشكالها الروحية التي أفرطت في الخيالات، بينما أحاطت شوقي ثقافة دينه وثقافة معاصرة دنيوية لكونه كان دارسًا للتاريخ العربي وأدبه وشعره، كما كان مطلعًا على الأدب الغربي، حيث نشأ وتربى في بيئة راقية، يضمه قصر الخديوي إسماعيل وما فيه من صنوف العيش الرغيد، والثراء، لذا اتسمت قصيدته بالوسطية والاعتدال دون الانحياز للجوانب المادية التامة أو الميل إلى الروحانية الكاملة، لكن من الإنصاف أن نقول أن شوقي على الرغم من إجادته وصدقه وعلو شأوه في امتطاء صهوة المديح النبوي بما لا يقل عن بردة البوصيري إلا أن بصمات البوصيري جلية في جنبات قصيدته.
ربما كان ما تقدم بيانه هو السبب الأول الذي جعل أم كلثوم تميل إلى الشدو بقصيدة “نهج البردة” لشاعر معاصر ذاع صيته في بلده والبلدان العربية والإسلامية، وبلغ حدًا من الإجادة التي تجعل اختيارها يدور في مقاربة موضوعية مع البردة، حيث تدور أبياتها في سماوات “البردة” غير بعيدة عنها، على الرغم من كون البردة أقل في عدد أبياتها من قصيدة شوقي بثلاثين بيتا؛ فقد بلغت مائة وتسعين بيتا، وجاء ترتيب الموضوعات في قصيدة البردة موازيا لترتيب الأبيات في قصيدة نهج البردة، غير أن أحمد شوقي لم يلتزم تماما بنفس ترتيب موضوعات البردة، لكنه أنه قد أتى بكل موضوعات بردة البوصيري تماما.
وهو ما يقودنا إلى السبب الثاني في تفضيل أم كلثوم الشدو بنهج البردة؛ فمهما كان عدد أبيات أي قصيدة فستخضع لطريقة سيدة الغناء العربي الأثيرة في انتقاء أبيات محددة من أول وآخر ووسط القصيدة، وتعيد ترتيبها على نحو تراه مناسبا من ناحية القبول والمزاجية التي تناسب جمهورها، كما تتدخل في تغيير بعض الكلمات وغالبا ما كانت توكل هذه المهمة لشاعرها الأثير شاعر الشباب أحمد رامي، وهو عين ما صنعته بالفعل مع قصيدة شوقي حيث اختارت منها ثلاثين بيتا، منها: ستة في الغزل، وثلاثا في الحكمة، وخمسة في التضرع لله تعالى تعبدا، واثنا عشر بيتا في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وأربعة في الدعاء اختارتهم جميعهم من الجزء الأول من القصيدة، أي من الخمسين بيتا الأولى، غير أنها أتت بنفس البيت الأخير الذي اختتم به شوقي قصيدته وجعلته الأخير بحسب ترتيبه في قصيدتها المغناه، وهو ما يجعل هذا الترتيب الكلثومي على من يسمعه مكتمل المعنى لا يحس فيه بغرابة.
لكن أم كلثوم لم تغير في كلمات القصيدة سوى كلمة واحدة جاءت ضمن البيت التالي:
لَقَد أَنَلتُكَ أُذناً غَيرَ واعِيَةٍ وَرُبَّ مُنتَصِتٍ وَالقَلبُ في صَمَمِ
فغير رامي “منتصتٍ” وجعلها مستمع.. مخافة أن تكون صعبة على جمهورها بحسب تبريرها له. وهو ما يعني أن هذا الصنيع مع شوقي في قصيدته، لن تستطيعه مع البوصيري في بردته؛ فقد تشوش على من يقرأون البردة بانتظام، ويحترمون ترتيبها، ويجلون مفرداتها، ولا يقبلون الجرأة على تغييرها، وهو ما يعني أن أم كلثوم لا تستطيع مس هذا المقدس وإلا أصابها شرر متطاير غضبا من أتباع البردة، وقد يكون فيهم ـ وغالبا ـ جمهورها وقد تفقدهم، فآثرت السلامة واختارت نهج البردة.
كما يرى الأستاذ كمال النجمي في كتابه: “تراث الغناء العربي”: (الجدير بالذكر أنه كان المفروض أن تغني أم كلثوم “بردة” البوصيري ولكنها عدلت عن ذلك بسبب شهرة هذه القصيدة في الموالد والأذكار وحلقات الصوفية. لم تشأ أم كلثوم أن تنقل “البردة” من جوها هذا الذي عاشت فيه مئات السنين إلى الحفلات الغنائية الحديثة. وهكذا اختارت أبياتًا من نهج البردة لشوقي وأعطتها للسنباطي، فصنع منها ذلك اللحن الفذّ غير المسبوق)، وهو سبب وجيه.
كما يرى “النجمي أن من ضمن الأسباب التي دعت أم كلثوم لغناء نهج البردة، أنها سبقتها بقصيدة دينية من كلمات شوقي ولحن السنباطي، وهي:
سَلوا قَلبي غَداةَ سَلا وَثابا لَعَلَّ عَلى الجَمالِ لَهُ عِتابا
وكانت هذه أول قصيدة دينية الطابع تغنيها أم كلثوم من شعر أمير الشعراء وقد كتبها في العشرينيات مدحًا في الرسول صلى الله عليه وسلم في ذكرى مولده الشريف، وقد جعلها قسمين: أحدهما في الوعظ بذهاب أيام الشباب وذم الدنيا، والحث على الكرم والبر، والبعد عن الشر، والدعوة إلى طلب العلم.
أما السبب الذي جعل أم كلثوم ترجح كفة قصيدة شوقي ـ ربما ـ أن أحدا من العلماء وخاصة علماء العقيدة الإسلامية لم يتعقب أبيات شوقي بالإنكار لمخالفتها العقيدة الصحيحة الوسطية للإسلام والمسلمين، وهو ما وقعت فيه البردة؛ فقد أحصوا منها عددا من الأبيات وصموها بالشركيات والابتداع، والغلو الشنيع في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
كما يضيف الموسيقار رياض السنباطي سببا خفيا في معناه جليا في مبناه، حيث يقول في إحدى اللقاءات الصحفية مع الكاتب الكبير أنيس منصور: (أن بعض الأغاني تستغرق وقتًا طويلا في تلحينها .. ولكن هناك أغنية لم تستغرق مني ثلاث ساعات هي أغنية “نهج البردة” لدرجة أن أم كلثوم لم تصدق أنني نجحت في ذلك فلما أسمعتها مطلع الأغنية بكت أم كلثوم.. ولما سألتها عن سر هذا البكاء الشديد، قالت: أنها هزتني من أعماقي.. وأنا أعترف لك أنني لا أعرف كيف لحنت نهج البردة.. وإنما والله على ماأقول شهيد، كنت أستمع إلى صوت داخلي وأنا أردد وراءه.. لهذه الدرجة.. فأنا لم ألحنها، وإنما أنا رددتها وراء صوت سماوي في داخلي)..
لقد جمعت نهج البردة بين قامات ثلاث في مجال الكلمة واللحن والغناء فضمنت لها النجاح والخلود، كما ضمنت البردة ونهج البردة للبوصيري وشوقي أن يتردد اسمهما بطول العالم الإسلامي وعرضه عبر الأجيال، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكونهما يلهجان بمدح خير خلق الله كلهم صلى الله عليه وسلم.