في ثالث أيام عيد الأضحى زرت أختي. أختي تقيم في القدس وهي حاصلة على هوية دولة إسرائيل العلية، لأنها متزوجة من مقدسي كان يقيم في ضاحية البريد، وكان والده موظفاً في بريد القدس منذ العهد الأردني الذي حكم الضفة الغربية بين ١٩٤٩ و١٩٦٧.
قبل العام ١٩٩٠ لم تكن هناك مشكلة في زيارة أختي وظل الأمر كذلك حتى فترة متأخرة، إذ ظلت تقيم في ضاحية البريد حتى شددت الدولة العلية من حصارها على المدينة المقدسة راغبة في تجريد أكبر عدد من سكانها من هوياتهم الإسرائيلية التي يعاملون بسببها مواطنين إسرائيليين. صارت الضاحية مع الأيام جزءاً من المناطق التي يخضع سكانها للسلطة الفلسطينية، وكان على من يرغب منهم في الاحتفاظ بالهوية الإسرائيلية أن يقيم في مناطق عدتها الدولة جزءاً من القدس الكبرى العاصمة الأبدية لها. وقد أقام زوج أختي في تلك المناطق لأنه لم يرغب في فقدان هويته. منذ تلك الأيام تعقدت الأمور وصار علينا إن أردنا أن نزور أختي في الأعياد أن نحصل على تصاريح، ولما كان ذلك مزعجاً وصعباً فقد صرنا نلتقي معاً في بيت أسرة زوجها في الضاحية. تأتي أختي من العاصمة إلى الضاحية ونذهب نحن إليها، وصارت هذه، كما كانت "بوابة مندلباوم" قبل حزيران ١٩٦٧، صارت مكان اللقاء.
من يتذكر الآن بوابة مندلباوم؟
غالباً ما كتبت عنها. كلما تذكرت القاصة سميرة عزام تذكرت البوابة، وتذكرتها أيضا كلما تذكرت قصة اميل حبيبي "بوابة مندلباوم"، وقد كتبت عن القصتين في كتابتي عن القصة القصيرة الفلسطينية أو في ذكرى رحيل سميرة أو ذكرى إميل.
غالباً ما يردد الفلسطينيون أن نكبة ١٩٤٨ شتَّتت الشعب الفلسطيني وقسَّمت فلسطين، وأن هزيمة ١٩٦٧ أعادت توحيدها ولمت شتات بعض سكانها، علماً بأن الشتات ازداد واتسعت رقعته و ... . صارت حكايتنا حكاية فيها من الغرابة والطرافة والمفارقات ما فيها. النكبة شتَّتَتنا وفرَّقت بعض العائلات عن بعضها، والهزيمة وحدت الوطن كله تحت الاحتلال وجمعت بعض العائلات ولمت شمل قسم منهم من جديد. الحرب تباعد بيننا والحرب تجمع شملنا، ومرة كتبت مقالاً عنوانه "حزيران واتساع رقعة المنفى" (جريدة الأيام ١/ ٦ /٢٠١٤).
- من كتب قصته أولاً: سميرة أم إميل؟
عنوان قصة سميرة "عام آخر" وعنوان قصة إميل "بوابة مندلباوم".
- وهل قرأ أي منهما قصة الثاني قبل أن يشرع بكتابة قصته أم أن تشابه الواقع أدى إلى كتابة تتمحور حول موضوع متقارب هو شتات الأسرة الفلسطينية، وأرجح ذلك ؟!
ظهرت قصة سميرة في مجموعتها "الظل الكبير" وفيها تأتي على الحاجة أم عبود التي تلجأ عام النكبة إلى لبنان، فيما تبقى ابنتها ماري في الناصرة إلى جانب زوجها. بعد سبع سنوات من اللجوء تُتاح الفرصة عبر الصليب الأحمر لالتقاء الأم بابنتها في بوابة مندلباوم التي تفصل القدس المحتلة في ١٩٤٨ عن القدس التي لم تُحتل. تأتي الأم من بيروت عبر دمشق فعمان فالقدس وتقف على البوابة تنتظر مجيء ابنتها التي لا تأتي، وتكرر الأم المجيء في العام القادم ويتعذر مجيء ماري، فلا يتم اللقاء. مرة كان سبب عدم المجيء مرض زوجها وثانية الولادة.
في قصة إميل يروي أنا القاص قصة وداع والدته التي ستذهب إلى القدس، عبر البوابة، مغادرة فلسطين حيث لا عودة. ولا يكتفي بسرد الحدث فهو يسهب في وصف المكان وما يجري فيه ومن يقف على بوابتيه؛ الأردنية (هناك) والإسرائيلية (هنا). ثمة شرطي أردني يرتدي عقالاً وكوفية، وثمة شرطي إسرائيلي حاسر الرأس، وهناك رجال الأمم المتحدة الذين يتنقلون بين البوابتين بيسر وسهولة لا تتهيأ لأبناء البلاد، وثمة مواطنون يودعون أقاربهم وأطفال لا يعرفون المحرمات، فيقذفون الكرة التي تتدحرج ولا تعرف حدوداً، فهم ذوو منطق بسيط غير مركب. "ما أسلمه".
صارت البوابة لرجال الأمم المتحدة من أوروبيين وأميركان مكاناً مباحاً تسرح فيه سياراتهم وتمرح وتشكل خطراً على الأطفال.
تنتهي القصة بالأسطر الآتية:
"أرجوكم، أيها السادة، أن تبتعدوا عن الطريق لئلا يسقط طفل من أطفالكم بين عجلات السيارات التي تمر من هنا بسرعة كما ترون".
"أفهمت لماذا نصحتك الا تأتي بوابة مندلباوم وفي صحبتك أطفال؟ إن منطقهم بسيط غير مركب. ما أسلمه!"
كم بوابة مندلباوم تفصل الآن الضفة الغربية عن المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨؟
بوابة برطعة قرب جنين وبوابة طولكرم وبوابة قلقيلية وبوابة رنتيس وبوابة نعلين وبوابة قلندية/ القدس و ... إلخ ... إلخ، عدا الجسور على نهر الأردن والمعابر في قطاع غزة، وكما ازداد عدد سكان فلسطين عرباً ويهوداً ازدادت البوابات والمعابر. هدم الإسرائيليون في ١٩٦٧ بوابة واحدة ليوحدوا البلاد ثم خلال ٥٥ عاماً أقاموا السور وعشرات البوابات.
ثمة مثل فلسطيني نصه "تيتي تيتي مثل ما رحت جيتي". كأننا نراوح في الدائرة نفسها. هل نقول: ليت البوابة ظلت بوابة؟
كل شيء ازداد بمتوالية هندسية لا بمتوالية حسابية والله أعلم، وقد تعلمت الفارق بين المتواليتين وأنا طالب مدرسة تعلم نظرية (مالثوس) عن التزايد السكاني.
أ. د. عادل الأسطة
الجمعة ٢٢ تموز ٢٠٢٢.
قبل العام ١٩٩٠ لم تكن هناك مشكلة في زيارة أختي وظل الأمر كذلك حتى فترة متأخرة، إذ ظلت تقيم في ضاحية البريد حتى شددت الدولة العلية من حصارها على المدينة المقدسة راغبة في تجريد أكبر عدد من سكانها من هوياتهم الإسرائيلية التي يعاملون بسببها مواطنين إسرائيليين. صارت الضاحية مع الأيام جزءاً من المناطق التي يخضع سكانها للسلطة الفلسطينية، وكان على من يرغب منهم في الاحتفاظ بالهوية الإسرائيلية أن يقيم في مناطق عدتها الدولة جزءاً من القدس الكبرى العاصمة الأبدية لها. وقد أقام زوج أختي في تلك المناطق لأنه لم يرغب في فقدان هويته. منذ تلك الأيام تعقدت الأمور وصار علينا إن أردنا أن نزور أختي في الأعياد أن نحصل على تصاريح، ولما كان ذلك مزعجاً وصعباً فقد صرنا نلتقي معاً في بيت أسرة زوجها في الضاحية. تأتي أختي من العاصمة إلى الضاحية ونذهب نحن إليها، وصارت هذه، كما كانت "بوابة مندلباوم" قبل حزيران ١٩٦٧، صارت مكان اللقاء.
من يتذكر الآن بوابة مندلباوم؟
غالباً ما كتبت عنها. كلما تذكرت القاصة سميرة عزام تذكرت البوابة، وتذكرتها أيضا كلما تذكرت قصة اميل حبيبي "بوابة مندلباوم"، وقد كتبت عن القصتين في كتابتي عن القصة القصيرة الفلسطينية أو في ذكرى رحيل سميرة أو ذكرى إميل.
غالباً ما يردد الفلسطينيون أن نكبة ١٩٤٨ شتَّتت الشعب الفلسطيني وقسَّمت فلسطين، وأن هزيمة ١٩٦٧ أعادت توحيدها ولمت شتات بعض سكانها، علماً بأن الشتات ازداد واتسعت رقعته و ... . صارت حكايتنا حكاية فيها من الغرابة والطرافة والمفارقات ما فيها. النكبة شتَّتَتنا وفرَّقت بعض العائلات عن بعضها، والهزيمة وحدت الوطن كله تحت الاحتلال وجمعت بعض العائلات ولمت شمل قسم منهم من جديد. الحرب تباعد بيننا والحرب تجمع شملنا، ومرة كتبت مقالاً عنوانه "حزيران واتساع رقعة المنفى" (جريدة الأيام ١/ ٦ /٢٠١٤).
- من كتب قصته أولاً: سميرة أم إميل؟
عنوان قصة سميرة "عام آخر" وعنوان قصة إميل "بوابة مندلباوم".
- وهل قرأ أي منهما قصة الثاني قبل أن يشرع بكتابة قصته أم أن تشابه الواقع أدى إلى كتابة تتمحور حول موضوع متقارب هو شتات الأسرة الفلسطينية، وأرجح ذلك ؟!
ظهرت قصة سميرة في مجموعتها "الظل الكبير" وفيها تأتي على الحاجة أم عبود التي تلجأ عام النكبة إلى لبنان، فيما تبقى ابنتها ماري في الناصرة إلى جانب زوجها. بعد سبع سنوات من اللجوء تُتاح الفرصة عبر الصليب الأحمر لالتقاء الأم بابنتها في بوابة مندلباوم التي تفصل القدس المحتلة في ١٩٤٨ عن القدس التي لم تُحتل. تأتي الأم من بيروت عبر دمشق فعمان فالقدس وتقف على البوابة تنتظر مجيء ابنتها التي لا تأتي، وتكرر الأم المجيء في العام القادم ويتعذر مجيء ماري، فلا يتم اللقاء. مرة كان سبب عدم المجيء مرض زوجها وثانية الولادة.
في قصة إميل يروي أنا القاص قصة وداع والدته التي ستذهب إلى القدس، عبر البوابة، مغادرة فلسطين حيث لا عودة. ولا يكتفي بسرد الحدث فهو يسهب في وصف المكان وما يجري فيه ومن يقف على بوابتيه؛ الأردنية (هناك) والإسرائيلية (هنا). ثمة شرطي أردني يرتدي عقالاً وكوفية، وثمة شرطي إسرائيلي حاسر الرأس، وهناك رجال الأمم المتحدة الذين يتنقلون بين البوابتين بيسر وسهولة لا تتهيأ لأبناء البلاد، وثمة مواطنون يودعون أقاربهم وأطفال لا يعرفون المحرمات، فيقذفون الكرة التي تتدحرج ولا تعرف حدوداً، فهم ذوو منطق بسيط غير مركب. "ما أسلمه".
صارت البوابة لرجال الأمم المتحدة من أوروبيين وأميركان مكاناً مباحاً تسرح فيه سياراتهم وتمرح وتشكل خطراً على الأطفال.
تنتهي القصة بالأسطر الآتية:
"أرجوكم، أيها السادة، أن تبتعدوا عن الطريق لئلا يسقط طفل من أطفالكم بين عجلات السيارات التي تمر من هنا بسرعة كما ترون".
"أفهمت لماذا نصحتك الا تأتي بوابة مندلباوم وفي صحبتك أطفال؟ إن منطقهم بسيط غير مركب. ما أسلمه!"
كم بوابة مندلباوم تفصل الآن الضفة الغربية عن المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨؟
بوابة برطعة قرب جنين وبوابة طولكرم وبوابة قلقيلية وبوابة رنتيس وبوابة نعلين وبوابة قلندية/ القدس و ... إلخ ... إلخ، عدا الجسور على نهر الأردن والمعابر في قطاع غزة، وكما ازداد عدد سكان فلسطين عرباً ويهوداً ازدادت البوابات والمعابر. هدم الإسرائيليون في ١٩٦٧ بوابة واحدة ليوحدوا البلاد ثم خلال ٥٥ عاماً أقاموا السور وعشرات البوابات.
ثمة مثل فلسطيني نصه "تيتي تيتي مثل ما رحت جيتي". كأننا نراوح في الدائرة نفسها. هل نقول: ليت البوابة ظلت بوابة؟
كل شيء ازداد بمتوالية هندسية لا بمتوالية حسابية والله أعلم، وقد تعلمت الفارق بين المتواليتين وأنا طالب مدرسة تعلم نظرية (مالثوس) عن التزايد السكاني.
أ. د. عادل الأسطة
الجمعة ٢٢ تموز ٢٠٢٢.