تتقاطع الخطوط وتتشابك المسارات في رواية «خيوط الانطفاء»، التي صدرت حديثاً عن دار «رياض الريس للكتب والنشر» اللبنانية، للروائي السوري أيمن مارديني، وتدور وقائعها بين القاهرة والعاصمة البريطانية لندن.
وتشكل عبارة «كان يا ما كان حدث ويحدث إلى الآن، يا سادة يا كرام» بطاقة السردية المألوفة، التي كان الخال يبدأ بها حكاياته للأطفال «نانو وأيمن وسامي»، وهي الجملة المفتاحية التي يمكن من خلالها متابعة الأحداث والوقوف على ما يدور في الرواية التي تختلط فيها الضمائر، وتتداخل حكايات شخصياتها، لكن هذا يحتاج لجهد كبير، من أجل فك شفرات النص ومعرفة اتجاهات الحكي، وموقع الكلام، وقائليه من الشخصيات التي تنتمي لعائلة «الساحر»، التي يتتبع المؤلف مصائرهم، ويكشف ما يكتنف حياتهم من عذابات؛ فلا فراق إلا بفقد، ولا لقاء إلا لحديث عن آلام تقيم في الروح، ولا تفارق العقل ويتألم بها الجسد، وتقف في طريق المستقبل.
وتتضمن الرواية خمسـة عشر فصلاً، تبدأ بفصل عنوانه «الخاتمة»، وتنتهي بآخر تحت اسم «خاتمة 2»، ومنذ البداية يعتمد الكاتب قصة أيمن ونانو باعتبارها «الحكاية الإطار» التي تتضافر وتتقاطع معها حكايات وقصص باقي شخصيات الرواية.
ويرتبط الطفلان بعلاقة قرابة، جعلتهما يعيشان معاً كثيراً من الذكريات التي كبرت معهما، لكن فرَّقَتهما الأيام بفعل الدراسة وتباين الاتجاهات واضطرار أيمن للسفر إلى لندن لتعلم الطيران، فيما بقيت نانو في العاصمة المصرية لدراسة الطب.
وعندما ينتهيان من دراستهما يكون كل منهما قد مضى في طريق مختلف؛ فقد تزوجت نانو بزميل لها في المشفى، وصار لأيمن حياة تلزمه الارتحال الدائم. لكنه يلتقي بحبيبته القديمة بمحض الصدفة في إحدى رحلاته الجوية؛ إذ أخبرته المضيفة أن إحدى الراكبات، واسمها نانو، تدعي أنها على معرفة به، وأنها تريد لقاءه، وقتها أنكر أيمن معرفته بها، بعد تردد منه، وتعلل بضيق وقته، ولسان حاله يقول: «نانو التي تثير غيرتي نحوها دائماً، نانو وقصصها التي لا تنتهي عن معجبين يتساقطون أمامها، يركعون على أقدامهم، يتوسلون، يتبجحون أحياناً بفتوة شابة، أو غنى فاحش، وأحياناً بمركز اجتماعي مرموق».
أما المسار الآخر في أحداث الرواية، فيخص الشخصية الثالثة «سامي»، الذي يشارك بطلي الرواية الطفولة ومرح اللعب في حديقة المنزل، ثم يختفي في ظروف غامضة بعد حياة مليئة بالعجائب.
وقد صاحب ظهوره على مسرح الأحداث العديد من الحكايات الغرائبية، بداية من اللحظات الأولى للقاء والده الشيخ بأمه ليلة زفافهما، حيث كان والده يشع نوراً، ويفيض بنوره علي العروس. وتصبح الأم شخصية ذات قدرات أسطورية، تسمع أحاديث الموتى، وتشم الروائح البعيدة، وترى أشياء لا يراها سواها. وتظل هكذا على حالها أربع سنوات، هي مدة حملها العجيب بسامي.
وعندما تحين ساعة ولادته تسكن غرفتها دوامات من النسمات الخفيفة، ويصاحبها طير غريب يحرسها حتى ولادتها طفلها، الذي تعجبت لخلقته الأسرة وأهل الحي كله، فقد ولدته بجناحين، وصار يطير ويحلق في السماء.
أما المسار الثالث للأحداث، فيخص «الخال» والد سامي، الشيخ الأزهري حافظ القرآن، الباحث في التراث وفي أضابير الكتب القديمة، ويُعتبر واحداً من الشخصيات المحورية في الراوية، يصبغ حضوره لغتها بطابع تراثي، وشعبي. وقد كان مصيره غامضاً في النهاية؛ فمن كثرة الإنهاك والتعب والهزال الذي أصابه، والكتابة على أوراق البردي التي كانت تتفتت بمجرد لمسة منه، حول أبحاث الضوء والعتمة، والسفر عبر الزمن، وقوانين الطاقة والجاذبية، ومن وطأة فقدان النوم الذي عاد إليه مرة أخرى، انتهى به الحال في إحدى جولاته الليلية على بغلته خارج القبو، واختفى دون أن يعرف أحد أين ذهب، فلم يعد من بعدها إلى البيت مرة أخرى.
ينسج الكاتب أحداث الرواية بلغة رصينة، يحيطها بغلاف يتنوع بين التراث الفرعوني والإسلامي، وبكثير من الحكايات الأسطورية والمرويات الشعبية التي تنتشر في البيئة المصرية.
ما يستمد الكاتب، خصوصاً حين يتناول طبيعة شخصية «الخال»، كثيراً من آليات السرد في حكايات «ألف ليلة وليلة»، التي لا تفارق مكتب الخال أبداً، وتتصدر أجزاؤها مكتبته الكبيرة، ويلهج بها لسانه، جاعلاً من حكاياتها مصدراً للسعادة، وتسلية مجالسيه من الأطفال، وظلت تصاحب «نانو وأيمن» طويلاً، وكانت ملح حواراتهما معاً، في لقاءاتهما النادرة، وهما يستعرضان ذكرياتهما زمن الطفولة، وملابسات ما جرى لهما من أحداث، امتلأت بالمرح والسعادة واللحظات الحميمة، والانكسارات المروعة، خاصة بعد فقد صديقهما الوحيد سامي واختفائه في مقبرة الأطفال النائمين، وهي المقبرة التي تحتضن أيضاً ما أطلق عليه المؤلف «كتاب النائمين»، الذي راحت الشخصيات تستمد منه حكاياتها عن آلامها وآلام ذويها الممضة.
ولم يتوقف السرد في الرواية عند حدود ما يأتي على لسان الشخصيات، أو الراوي، لكن هناك ما يتسرب في نسيجها من وراء حجاب، كلما وجد فرصة لذلك، فيقوم بالتعليق على الأحداث والوقائع، ويظهر في ثنايا الفصول. وقد أخله الكاتب تحت عنوان «قول»، وراح يلقي من خلاله رؤاه الفلسفية والدينية والحياتية، بين حين وآخر، ثم يترك الشخصيات لتذهب في طريقها المحفوف بالمخاطر والآلام.
من هنا، يدخل مؤلف الرواية القارئ في دائرة مغلقة من العلاقات المتشابكة بين شخصياتها، التي راح يعرض تاريخ كل منها، يتناول سيرها بداية من لحظات الطفولة ثم حياتهم المدهشة، واختفائهم بعضهم المفاجئ في ظروف غامضة، لكن كل هذا يتم من خلال سرد يأتي على لسان كل شخصية، فالكل يحكي من منظوره الخاص، وانطلاقاً من عالمه الذي يعيش فيه.
رواية «خيوط الانطفاء» هي الثالثة لأيمن مارديني بعد روايتيه «سيرة الانتهاك» التي نشرها عام 2011، و«غائب عن العشاء الأخير» 2016.
وتشكل عبارة «كان يا ما كان حدث ويحدث إلى الآن، يا سادة يا كرام» بطاقة السردية المألوفة، التي كان الخال يبدأ بها حكاياته للأطفال «نانو وأيمن وسامي»، وهي الجملة المفتاحية التي يمكن من خلالها متابعة الأحداث والوقوف على ما يدور في الرواية التي تختلط فيها الضمائر، وتتداخل حكايات شخصياتها، لكن هذا يحتاج لجهد كبير، من أجل فك شفرات النص ومعرفة اتجاهات الحكي، وموقع الكلام، وقائليه من الشخصيات التي تنتمي لعائلة «الساحر»، التي يتتبع المؤلف مصائرهم، ويكشف ما يكتنف حياتهم من عذابات؛ فلا فراق إلا بفقد، ولا لقاء إلا لحديث عن آلام تقيم في الروح، ولا تفارق العقل ويتألم بها الجسد، وتقف في طريق المستقبل.
وتتضمن الرواية خمسـة عشر فصلاً، تبدأ بفصل عنوانه «الخاتمة»، وتنتهي بآخر تحت اسم «خاتمة 2»، ومنذ البداية يعتمد الكاتب قصة أيمن ونانو باعتبارها «الحكاية الإطار» التي تتضافر وتتقاطع معها حكايات وقصص باقي شخصيات الرواية.
ويرتبط الطفلان بعلاقة قرابة، جعلتهما يعيشان معاً كثيراً من الذكريات التي كبرت معهما، لكن فرَّقَتهما الأيام بفعل الدراسة وتباين الاتجاهات واضطرار أيمن للسفر إلى لندن لتعلم الطيران، فيما بقيت نانو في العاصمة المصرية لدراسة الطب.
وعندما ينتهيان من دراستهما يكون كل منهما قد مضى في طريق مختلف؛ فقد تزوجت نانو بزميل لها في المشفى، وصار لأيمن حياة تلزمه الارتحال الدائم. لكنه يلتقي بحبيبته القديمة بمحض الصدفة في إحدى رحلاته الجوية؛ إذ أخبرته المضيفة أن إحدى الراكبات، واسمها نانو، تدعي أنها على معرفة به، وأنها تريد لقاءه، وقتها أنكر أيمن معرفته بها، بعد تردد منه، وتعلل بضيق وقته، ولسان حاله يقول: «نانو التي تثير غيرتي نحوها دائماً، نانو وقصصها التي لا تنتهي عن معجبين يتساقطون أمامها، يركعون على أقدامهم، يتوسلون، يتبجحون أحياناً بفتوة شابة، أو غنى فاحش، وأحياناً بمركز اجتماعي مرموق».
أما المسار الآخر في أحداث الرواية، فيخص الشخصية الثالثة «سامي»، الذي يشارك بطلي الرواية الطفولة ومرح اللعب في حديقة المنزل، ثم يختفي في ظروف غامضة بعد حياة مليئة بالعجائب.
وقد صاحب ظهوره على مسرح الأحداث العديد من الحكايات الغرائبية، بداية من اللحظات الأولى للقاء والده الشيخ بأمه ليلة زفافهما، حيث كان والده يشع نوراً، ويفيض بنوره علي العروس. وتصبح الأم شخصية ذات قدرات أسطورية، تسمع أحاديث الموتى، وتشم الروائح البعيدة، وترى أشياء لا يراها سواها. وتظل هكذا على حالها أربع سنوات، هي مدة حملها العجيب بسامي.
وعندما تحين ساعة ولادته تسكن غرفتها دوامات من النسمات الخفيفة، ويصاحبها طير غريب يحرسها حتى ولادتها طفلها، الذي تعجبت لخلقته الأسرة وأهل الحي كله، فقد ولدته بجناحين، وصار يطير ويحلق في السماء.
أما المسار الثالث للأحداث، فيخص «الخال» والد سامي، الشيخ الأزهري حافظ القرآن، الباحث في التراث وفي أضابير الكتب القديمة، ويُعتبر واحداً من الشخصيات المحورية في الراوية، يصبغ حضوره لغتها بطابع تراثي، وشعبي. وقد كان مصيره غامضاً في النهاية؛ فمن كثرة الإنهاك والتعب والهزال الذي أصابه، والكتابة على أوراق البردي التي كانت تتفتت بمجرد لمسة منه، حول أبحاث الضوء والعتمة، والسفر عبر الزمن، وقوانين الطاقة والجاذبية، ومن وطأة فقدان النوم الذي عاد إليه مرة أخرى، انتهى به الحال في إحدى جولاته الليلية على بغلته خارج القبو، واختفى دون أن يعرف أحد أين ذهب، فلم يعد من بعدها إلى البيت مرة أخرى.
ينسج الكاتب أحداث الرواية بلغة رصينة، يحيطها بغلاف يتنوع بين التراث الفرعوني والإسلامي، وبكثير من الحكايات الأسطورية والمرويات الشعبية التي تنتشر في البيئة المصرية.
ما يستمد الكاتب، خصوصاً حين يتناول طبيعة شخصية «الخال»، كثيراً من آليات السرد في حكايات «ألف ليلة وليلة»، التي لا تفارق مكتب الخال أبداً، وتتصدر أجزاؤها مكتبته الكبيرة، ويلهج بها لسانه، جاعلاً من حكاياتها مصدراً للسعادة، وتسلية مجالسيه من الأطفال، وظلت تصاحب «نانو وأيمن» طويلاً، وكانت ملح حواراتهما معاً، في لقاءاتهما النادرة، وهما يستعرضان ذكرياتهما زمن الطفولة، وملابسات ما جرى لهما من أحداث، امتلأت بالمرح والسعادة واللحظات الحميمة، والانكسارات المروعة، خاصة بعد فقد صديقهما الوحيد سامي واختفائه في مقبرة الأطفال النائمين، وهي المقبرة التي تحتضن أيضاً ما أطلق عليه المؤلف «كتاب النائمين»، الذي راحت الشخصيات تستمد منه حكاياتها عن آلامها وآلام ذويها الممضة.
ولم يتوقف السرد في الرواية عند حدود ما يأتي على لسان الشخصيات، أو الراوي، لكن هناك ما يتسرب في نسيجها من وراء حجاب، كلما وجد فرصة لذلك، فيقوم بالتعليق على الأحداث والوقائع، ويظهر في ثنايا الفصول. وقد أخله الكاتب تحت عنوان «قول»، وراح يلقي من خلاله رؤاه الفلسفية والدينية والحياتية، بين حين وآخر، ثم يترك الشخصيات لتذهب في طريقها المحفوف بالمخاطر والآلام.
من هنا، يدخل مؤلف الرواية القارئ في دائرة مغلقة من العلاقات المتشابكة بين شخصياتها، التي راح يعرض تاريخ كل منها، يتناول سيرها بداية من لحظات الطفولة ثم حياتهم المدهشة، واختفائهم بعضهم المفاجئ في ظروف غامضة، لكن كل هذا يتم من خلال سرد يأتي على لسان كل شخصية، فالكل يحكي من منظوره الخاص، وانطلاقاً من عالمه الذي يعيش فيه.
رواية «خيوط الانطفاء» هي الثالثة لأيمن مارديني بعد روايتيه «سيرة الانتهاك» التي نشرها عام 2011، و«غائب عن العشاء الأخير» 2016.