في الشهر الماضي رحل القاص والروائي غريب عسقلاني ، وقد خصصت له في مؤتمر الرواية الفلسطينية الرابع المنعقد في ١٧ تموز ٢٠٢٢ ، في احتفالية الذكرى الخمسين لاستشهاد غسان كنفاني ، خصصت له أمسية في غزة وثانية في متحف المرحوم ياسر عرفات ، ولما طلب مني أن أتحدث في الندوة كتبت مداخلة عن تجربته القصصية وبعض مواقفه النقدية وهذا جزء منها:
" في العام ١٩٧٧ كتبت قصة قصيرة عنوانها " كيف استطاع حاتم الطائي الخروج من المأزق!؟" وقد نشرتها في حينه في جريدة الفجر أو في جريدة الشعب ، فلم أعد أذكر بالضبط ، ثم أعدت نشرها في مجموعتي القصصية الأولى التي صدرت عن دار الأسوار في عكا في العام ١٩٧٩ " فصول من توقيع الاتفاقية " .
كانت القصة تعبر عن الواقع المعيش تحت الاحتلال بعد العام ١٩٦٧ ، وهي واحدة من ست قصص لجأت فيها إلى التراث أستعيره قناعا أعبر من خلاله عن الواقع يحدوني سببان ؛ الأول التحايل على الرقيب الإسرائيلي الذي كان يخضع كل ما ينشر في الجرائد والصحف والمجلات إلى رقابته المشددة ، والثاني إثراء العمل الأدبي والتعبير عن الواقع تعبيرا رمزيا شفافا يفهمه القاريء العربي المطلع على التراث .
كانت القصة تقترح حلا للتحايل على الاحتلال بتقديم مساعدات إلى المقاومين الفلسطينيين الذين يقعون في ورطة عدم تأمين طعام لهم حين يطاردون ، ويتمثل الاقتراح في أن يضع الناس على أبواب بيوتهم الخبز والطعام لكي يحصل عليهما من يبحث عنهما ، دون أن يتعرض الناس إلى المساءلة فالسجن وهدم البيوت إن هم استقبلوا المقاومين .
في تلك السنوات لجأ الإسرائيليون إلى اختبار الناس ممن شكوا فيهم في تقديم مساعدة للمقاومين ، فصاروا يرسلون إليهم إسرائيليين يهودا ممن يتقنون العربية ليمثلوا أدوارا كما لو أنهم مقاومون ، وكثيرا ما سجنت من تنطلي عليهم الحيلة وقد تصل العقوبة إلى هدم البيت وأكثر . واحتار الفلسطينيون الوطنيون ماذا يفعلون حقا ؟ فماذا لو كان الطارقون مقاومين حقيقة واحتاجوا إلى المساعدة ؟
الاقتراح الذي قدمته في القصة لم يرق للقاص غريب عسقلاني الذي قرأ القصة وناقشني فيها ، وقال لي إن ما أقترحه ضرب من التوجه السلبي ويجب أن نحمي المقاومين ونقدم لهم ما استطعنا من مساعدات وهذا أقل الواجب ، فهم يقدمون حياتهم لأجل شعبهم .
لم أعد أذكر إلام انتهى النقاش وإن كان أي منا أقنع الآخر ، وحتى اللحظة فالموضوع نفسه موضع جدل .
وأنا أفكر في تقديم الشهادة عن غريب تذكرت الجدل وعدت إلى قصتي أقرأها من جديد ، بل وعدت إلى أعمال أدبية فلسطينية أتت على الفكرة لاحقا .
في العام ٢٠٠٩ أصدر سليم الفحماوي مذكراته وأتى فيها على واقع الفلسطينيين في فلسطين المحتلة في عام النكبة ١٩٤٨ وأورد قصصا طريفة حدثت معه ومع والده وأصحابه وقصصا سمعها عدت أقرب إلى الخيال .
في الأعوام الأربعة للنكبة كثرت أعمال التهريب في منطقة المثلث وكان المهربون يتنقلون بين الضفة الغربية والمناطق المحتلة . غضت إسرائيل في البداية الطرف عن الموضوع ثم عملت على ضبطه بخاصة أن بعض المهربين صاروا يهربون السلاح ، وهكذا وظفت بعض المتعاونين الفلسطينيين وبعض اليهود العرب للتمثيل على المهربين كما لو أنهم مهربون مثلهم وأخذوا يسألونهم عن بنادق وفشك للبيع ، وانطلت الحيلة على والد سليم وأقربائه وهكذا قدموا إلى المحاكمة فغرم قسم منهم وسجن قسم آخر .
خاف قسم من الناس في تلك الأيام فصاروا يخبرون عن أقرب الناس إليهم ، ويحكي سليم قصة موظف فلسطيني متعاون بدت له أقرب إلى الخيال . زار هذا الموظف في بيته والداه ، ولما عرف منهما أنهما زاراه دون الحصول على تصريح فقد أخبر السلطات عنهما . هل شك في أن والديه كانا مرسلين من المخابرات الإسرائيلية ؟ ربما يتذكر المرء هنا قصة زكريا تامر " الجريمة " التي أتى فيها على تبرؤ الأهل من ابنهم سليمان الحلبي لقتله كليبر .
في الأشهر الأخيرة قرأت رواية / سيرة وداد البرغوثي " البيوت " وفيها أتت على ما جرى مع المناضلة ياسمين عندما فرضت عليها الإقامة الجبرية في منطقة تخضع للحكم الإسرائيلي حتى تثبت وجودها يوميا . كان بيت ياسمين يقع في منطقة تخضع للسلطة الفلسطينية ومنعت من الإقامة فيه لمدة ، ومع أنها وجدت عائلة فلسطينية تبرعت باستقبالها وأحسنت وفادتها كما لو أنها من أفراد العائلة ، غير عابئة بالاحتلال ، إلا أن ياسمين ظلت ترغب في الإقامة في شقة خاصة فزوارها كثر ، عدا أن العائلة المضيفة أعطتها غرفة رب الأسرة الذي كان بحاجة إليها .
كلما وجد أصدقاء ياسمين شقة لها كان صاحب الشقة ، عندما يعلم أنها مراقبة أمنيا ، يحجم عن تأجيرها خوفا على تضرر مصالحه وملاحقته والتضييق عليه . ( أنظر صفحة ١٤٩ وما بعدها من الرواية " مؤلم جدا ما وصلنا إليه من نفسيات مريضة وجبانة . ألهذه الدرجة الناس مرعوبون؟ صدق من قال : رأس المال جبان " " عند العشاء فوجئت بمكالمة تفيد أن أصحاب الشقة تراجعوا .شعرت بالألم يصل إلى أقصى مدى له . الاحتلال يعاقبنا ويعاقبنا بعض من أبناء شعبنا .بنو جلدتنا "
عندما يسترجع المرء حكايات أصدقاء له كانوا نشيطين سياسيا وسجناء أمنيين ورغبوا في الزواج من فتيات متحمسات وطتيا ، بخلاف أهلهن ، فإنه لا يصاب بالدهشة مما يقرؤه في كتاب سليم فحماوي وفي رواية وداد البرغوثي ، فقد خشي بعض الأهالي من تزويج بناتهن لأسرى أو معتقلين .
وداد البرغوثي التي أتت على أصحاب الشقق الخائفين روت بحب وإعجاب عن الأسرة التي استقبلت السجينة ، ويستطيع المرء ببساطة أن يجد نماذج لمثل هذه العائلة ، فقد استضافت عائلة بشكار في بيتها أشرف نعالوة ، كما أن هناك من استضاف في بيته أحد السجناء الستة الباحثين عن الحرية في العام الحالي .
من كان على صواب : غريب عسقلاني أم أنا ؟ ربما أنا برجوازي صغير .
الكتابة تطول وخاضع للنقاش . هل كان زكريا تامر يبالغ حين كتب قصته " الجريمة " وهل أخطأ مظفر النواب حين كتب :
" فالعثة في بلد العسكر
تفقس بين الإنسان وثوب النوم وزوجته " .
ومنذ فترة وأنا مهووس بتتبع الكتابة عن المخبر في الأدب .
١٨ تموز ٢٠٢٢ .
أ. د. عادل الأسطة
( مقال الأحد ٣١ / ٧ / ٢٠٢٢ لجريدة الأيام الفلسطينية . زاوية دفاتر الأيام ) .
" في العام ١٩٧٧ كتبت قصة قصيرة عنوانها " كيف استطاع حاتم الطائي الخروج من المأزق!؟" وقد نشرتها في حينه في جريدة الفجر أو في جريدة الشعب ، فلم أعد أذكر بالضبط ، ثم أعدت نشرها في مجموعتي القصصية الأولى التي صدرت عن دار الأسوار في عكا في العام ١٩٧٩ " فصول من توقيع الاتفاقية " .
كانت القصة تعبر عن الواقع المعيش تحت الاحتلال بعد العام ١٩٦٧ ، وهي واحدة من ست قصص لجأت فيها إلى التراث أستعيره قناعا أعبر من خلاله عن الواقع يحدوني سببان ؛ الأول التحايل على الرقيب الإسرائيلي الذي كان يخضع كل ما ينشر في الجرائد والصحف والمجلات إلى رقابته المشددة ، والثاني إثراء العمل الأدبي والتعبير عن الواقع تعبيرا رمزيا شفافا يفهمه القاريء العربي المطلع على التراث .
كانت القصة تقترح حلا للتحايل على الاحتلال بتقديم مساعدات إلى المقاومين الفلسطينيين الذين يقعون في ورطة عدم تأمين طعام لهم حين يطاردون ، ويتمثل الاقتراح في أن يضع الناس على أبواب بيوتهم الخبز والطعام لكي يحصل عليهما من يبحث عنهما ، دون أن يتعرض الناس إلى المساءلة فالسجن وهدم البيوت إن هم استقبلوا المقاومين .
في تلك السنوات لجأ الإسرائيليون إلى اختبار الناس ممن شكوا فيهم في تقديم مساعدة للمقاومين ، فصاروا يرسلون إليهم إسرائيليين يهودا ممن يتقنون العربية ليمثلوا أدوارا كما لو أنهم مقاومون ، وكثيرا ما سجنت من تنطلي عليهم الحيلة وقد تصل العقوبة إلى هدم البيت وأكثر . واحتار الفلسطينيون الوطنيون ماذا يفعلون حقا ؟ فماذا لو كان الطارقون مقاومين حقيقة واحتاجوا إلى المساعدة ؟
الاقتراح الذي قدمته في القصة لم يرق للقاص غريب عسقلاني الذي قرأ القصة وناقشني فيها ، وقال لي إن ما أقترحه ضرب من التوجه السلبي ويجب أن نحمي المقاومين ونقدم لهم ما استطعنا من مساعدات وهذا أقل الواجب ، فهم يقدمون حياتهم لأجل شعبهم .
لم أعد أذكر إلام انتهى النقاش وإن كان أي منا أقنع الآخر ، وحتى اللحظة فالموضوع نفسه موضع جدل .
وأنا أفكر في تقديم الشهادة عن غريب تذكرت الجدل وعدت إلى قصتي أقرأها من جديد ، بل وعدت إلى أعمال أدبية فلسطينية أتت على الفكرة لاحقا .
في العام ٢٠٠٩ أصدر سليم الفحماوي مذكراته وأتى فيها على واقع الفلسطينيين في فلسطين المحتلة في عام النكبة ١٩٤٨ وأورد قصصا طريفة حدثت معه ومع والده وأصحابه وقصصا سمعها عدت أقرب إلى الخيال .
في الأعوام الأربعة للنكبة كثرت أعمال التهريب في منطقة المثلث وكان المهربون يتنقلون بين الضفة الغربية والمناطق المحتلة . غضت إسرائيل في البداية الطرف عن الموضوع ثم عملت على ضبطه بخاصة أن بعض المهربين صاروا يهربون السلاح ، وهكذا وظفت بعض المتعاونين الفلسطينيين وبعض اليهود العرب للتمثيل على المهربين كما لو أنهم مهربون مثلهم وأخذوا يسألونهم عن بنادق وفشك للبيع ، وانطلت الحيلة على والد سليم وأقربائه وهكذا قدموا إلى المحاكمة فغرم قسم منهم وسجن قسم آخر .
خاف قسم من الناس في تلك الأيام فصاروا يخبرون عن أقرب الناس إليهم ، ويحكي سليم قصة موظف فلسطيني متعاون بدت له أقرب إلى الخيال . زار هذا الموظف في بيته والداه ، ولما عرف منهما أنهما زاراه دون الحصول على تصريح فقد أخبر السلطات عنهما . هل شك في أن والديه كانا مرسلين من المخابرات الإسرائيلية ؟ ربما يتذكر المرء هنا قصة زكريا تامر " الجريمة " التي أتى فيها على تبرؤ الأهل من ابنهم سليمان الحلبي لقتله كليبر .
في الأشهر الأخيرة قرأت رواية / سيرة وداد البرغوثي " البيوت " وفيها أتت على ما جرى مع المناضلة ياسمين عندما فرضت عليها الإقامة الجبرية في منطقة تخضع للحكم الإسرائيلي حتى تثبت وجودها يوميا . كان بيت ياسمين يقع في منطقة تخضع للسلطة الفلسطينية ومنعت من الإقامة فيه لمدة ، ومع أنها وجدت عائلة فلسطينية تبرعت باستقبالها وأحسنت وفادتها كما لو أنها من أفراد العائلة ، غير عابئة بالاحتلال ، إلا أن ياسمين ظلت ترغب في الإقامة في شقة خاصة فزوارها كثر ، عدا أن العائلة المضيفة أعطتها غرفة رب الأسرة الذي كان بحاجة إليها .
كلما وجد أصدقاء ياسمين شقة لها كان صاحب الشقة ، عندما يعلم أنها مراقبة أمنيا ، يحجم عن تأجيرها خوفا على تضرر مصالحه وملاحقته والتضييق عليه . ( أنظر صفحة ١٤٩ وما بعدها من الرواية " مؤلم جدا ما وصلنا إليه من نفسيات مريضة وجبانة . ألهذه الدرجة الناس مرعوبون؟ صدق من قال : رأس المال جبان " " عند العشاء فوجئت بمكالمة تفيد أن أصحاب الشقة تراجعوا .شعرت بالألم يصل إلى أقصى مدى له . الاحتلال يعاقبنا ويعاقبنا بعض من أبناء شعبنا .بنو جلدتنا "
عندما يسترجع المرء حكايات أصدقاء له كانوا نشيطين سياسيا وسجناء أمنيين ورغبوا في الزواج من فتيات متحمسات وطتيا ، بخلاف أهلهن ، فإنه لا يصاب بالدهشة مما يقرؤه في كتاب سليم فحماوي وفي رواية وداد البرغوثي ، فقد خشي بعض الأهالي من تزويج بناتهن لأسرى أو معتقلين .
وداد البرغوثي التي أتت على أصحاب الشقق الخائفين روت بحب وإعجاب عن الأسرة التي استقبلت السجينة ، ويستطيع المرء ببساطة أن يجد نماذج لمثل هذه العائلة ، فقد استضافت عائلة بشكار في بيتها أشرف نعالوة ، كما أن هناك من استضاف في بيته أحد السجناء الستة الباحثين عن الحرية في العام الحالي .
من كان على صواب : غريب عسقلاني أم أنا ؟ ربما أنا برجوازي صغير .
الكتابة تطول وخاضع للنقاش . هل كان زكريا تامر يبالغ حين كتب قصته " الجريمة " وهل أخطأ مظفر النواب حين كتب :
" فالعثة في بلد العسكر
تفقس بين الإنسان وثوب النوم وزوجته " .
ومنذ فترة وأنا مهووس بتتبع الكتابة عن المخبر في الأدب .
١٨ تموز ٢٠٢٢ .
أ. د. عادل الأسطة
( مقال الأحد ٣١ / ٧ / ٢٠٢٢ لجريدة الأيام الفلسطينية . زاوية دفاتر الأيام ) .