(١)
قال تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) «سورة النور - الآية ٣٢» ..
والأيـامي من عبـادكم : أي من عبيدكم، وهم الذين لا أزواج لهم،
يقال : رجـل أيـم، وامـرأة أيـم ورجل أرمل، وامرأة أرملة، ورجل بكر وامرأة بكر : إذا لم يتزوجـاء
وامرأة ليب : إذا كانا قد تزوجا.
وفي الآية الكريمة نرى نكاح الأيامي والصالحين من العباد غنى وثراء من فضل الله تعالى، ولطفا
ورحمة.
قيل للحسن بن علي رضي اللـه عنه : إنك يا ابن رسول الله منكاح مطلاق؟! فقال : لأني أحب الغني، وقد سمعت الله تعالى يقـول : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) .. الآية.
فنكحت أبتغي الغني، وسمعته يقول : (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ) «سورة النساء - الآية ۱۳۰» .. فطلقت أبتغي الغنى أيضاً.
ومن يهجر التزويـج يكـون استيلاء الشياطين عليـه وشيكاً.
لأنه يدع باب الفتنة في نفسـه مفتوحا غير موصـد ولا مرتج، ولذلك قال رسول الله ﷺ لرجل : ألك امراة؟ قال : لا، قال : فأنت إذن من إخوان الشياطين، فإن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فمن سنتنا النكاح، بل إن النكاح من سنن الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين ما عدا المسيح ابن مریم علیه السلام.
فالزواج أمر مسنون، وهو من سنن الانبياء والمرسلين السابقة.
وقد وضح رسول الله ﷺ هذا في قوله المعصوم الرصين المحكم : الزواج من سنتي، فمن رغب عن
سنتي، فقد رغب عني، ومن رغب عن سنته ﷺ كان جافياً، وتاركا لها، وناكبـاً عن سـواء محجتـه الغراء المستقيمة.
وكان صحابته ﷺ ورضي عنهم أجمعين يعرفون ذلك جيدا، فكانوا يحرصون عليه ابتغاء العصمة من زيغ الشهوات، وهم الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لنصرة نبيـه، ومؤازرته، وكان من كمال مروءاتهم، وتمام طهارتهم الظاهرة والباطنة.
قال معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه : لو لم يبق من عمـري إلا ليلة، لأحببت أن تكون لي فيهـا زوجة خوف الفتنة».
واذا كانت الفتنة في النكول عن الزواج شديدة، فإن التزويج هو أقوم سبيل، وأقوى دافع لتلك الفتنة المشوبة دائماً وأبدأ بنزو الشيطان الرجيم على الفطرة النقية للبشر.
لذلك لم يكونوا مخطئين عنـدمـا وجهوا أصابع الإتهام للأعزب المضرب عن الزواج صفحا، حيث اتهموه إما بالفجور، أو بـالـعـجـز فإما أن يكون فاجرا وإما أن يكون عاجزاً مقصراً عن ذلك.
قال ﷺ : ثلاث من سنن المرسلين، الـنـكـاح والـعـطـر والسواك ..
لم تكن حكمـة الـزواج واقعـاً واجبـا مشروعـا إلا لأهميتها وضرورته، إذ إن عمارة الكون، وانسجـام الـحيـاة لا يكون إلا بتـداخـل الأضداد، ومخـالطـة المتقابلين، ومداخلة المخلوقات. فالليل يقابله النهار، والحر يقابله القر، والنار يضادها الماء.
والذكر في مقـابلـة الانثى من ثم كـان الأزواج هم القرناء، قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) أي وقرناءهم ولما كـان الـرجـل ذا مزاج حار، كان لابد أن يـمـازجـه ويخالجه ويخالطه مزاج بارد حتى يعطى ذلك مزاجـا سـوي معتدلاً مقبولا، متمثلاً في المرأة.
روى أن رجلا أتى رسـول اللـه ﷺ فقال : «يا رسول الله، إني أريد ان اتزوج، فادع الله أن يرزقني زوجة صالحة، فقال : لو دعا لك جبريل، وميكائيل وأنا معهما ما تزوجت إلا المرأة التي كتب الله لك فإنه ينادي في السماء ألا إن امرأة فلان بن فلان، فلانة بنت فلانة ....».
هذا مثال مسوق للناس حتى لا يحزن، ولا تحزن من فـاتـه، أو فاتها قطار الزواج، حتى يعلم كلا الرجل والمرأة أن مقدور الله تعالى من قديم الأزل، وحتى الأبد الأبيد، ومشيئته النافذة، وقضاءه الماضي ثابت ولا ينفك عن مهمته، فهـو مرهون بتقـديـر اللـه تعـالى ومشيئته في وقت معين، وموعد محدد مضروب سلفاً، لكن الـذي يتعب الناس، ويجلب عليهم كثيراً من الشقاء والحزن والألم المبرح، سوء فهمهم لأمر الله، أو غفلتهم عن ذكر الله.
إن الفتاة متى قاربت الخامسة والعشرين من العمر أو راهفتهـا كانت غرضا وهدفا للقيـل والقـال، وكـان فـزع أبويهـا جـالـبـا للهم والحزن، لعدم الزواج، أو لتأخـره
الى هذه السن، فهم يرون ذلك خطراً أي خطر لتعرضها للفتنة، ويكون أثر ذلك على نفسها وعلى بدنها صارخاً، قاتلاً في أغلب الأحوال.
وخير النساء الأبكار، وقد ندب رسول الله ﷺ الى الزواج منهن إذ قال : «عليكم بالأبكار، فإنهن أطيب أفواها، وأنتق أرحاما».
وقال : لجابر بن عبد اللـه : «فهلأ بكرا تلاعبها وتلاعبك».
وكان الحارث بن كلدة يقول من روائع حكمه، ومن مأثور أقـوالـه : «لا تنكحوا من النساء إلا الشابة، ولا تأكلوا من الحيوان إلا الفتي، ولا من الفاكهة إلا النضيج».
وجـعـل اللـه تعـالى في المرأة خصـالا تـغـري الـرجـل لأن يقبـل عليها مثل المال والشراء، والجمال والقسـامـة والحسن وللحـسـب والنسب، وكذلك للتدين والاحتشام والوقار، لكن أرقى هذه الصفات، وأسمى المعاني وأعلاها هي صفة التدين، والحشمة والوقار.
قال ﷺ : «تنكح المرأة لأربع : لجمالها، ولحسبها، ولمـالـهـا ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك، ذلك لأن الجمال والمال من الأعراض التي قد يعتورها الزوال، وهي عرضة أيضـاً للوقوع في الفتن، فإن الفتنة في الجمال والمال تكون أشـد؛ لأن النفوس إليهـما أميل، وعليهما أحرص، لكن التدين، وسلوك سبيل الحق، والاستقـامـة ليس فيه إلا التكليف، والاجتهاد في حصر وتضييق الخناق على النفس لصونها من شرة التردي في الأهواء.
ومن ثم كان للتدين التـزامـه ومشفاته فمن كان قادراً على ضبط نفسه وحملها على طريق الحق والاستقامة كان مجاهداً، ومتحمـلاً لكثير من المشـاق، ولذلك وصف
رسـول اللـه جـهـاد النفس بالجهاد الأكبر.
وذكر خالد بن صفوان محاسن النساء التي تحببهن الى الـرجـال فقال : «أطلب لي امرأة بكرا أو ثيبا كبكر حصانا عند جارهـا مـاجـنـة عند زوجها، قد أدبها الغني، وأذلها الفقر، لا ضرعـة صغيرة، ولا عجوزاً كبيرة، قد عاشت في نعمة وأدركتها حاجـة، لها عقل وافر، وخلق طاهر، وجمال ظاهر».
ثم يقول أيضا : ولم يداخلهـا صلف، ولم يسن وجههـا كلف، لا الطول يزري بها ولا القصر».
نستكمل في العدد القادم
اللهم تقبل من أبى صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين
************
(٢)
كان هناك رجل حصيف بالمدينة مشهوراً بالفطنة، والزكـانـة ورجاحة العقل، وجـودة الـرأي ولم يكن في المدينة أحد يريد إبـرام رأي إلا شاوره، ورجع اليـه فـكـان لذلك مستشاراً يلوذ به ويرجع اليه الناس طلباً للنصح والارشاد لثاقب نظره، ونفاذ بصيرته، وذات مرة اختلف اليه رجل قرشي أراد أن يتزوج من فتاة فقال له ناصحاً تحصن دينك، وتصن مـؤونـتـك وإياك والجمال البارع .. قال : ولم نهيتني، وإنما هو نهاية ما يطلب الناس، قال : لأنه ما فاق الجمال إلا ولحقـه قول، أما سمعت قـول الشاعر :
ولن تصادف مرعى مونقاً أبداً إلا وجدت به آثار مأكول وهذا قول سديد في الواقع، إذ إن الجمال عندما يكون فائقاً بارعاً، لافتاً لاشك أنـه يـكـون شقـاء ويستجلب تعبا وعـذاباً لا مزيد عليه، وصدق الشـاعـر الـعـربي الأريب عندما قرر هذا في دقة معبرة فقال :
وزهرة الروض لولا حسن منظرها
لما استطالت عليها كف جانيها
فالجمال مرغوب فيه، تنجذب اليه النفوس، فمن كان حظها في الجمال ومنه وافرأ فلتتق الله فيه. ولیکن جل عنايتها بصونه مراقبة لله سبحانه وتعالى.
لكن تبعات الزواج ومشقاته قد لا يتجشمها، ولا يحتملها إنسان، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، فمن لم يـأنس من نفسـه قـدرة وسعة وكفـاءة كـان الأولى بـه أن يصبر، وليستعفف، وعليه بالصيام فإن له وجاء كما قال المعصوم .
قال تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ) [سورة النور - الآية 33].
كذلك قد يزهد في الزواج قوم ويرون فيه شقاء وعذاباً لا طاقة لهم به، ويرون الصبر عن النساء بعدم الزواج أيسر وأهـون من الصبر عليهن معهن، بتحمل تبعات الزواج ومسؤولياته.
وهناك صنف مـن الـنـاس منشـائمـون مـن الزواج بطبيعـة تكوينهم، فإنهم مقطـورون على النفور من الجنس الآخر، وربما كان السبب في ذلك أحـد الأمـراض النفسية، أو الأعراض والعـوارض العضوية، ولكن هذه الحالات مع قسوتها وصعوبتها، فإنهـا قـابلـة للعلاج ومن الممكن تقويمـهـا بالعلاج، وفي الطب منـادح وسعة لعلاج هذه الحالات حتى تعود الى حدود السواء.
أما من كان معذوراً كـأن يـكـون منقطعاً به أو مقطوعاً بـه .. سـواء كان هذا أو ذاك فلا وكف ولا ضير أن يستعين بالله سبحانه وتعالى، ويجتهد في معرفة السبب في ذلك، وعليه أن يطرق أبواب الخير، والله تعالى خير مرجو، وأسجح مدعو وأرجي مأمول أن يسدد الخطوات، وينير المحلـولـكـات، ويـدفـع الغـاشيـات وينير الظلمات. ويدفع عن أوليائه وأحبائه الشر والبلاء والثانيات.
والزواج في شريعة الإسلام هو المودة والسكن والـرحمـة في أصرة وواشجة نبيلة كريمة، وهذا هو سنن الدين القويم الذي يتوافق مع فطرة الإنسان، وطبيعة تكوينه.
فيتم له بهذا الزواج اكتمال اللذة، وتمام المتعة الحسية والبدنية والنفسية، والزواج بهذه المقاصد، وتلك المعاني يعطي الإنسان ما يعطيه الدين من خير منتشر، ولا يحرمه شيئاً من حظه المقسوم له في عالم القيم والمثل العليا، وقد سمي القرآن الكريم النكاح ميثاقاً.
وبين روعة هذه المودة الحـانيـة الكريمة في قوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) .. علاقة روحية بدنية.
وقال أيضا : (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) لذلك كان بكل هذا مراداً مساجلة الشعور بين الجنسين بما أودع الله تعالى في كلا الطرفين من تنوع الشعـور، وتبـاين الإحـسـاس واختلاف العاطفة وتنوعها، كذلك تنوع القدرة على الحب والإيناس والاستئناس.
من ثم كان في علاقة الزوجين ببعضهما البعض متسعاً لألـوان من العواطف الإنسـانيـة التي تجاهلتها كثيراً شرائع الأقدمين، وأكدت على دعم المودة والمحبـة والـرحمـة بين الزوجين تعاليم الإسلام الراسخة التي تكفل لهذه العلاقة الشريفة الاستقرار والدوام فـالزم كلا الطرفين حدوداً لا يتعداها، فلكل من الطرفين حقوق وعليه واجبات، وليست الحقوق في أدائها بأوجب من الواجبات في تقديمها، وهذه الضوابط تتمثل في ضرورة التأكيد على حسن المعاملة. وطيب العشرة، وعلى المرأة الطاعة وعلى الرجل الانفاق، والمعاشرة بالمعروف، وتقـديـر مـشـاعـر كـل طرف للآخـر وليس الزوج سيداً للزوجة، ولا واليا متعسفاً جائراً، ولكنـة ولي لـه حقـوق الـولايـة وعليه واجبات لا تقـل بـحـال عن حقوق هذه الولاية، إذ إن أهم واجبـاتـه هي حمـايـة المـرأة ورعايتها والانفاق عليها.
وفيما خلا الإنفاق فإن للمرأة لها مثل الذي عليها بالمعروف، قال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ) [سورة البقرة - الآية 228].
يجب على الرجل أن يكون حليماً واسـع الصـدر في مواجهة بعض أخطـاء امـراتـه فـلا يستسلم للغضب مطلق الاذعان والتسليم مرة واحدة، لكن يجوز له أن يبدأ بالموعظة والنصيحة، أو بالإعراض ثم الهجر في المضجع، أو بالضرب ، ثم بالتحكيم بين أهله وأهلها إذا ما صار الوفاق بينهما متعذراً.
ومع أن الضرب مباح، إلا أنه ليس واجبا، ولا لازماً، ولا محتوما مع كل امرأة، فإن هـذا مـرهـون بطبيعة التركيب النفسي للمـرأة.
ولا يجب في حالة اللجوء اليه ـ أن يكون مبرحا أو عنيفاً، ولا يكون الضرب كذلك إلا لنوعية خاصة من النساء اللاتي لا يستجبن لغيره من وسائل العلاج، فيكون حينئذ هو الدواء المر، والعلقم الذي يزيل برحاء الداء برغم مرارة تجرعه.
لكن إذا تعـقـدت الأمـور وتشـاجـرت وتشابكت الأسنـة المشروعـة وتـحـول الـوئـام والاستقرار النفسي والـبـدني الى حرب شعواء، لا يخبو سعيرها برهة من الزمان كان الطلاق - وهو أبغض الحلال إلى الله ـ أمراً لا مفر منه، وقد قررته شريعـة الإسـلام دفعاً للمفسدة التي قد تقع بين الزوجين إذا ما دخل الشيطـان بينهما بالسعاية والافساد.
لكن المنصوح به أن يـراجـع الزوجان نفسيهما قبل الانفصال وعلى كل منهما أن يتقي اللـه ربـه. ويراجع نفسه ويحاسبها حتى لا يكون متجنبا ظالما.
وعلى أي حال فإنه لابد من تقوى الله ومـراقبـتـه، وحسن الظن، وإيثار العفو والصفح فإن هـذا أقرب للتقـوى مـع تـذكـر الفضـل وعدم نسيانه، فلئن كان النـاس منصوحون بعدم نسيان الفضـل فيما بينهم، فـإنـه يصير أوجب والزم بين زوجين كروحين في جسد واحـد، أو كجسدين لهـما روح واحد، والله سبحـانـه مسؤول أن يجعلنا من المقبولين إنه سبحـانـه وتعالى على ذلك مستعان به ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم تقبل من أبى صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين
قال تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) «سورة النور - الآية ٣٢» ..
والأيـامي من عبـادكم : أي من عبيدكم، وهم الذين لا أزواج لهم،
يقال : رجـل أيـم، وامـرأة أيـم ورجل أرمل، وامرأة أرملة، ورجل بكر وامرأة بكر : إذا لم يتزوجـاء
وامرأة ليب : إذا كانا قد تزوجا.
وفي الآية الكريمة نرى نكاح الأيامي والصالحين من العباد غنى وثراء من فضل الله تعالى، ولطفا
ورحمة.
قيل للحسن بن علي رضي اللـه عنه : إنك يا ابن رسول الله منكاح مطلاق؟! فقال : لأني أحب الغني، وقد سمعت الله تعالى يقـول : (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ) .. الآية.
فنكحت أبتغي الغني، وسمعته يقول : (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ) «سورة النساء - الآية ۱۳۰» .. فطلقت أبتغي الغنى أيضاً.
ومن يهجر التزويـج يكـون استيلاء الشياطين عليـه وشيكاً.
لأنه يدع باب الفتنة في نفسـه مفتوحا غير موصـد ولا مرتج، ولذلك قال رسول الله ﷺ لرجل : ألك امراة؟ قال : لا، قال : فأنت إذن من إخوان الشياطين، فإن كنت من رهبان النصارى فالحق بهم، وإن كنت منا فمن سنتنا النكاح، بل إن النكاح من سنن الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين ما عدا المسيح ابن مریم علیه السلام.
فالزواج أمر مسنون، وهو من سنن الانبياء والمرسلين السابقة.
وقد وضح رسول الله ﷺ هذا في قوله المعصوم الرصين المحكم : الزواج من سنتي، فمن رغب عن
سنتي، فقد رغب عني، ومن رغب عن سنته ﷺ كان جافياً، وتاركا لها، وناكبـاً عن سـواء محجتـه الغراء المستقيمة.
وكان صحابته ﷺ ورضي عنهم أجمعين يعرفون ذلك جيدا، فكانوا يحرصون عليه ابتغاء العصمة من زيغ الشهوات، وهم الذين اختارهم الله سبحانه وتعالى لنصرة نبيـه، ومؤازرته، وكان من كمال مروءاتهم، وتمام طهارتهم الظاهرة والباطنة.
قال معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه : لو لم يبق من عمـري إلا ليلة، لأحببت أن تكون لي فيهـا زوجة خوف الفتنة».
واذا كانت الفتنة في النكول عن الزواج شديدة، فإن التزويج هو أقوم سبيل، وأقوى دافع لتلك الفتنة المشوبة دائماً وأبدأ بنزو الشيطان الرجيم على الفطرة النقية للبشر.
لذلك لم يكونوا مخطئين عنـدمـا وجهوا أصابع الإتهام للأعزب المضرب عن الزواج صفحا، حيث اتهموه إما بالفجور، أو بـالـعـجـز فإما أن يكون فاجرا وإما أن يكون عاجزاً مقصراً عن ذلك.
قال ﷺ : ثلاث من سنن المرسلين، الـنـكـاح والـعـطـر والسواك ..
لم تكن حكمـة الـزواج واقعـاً واجبـا مشروعـا إلا لأهميتها وضرورته، إذ إن عمارة الكون، وانسجـام الـحيـاة لا يكون إلا بتـداخـل الأضداد، ومخـالطـة المتقابلين، ومداخلة المخلوقات. فالليل يقابله النهار، والحر يقابله القر، والنار يضادها الماء.
والذكر في مقـابلـة الانثى من ثم كـان الأزواج هم القرناء، قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ) أي وقرناءهم ولما كـان الـرجـل ذا مزاج حار، كان لابد أن يـمـازجـه ويخالجه ويخالطه مزاج بارد حتى يعطى ذلك مزاجـا سـوي معتدلاً مقبولا، متمثلاً في المرأة.
روى أن رجلا أتى رسـول اللـه ﷺ فقال : «يا رسول الله، إني أريد ان اتزوج، فادع الله أن يرزقني زوجة صالحة، فقال : لو دعا لك جبريل، وميكائيل وأنا معهما ما تزوجت إلا المرأة التي كتب الله لك فإنه ينادي في السماء ألا إن امرأة فلان بن فلان، فلانة بنت فلانة ....».
هذا مثال مسوق للناس حتى لا يحزن، ولا تحزن من فـاتـه، أو فاتها قطار الزواج، حتى يعلم كلا الرجل والمرأة أن مقدور الله تعالى من قديم الأزل، وحتى الأبد الأبيد، ومشيئته النافذة، وقضاءه الماضي ثابت ولا ينفك عن مهمته، فهـو مرهون بتقـديـر اللـه تعـالى ومشيئته في وقت معين، وموعد محدد مضروب سلفاً، لكن الـذي يتعب الناس، ويجلب عليهم كثيراً من الشقاء والحزن والألم المبرح، سوء فهمهم لأمر الله، أو غفلتهم عن ذكر الله.
إن الفتاة متى قاربت الخامسة والعشرين من العمر أو راهفتهـا كانت غرضا وهدفا للقيـل والقـال، وكـان فـزع أبويهـا جـالـبـا للهم والحزن، لعدم الزواج، أو لتأخـره
الى هذه السن، فهم يرون ذلك خطراً أي خطر لتعرضها للفتنة، ويكون أثر ذلك على نفسها وعلى بدنها صارخاً، قاتلاً في أغلب الأحوال.
وخير النساء الأبكار، وقد ندب رسول الله ﷺ الى الزواج منهن إذ قال : «عليكم بالأبكار، فإنهن أطيب أفواها، وأنتق أرحاما».
وقال : لجابر بن عبد اللـه : «فهلأ بكرا تلاعبها وتلاعبك».
وكان الحارث بن كلدة يقول من روائع حكمه، ومن مأثور أقـوالـه : «لا تنكحوا من النساء إلا الشابة، ولا تأكلوا من الحيوان إلا الفتي، ولا من الفاكهة إلا النضيج».
وجـعـل اللـه تعـالى في المرأة خصـالا تـغـري الـرجـل لأن يقبـل عليها مثل المال والشراء، والجمال والقسـامـة والحسن وللحـسـب والنسب، وكذلك للتدين والاحتشام والوقار، لكن أرقى هذه الصفات، وأسمى المعاني وأعلاها هي صفة التدين، والحشمة والوقار.
قال ﷺ : «تنكح المرأة لأربع : لجمالها، ولحسبها، ولمـالـهـا ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك، ذلك لأن الجمال والمال من الأعراض التي قد يعتورها الزوال، وهي عرضة أيضـاً للوقوع في الفتن، فإن الفتنة في الجمال والمال تكون أشـد؛ لأن النفوس إليهـما أميل، وعليهما أحرص، لكن التدين، وسلوك سبيل الحق، والاستقـامـة ليس فيه إلا التكليف، والاجتهاد في حصر وتضييق الخناق على النفس لصونها من شرة التردي في الأهواء.
ومن ثم كان للتدين التـزامـه ومشفاته فمن كان قادراً على ضبط نفسه وحملها على طريق الحق والاستقامة كان مجاهداً، ومتحمـلاً لكثير من المشـاق، ولذلك وصف
رسـول اللـه جـهـاد النفس بالجهاد الأكبر.
وذكر خالد بن صفوان محاسن النساء التي تحببهن الى الـرجـال فقال : «أطلب لي امرأة بكرا أو ثيبا كبكر حصانا عند جارهـا مـاجـنـة عند زوجها، قد أدبها الغني، وأذلها الفقر، لا ضرعـة صغيرة، ولا عجوزاً كبيرة، قد عاشت في نعمة وأدركتها حاجـة، لها عقل وافر، وخلق طاهر، وجمال ظاهر».
ثم يقول أيضا : ولم يداخلهـا صلف، ولم يسن وجههـا كلف، لا الطول يزري بها ولا القصر».
نستكمل في العدد القادم
اللهم تقبل من أبى صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين
************
(٢)
كان هناك رجل حصيف بالمدينة مشهوراً بالفطنة، والزكـانـة ورجاحة العقل، وجـودة الـرأي ولم يكن في المدينة أحد يريد إبـرام رأي إلا شاوره، ورجع اليـه فـكـان لذلك مستشاراً يلوذ به ويرجع اليه الناس طلباً للنصح والارشاد لثاقب نظره، ونفاذ بصيرته، وذات مرة اختلف اليه رجل قرشي أراد أن يتزوج من فتاة فقال له ناصحاً تحصن دينك، وتصن مـؤونـتـك وإياك والجمال البارع .. قال : ولم نهيتني، وإنما هو نهاية ما يطلب الناس، قال : لأنه ما فاق الجمال إلا ولحقـه قول، أما سمعت قـول الشاعر :
ولن تصادف مرعى مونقاً أبداً إلا وجدت به آثار مأكول وهذا قول سديد في الواقع، إذ إن الجمال عندما يكون فائقاً بارعاً، لافتاً لاشك أنـه يـكـون شقـاء ويستجلب تعبا وعـذاباً لا مزيد عليه، وصدق الشـاعـر الـعـربي الأريب عندما قرر هذا في دقة معبرة فقال :
وزهرة الروض لولا حسن منظرها
لما استطالت عليها كف جانيها
فالجمال مرغوب فيه، تنجذب اليه النفوس، فمن كان حظها في الجمال ومنه وافرأ فلتتق الله فيه. ولیکن جل عنايتها بصونه مراقبة لله سبحانه وتعالى.
لكن تبعات الزواج ومشقاته قد لا يتجشمها، ولا يحتملها إنسان، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، فمن لم يـأنس من نفسـه قـدرة وسعة وكفـاءة كـان الأولى بـه أن يصبر، وليستعفف، وعليه بالصيام فإن له وجاء كما قال المعصوم .
قال تعالى : (وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ) [سورة النور - الآية 33].
كذلك قد يزهد في الزواج قوم ويرون فيه شقاء وعذاباً لا طاقة لهم به، ويرون الصبر عن النساء بعدم الزواج أيسر وأهـون من الصبر عليهن معهن، بتحمل تبعات الزواج ومسؤولياته.
وهناك صنف مـن الـنـاس منشـائمـون مـن الزواج بطبيعـة تكوينهم، فإنهم مقطـورون على النفور من الجنس الآخر، وربما كان السبب في ذلك أحـد الأمـراض النفسية، أو الأعراض والعـوارض العضوية، ولكن هذه الحالات مع قسوتها وصعوبتها، فإنهـا قـابلـة للعلاج ومن الممكن تقويمـهـا بالعلاج، وفي الطب منـادح وسعة لعلاج هذه الحالات حتى تعود الى حدود السواء.
أما من كان معذوراً كـأن يـكـون منقطعاً به أو مقطوعاً بـه .. سـواء كان هذا أو ذاك فلا وكف ولا ضير أن يستعين بالله سبحانه وتعالى، ويجتهد في معرفة السبب في ذلك، وعليه أن يطرق أبواب الخير، والله تعالى خير مرجو، وأسجح مدعو وأرجي مأمول أن يسدد الخطوات، وينير المحلـولـكـات، ويـدفـع الغـاشيـات وينير الظلمات. ويدفع عن أوليائه وأحبائه الشر والبلاء والثانيات.
والزواج في شريعة الإسلام هو المودة والسكن والـرحمـة في أصرة وواشجة نبيلة كريمة، وهذا هو سنن الدين القويم الذي يتوافق مع فطرة الإنسان، وطبيعة تكوينه.
فيتم له بهذا الزواج اكتمال اللذة، وتمام المتعة الحسية والبدنية والنفسية، والزواج بهذه المقاصد، وتلك المعاني يعطي الإنسان ما يعطيه الدين من خير منتشر، ولا يحرمه شيئاً من حظه المقسوم له في عالم القيم والمثل العليا، وقد سمي القرآن الكريم النكاح ميثاقاً.
وبين روعة هذه المودة الحـانيـة الكريمة في قوله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) .. علاقة روحية بدنية.
وقال أيضا : (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) لذلك كان بكل هذا مراداً مساجلة الشعور بين الجنسين بما أودع الله تعالى في كلا الطرفين من تنوع الشعـور، وتبـاين الإحـسـاس واختلاف العاطفة وتنوعها، كذلك تنوع القدرة على الحب والإيناس والاستئناس.
من ثم كان في علاقة الزوجين ببعضهما البعض متسعاً لألـوان من العواطف الإنسـانيـة التي تجاهلتها كثيراً شرائع الأقدمين، وأكدت على دعم المودة والمحبـة والـرحمـة بين الزوجين تعاليم الإسلام الراسخة التي تكفل لهذه العلاقة الشريفة الاستقرار والدوام فـالزم كلا الطرفين حدوداً لا يتعداها، فلكل من الطرفين حقوق وعليه واجبات، وليست الحقوق في أدائها بأوجب من الواجبات في تقديمها، وهذه الضوابط تتمثل في ضرورة التأكيد على حسن المعاملة. وطيب العشرة، وعلى المرأة الطاعة وعلى الرجل الانفاق، والمعاشرة بالمعروف، وتقـديـر مـشـاعـر كـل طرف للآخـر وليس الزوج سيداً للزوجة، ولا واليا متعسفاً جائراً، ولكنـة ولي لـه حقـوق الـولايـة وعليه واجبات لا تقـل بـحـال عن حقوق هذه الولاية، إذ إن أهم واجبـاتـه هي حمـايـة المـرأة ورعايتها والانفاق عليها.
وفيما خلا الإنفاق فإن للمرأة لها مثل الذي عليها بالمعروف، قال تعالى : (وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ) [سورة البقرة - الآية 228].
يجب على الرجل أن يكون حليماً واسـع الصـدر في مواجهة بعض أخطـاء امـراتـه فـلا يستسلم للغضب مطلق الاذعان والتسليم مرة واحدة، لكن يجوز له أن يبدأ بالموعظة والنصيحة، أو بالإعراض ثم الهجر في المضجع، أو بالضرب ، ثم بالتحكيم بين أهله وأهلها إذا ما صار الوفاق بينهما متعذراً.
ومع أن الضرب مباح، إلا أنه ليس واجبا، ولا لازماً، ولا محتوما مع كل امرأة، فإن هـذا مـرهـون بطبيعة التركيب النفسي للمـرأة.
ولا يجب في حالة اللجوء اليه ـ أن يكون مبرحا أو عنيفاً، ولا يكون الضرب كذلك إلا لنوعية خاصة من النساء اللاتي لا يستجبن لغيره من وسائل العلاج، فيكون حينئذ هو الدواء المر، والعلقم الذي يزيل برحاء الداء برغم مرارة تجرعه.
لكن إذا تعـقـدت الأمـور وتشـاجـرت وتشابكت الأسنـة المشروعـة وتـحـول الـوئـام والاستقرار النفسي والـبـدني الى حرب شعواء، لا يخبو سعيرها برهة من الزمان كان الطلاق - وهو أبغض الحلال إلى الله ـ أمراً لا مفر منه، وقد قررته شريعـة الإسـلام دفعاً للمفسدة التي قد تقع بين الزوجين إذا ما دخل الشيطـان بينهما بالسعاية والافساد.
لكن المنصوح به أن يـراجـع الزوجان نفسيهما قبل الانفصال وعلى كل منهما أن يتقي اللـه ربـه. ويراجع نفسه ويحاسبها حتى لا يكون متجنبا ظالما.
وعلى أي حال فإنه لابد من تقوى الله ومـراقبـتـه، وحسن الظن، وإيثار العفو والصفح فإن هـذا أقرب للتقـوى مـع تـذكـر الفضـل وعدم نسيانه، فلئن كان النـاس منصوحون بعدم نسيان الفضـل فيما بينهم، فـإنـه يصير أوجب والزم بين زوجين كروحين في جسد واحـد، أو كجسدين لهـما روح واحد، والله سبحـانـه مسؤول أن يجعلنا من المقبولين إنه سبحـانـه وتعالى على ذلك مستعان به ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم تقبل من أبى صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين