الزواج سنة الله في خلقه، "فهو الذي خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة". والنبي الكريم يحض على الزواج بقوله : "الزواج سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني". وهذه العلاقة الزوجية المقدسة، كثيراً ما يعتريها الفتور، بل كثيراً ما تنتهي إلى غير النتيجة المبتغاة، وبما يعود سلباً على الأسرة التي هي اللبنة الأساسية لكل مجتمع، وقد تحقق الغاية النبيلة التي لأجلها وضعت، وفي كلتا الحالتين، لا بد من سبب أو أسباب. في هذا الكتاب، وبأسلوب بسيط وواضح، مدعم بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية، والواقعية في أحيان كثيرة، وبنظرة الطبيب المؤمن بالله وبمنهجه في الحياة، يحاول أبى -رحمه الله تعالى- أن يضع الأصبع على الجرح، ويصف الدواء قبل أن يستفحل الداء.
لقد حضَّ الإسلام على الزَّواج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (يا معشَر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوَّج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصَنُ للفرْج، ومَن لم يَستطِع فعليه بالصَّوم؛ فإنه له وجاء).
فالزَّواج فِطرة إنسانيَّة يَحمِل المسلمُ فيه المسؤولية تجاه مَن له في عُنقِه حقُّ التربية والرعايَة، حينما يُلبِّي نداء هذه الفِطرة، ويَستجيب لأشواق هذه الغَريزة، ويُساير سُنَن هذه الحياة.
والزَّواج مَصلحَة اجتماعيَّة؛ وذلك مِن أجْل الحِفاظ على النَّوع الإنساني، وللمُحافَظة على الأنساب، وسَلامة المُجتمع مِن الانحِلال الخلُقيِّ والأمْراض.
كما أنَّ الزَّواج سكَنٌ رُوحانيٌّ ونفْسانيٌّ، وبه يتمُّ التعاوُن بين الزَّوجَين في بِناء الأُسرة وتربية الأولاد، وبه تتأجَّج عاطِفة الأُبُوَّة والأمومة.
والزَّواج في الإسلام انتِقاء واختيار؛ حيث يتمُّ الاختيار على أساس الدِّين أوَّلاً، ثمَّ الأصْل والنسَب والشرَف، وقد أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الخاطِب وأهْل الفتاة المَخطوبَة أن يبَحث كِلاهما عن الآخَر على أساس الإسلام والصَّلاح والاستِقامة والأخلاق.
الآثار السيِّئة المترتبة على قائمة المنقولات الزوجية والمغالاة في المهور
وبعْدَ أن عرَفْنا كيف حثَّ الإسلام على الزَّواج، وشجَّع عليه؛ لِما له مِن مَكانة في بناء المجتمع، واستِمرار النَّوع البشَريِّ، وعدم انتِشار الأمراض الخلُقيَّة في المجتمع المسلم، وغيرها مِن النتائج المترتِّبة على عدَم الزَّواج، فإنَّنا نرى في وقْتِنا الحاضر أنَّ الشباب قليلو الإقبال على الزَّواج، لعلمهم أن هذا دَيْن عليهم لابد من وفائه، فإن الزوج إذا أحسّ سوء العلاقة بينه وبين زوجته فَيَهُمْ بطلاقها، فيتذكر أن هناك ما يطوِّق عنقه ويكبله من مؤخر وقائمة، فلا يستطيع أن يقدم على هذا الأمر، وهو بين أمرين : إما أن يذبح رجولته ويعيش مع زوجته كما تريد هي ويجعل القوامة لها، وإما أن يضيِّق على الزوجة في المأكل والمشرب، ويبدأ في السب واللعن والضرب المبرح والهجر في الفراش والوقوف على كل صغيرة وكبيرة حتى يضطرها إلى أن تطلب هي الطلاق وتتنازل عن كل شيء في سبيل أن تنجو بنفسها من هذا السجن وتتخلص من قبضة هذا السجان.
فيا سبحان الله! كم بلَغ الطمعُ وحبُّ الدنيا ببعض الناس! وكيف تُعرَض المرأة المسلمة سلعةً للبيع والمزايدة وهي أكرمُ مِن ذلك كله؟! لقد غدَتْ كثيراتٌ من العوانس حبيساتٍ في المنازل؛ بسبب ذلك التعنُّتِ والتصرُّف الأرعن ومجاراة بعضِ العادات الجاهلية .. وكثْرت المَشاكِل الاجتِماعيَّة بسبَب عدَم جرَيان الأُمور بطبيعَتِها، ووضْع الشيء في غَير مَوضِعه.
فالشَّباب عزف عن الزَّواج بالمواطِنات، ورغبَ في الزَّواج بالأجنبيَّات؛ مما أدِّي إلى مشاكل خَطيرة لا حصْر لها، ويَشقى الرجل بحيَاته الزَّوجيَّة التي ارْتبَط فيها بامرأة تُخالِفه الفكْرة والبيئة والعادات والرَّغبة.
والفتيَات المُواطِنات بَقينَّ عَوانِس بغَير ذنْب جنَتْه أيديهنَّ، وإنَّما جنَتْه العادات والتَّقاليد، وإنَّ المُغالاة في المُهور ليستْ مِن مصلحة أحد مُطلَقًا، ولقد ضاق الناس بها ذرْعًا وبَرِموا مِن هذه العادة السيِّئة، بل إنَّ البنات أنفسَهنَّ يَكرهْنَ المُغالاة في المُهور؛ لِما يَعلمْنَه مِن وقوفه حجر عثرة دون زواجهنَّ وتَحقُّق أملِهنَّ.
يقول الفاروق -رضي الله عنه- : "ألا لا تُغَالُوا بِصُدُقِ النِّساء؛ فإنَّها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله؛ لكان أولاكم بها النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما أصْدَق رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- امرأةً من نسائه، ولا أُصْدِقَتِ امرأةٌ من بناته أكثرَ من ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً"؛ رواه أبو داود النسائي، وابن ماجه، ولعلَّه لا يَزيد في عملتنا المعاصرة على عشرين دينارًا فقط، فإذا كان هذا في حقِّ أمهات المؤمنين، وبنات سيِّد العالمين، فما بالنا نحن؟!
وقدْ ثبت أنَّ النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- زوَّج بما تيسر مهما كان قليلاً، فإنَّ الله وعْد أن يبارك فيه : ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور : 32].
هذا شُعيب -عليه السلام- يعرِض ابنته على موسى الفقيرِ المطارَد؛ ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ [القصص : 27].
وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال : (ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونهم : المكاتب الذي يُريد الأداء، والناكِح الذي يُريد العفافَ، والمجاهِد في سبيلِ الله)؛ رواه النسائي، وأبو داود، والترمذي.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال : "خطَب أبو طلحة أمَّ سُليم، فقالت : واللهِ ما مِثلُك يا أبا طلحةَ يُرَدُّ، ولكنَّك رجلٌ كافِر وأنا امرأةٌ مسلمة، ولا يحلُّ لي أن أتزوَّجك، فإنْ تُسلِم فذاك مهْري وما أسألك غيرَه، فأسْلَم، فكان ذلك مهرَها .. قال ثابت : فما سمعتُ بامرأة قطُّ كانتْ أكرمَ مهرًا من أمِّ سليم ..
وهذا عبد الرحمن بن عوف، وهو مِن أغْنى أهل المدينة، والذي تُوفِّي عن أربعة وستِّين مليون دينار، تزوَّج على وزن نواةٍ مِن ذهب - كما في البخاري.
وقدْ أنكر الرسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على المغالين في المهور؛ جاء رجل إلى النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال : إنِّي تزوجتُ امرأةً مِن الأنصار، فقال له النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - (على كَمْ تَزوَّجْتَها؟) قال: على أَرْبَعِ أَوَاقٍ، فقال له النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (على أَرْبَعِ أَواقٍ! كَأَنَّما تَنحِتون الفِضَّة من عرْض هذا الجبل! ما عندنا ما نعطيك).
وهذا سعيدُ بنُ المسيّبِ رحِمَهُ اللهُ تعالَى ورضيَ عنهُ أحدَ كبارِ التابعينَ ممن روَى العلمَ عن أكابِرِ الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهُم الذي لَمْ تفُتهُ تكبيرةُ الإحرامِ أربعينَ سنةً في مسجدِ النبيِّ ، كانَ يتردّدُ عليهِ طلبةُ العلمِ، ومِنْ ضمنِ الذينَ كانُوا يتردّدونَ عليهِ ويحافظونَ على حضورِ دروسِهِ تلميذٌ نبيهٌ يسمَّى عبدُ اللهِ بنُ أبِي وداعةَ، فافتَقَدَهُ سعيدُ بنُ المسيّبِ أيامًا، فدخَلَ عليهِ بعدَهَا فقالَ : أينَ كنتَ يَا عبدَ اللهِ؟ قالَ : لقدْ تُوفِّيَتْ زوجتِي فانشغلتُ بهَا، قَالَ : ألا آذنتََنَا حتى نَحضُرَهَا؟! ثم قالَ لَهُ : يَا عبدَ اللهِ، هلْ أحدثتَ زوجًا غيرَهَا؟ هل تزوجتَ غيرَهَا؟ قالَ : يرحَمُك اللهُ يا إمامُ، ومنْ يزوّجُنِي ولا أملكُ إلا درهمينِ أوْ ثلاثة؟! قالَ : أنَا أزوِّجُكَ، قالَ : وتفعَلُ؟! قالَ : نَعَم، ثمَّ حَمدَ اللهَ وأثنَى عليهِ وصلَّى على نبيِّهِ وزوّجَ تلميذَهُ بدرهمينِ. قالَ عبدَ اللهِ : فخرجتُ وأنَا مهمومٌ؛ مِن أينَ أستدِينُ؟! ومن أينَ أوفّرُ الصدَاقَ؟! ومنْ أينَ آتي بالمالِ؟! فبينََمَا كنتُ في منزِلِي بعدَ صلاةِ المغرِبِ وكنتُ صائِماً وقدْ قرّبْتُ فطورِي وكانَ خبزًا وزيتًا قَالَ : فإذا بالبابِ يُطرقُ، فقلتُ : مَن؟ قالَ : سعيد، قَالَ : فحضَرَنِي كلّ مَن اسمُهُ سعيدٌ إلا سعيدُ بنُ المسيّبِ؛ لأنَّهُ لم يغادرْ بيتَهُ إلى مسجدِهِ منذُ أربعينَ عامًا، قالَ : ففَتَحتُ البابَ فإذا سعيدُ بنُ المسيبِ! إمامُ أهلِ المدينةِ العالمُ الكبيرُ، قالَ : قُلتُ : يرحَمُكَ اللهُ لوْ أرسلتَ إليَّ لأتَيتُكَ، قالَ : لا، أنتَ أحقُّ أنْ تُؤتَى، إني تذكّرتُ أنَّك رجلٌ كنتَ ذا زوجةٍ وأنَّكَ تبيتُ عزبًا هذِهِ الليلةَ، فخشيتُ أنْ تبيتَ وحدَكَ وهذِهِ زوجَتُكَ، قالَ : فدَفَعَهَا إليّ وأغلَقَ البابَ، قالَ : فوجدتُهَا مِن أحفَظِ النساءِ لكتابِ اللهِ ولسنّةِ رسولِ اللهِ ، ومِن أجمَلِ مَا رَأَتْ عينَايَ.
وكانتْ ابنةُ سعيدٍ بنِ المسيَّبِ هذهِ قدْ خطَبَهَا عبدُ الملكِ بنُ مروانَ خليفةُ المسلمينَ لابنِهِ وليِّ عهدِ المسلمينَ الوليدِ بنِ عبدِ الملكِ، فأَبَى أنْ يزوِّجَهُ أيَّاهَا.
وها هُو عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مِن أعلام الإسْلام يَسعى بنفْسِه لزَواج ابنته حفْصة، فعِندما تُوفِّيَتْ زَوج عُثمان -رضي الله عنهما- رُقيَّة بنت رسول الله، سارَع الصَّحابة يُواسُونه ويَأسون جِراحه ويُسلُّونه، ولكنَّ عُمر أرد أن يَضرِب المثل الأعلى في المُواساة والتَّواضُع، فيأتي إلى عُثمان ويُواسيه، يَدعو له ولِميِّته، ويَعرِض عليه الزَّواج مِن ابنتِه حفْصة، ولكنَّه يرى منه عُزوفًا، فيَتأثَّر عُمر ولم يكنْ عُثمان رفَض ذلك عن سبب أو عَيب في عُمر أو حَفصَة، إلا أنَّه يَرى صُعوبة زواجِه مِن أيَّة فتاة بعْد كريمة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم.
ويذهب عُثمان ليُطلِع الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- على ما حدَث، فيَجد أنَّ عُمر سبقه إليه وتكون المعجزة على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيُزوِّج ابنتَه أمَّ كلثوم إلى عُثمان، ويتزوَّج الرسول - صلى الله عليه وسلم - مِن حفصَة.
هذا هو عمَلُ الصَّحابة، وهذه حقيقة حياتهم وتَعاونهم على البرِّ والتَّقوى، وسمُوُّ أرواحهم ومَقاصِدهم، وهذه عوائدهم في الزَّواج واختيار الأكْفاء لِبَناتِهم واختيار الصَّالِحات لبُيوتِهم ونُطَفهِم دون النَّظَر والاهتِمام بالمهْر والنفقات.
لقد حثَّ الإسلامُ على تسهيلِ الزواج وتيسير أموره، ونهَى عن المغالاة في المهور، والمبالَغة في تكاليفه، فهذا خيرُ البشَر محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- يزوِّج ابنته فاطمة - رضي الله عنها - بعَليِّ بن أبي طالب بما يساوي أربعةَ دراهم، والإسلام اعتبر أنَّ المرأةَ كلما كان مهرُها قليلاً كان خيرُها كثيرًا؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (إنَّ أعْظمَ النِّكاح بركةً أيسرُه مؤونة).
فاتَّقوا الله عبادَ الله، ويسِّروا أمْرَ الزواج، واحرِصوا على مَن ترْضَون دِينه وخلُقه، وإيَّاكم والرغبةَ في المال دون الدِّين، فالمال عَرَض زائل وعارية مسترَدَّة، والبقاء للدِّين.
من كتاب "المشاكل الزوجية بين الطب والدين" تأليف أبى سماحة العالم الموسوعى الجليل
الدكتور السيد الجميلى رحمه الله رحمة واسعة
اللهم تقبل من أبى صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين
لقد حضَّ الإسلام على الزَّواج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (يا معشَر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوَّج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصَنُ للفرْج، ومَن لم يَستطِع فعليه بالصَّوم؛ فإنه له وجاء).
فالزَّواج فِطرة إنسانيَّة يَحمِل المسلمُ فيه المسؤولية تجاه مَن له في عُنقِه حقُّ التربية والرعايَة، حينما يُلبِّي نداء هذه الفِطرة، ويَستجيب لأشواق هذه الغَريزة، ويُساير سُنَن هذه الحياة.
والزَّواج مَصلحَة اجتماعيَّة؛ وذلك مِن أجْل الحِفاظ على النَّوع الإنساني، وللمُحافَظة على الأنساب، وسَلامة المُجتمع مِن الانحِلال الخلُقيِّ والأمْراض.
كما أنَّ الزَّواج سكَنٌ رُوحانيٌّ ونفْسانيٌّ، وبه يتمُّ التعاوُن بين الزَّوجَين في بِناء الأُسرة وتربية الأولاد، وبه تتأجَّج عاطِفة الأُبُوَّة والأمومة.
والزَّواج في الإسلام انتِقاء واختيار؛ حيث يتمُّ الاختيار على أساس الدِّين أوَّلاً، ثمَّ الأصْل والنسَب والشرَف، وقد أوصى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الخاطِب وأهْل الفتاة المَخطوبَة أن يبَحث كِلاهما عن الآخَر على أساس الإسلام والصَّلاح والاستِقامة والأخلاق.
الآثار السيِّئة المترتبة على قائمة المنقولات الزوجية والمغالاة في المهور
وبعْدَ أن عرَفْنا كيف حثَّ الإسلام على الزَّواج، وشجَّع عليه؛ لِما له مِن مَكانة في بناء المجتمع، واستِمرار النَّوع البشَريِّ، وعدم انتِشار الأمراض الخلُقيَّة في المجتمع المسلم، وغيرها مِن النتائج المترتِّبة على عدَم الزَّواج، فإنَّنا نرى في وقْتِنا الحاضر أنَّ الشباب قليلو الإقبال على الزَّواج، لعلمهم أن هذا دَيْن عليهم لابد من وفائه، فإن الزوج إذا أحسّ سوء العلاقة بينه وبين زوجته فَيَهُمْ بطلاقها، فيتذكر أن هناك ما يطوِّق عنقه ويكبله من مؤخر وقائمة، فلا يستطيع أن يقدم على هذا الأمر، وهو بين أمرين : إما أن يذبح رجولته ويعيش مع زوجته كما تريد هي ويجعل القوامة لها، وإما أن يضيِّق على الزوجة في المأكل والمشرب، ويبدأ في السب واللعن والضرب المبرح والهجر في الفراش والوقوف على كل صغيرة وكبيرة حتى يضطرها إلى أن تطلب هي الطلاق وتتنازل عن كل شيء في سبيل أن تنجو بنفسها من هذا السجن وتتخلص من قبضة هذا السجان.
فيا سبحان الله! كم بلَغ الطمعُ وحبُّ الدنيا ببعض الناس! وكيف تُعرَض المرأة المسلمة سلعةً للبيع والمزايدة وهي أكرمُ مِن ذلك كله؟! لقد غدَتْ كثيراتٌ من العوانس حبيساتٍ في المنازل؛ بسبب ذلك التعنُّتِ والتصرُّف الأرعن ومجاراة بعضِ العادات الجاهلية .. وكثْرت المَشاكِل الاجتِماعيَّة بسبَب عدَم جرَيان الأُمور بطبيعَتِها، ووضْع الشيء في غَير مَوضِعه.
فالشَّباب عزف عن الزَّواج بالمواطِنات، ورغبَ في الزَّواج بالأجنبيَّات؛ مما أدِّي إلى مشاكل خَطيرة لا حصْر لها، ويَشقى الرجل بحيَاته الزَّوجيَّة التي ارْتبَط فيها بامرأة تُخالِفه الفكْرة والبيئة والعادات والرَّغبة.
والفتيَات المُواطِنات بَقينَّ عَوانِس بغَير ذنْب جنَتْه أيديهنَّ، وإنَّما جنَتْه العادات والتَّقاليد، وإنَّ المُغالاة في المُهور ليستْ مِن مصلحة أحد مُطلَقًا، ولقد ضاق الناس بها ذرْعًا وبَرِموا مِن هذه العادة السيِّئة، بل إنَّ البنات أنفسَهنَّ يَكرهْنَ المُغالاة في المُهور؛ لِما يَعلمْنَه مِن وقوفه حجر عثرة دون زواجهنَّ وتَحقُّق أملِهنَّ.
يقول الفاروق -رضي الله عنه- : "ألا لا تُغَالُوا بِصُدُقِ النِّساء؛ فإنَّها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله؛ لكان أولاكم بها النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما أصْدَق رسولُ الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- امرأةً من نسائه، ولا أُصْدِقَتِ امرأةٌ من بناته أكثرَ من ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً"؛ رواه أبو داود النسائي، وابن ماجه، ولعلَّه لا يَزيد في عملتنا المعاصرة على عشرين دينارًا فقط، فإذا كان هذا في حقِّ أمهات المؤمنين، وبنات سيِّد العالمين، فما بالنا نحن؟!
وقدْ ثبت أنَّ النبيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- زوَّج بما تيسر مهما كان قليلاً، فإنَّ الله وعْد أن يبارك فيه : ﴿وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور : 32].
هذا شُعيب -عليه السلام- يعرِض ابنته على موسى الفقيرِ المطارَد؛ ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ﴾ [القصص : 27].
وعن أبي هريرة أن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- قال : (ثلاثةٌ حقٌّ على الله عونهم : المكاتب الذي يُريد الأداء، والناكِح الذي يُريد العفافَ، والمجاهِد في سبيلِ الله)؛ رواه النسائي، وأبو داود، والترمذي.
وعن أنس -رضي الله عنه- قال : "خطَب أبو طلحة أمَّ سُليم، فقالت : واللهِ ما مِثلُك يا أبا طلحةَ يُرَدُّ، ولكنَّك رجلٌ كافِر وأنا امرأةٌ مسلمة، ولا يحلُّ لي أن أتزوَّجك، فإنْ تُسلِم فذاك مهْري وما أسألك غيرَه، فأسْلَم، فكان ذلك مهرَها .. قال ثابت : فما سمعتُ بامرأة قطُّ كانتْ أكرمَ مهرًا من أمِّ سليم ..
وهذا عبد الرحمن بن عوف، وهو مِن أغْنى أهل المدينة، والذي تُوفِّي عن أربعة وستِّين مليون دينار، تزوَّج على وزن نواةٍ مِن ذهب - كما في البخاري.
وقدْ أنكر الرسولُ -صلَّى الله عليه وسلَّم- على المغالين في المهور؛ جاء رجل إلى النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- فقال : إنِّي تزوجتُ امرأةً مِن الأنصار، فقال له النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - (على كَمْ تَزوَّجْتَها؟) قال: على أَرْبَعِ أَوَاقٍ، فقال له النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (على أَرْبَعِ أَواقٍ! كَأَنَّما تَنحِتون الفِضَّة من عرْض هذا الجبل! ما عندنا ما نعطيك).
وهذا سعيدُ بنُ المسيّبِ رحِمَهُ اللهُ تعالَى ورضيَ عنهُ أحدَ كبارِ التابعينَ ممن روَى العلمَ عن أكابِرِ الصحابةِ رضِيَ اللهُ عنهُم الذي لَمْ تفُتهُ تكبيرةُ الإحرامِ أربعينَ سنةً في مسجدِ النبيِّ ، كانَ يتردّدُ عليهِ طلبةُ العلمِ، ومِنْ ضمنِ الذينَ كانُوا يتردّدونَ عليهِ ويحافظونَ على حضورِ دروسِهِ تلميذٌ نبيهٌ يسمَّى عبدُ اللهِ بنُ أبِي وداعةَ، فافتَقَدَهُ سعيدُ بنُ المسيّبِ أيامًا، فدخَلَ عليهِ بعدَهَا فقالَ : أينَ كنتَ يَا عبدَ اللهِ؟ قالَ : لقدْ تُوفِّيَتْ زوجتِي فانشغلتُ بهَا، قَالَ : ألا آذنتََنَا حتى نَحضُرَهَا؟! ثم قالَ لَهُ : يَا عبدَ اللهِ، هلْ أحدثتَ زوجًا غيرَهَا؟ هل تزوجتَ غيرَهَا؟ قالَ : يرحَمُك اللهُ يا إمامُ، ومنْ يزوّجُنِي ولا أملكُ إلا درهمينِ أوْ ثلاثة؟! قالَ : أنَا أزوِّجُكَ، قالَ : وتفعَلُ؟! قالَ : نَعَم، ثمَّ حَمدَ اللهَ وأثنَى عليهِ وصلَّى على نبيِّهِ وزوّجَ تلميذَهُ بدرهمينِ. قالَ عبدَ اللهِ : فخرجتُ وأنَا مهمومٌ؛ مِن أينَ أستدِينُ؟! ومن أينَ أوفّرُ الصدَاقَ؟! ومنْ أينَ آتي بالمالِ؟! فبينََمَا كنتُ في منزِلِي بعدَ صلاةِ المغرِبِ وكنتُ صائِماً وقدْ قرّبْتُ فطورِي وكانَ خبزًا وزيتًا قَالَ : فإذا بالبابِ يُطرقُ، فقلتُ : مَن؟ قالَ : سعيد، قَالَ : فحضَرَنِي كلّ مَن اسمُهُ سعيدٌ إلا سعيدُ بنُ المسيّبِ؛ لأنَّهُ لم يغادرْ بيتَهُ إلى مسجدِهِ منذُ أربعينَ عامًا، قالَ : ففَتَحتُ البابَ فإذا سعيدُ بنُ المسيبِ! إمامُ أهلِ المدينةِ العالمُ الكبيرُ، قالَ : قُلتُ : يرحَمُكَ اللهُ لوْ أرسلتَ إليَّ لأتَيتُكَ، قالَ : لا، أنتَ أحقُّ أنْ تُؤتَى، إني تذكّرتُ أنَّك رجلٌ كنتَ ذا زوجةٍ وأنَّكَ تبيتُ عزبًا هذِهِ الليلةَ، فخشيتُ أنْ تبيتَ وحدَكَ وهذِهِ زوجَتُكَ، قالَ : فدَفَعَهَا إليّ وأغلَقَ البابَ، قالَ : فوجدتُهَا مِن أحفَظِ النساءِ لكتابِ اللهِ ولسنّةِ رسولِ اللهِ ، ومِن أجمَلِ مَا رَأَتْ عينَايَ.
وكانتْ ابنةُ سعيدٍ بنِ المسيَّبِ هذهِ قدْ خطَبَهَا عبدُ الملكِ بنُ مروانَ خليفةُ المسلمينَ لابنِهِ وليِّ عهدِ المسلمينَ الوليدِ بنِ عبدِ الملكِ، فأَبَى أنْ يزوِّجَهُ أيَّاهَا.
وها هُو عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مِن أعلام الإسْلام يَسعى بنفْسِه لزَواج ابنته حفْصة، فعِندما تُوفِّيَتْ زَوج عُثمان -رضي الله عنهما- رُقيَّة بنت رسول الله، سارَع الصَّحابة يُواسُونه ويَأسون جِراحه ويُسلُّونه، ولكنَّ عُمر أرد أن يَضرِب المثل الأعلى في المُواساة والتَّواضُع، فيأتي إلى عُثمان ويُواسيه، يَدعو له ولِميِّته، ويَعرِض عليه الزَّواج مِن ابنتِه حفْصة، ولكنَّه يرى منه عُزوفًا، فيَتأثَّر عُمر ولم يكنْ عُثمان رفَض ذلك عن سبب أو عَيب في عُمر أو حَفصَة، إلا أنَّه يَرى صُعوبة زواجِه مِن أيَّة فتاة بعْد كريمة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم.
ويذهب عُثمان ليُطلِع الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- على ما حدَث، فيَجد أنَّ عُمر سبقه إليه وتكون المعجزة على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيُزوِّج ابنتَه أمَّ كلثوم إلى عُثمان، ويتزوَّج الرسول - صلى الله عليه وسلم - مِن حفصَة.
هذا هو عمَلُ الصَّحابة، وهذه حقيقة حياتهم وتَعاونهم على البرِّ والتَّقوى، وسمُوُّ أرواحهم ومَقاصِدهم، وهذه عوائدهم في الزَّواج واختيار الأكْفاء لِبَناتِهم واختيار الصَّالِحات لبُيوتِهم ونُطَفهِم دون النَّظَر والاهتِمام بالمهْر والنفقات.
لقد حثَّ الإسلامُ على تسهيلِ الزواج وتيسير أموره، ونهَى عن المغالاة في المهور، والمبالَغة في تكاليفه، فهذا خيرُ البشَر محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- يزوِّج ابنته فاطمة - رضي الله عنها - بعَليِّ بن أبي طالب بما يساوي أربعةَ دراهم، والإسلام اعتبر أنَّ المرأةَ كلما كان مهرُها قليلاً كان خيرُها كثيرًا؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (إنَّ أعْظمَ النِّكاح بركةً أيسرُه مؤونة).
فاتَّقوا الله عبادَ الله، ويسِّروا أمْرَ الزواج، واحرِصوا على مَن ترْضَون دِينه وخلُقه، وإيَّاكم والرغبةَ في المال دون الدِّين، فالمال عَرَض زائل وعارية مسترَدَّة، والبقاء للدِّين.
من كتاب "المشاكل الزوجية بين الطب والدين" تأليف أبى سماحة العالم الموسوعى الجليل
الدكتور السيد الجميلى رحمه الله رحمة واسعة
اللهم تقبل من أبى صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين