سلة وحيدة في العراء .. مثبتة في حائط ينتصب وحيداً في مواجهة الميدان الدائري الكبير .. كان المكان خلواً من المارة أو السكان، فيما عدا سيارات مارقة سريعة .. وقف وحيداً وسط هدير السيارات يتأمل السلة التي تقترب من الأرض على مقربة من أسفل الجدار، فيما بدا الجدار شاهقاً ، تزينه جدارية رائعة من الفن الفرعوني القديم .. أية حكمة أن تكون السلة ها هنا مثبتة في الجدار؟ .. لا أظن أنها جزء من اللوحة، كما لا أظن أنها ها هنا للقمامة.
كان عليه أن يمرق باتجاه السلة .. لاحظ أنها نظيفة لامعة، بينما كانت تتناثر أسفل الحائط بعض الأوراق والأكياس البلاستيكية الفارغة ساقها الهواء إلى أسفل الجدار.. أية حكمة إن تكون السلة نظيفة والقمامة سائبة؟ .
اليوم هو يقف أمامها متأملاً، فارغاً رأسه إلا من الأسئلة .. كانت قد استوقفت أنظاره مذ رآها للمرة الأولى .. أثارت انتباهه سلة وحيدة لامعة نظيفة في العراء مثبتة في جدار يُشرِف على عدة شوارع واسعة تمرق فوقها السيارات دون توقف .. انهمك في تأمل طلائها البرونزيّ، وشكلها المخروطي المنبعج قليلاً عند المنتصف .. عدَّ أسياخها الأفقية والرأسية التي تشكِّل جوانبها، وتوقف عند كلمات سوداء محفورة على لوحة فضية على مقربة من قاعدتها: "صُنِع في مِصر ـ تاريخ التصنيع : أكتوبر 1975 ـ المنتِج : شركة النصر للصناعات المعدنية ـ رقم التصنيع: 143601 ـ نوع المنتَج : سلة قمامة ".
هي نفسها تلك السلة التي رآها فيما يرى النائم قبل عام مضى.. رأى أن رأسه مقطوعاً يهوى إلى أسفل.. يلامس الأرض .. يتدحرج قليلاً قبل أن يستقر في سلة قمامة باتساعه تماماً .. فسَّرها المفسِّرون تفسيرات عَّدة متباينة، غير أنه لم يكن مقتنعاً بواحدة منها.
قال الذين يأخذون بظاهر النص إن رأسه سيُقْطع إثر جرم كبير يستوجب قطع الرأس، وربما أُلقيَ رأسه في سلة القمامة، بينما قال المغرمون بالمجاز والمُدْبِرون خلف الظاهر إن الرؤية تشف عن دنو أجله، وأن السلة بمثابة القبر الذي سيحوى جسده، وقالوا إن الرأس لفظ يُطلق عادة على سائر الجسد على سبيل المجاز.
وقال المغرمون بالقاموس: رأس الشيء قمته، وهو الهامة، ورأس القوم كبيرهم وسيِّدهم، وقطع الرأس في الرؤيا وتدحرجه إلى سلة القمامة يؤوَّل إلى فساد العلاقة بين القوم وكبيرهم، وقالوا: قطع الرأس فساد الرأي والفتوى، وتدحرجه إلى سلة القمامة تدليل على استهانة الناس به.
كلها تأويلات من المفترض أنها مفزعة، لكنه ـ وعلى غير ما يجب ـ انجذب إلى السلة .. تلبسته حالة غريبة من الغرام بها، وإن كان ثمة أسئلة ما استبدت برأسه : ما الذي يجعلني منجذباً هكذا لهذه السلة؟ .. كان من المفترض أن تخيفني .. لا زلت أتذكر رأسي مقطوعاً ومحشوراً في جوف السلة.
لسبب ما أخرج من جيبه شريطاً ولفه حول رأسه، ثم أعاد لفه حول فوَّهة السلة .. تأكد أن فوهة السلة كافية لإدخال رأسه .. يا لها من مفاجأة غير سارة! ، ومع ذلك استسلم لشعور خفيٍّ لذيذ من الإعجاب بالسلة والغرام بها، وراح يعيد سؤالا: لماذا هي سلة للقمامة؟.. لماذا لا تكون سلة وحسب؟ .. لقد لفتت الجدارية أنظاره هي الأخرى: أحمس بعجلاته الحربية يطارد الهكسوس .. الهكسوس يبدون كجرذان البراري .. يفرُّون أمامه باتجاه أسفل اللوحة .. تماماً كما لو كانوا جميعاً يسقطون في السَّلَّة .. ربما لذلك هي جزء من اللوحة . الغزاة مصيرهم إلى سلة القمامة .. الغزاة قمامة يكنسها أحمس بجيشه الجرار.. هتف مع نفسه: السَّلَّة مقبرة الغزاة، وثمة تأويلات أخرى استبدت برأسه، كلها تُحَوِّم حول حقيقة ما تبدو ضائعة.. أهو الرأس ضائع أم الحقيقة ضائعة؟!.
مشهد قديم جمع بينه وبين السلة، لكنه تكرر كثيراً في أوقات فراغه .. كان يأتي إلى هنا، حاملاً بعض الأطعمة.. يجلس أسفل الجدار .. يتناول غداءه ها هنا، ويقضي وقتاً طويلاً بجوارها .. ربما أنه يمتلك الآن تفسيراً للرؤيا: الرأس بيت التفكير ؛ ولقد خطفت السلة رأسه، أي استحوذت على تفكيره كليةً .. هذا هو التفسير الممكن، وربما لهذا لم تعد السلة مخيفة، وقد امتلك تأويلاً غير مخيف .. الدمويون قالوا بقطع الرأس، ولم يعد في رأسهم أن يكون الممكن هو التفكير .. أية سرٍّ ذلك الذي جعل تفكيره باتجاه السَّلَّة طويلاً وعميقاً ومختلفاً .. ثمة علاقة ممكنة ـ قد تكون ـ بين الحلم والواقع ، أو بين الظاهر والباطن .. بين الشعور واللاشعور .. مساحة مختلفة فوق العقل تربط بين معقِلِه والسلة .. لماذا هو هكذا مغرم بها، لا يفعل شيئاً مذ يحل بجوارها غير تأملها وإطلاق الأسئلة ؟!.
هكذا بدت السلة معشوقته التي تستبد برأسه وصدره، لكنما ـ وقد غادر مصر إلى الخارج لسنوات طويلة ـ هل ستظل السلة هكذا بالنسبة له؟.
الذي تأكد أنه ـ فور هبوطه من طائرة العودة ـ سجد على الأرض، وقبَّل تراب الوطن ، وتشمم رائحة رطوبته، ثم رفع رأسه باتجاه السماء، ساحباً نَفَساً عميقا من الهواء .. لحظة أدهشت الجميع حوله .. لحظة كانت بالنسبة له تختصر تفاصل الشوق إلى السلة.. استقل سيارة مِن قدَّام المطار .. حدد لسائقها العنوان الذي سيجمعه بها.
نعم .. كانت أولى مطالبه ـ التي أملتها عليه نفسه ـ أن يراها .. يعبئ عينيه منها، ويعيد تأملها من جديد .. يستلقى في ظلال الجدار ويتناول الغداء مثلما كان يفعل في الماضي .. سأعود إليك أيتها الحبيبة .. لم يكن بمقدوري ألا أفارقك .. يمكنني أن أصارحك : إننا نعيش في أشد عصور التاريخ فساداً .. لقد حالت الظروف بيني وبينك وأجبرتني تعاسة اللحظة على التغرب لسنوات عديدة بحثاً عن لقمة الخبز.. سأعيد تفاصيل عشقنا القديم .. لم تنسني سنون الغربة هيئتك وسكونك وصمتك وروعتك وصمودك تحت الشمس التي تلفح جوانبك ، وأنت تبرقين تحتها حتى يحل عليك الظلام فتواجهين عتاوة الرياح ووحشة الليل .. لا يقطع وحشتك سوى هدير سيارات لا تلتفت إليك وأنت الفاغرة فاكِ بغير كلام في وجه السماء .. لكأن صمتك هو الكلام نفسه على نحوٍ بليغ .. إيه أيتها الحبيبة روعة وصموداً أمام عوامل التصرِّم وسنن التبدل في هذي الحياة .. يا لؤلؤة يدثرها الليل الموحش حتى يكللها ندى الفجر والضياء فتبرق من جديد. . لكأن ما بيني وبينك هذا الصمود ، وهذا البريق .. يبرق الأمل فينا ساعة فتشع فينا السعادة العابرة .. نرى الحياة بلون أبيض .. نسقط بعدها في يأس لحظتنا، لا ندري أيهما استثناء في حياتنا: البقاء مع اليأس أم الرحيل مع الأمل الكذوب .. نتدثر بالأسئلة .. باليقين الذي يربطنا بالسماء: دوام الحال من المحال، والله على كل شيء قدير.
أيتها الحبيبة ها قد أتيت .. اقتربت المسافة بيني وبينك ، سألقي بحقائبي بجوارك وأستعيد عندك كل الذكريات .. لن أزعجك كثيرا بتفاصيل غربتي الشاقة، ولن أبكي على فراق انتهى باللقاء، لكنني على أية حالة لن أكون صامتاً، سأحاورك كما يتحاور العشاق، وربما استمعت إلى لسان حالك وقرأت صمتك .. أيتها الحبيبة ها قد أتيت.
كان الميدان مكتظاً بالبشر السائرين والجالسين .. مزدحماً بأكشاك خشبية كالحة، وثمة عربات للسرفيس تمرق في كل الاتجاهات .. بائعي الترمس والبطاطا والفشار يتصايحون .. الجدار فيما بدا كان قاتماً .. تهدمت جوانبه، بينما الذي حلَّت بالمكان دكنة الأتربة والرماد .. غلالة من الرصاص تراكمت على سطحه .. طُمِست معالم الجدارية .. كَلَس من الأتربة والرصاص .. فعلت الرطوبة والأمطار أفعالها بالجدار .. أين أنت أيتها الحبيبة.
نزل من السيارة وحمل حقائبه باتجاه الجدار .. يااااه .. يا للأسف العجوز ! .. لقد تفعصت جوانب السلة ! .. انمحى لونها البرونزي .. تحول إلى لون باهت قاتم .. أين البريق؟! .. أين روعتك القديمة .. انبعجت السلة للداخل، وتقصفت بعض أسياخها وانثنت للخارج .. تراكمت القمامة أسفلها وبدأت تعلو باتجاهها : أوراق جرائد وخضروات .. طماطم مفعصة .. أكياس فارغة .. وتلك الرائحة!.
ثمة صبية حفاة متسخون يشلِّحون تحت الجدار .. يفعلونها ويمضون في سلام .. نساء بجلابيب سوداء كوجه الزمن .. أيتها السلة ليس بوسعي أن أفعل شيئاً .. لن يُصْلِح العطار ما أفسد الدهر .. لحظة من أشد لحظات حياته قسوة أن يرى السلة هكذا .. ظل وجهه ممتعضاًً .. غامت عيناه قليلا، ثم اغرورقت بالدموع .. مرر يده فوق جوانبها .. عادت يداه بقرف مثير .. لم تعد السلة إلا موطناً للذباب والبعوض .. سكن جوفها التراب المتكلس .. انمحت الكتابة من فوق اللوحة .. لاحظ أن ثمة حروف يمكن أن تُقرأ بصعوبة: صُنِع في مصـ .... عبارة وحيدة ناقصة لا تزال تقاوم الفناء، وإن كانت كالسلة تثير الشفقة.
بدأت أسئلة قديمة تدب في رأسه: كيف أن السلة فارغة والقمامة سائبة؟! .. لماذا لا يضع قومي قمامتهم في السلال كسائر الشعوب ؟ لماذا الميدان يعج بالقاذورات بينما السلة فارغة؟! .. هل يشفقون على السلة؟ أم أن قمامتهم أضحت أضخم حجماً منها؟.
ثمة خيبة ماثلة تهدد عشقه القديم .. نسي كثير من الأسئلة .. لم يعد راغباً في طرح أسئلة جديدة ... انمحت عنده رغبة الجلوس والتأمل .. ودَّ لو يفر من المكان .. سأغادر الميدان القديم إذن سأتركك مضطراً أيتها الحبيبة . في لحظة ما بين الشفقة والأسى لاحظ أن ثمة ورقة وحيدة تلتصق بقعر السلة ، ورغم التراب المتكلس فوقها مد يده إليها .. ورقة وحيدة متكلسة في القاع .. لأول مرة منذ عهده بالسلة يلحظ شيئاً في قاعها .. نزعها برفق .. قربها من عينيه .. فرك ما فوقها من تراب .. تبدَّت له صورة رجل مهم .. رجل يعرفه الجميع .. لتكن الحقيقة إذن بعيداً عن كل التأويلات: السلال في بلدي للرجال المهمين .. دبَّ في رأسه جنون اليقين: الآن أعرف أن قومي يضعون الرجل المناسب في المكان المناسب.. حمل حقائبه ومضى، وإن كان ثمة سؤال بدأ يفرض نفسه: إلى أين المسير؟.
كان عليه أن يمرق باتجاه السلة .. لاحظ أنها نظيفة لامعة، بينما كانت تتناثر أسفل الحائط بعض الأوراق والأكياس البلاستيكية الفارغة ساقها الهواء إلى أسفل الجدار.. أية حكمة إن تكون السلة نظيفة والقمامة سائبة؟ .
اليوم هو يقف أمامها متأملاً، فارغاً رأسه إلا من الأسئلة .. كانت قد استوقفت أنظاره مذ رآها للمرة الأولى .. أثارت انتباهه سلة وحيدة لامعة نظيفة في العراء مثبتة في جدار يُشرِف على عدة شوارع واسعة تمرق فوقها السيارات دون توقف .. انهمك في تأمل طلائها البرونزيّ، وشكلها المخروطي المنبعج قليلاً عند المنتصف .. عدَّ أسياخها الأفقية والرأسية التي تشكِّل جوانبها، وتوقف عند كلمات سوداء محفورة على لوحة فضية على مقربة من قاعدتها: "صُنِع في مِصر ـ تاريخ التصنيع : أكتوبر 1975 ـ المنتِج : شركة النصر للصناعات المعدنية ـ رقم التصنيع: 143601 ـ نوع المنتَج : سلة قمامة ".
هي نفسها تلك السلة التي رآها فيما يرى النائم قبل عام مضى.. رأى أن رأسه مقطوعاً يهوى إلى أسفل.. يلامس الأرض .. يتدحرج قليلاً قبل أن يستقر في سلة قمامة باتساعه تماماً .. فسَّرها المفسِّرون تفسيرات عَّدة متباينة، غير أنه لم يكن مقتنعاً بواحدة منها.
قال الذين يأخذون بظاهر النص إن رأسه سيُقْطع إثر جرم كبير يستوجب قطع الرأس، وربما أُلقيَ رأسه في سلة القمامة، بينما قال المغرمون بالمجاز والمُدْبِرون خلف الظاهر إن الرؤية تشف عن دنو أجله، وأن السلة بمثابة القبر الذي سيحوى جسده، وقالوا إن الرأس لفظ يُطلق عادة على سائر الجسد على سبيل المجاز.
وقال المغرمون بالقاموس: رأس الشيء قمته، وهو الهامة، ورأس القوم كبيرهم وسيِّدهم، وقطع الرأس في الرؤيا وتدحرجه إلى سلة القمامة يؤوَّل إلى فساد العلاقة بين القوم وكبيرهم، وقالوا: قطع الرأس فساد الرأي والفتوى، وتدحرجه إلى سلة القمامة تدليل على استهانة الناس به.
كلها تأويلات من المفترض أنها مفزعة، لكنه ـ وعلى غير ما يجب ـ انجذب إلى السلة .. تلبسته حالة غريبة من الغرام بها، وإن كان ثمة أسئلة ما استبدت برأسه : ما الذي يجعلني منجذباً هكذا لهذه السلة؟ .. كان من المفترض أن تخيفني .. لا زلت أتذكر رأسي مقطوعاً ومحشوراً في جوف السلة.
لسبب ما أخرج من جيبه شريطاً ولفه حول رأسه، ثم أعاد لفه حول فوَّهة السلة .. تأكد أن فوهة السلة كافية لإدخال رأسه .. يا لها من مفاجأة غير سارة! ، ومع ذلك استسلم لشعور خفيٍّ لذيذ من الإعجاب بالسلة والغرام بها، وراح يعيد سؤالا: لماذا هي سلة للقمامة؟.. لماذا لا تكون سلة وحسب؟ .. لقد لفتت الجدارية أنظاره هي الأخرى: أحمس بعجلاته الحربية يطارد الهكسوس .. الهكسوس يبدون كجرذان البراري .. يفرُّون أمامه باتجاه أسفل اللوحة .. تماماً كما لو كانوا جميعاً يسقطون في السَّلَّة .. ربما لذلك هي جزء من اللوحة . الغزاة مصيرهم إلى سلة القمامة .. الغزاة قمامة يكنسها أحمس بجيشه الجرار.. هتف مع نفسه: السَّلَّة مقبرة الغزاة، وثمة تأويلات أخرى استبدت برأسه، كلها تُحَوِّم حول حقيقة ما تبدو ضائعة.. أهو الرأس ضائع أم الحقيقة ضائعة؟!.
مشهد قديم جمع بينه وبين السلة، لكنه تكرر كثيراً في أوقات فراغه .. كان يأتي إلى هنا، حاملاً بعض الأطعمة.. يجلس أسفل الجدار .. يتناول غداءه ها هنا، ويقضي وقتاً طويلاً بجوارها .. ربما أنه يمتلك الآن تفسيراً للرؤيا: الرأس بيت التفكير ؛ ولقد خطفت السلة رأسه، أي استحوذت على تفكيره كليةً .. هذا هو التفسير الممكن، وربما لهذا لم تعد السلة مخيفة، وقد امتلك تأويلاً غير مخيف .. الدمويون قالوا بقطع الرأس، ولم يعد في رأسهم أن يكون الممكن هو التفكير .. أية سرٍّ ذلك الذي جعل تفكيره باتجاه السَّلَّة طويلاً وعميقاً ومختلفاً .. ثمة علاقة ممكنة ـ قد تكون ـ بين الحلم والواقع ، أو بين الظاهر والباطن .. بين الشعور واللاشعور .. مساحة مختلفة فوق العقل تربط بين معقِلِه والسلة .. لماذا هو هكذا مغرم بها، لا يفعل شيئاً مذ يحل بجوارها غير تأملها وإطلاق الأسئلة ؟!.
هكذا بدت السلة معشوقته التي تستبد برأسه وصدره، لكنما ـ وقد غادر مصر إلى الخارج لسنوات طويلة ـ هل ستظل السلة هكذا بالنسبة له؟.
الذي تأكد أنه ـ فور هبوطه من طائرة العودة ـ سجد على الأرض، وقبَّل تراب الوطن ، وتشمم رائحة رطوبته، ثم رفع رأسه باتجاه السماء، ساحباً نَفَساً عميقا من الهواء .. لحظة أدهشت الجميع حوله .. لحظة كانت بالنسبة له تختصر تفاصل الشوق إلى السلة.. استقل سيارة مِن قدَّام المطار .. حدد لسائقها العنوان الذي سيجمعه بها.
نعم .. كانت أولى مطالبه ـ التي أملتها عليه نفسه ـ أن يراها .. يعبئ عينيه منها، ويعيد تأملها من جديد .. يستلقى في ظلال الجدار ويتناول الغداء مثلما كان يفعل في الماضي .. سأعود إليك أيتها الحبيبة .. لم يكن بمقدوري ألا أفارقك .. يمكنني أن أصارحك : إننا نعيش في أشد عصور التاريخ فساداً .. لقد حالت الظروف بيني وبينك وأجبرتني تعاسة اللحظة على التغرب لسنوات عديدة بحثاً عن لقمة الخبز.. سأعيد تفاصيل عشقنا القديم .. لم تنسني سنون الغربة هيئتك وسكونك وصمتك وروعتك وصمودك تحت الشمس التي تلفح جوانبك ، وأنت تبرقين تحتها حتى يحل عليك الظلام فتواجهين عتاوة الرياح ووحشة الليل .. لا يقطع وحشتك سوى هدير سيارات لا تلتفت إليك وأنت الفاغرة فاكِ بغير كلام في وجه السماء .. لكأن صمتك هو الكلام نفسه على نحوٍ بليغ .. إيه أيتها الحبيبة روعة وصموداً أمام عوامل التصرِّم وسنن التبدل في هذي الحياة .. يا لؤلؤة يدثرها الليل الموحش حتى يكللها ندى الفجر والضياء فتبرق من جديد. . لكأن ما بيني وبينك هذا الصمود ، وهذا البريق .. يبرق الأمل فينا ساعة فتشع فينا السعادة العابرة .. نرى الحياة بلون أبيض .. نسقط بعدها في يأس لحظتنا، لا ندري أيهما استثناء في حياتنا: البقاء مع اليأس أم الرحيل مع الأمل الكذوب .. نتدثر بالأسئلة .. باليقين الذي يربطنا بالسماء: دوام الحال من المحال، والله على كل شيء قدير.
أيتها الحبيبة ها قد أتيت .. اقتربت المسافة بيني وبينك ، سألقي بحقائبي بجوارك وأستعيد عندك كل الذكريات .. لن أزعجك كثيرا بتفاصيل غربتي الشاقة، ولن أبكي على فراق انتهى باللقاء، لكنني على أية حالة لن أكون صامتاً، سأحاورك كما يتحاور العشاق، وربما استمعت إلى لسان حالك وقرأت صمتك .. أيتها الحبيبة ها قد أتيت.
كان الميدان مكتظاً بالبشر السائرين والجالسين .. مزدحماً بأكشاك خشبية كالحة، وثمة عربات للسرفيس تمرق في كل الاتجاهات .. بائعي الترمس والبطاطا والفشار يتصايحون .. الجدار فيما بدا كان قاتماً .. تهدمت جوانبه، بينما الذي حلَّت بالمكان دكنة الأتربة والرماد .. غلالة من الرصاص تراكمت على سطحه .. طُمِست معالم الجدارية .. كَلَس من الأتربة والرصاص .. فعلت الرطوبة والأمطار أفعالها بالجدار .. أين أنت أيتها الحبيبة.
نزل من السيارة وحمل حقائبه باتجاه الجدار .. يااااه .. يا للأسف العجوز ! .. لقد تفعصت جوانب السلة ! .. انمحى لونها البرونزي .. تحول إلى لون باهت قاتم .. أين البريق؟! .. أين روعتك القديمة .. انبعجت السلة للداخل، وتقصفت بعض أسياخها وانثنت للخارج .. تراكمت القمامة أسفلها وبدأت تعلو باتجاهها : أوراق جرائد وخضروات .. طماطم مفعصة .. أكياس فارغة .. وتلك الرائحة!.
ثمة صبية حفاة متسخون يشلِّحون تحت الجدار .. يفعلونها ويمضون في سلام .. نساء بجلابيب سوداء كوجه الزمن .. أيتها السلة ليس بوسعي أن أفعل شيئاً .. لن يُصْلِح العطار ما أفسد الدهر .. لحظة من أشد لحظات حياته قسوة أن يرى السلة هكذا .. ظل وجهه ممتعضاًً .. غامت عيناه قليلا، ثم اغرورقت بالدموع .. مرر يده فوق جوانبها .. عادت يداه بقرف مثير .. لم تعد السلة إلا موطناً للذباب والبعوض .. سكن جوفها التراب المتكلس .. انمحت الكتابة من فوق اللوحة .. لاحظ أن ثمة حروف يمكن أن تُقرأ بصعوبة: صُنِع في مصـ .... عبارة وحيدة ناقصة لا تزال تقاوم الفناء، وإن كانت كالسلة تثير الشفقة.
بدأت أسئلة قديمة تدب في رأسه: كيف أن السلة فارغة والقمامة سائبة؟! .. لماذا لا يضع قومي قمامتهم في السلال كسائر الشعوب ؟ لماذا الميدان يعج بالقاذورات بينما السلة فارغة؟! .. هل يشفقون على السلة؟ أم أن قمامتهم أضحت أضخم حجماً منها؟.
ثمة خيبة ماثلة تهدد عشقه القديم .. نسي كثير من الأسئلة .. لم يعد راغباً في طرح أسئلة جديدة ... انمحت عنده رغبة الجلوس والتأمل .. ودَّ لو يفر من المكان .. سأغادر الميدان القديم إذن سأتركك مضطراً أيتها الحبيبة . في لحظة ما بين الشفقة والأسى لاحظ أن ثمة ورقة وحيدة تلتصق بقعر السلة ، ورغم التراب المتكلس فوقها مد يده إليها .. ورقة وحيدة متكلسة في القاع .. لأول مرة منذ عهده بالسلة يلحظ شيئاً في قاعها .. نزعها برفق .. قربها من عينيه .. فرك ما فوقها من تراب .. تبدَّت له صورة رجل مهم .. رجل يعرفه الجميع .. لتكن الحقيقة إذن بعيداً عن كل التأويلات: السلال في بلدي للرجال المهمين .. دبَّ في رأسه جنون اليقين: الآن أعرف أن قومي يضعون الرجل المناسب في المكان المناسب.. حمل حقائبه ومضى، وإن كان ثمة سؤال بدأ يفرض نفسه: إلى أين المسير؟.