نبذة تعريفية للمؤلفة :
الاسم: رانيا علي موسى مأمون
مكان وتاريخ الميلاد (مواليد 1979) بمدينة ود مدني في شرق وسط السودان
الوظيفة : هي صحفية وروائية وكاتبة سودانية .
المؤهلات الأكاديمية : : تلقت تعليمها في جامعة الجزيرة .حصلت على دبلوم (وسيط) في علوم الحاسب الآلي من كلية الهندسة والتكنولوجيا بجامعة الجزيرة في عام 2000، كما حصلت على بكالوريوس تربية تقنية من كلية التربية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في عام 2007
المنجز الروائي:
ـ “فلاش أخضر”، 2006
ـ “ابن الشمس”، الصادرة عن دار العين للنشر بالقاهرة في هذا العام 2013،
النتاجات الأخرى:
ـ 13"شهراً من إشراق الشمس" (مجموعة قصصية)، 2009، ترجمتها إلى الإنجليزية إليزابيث جاكيت
ـ "مُتكأ على جدار الشمس" (نص طويل)
مدخل :
في تطوافي العذب في صحبة الرواية الماتعة الفخيمة للكاتبة رانيا مأمون تلبستني حالة من الخجل والاستحياء وربما العار... لما يحدث من حولنا من تصدعات وتشوهات في البناء الاجتماعي ..ونحن نمر كل يوم بأرتال من أبناء الشمس (الشماسة )،أو سمهم أطفال الشوارع ..ولا نحرك ساكنا بل نرتمى في مستنقعات الانانية والنرجسية في تبلد وجداني يخلو من البعد الانساني ....هذه الاحاسيس التي تشعرك بعقدة الذنب و خيبة الدور عندما ينفتح حوار داخلي (مونولوجي) وتنفجر شلالات من الأسئلة الوجودية والمصيرية المرتبطة بالأنطولوجيا وفلسفة الكينونة ، وتعصف بوجداني التساؤلات.. لماذا؟ واين؟ وكيف ؟ والى متى ؟، نظل في تيه وبلاهة وعمى نتعامل مع هذا القنابل الموقوتة التي من صنع نرجسية البعض وانحسار المروءة ، وتضاؤل الحس الانساني ،لن يغفر لنا التاريخ عجزنا وفشلنا الذريع في التشخيص والتحليل والعلاج لظاهرة التشرد الوصمة المخزية على وجوهنا وابواب مدننا التي نمارس فيها ازدواجية المعايير واختلالات الميزان .... عموما قفزت الى ذهني فكرة حولتها الى بوح وكان نصها بعنوان (أغنية لأطفال الشوارع ):
اغنية لأطفال الشوارع
يا بؤسنا وأطفالنا يتمددون على جمر المخاوف.... وأهوال الطريق
يخوضون في وحل المجاهل يهيمون في الأزقة والشوارع
لا تسل من اين جاء هؤلاء الصبية !!!
سؤال يمعن في الظلم والاستحقار ...
طفل يتجول هنا وهناك
يتسول في الطرقات يقتات فتات السادة ...
يتعاطى السم والبنزين وكثير من المهلكات والموبقات ...
ابواب الكون مغلقة أمامه لا مأوى له .
.سوى الشمس يكابد لظاها حافي القدمين
وتسألني من جاء هؤلاء؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
هم بعض سقطاتنا ونزاوتنا والهوى الرخيص
هم مخرجات الفقر المدقع والتصدعات والانا البيئسة
الموت يصعقهم ..جثثا .....في المكبات ومجاري الصرف .
تقتات من لحمهم الغض الذئاب والكلاب.....
والسادة المترفون خشب لا يأبهون
و لا يرغبون في رؤيتهم ويكابرون
الأبواب مؤصدة ........والسنابل ذابلة .....الغصون تيبست أوراقها
والريح تعوي في وحشة الليل البهيم ....وبراءة الأطفال تلتحف الضياع.....
تقاوم الأمواج ورغبة التحرش والنظرات المريبة
وتحيطهم اسوار المذلة والمسغبة و الحيرة والانسداد..
.مثل الصراصير المذعورة يتحلقون حول النفايات
أظافر البؤس تحفر في مكبات التشرد و القمامة والزمن الرماد
أما يدمي قلبك أن ترى البراءة تخوض في وحل التشرد والتشتت والانتحار
***************
اواه نفسي قد تشظت وتناثرت إربا إربا ...........
والآخرون هم الجحيم ....للذات.... لنذالة الانا ....للمتع الحرام
وسخف التمحور حول النرجسية والانا ...
والأقاصيص التي طالها صدأ المتاحف والكهوف القديمة
وعلى ارصفة المواجع تنعق غربان الخراب والطالع المشؤوم
يرخي الصبية أناملهم في ارتعاش....
تلفهم خرق البؤس واسمالهم الباليات
وعلى العيون المؤرقة تبرق التماعات التساؤل
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
تسكب في ذاكرتهم قلق الضياع واللامصير
تبخرت أحلامهم ...وتفرقت بهم السبل ...ولا سبيل
ياسادتي ....أما لهذه السوءات والتوت المهترئ ....
والقبح الذي تغور حتى النخاع أن ينتهي .....
وطوابير البراءة كالنمال العمي
تزحف على ارصفة الهلاك ..بذاكرة لا تعرف الغفران
والسادة المترفون يتأففون .....
ويتساءلون من أين جاءت هذي الحثالات ..........في سرهم أو جهرهم يتفاخرون ...
بانا اقمنا القصور وبعض الجسور ودور لفاقدي السند....ثم في قمة النشوة يحتسون كؤوس الانكسار
يؤرقني هذا المآل ....يقض مضاجعي
من يعصمنا من غضب المشردين التائهين
القادمين يوما ما من قاع عهرنا ...........والاختلالات والدمار
صورة الغلاف:
الصورة أي صورة الغلاف تشكل محيطاً فنياً، وسوارا ذهبيا في فهم الدلالات الخطابية لا يقل أهمية عن المتن السردي، في تعميق البعد الدلالي للنسق الأدبي، إذ يبدو من الصعب أن يقوم، أو أن يقدم المتن وحده عاريا من هذه العتبات النصية، فهي تكاد توازي من حيث القيمة البلاغية والبلاغية، قيمة المتن نفسه. "ولعل ولوج النص قد يكون مشروط بالمرور عليها، لكي يستدلْ بها في رحلة القارئ عبر المتن المتضمن ، عن طريق المعايشة العميقة لهذه العتبات؛ والتي تتمظهر في العناوين، المقدمات، الذيول، الملاحق، كلمات الناشر، دور النشر، والكلمات الموجودة على الغلاف، إلى جانب الهوامش والشروح والتعليقات.
بداية دعونا نلج من أول عتبة لهذا المنجز الابداعي ،من خلال الوقوف على عتبة الغلاف الخارجي للرواية، أمر يستوقفك عنوة لتأمله ،ويفتح شهيتك كمتلق لإدراكه وقراء دلالاته، وما يستبطنه من اسرار واشارات ومعاني ، وبالتأمل في لوحة الغلاف التي رسمت بذكاء ومهنية تجد نفسك متشوقا لمعرفة ما يدور في الرواية ،فهناك اللون الأصفر ،ونبتة دوار الشمس والمساحات المتناسقة تدلك على علاقة ما بين اللوحة والعنوان (ابن الشمس)،كأنما أرادت الكاتبة أن تصنع علاقة ارتباطية بين اللون الاصفر والنبتة والعنوان فجاءت صورة الغلاف لوحة معبرة عن جماليات النص الذي سيسفر عن وجهه بعد الاندماج والتطواف بين فصوله ومحطاته ،فهذا ذكاء من الفنان /الفنانة التشكيلي الذي افرغ عصارة فكره وشعوره في تجسيد اللوحة المعبرة والكاتبة التي ارادت وحق لها ذلك ان تحلق بنا في اريحية وصفاء واستبصار نحو عوالم قد لا نفهم تفاصيلها الدقيقة ....
ومن وحي التأمل في لوحة الغلاف و رمزيتها، يبرز بشكل جلي قدرة المحتوى على إثارة أفكار الأفراد وتحريضهم على التفكير والتحليل، وربما النقد؛ ليصبح المتلقي متفاعلا مع اللوحة، يتملكه الفضول لفك شفراتها، فيتجرد من كونه تأمل لوحة تملي عليه رسالتها، ولوحة رواية (ابن الشمس) وهي تتزين بنبة الصبار التي ترمز على قدرة الفرد على التحمل والصبر؛ فنبات الصبار يتميز بخاصية تحمل شظف البيئة وقسوتها وشح المياه والظروف المحيطة الصعبة، وهو بخاصيته هذه يشبه ابن الشمس المتألم المشرد والمتغرب والمهيض الجناح عموما فقد استفزتني صورة الغلاف وايقظت في نفسي الرغبة في قراءة النص .
عتبةعنوان الراوية :
لقد حفزني واثار في دواخلي رغبة عارمة لكي اتعرف بما وراءه ، فطفقت في عزم و يقظة التهم الصفحات التهاما في شراهة فضولية تنقيبا في استكناه ما لم يرد بين السطور ..وربما انتاب الكاتبة شيء من القلق والمشقة في البحث عن عنوان لرواية تتناول المسكوت عنه ،واخالها مزقت عنوانات كثيرة فاهتدت الى هذا المفتاح البسيط والعميق (ابن الشمس) ،فلو حاولنا تأصيله هذا المركب الاضافي نحويا. نجد أن :ابن. اسم ظاهر: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، وهو مضاف. الشمسِ: مضاف إليه ...ومن اغراض الاضافة الملكية كأن هذا الابن لشدة ارتباطه بالشمس هو مولود لها ...وهو في الواقع كذلك اذا أنه دائم التجوال في قيظ الهجير وتحت الشمس الساطعة .
لا شك أن العديد من الروايات تناولت ذات الاسم وربما ذات الموضوع(أطفال الشوارع ) ولكن الفارق بين تلك الاعمال والراوية التي بين ايدينا ينصب في التناول السردي المبهر وخصوبة الخيال وجمالية التعبير الشاعري سيما خلفية الكاتبة كشاعرة واعلامية وناشطة في العمل العام ..وعموما أن تشابهت الاسماء والعنوانات وحتى المواضيع فلا ضير في ذلك حيث يتميز المنجز الابداعي للمؤلفة رانيا مامون بمعالجة المشكل من الداخل بالغوص في ثنايا الفئة المستهدفة بينما الاخرون ـ حسب علمي ـ لم يغادروا محطة الوصف واكتفوا بالتناول الخارجي لوصف الظاهرة ...لعل بعض النقاد يتطرقون في معالجاتهم النقدية لفكرة التناص وهي فكرة ليست معيبة ،والدليل في قول عنترة بن شدّاد :
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ**************** أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
في البيت السابق إشارة واضحة إلى أنّ عنترة بن شداد العبسي ، يعترف بأنّ من سبقه من الشعراء لم يتركوا مجالًا أو موضوعًا لم يتحدثوا فيه، وأنّه في قصيدته يُريد أن يتحدّث بما تحدّثوا عنه لكن بطريقته وأسلوبه، والتناص ليس منغصة ،و لا نقطة ضعف في النص ، ولا يعتبر سرقة ادبية في النقد الحديث لم بل هو شيء متوقع ، علاوة على ذلك أصبح مؤشر إلى سعة اطلاع الكاتب ومعرفته الثقافية وقراءاته المُتعدّدة، بل إنّ الكاتب المُتمكّن هو الذي يستطيع استحضار النصوص السابقة لنصّه بالشكل الذي يخدم نصّه ،فالتناص (Intertextuality)، هو العلاقة التي تربط نصًّا أدبيًا بنصٍّ آخر أو استحضار نص أدبي داخل نص أدبيّ آخر، وهو مُرتبط بوجود علاقات بين النصوص المُختلفة، ويقوم على فكرة عدم وجود نص بدأ من العدم فكلّ نص موجود هو مُعتمد في وجوده على نص آخر إمّا في الفكرة وإما في استخدام التراكيب والألفاظ.
ومن هذا المنطلق يمكنا القول أن هناك الكثير من الأعمال تناولت قضايا المشردين وأطفال الشوارع كل يدلي بسرده من وجهة نظره الخاصة وما ينقدح في ذهنه من رؤى واختيارات ومقاربات ،فمثلا محليا نجد الكاتب بركة ساكن (مخيلة الخندريس ) ،و الدكتور أبكر آدم اسماعيل في (رواية الطريق الى المدن المستحيلة) ،و ما كتبه الروائي السوداني منصور الصويم عن أطفال الشوارع في رواية "ذاكرة شرير"... عربياً فإن الموضوع مطروق كثيراً في تجارب إبداعية مختلفة لعل أبرزها رواية (الخبز الحافي) للمغربي محمد شكري، التي نشرت في 1972 وترجمت إلى 38 لغة و التي لامست عالم التشرد بجرأة جعلتها ممنوعة في بعض البلدان، كما يمكن الاستشهاد " ومرثية أطفال الشوارع "للشاعر المغربي بن يونس،وقبل اولئك عالميا يعد الكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز من أوائل الكتَّاب الذين رصدوا هذه الظاهرة، ولفتوا الأنظار إليها ف رواية( أوليفر تويست)، وهي أول رواية يصور فيها ديكنز الشرور الاجتماعية والظروف الرهيبة في الملاجئ والإصلاحيات، والرواية تصور عالم لندن الإجرامي الخفي على نحو حي، حيث الصراع بين الخير و الشر
وبالخلاصة يتبين أن الفرق الجوهري بين عملها الابداعي الموسوم(ابن الشمس) وبين الأعمال الروائية التي تناولت ذات الموضوع هو المعايشة والانغماس في حياة ابناء الشمس ،كما أنها تتميز بتغلغلها المباشر في ثبج المشكلة وقدرتها الباهرة في اختراق عالم المشردين ومعايشة تجربتهم بحميمية واستبصار واستنارة بعيدا عن الخوف والتوجس فكان هذا العمل الباذخ الفريد على عكس تجارب الاخرين التي عالجت المشكل من زوايا اكاديمية او توصيفية ,,فهنيئا لها ولنا بمنحنا بطاقة الدخول الى هذا العالم المنسي والمجهول
إن أروع انجاز تمكنت رانيا مأمون من تحقيقه في سردها الشفيف هو الاحاطة الواعية بالواقع السوداني الأصيل بكل تناقضاته وبكا ما فيه من إيجابيات وسلبيات بلغة جزلة عذبة سارحة ، اندياح فني دقيق وبديع يحي في بيد أرواحنا مشاعر البهجة وازاهير البقاء
حيث تتميز الكاتبة (رانيا مأمون) بجرأة متناهية تقتحم كهوف التابوهات المحرمة، ربما كان لخلفياتها النضالية كناشطة في حقوق الانسان ، وكإعلامية مستنيرة أثرا في تكوينها الانساني ،علاوة على ذلك نشأتها في مدينة ود مدني وهي واحدة من المدن التي تحتفي بالإبداع والفعل الحضاري النبيل كل تلك العوامل ساهمت في دفع رانيا مأمون الروائية خوض غمار تجربة متفردة تحيط بها الصعاب ،وتحاصرها المتاعب والمشقة ، ما أعظم الثقة التي تتمتع بها الكاتبة!!وما أجمل الطرح النقدي الجميل ! حيث تنداح ملكاتها وقدراتها الابداعية في محاولة ذكية للتوغل في دهاليز عالم يلفه الصمت والابهام من كل ناصية وصوب، صمت مطبق يماثل صمت القبور ،عالم يتسربله التجاهل وضالة الوازع الاجتماعي، وضمور الشعور الانساني ،إنه عالم أبناء الشوارع المنتشرين في كل الاركان والمكبات ومجاري الصرف الصحي والازقة ، لست أدري من أطلق عليهم هذا الاسم البئيس(الشماسة)؟
هل هم انفسهم أم أن السابلة درجوا على ذلك ،وهي لفظة توحي بأن هذه الفئة معزولة ومنبوذة ومغضوب عليها بلا ذنب جنته غير أنها تعاني التشرد والمشي في هجير الشمس حفاة عراة الا من اسمال ممزقة ومتسخة ،ومن المؤكد دون كثير تفكير هم حصائد ونتاجات الجفاف البيئي والفقر والتدهور الامني والاقتصادي والموت المجاني ،وهم ثمرة السادة أو قل القطط السمان الغارقة حتى النخاع في الشهوات والنزوات والاستغراق في حب الذات الذين سرقوا القوت.
تمتلك (رانيا مأمون) لغة قصصية مصقولة، ونسيجها السردي مُصفى لا تعكره تلك الزوائد اللفظية التي تغري الكثيرين بالاسترسال وإثقال النص بالترهات تحت مبرر ما يسمى بجماليات اللغة الشعرية. ما هو مهم أن تؤدي اللغة أغراضها الجمالية بحسب الحاجة العضوية للنص دون زيادة أو نقصان، وأي تزيد لا حاجة له سيربك النص ويؤذيه.
عتبة الاهداء:
تعد عتية الاهداء واحدة من العتبات النصية التي تستلزم التوقف عندها تأملا وقراءة في سياق مقاربة النص وتحليله للوصول الى كنه النص ،ومعرفة الدوافع التي اعتماد صياغته ومنها تكتسب عتبة الاهداء كإشارة تعكس لنا مشاعر الكاتب وتجاربه وخبراته .
و الإهداء كبوابة حميمة دافئة من بوابات النص الأدبي، و قد يرد على شاكلة اعتراف و امتنان و شكر و تقدير و رجاء و التماس إلى غير ذلك من الصيغ الإهدائية التي يؤدى فيها البعد الوجداني الحماسي و الحميم دوره المميز “. وبحسب ما يرى جيرار جينيت Gérard Genette فإن الإهداء يهدف إلى خلق نوع من صلات الأخوّة و روابط المودة و تمتين عراها بين المهدي و المهدى إليه .كذلك فعلت رانيا هارون حين كتبت: "إلى الشجرة والثمرة ،أمي فاطمة، وابنتي رغد....فإذا قرأنا الاهداء من منظور انساني نلحظ كأنما هو إشارة بطريقة مباشرة لحالتين نابعتين من واقع مختلف ومتناقض فهناك نستشف الدفء والتماسك الاسري وتواصل الاجيال بينما نجد في الراوية الحالة المقابلة وهي التدهور الوشائجي والذي نتج عنه اطفال الشوار
الشخصيات :
ظاهرة الشماسة بكل معاناتها هي ظاهرة تفضح الاختلال الطبقي ،وما جاء في حيثيات الراوية محاكمة وادانة لاعوجاج النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في السودان هذا البلد الجميل المبتلى بأراذل الناس الذين هم كالحيتان المتوحشة قضوا على الاخضر واليابس ،وافتضاح للنظم السياسية المتمرغة في مستنقعات الفساد والانحرافات الاخلاقية والانحلال البنيوي في تركيبة المجتمع . .
جمال بطل الرواية وهو الشخصية المحورية ، وهو من أبناء الشوارع، نعايش عبر الرواية قصة تشرده تشرده بتفاصيل غاية في الرصد والدقة بداية من خروجه من البيت وحتى خاتمته الكارثية التي استقرت في مشرحة الأموات ،وهو أي جمال رغم الحيوات التي التقطتها عدسة الكاتبة باحترافية ووعي زائدين ،لم تجد من يزرف دمعة عليها ولا حتى السؤال عنه إنها منتهى المأساة تموت وتندثر .
هو ذات الشخص الذي أحب الحياة وجاهد ليندمج فيها ولكن قوى الشره وحراس الرذيلة وعديمي الضمير والاخ لاق حرموها منها.... جمال الذي أحب ابنة رب العمل الثري، وكان نصيبه الطرد من العمل والعودة لحياة التشرد بعد المرور بالسجن والتعذيب لمجرد تفكيره في الاقتران والتصاهر بأسرة تعلوه طبقة كأنما ارادت الكاتبة ان تقول هذا الذي حدث احد تجليات التمايز الطبقي البغيض الذي يقتل الحب والخير والحق والجمال والبهاء ، ثم تكون الخاتمة المأساوية لجمال بان يترجل من الحياة مقتولا وينقل الى المشرحة ، ولا احد يسأل عنه ،ولا أحد يبحث عن الاسباب كيف مات ؟من قتله ؟ فهو عندهم أي المتدثرون بتوت الوهم والنقاء العرقي الزائف نكرة وابن شوراع ، فقد دفع ثمن تطلعه
الشخصية الثانية هو كرم أحد المتشردين ، حارس المشرحة الذي يعيش هو الآخر على هامش الحياة، كرم شخصية غريبة الاطوار ذات سلوك سايكلوجي يتسم بطايع الغرائبية فهو ينحت حكايات من نسج خياله ويتوهم حياة أخرى غير موجودة في الواقع فهو شخص منكفئ على ذاته قد يصل حد الحالة الانطوائية ..فهو ينحدر من أسرة في اسفل السلم الاجتماعي الظالم ...يعيش في عتمة اختيارية يشعر بالأنس والامتلاء والدفء في محيطها هروبا من عالم الواقع المرعب، لا اصدقاء له عدا امه وكلبه ،ولكن للأسف فقد سامية الشخصية التي احبها بصدق وفقد كلبه ومن قبل مستقبله الذي كان يحلم ويمنى نفسه ان يكون مهندسا او طبيا ...تبخرت كل احلامه وتناثرت امانياته وتطلعاته ليقبع في غرفة الموتى المشرحة حارسا للموتى يؤانسهم وهو المدمن بقراءة الاذن ،يصنف الناس شعورا وفكر وخلفليات وفقا لشكل الاذن مما يعجل بمنحة بطاقة مجانية لينضم مع نزلاء مصحات الامراض النفسية والعقلاء.
إبراهومة صديق جمال ورفيقه في رحلة التشرد، هو ابن شمس آخر يحاول أن يجد لنفسه مكاناً تحت الشمس، ويبتسم له الحظ نوعاً ما، حين يحب فتاة تنتمي إلى طبقة مسحوقة مثله، هي نبقة بنت حواية بائعة الشاي، وتنتهي قصته معها بزواج وإنجاب واندماج في الحياة من جديد بعد تشرد طويل رغم أنه كاد يدفع حياته ثمناً لذلك الحب حين غرر بالفتاة باسم الحب، وحبلت منه دون رباط شرعي، وهنا نكتشف حواء (حواية) ست لشاي الانثى الفقيرة بائعة الشاي التي تتصف بالشراسة وقوة الحسم والحزم، كيف تحولت الى طاقة انسانية تهب الحياة للأخرين وتقدم الملاذ للعروسين (ابراهومة ونبقة) بعد أن طردا من البيت .
ويتصاعد خط الصراع الحوار والمشاهد والصور في صلب الراوية من خلال شخصيات متعددة طريفة ومرسومة بصورة....فهناك ابو زيد الذي يمارس اللواط مع سالم صاحب المقهي ، وسالم يجسد صورة التسلط والاستبداد والقهر ..وايضا عم محجوب صاحب المطعم الذي يمثل السقوط الاخلاقي وعدم المروءة ... والدينمو هو الشخص الذي يقوم بأعمال انسانية في احضار المأذون وتحمل نفقاته ...ومحاسن تلك الانثى اللعوب الخؤون التي تقدم جسدها لا رواء شبقها الجنسي ضاربة عرض الحائط بالعفة والعفاف ,..وللأسف امثالها كثر ..ربما تكون هي ضحية زوجها المغترب أو أرملة المهم أنها وجدت في جمال ما يشفي غليلها
اللغة في الرواية:
اللغة في الراوية لغة سلسلة جزلة تنساب في هارمونية وجمال حيث تتوزع بين الفصحى البسيطة غير المتقعرة ،وبين الدارجة في مزج مبهر ،وهذا يحسب لقدرة الكاتبة في خلق الموازنة فضلا عن ذلك فيهي تعبر عن صدقية وشفافية ،لانه ليس من المعقول ان يتحدث ابناء الشوارع الا من خلال وسيلة تناسب سقوفهم العلمية والثقافية فكان لهم براءة اختراع مصطلح لغة الراندوك وهي منتج خالص انتجتهم قريحتهم وذهنيتهم المتقدة المتيقظة دائما بغية توفير الحماية لهم من عداوة وبغض المجتمع
اتسمت اللغة في سياقتها على مفردات رقيقة ورشيقة تناسب الموضوع من حيث التناول والطرح والافصاح كل حسب مقامه فهناك اللغة الفصحي التي يصنعها الراوي العليم واخرى يحتفي بها اولاد الشوارع ،مما يدلل على ان الكاتبة تمتلك ادوات وتقنيات سحرية وثقافية ومخزون لغوي باذخ زاخر بالمعاني
وقد استخدمت الكاتبة حزم من الاساليب البلاغية تمثلت في التشبيهات والمجازات اللغوية والاستعارات كما احتفت اللغة برشاقة السرد والتصوير الدقيق للمشاعر والافكار في قالب من الموضوعية والاتزان وان كان تدخل الكاتبة واضحا في الحوارات الا ان ذلك لا يقدح في قيمة وثراء الراوية ورسالتها المقصودة
الفضاء المكاني والزمان :
إن العمل السردي على وجه العموم هو فن يهتم بالزمان والمكان باعتبارهما عنصران من أدوات العمل الأدبي والفني ، فثمة علاقة ارتباطية بينهما ومن ذلك الارتباط نشأ مصطلح "الزمكانية"(chronotop (والذي هو في الأصل منحوتا من مصطلحي المكان والزمان. فالسرديات تهتم على وجه الإجمال بالنص السردي باعتباره بنية مجردة... وهي تهتم به من جهة "نصيته" التي تحدد "وحدته" وتماسكه وانسجامه في علاقته بالمتلقي
السردية المكانية : كل الأشياء في العالم الخارجي تشكل مكانا ، أي ذات امتداد ، وبينها وبين بعض مسافات ولا يتداخل بعضها في بعض، فالمكان في حياة الإنسان قيمته الكبرى ومزيته التي تشده إلى الأرض ، ولا غرو فالمكان يلعب دورا رئيسيا في حياة أي إنسان. إن المكان له تأثير كبير في حياة البشر فكل شيء في الحياة إلا ويدور داخل حركة المكان، فالمكان لغة هو الموضع ، والجمع أمكنة.
وما ان تبدا الغوص في متن الراوية والا و ن تتجلى مدني السمراء الخصيبة بكل جماليتها ومعطياتها ... من اسواق ومقاهي واناس سمر خضر الدثار والشعار ..فلقد كانت عدسة الكاتبة البانورامية بكل ذكاء ترصد تلك المشاهد بتفاصيل مذهلة وحبيبة ودقة متناهية للحياة الحافلة بكل متضاداتها حتى اوكار ابناء الشمس مسلطة الضوء على حياتهم من طرد ولعنات وممارستهم للأعمال الهامشية في الشارع ......إن المكان في الرواية يتطابق مع مضمون الراوية مع موضوع الرواية، وهو غياب العدالة والظلم والحرمان الذي يواجه أبناء الشمس في الحال والمال ...فنهاية جمال بموته الغامض يغ=عبر عن عمق الازمة التي سلبت جمال حق الحياة بكرامة وحتى الموت بكرامة وبالرغم من ان الواقع الذي يعيشونه ليس من صنعهم بل هم ضحايا أوضاع لاختلالات اجتماعية وسياسية وعنصرية وطبقية ....فأحيانا تجد نفسك في وضع ليس من صنعك فتتساءل كيف حدث ذلك وهو ما حدث لأطفال الشوارع
الخاتمة
لكم كانت رانيا كاتبة الراوية شجاعة ومصادمة وجسورة حين فكرت في كتابة هذه الراوية الرائعة التي اتسمت بالصدقية والتصالحية مع الات والضمير بدأ من حياة الشخوص المتناقضة وتعدد الاصوات مرورا بحياة الشمس وتفاصيلها التي لا يعرفها الا من انغمس في حياتهم او تلصص عليهم او تودد اليهم ليعرف الكثير عن عالمهم المجهول الذي لا يحبون ان يشاركهم فيه احد ...فالراوية اخترقت هذا الطوق الصلب وخرجت بمرافعة انسانية ماتعة وماجدة تكشف سوءات من يدعون الانسانية والحرص على حياة الناس وفي ايديهم تتكدس السلطة والثروة ولا يبذلونها في رفاهية المجتمع ورعاية ابناء المستقبل فلو تتابع هذا النهج واستطال لن ينتج الا امة خائرة خاسرة تنحدر للتلاشي والهلاك ،وهنا يبرز مطلبا جذريا هو لا بد من تحقيق العدالة الاجتماعية حتى ينضبط ايقاع الحياة وينتشر العدل والمساواة والانصاف فكل الحضارات التي سادت ثم بادت كانت نتيجة لانحطاطه الخلقي والقيمي
من خلال السرد يتمكَّن الكاتب من إخراج تجربته من الأطر المكانية والزمانية المحدودة وسكبها في ذاكرة لا نهائية الاتساع وهي الذاكرة البشرية كلها، ومن خلال هذا السرد يدخل القارئ في عوالم أخرى مختلفة ثقافيًّا ،كما أن توظيفه للتقنيات الحديثة في البناء الفني للرواية يكسبها ابعادا من الجمال والصفاء والعذوبة والمقبولية ،وقد فعلتها (رانيا) وبزت فيها رصفائها في التجريبي والتوصيف والاسترجاع والاستباق والربط الواقعي بين مكونات العمل
فالراوية والتي تنوعت فيها بالعنوانات والحوامل الأدبية هي بمثابة تلميحات ذكية ،ورتج قوية (باب التيه، باب الحبّ، باب الوهم ) التي تجسد الوحدة الموضوعية الروائية، والدلالة السابرة النابعة والمنبثقة من مكونات واقعية استيهامية غرائبية فانتازية . فالرواية تبدو عبارة عن وثيقة ادانة لممارسات المجتمع وتناقضاته ومشاكله وقضاياه المسكوت عنها. إلا أنها من جهة ما تبدو فضاءات مرحة ومبهرة تظهر تجلياته في أوهام الشخوص وهي تخوض في أزمات وتراجيديا النفس الخاسرة، ويبدو الوطن وانسانه بسماواته المعتمة في ظلال النص منهوك القوى وخائراً، وجغرافيته مبعثرةٌ بين حلم المهمشين بكل فئاتهم بالحب والخبز والامان ، وفي مقابل وطن مضعضع القوى مسلوب الارادة يعجز عن ادارة معركته بوعي في ظل في صراعات ذاتية برجماتية ذاتية ، حيث في حقب التفكك والفوضى والفساد والسجون والاستغلال والحروب والتهميش والدين والطائفية واللادولة والايديولوجيا المحنطة في الكتب، منذ عهود الازمنة التليدة ، والاقصاء والاخصاء، لذلك كانت أزمات الشخوص الروائية في النص أزمات بنيوية، وفي النهايات التي ارادتها الكاتبة لشخصياتها المحورية في نهايات الرواية كأنما أراد أن يضيف عليها مزيدا من القبح والظلامية والخوف والهلع والامل الكاذب، وفي تمظهرات رمادية صيرتنا وشخوص الرواية جميعا نحيا داخل سطور جغرافيا وطن وبقايا أنسان يقبع في أقصى درجات قاع سراديب بلادنا الواقعة بين الطين والخراب وهو مبعد من المشهد كليا ومن حلبة الصراع الاجتماعي وعلى هامش الحقل يبدو منزوياً ؛أدركنا ضعفنا الكامن في اعماقنا و وحشيتنا حين يغيب ما يسمى بالإنسان ويظهر ما يسمى بالبشر. شكرا (رانيا)
واخيرا ان كان متاحا لنا ذلك ان نستعير مقولات النقاد حول البناء الدرامي للنص الادبي حيث يقولون أن البناء الدرامي في الرواية يتكون من عناصر عدة وهي : الحبكة ، والحدث الدرامي، وحركة الشخوص والزمن والمكان ، والمفارقة الدرامية ، والحوار واللغة ،أي أن هناك مجموعة من العناصر التي يجب توفرها في النص الدرامي مثل الصراع الداخلي ، والشخصيات ووصفه بدقة ووصف تطورها والحركة ، والمكان والزمان وتطورهما ، التشويق ، عنصر المفاجأة ، الانفعالات ، وكل هذه العناصر توفرت في رواية ابن الشمس للكاتبة المبدعة (رانيا)
ثمة ملاحظة أخيرة تتمثل في عبارات جميلة نحو: حواف الوقت ....وجهه محايد ...تنزلق على حاجبيه بلورات شفافة صغيرة مالحة ص15،...جرف الوقت كل رغبة ...وكثير من الجمل ،فهي تدل على عمق ثقافة الكاتبة وثراء معجمها اللغوي .
ولعل في عتبة الاهداء ما يكشف عن العلاقة بين الشجرة والثمرة واستمرارية الحياة وتعاقب الاجيال ،وفي تقديري ان من خلال السطور ومجريات الاحداث في النص نجد أن الموت وهو اليقين الحقيقي يتشكل في مستويات مختلفة ، كأنما أرادت الكاتبة ان تتناول فلسفة الموت برؤية مغايرة بعيدا عن المفهوم السائد كتجربة مفجعة ومحزنة وحولته الى راحة واستقرار مجسدا في استمتاع كرم بمخاطبة الموتى في المشرحة ....جمال مات وسالم و وعزيزة ام سمية وكلب جمال لم يكن ذلك للتسلية او لمقتضيات الراوية بل هو رسالة قوية تحضنا على أن ننظر لحقيقة الموت كمر حتمي يقتضي الاستبصار وحسن التعامل .
د/ صلاح الدين أببكر
* رواية "ابن الشمس" للكاتبة السودانية: رانيا مأمـون - دار العين للنشر الطبعة الأولى 2013
الاسم: رانيا علي موسى مأمون
مكان وتاريخ الميلاد (مواليد 1979) بمدينة ود مدني في شرق وسط السودان
الوظيفة : هي صحفية وروائية وكاتبة سودانية .
المؤهلات الأكاديمية : : تلقت تعليمها في جامعة الجزيرة .حصلت على دبلوم (وسيط) في علوم الحاسب الآلي من كلية الهندسة والتكنولوجيا بجامعة الجزيرة في عام 2000، كما حصلت على بكالوريوس تربية تقنية من كلية التربية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في عام 2007
المنجز الروائي:
ـ “فلاش أخضر”، 2006
ـ “ابن الشمس”، الصادرة عن دار العين للنشر بالقاهرة في هذا العام 2013،
النتاجات الأخرى:
ـ 13"شهراً من إشراق الشمس" (مجموعة قصصية)، 2009، ترجمتها إلى الإنجليزية إليزابيث جاكيت
ـ "مُتكأ على جدار الشمس" (نص طويل)
مدخل :
في تطوافي العذب في صحبة الرواية الماتعة الفخيمة للكاتبة رانيا مأمون تلبستني حالة من الخجل والاستحياء وربما العار... لما يحدث من حولنا من تصدعات وتشوهات في البناء الاجتماعي ..ونحن نمر كل يوم بأرتال من أبناء الشمس (الشماسة )،أو سمهم أطفال الشوارع ..ولا نحرك ساكنا بل نرتمى في مستنقعات الانانية والنرجسية في تبلد وجداني يخلو من البعد الانساني ....هذه الاحاسيس التي تشعرك بعقدة الذنب و خيبة الدور عندما ينفتح حوار داخلي (مونولوجي) وتنفجر شلالات من الأسئلة الوجودية والمصيرية المرتبطة بالأنطولوجيا وفلسفة الكينونة ، وتعصف بوجداني التساؤلات.. لماذا؟ واين؟ وكيف ؟ والى متى ؟، نظل في تيه وبلاهة وعمى نتعامل مع هذا القنابل الموقوتة التي من صنع نرجسية البعض وانحسار المروءة ، وتضاؤل الحس الانساني ،لن يغفر لنا التاريخ عجزنا وفشلنا الذريع في التشخيص والتحليل والعلاج لظاهرة التشرد الوصمة المخزية على وجوهنا وابواب مدننا التي نمارس فيها ازدواجية المعايير واختلالات الميزان .... عموما قفزت الى ذهني فكرة حولتها الى بوح وكان نصها بعنوان (أغنية لأطفال الشوارع ):
اغنية لأطفال الشوارع
يا بؤسنا وأطفالنا يتمددون على جمر المخاوف.... وأهوال الطريق
يخوضون في وحل المجاهل يهيمون في الأزقة والشوارع
لا تسل من اين جاء هؤلاء الصبية !!!
سؤال يمعن في الظلم والاستحقار ...
طفل يتجول هنا وهناك
يتسول في الطرقات يقتات فتات السادة ...
يتعاطى السم والبنزين وكثير من المهلكات والموبقات ...
ابواب الكون مغلقة أمامه لا مأوى له .
.سوى الشمس يكابد لظاها حافي القدمين
وتسألني من جاء هؤلاء؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
هم بعض سقطاتنا ونزاوتنا والهوى الرخيص
هم مخرجات الفقر المدقع والتصدعات والانا البيئسة
الموت يصعقهم ..جثثا .....في المكبات ومجاري الصرف .
تقتات من لحمهم الغض الذئاب والكلاب.....
والسادة المترفون خشب لا يأبهون
و لا يرغبون في رؤيتهم ويكابرون
الأبواب مؤصدة ........والسنابل ذابلة .....الغصون تيبست أوراقها
والريح تعوي في وحشة الليل البهيم ....وبراءة الأطفال تلتحف الضياع.....
تقاوم الأمواج ورغبة التحرش والنظرات المريبة
وتحيطهم اسوار المذلة والمسغبة و الحيرة والانسداد..
.مثل الصراصير المذعورة يتحلقون حول النفايات
أظافر البؤس تحفر في مكبات التشرد و القمامة والزمن الرماد
أما يدمي قلبك أن ترى البراءة تخوض في وحل التشرد والتشتت والانتحار
***************
اواه نفسي قد تشظت وتناثرت إربا إربا ...........
والآخرون هم الجحيم ....للذات.... لنذالة الانا ....للمتع الحرام
وسخف التمحور حول النرجسية والانا ...
والأقاصيص التي طالها صدأ المتاحف والكهوف القديمة
وعلى ارصفة المواجع تنعق غربان الخراب والطالع المشؤوم
يرخي الصبية أناملهم في ارتعاش....
تلفهم خرق البؤس واسمالهم الباليات
وعلى العيون المؤرقة تبرق التماعات التساؤل
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
تسكب في ذاكرتهم قلق الضياع واللامصير
تبخرت أحلامهم ...وتفرقت بهم السبل ...ولا سبيل
ياسادتي ....أما لهذه السوءات والتوت المهترئ ....
والقبح الذي تغور حتى النخاع أن ينتهي .....
وطوابير البراءة كالنمال العمي
تزحف على ارصفة الهلاك ..بذاكرة لا تعرف الغفران
والسادة المترفون يتأففون .....
ويتساءلون من أين جاءت هذي الحثالات ..........في سرهم أو جهرهم يتفاخرون ...
بانا اقمنا القصور وبعض الجسور ودور لفاقدي السند....ثم في قمة النشوة يحتسون كؤوس الانكسار
يؤرقني هذا المآل ....يقض مضاجعي
من يعصمنا من غضب المشردين التائهين
القادمين يوما ما من قاع عهرنا ...........والاختلالات والدمار
صورة الغلاف:
الصورة أي صورة الغلاف تشكل محيطاً فنياً، وسوارا ذهبيا في فهم الدلالات الخطابية لا يقل أهمية عن المتن السردي، في تعميق البعد الدلالي للنسق الأدبي، إذ يبدو من الصعب أن يقوم، أو أن يقدم المتن وحده عاريا من هذه العتبات النصية، فهي تكاد توازي من حيث القيمة البلاغية والبلاغية، قيمة المتن نفسه. "ولعل ولوج النص قد يكون مشروط بالمرور عليها، لكي يستدلْ بها في رحلة القارئ عبر المتن المتضمن ، عن طريق المعايشة العميقة لهذه العتبات؛ والتي تتمظهر في العناوين، المقدمات، الذيول، الملاحق، كلمات الناشر، دور النشر، والكلمات الموجودة على الغلاف، إلى جانب الهوامش والشروح والتعليقات.
بداية دعونا نلج من أول عتبة لهذا المنجز الابداعي ،من خلال الوقوف على عتبة الغلاف الخارجي للرواية، أمر يستوقفك عنوة لتأمله ،ويفتح شهيتك كمتلق لإدراكه وقراء دلالاته، وما يستبطنه من اسرار واشارات ومعاني ، وبالتأمل في لوحة الغلاف التي رسمت بذكاء ومهنية تجد نفسك متشوقا لمعرفة ما يدور في الرواية ،فهناك اللون الأصفر ،ونبتة دوار الشمس والمساحات المتناسقة تدلك على علاقة ما بين اللوحة والعنوان (ابن الشمس)،كأنما أرادت الكاتبة أن تصنع علاقة ارتباطية بين اللون الاصفر والنبتة والعنوان فجاءت صورة الغلاف لوحة معبرة عن جماليات النص الذي سيسفر عن وجهه بعد الاندماج والتطواف بين فصوله ومحطاته ،فهذا ذكاء من الفنان /الفنانة التشكيلي الذي افرغ عصارة فكره وشعوره في تجسيد اللوحة المعبرة والكاتبة التي ارادت وحق لها ذلك ان تحلق بنا في اريحية وصفاء واستبصار نحو عوالم قد لا نفهم تفاصيلها الدقيقة ....
ومن وحي التأمل في لوحة الغلاف و رمزيتها، يبرز بشكل جلي قدرة المحتوى على إثارة أفكار الأفراد وتحريضهم على التفكير والتحليل، وربما النقد؛ ليصبح المتلقي متفاعلا مع اللوحة، يتملكه الفضول لفك شفراتها، فيتجرد من كونه تأمل لوحة تملي عليه رسالتها، ولوحة رواية (ابن الشمس) وهي تتزين بنبة الصبار التي ترمز على قدرة الفرد على التحمل والصبر؛ فنبات الصبار يتميز بخاصية تحمل شظف البيئة وقسوتها وشح المياه والظروف المحيطة الصعبة، وهو بخاصيته هذه يشبه ابن الشمس المتألم المشرد والمتغرب والمهيض الجناح عموما فقد استفزتني صورة الغلاف وايقظت في نفسي الرغبة في قراءة النص .
عتبةعنوان الراوية :
لقد حفزني واثار في دواخلي رغبة عارمة لكي اتعرف بما وراءه ، فطفقت في عزم و يقظة التهم الصفحات التهاما في شراهة فضولية تنقيبا في استكناه ما لم يرد بين السطور ..وربما انتاب الكاتبة شيء من القلق والمشقة في البحث عن عنوان لرواية تتناول المسكوت عنه ،واخالها مزقت عنوانات كثيرة فاهتدت الى هذا المفتاح البسيط والعميق (ابن الشمس) ،فلو حاولنا تأصيله هذا المركب الاضافي نحويا. نجد أن :ابن. اسم ظاهر: مبتدأ مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، وهو مضاف. الشمسِ: مضاف إليه ...ومن اغراض الاضافة الملكية كأن هذا الابن لشدة ارتباطه بالشمس هو مولود لها ...وهو في الواقع كذلك اذا أنه دائم التجوال في قيظ الهجير وتحت الشمس الساطعة .
لا شك أن العديد من الروايات تناولت ذات الاسم وربما ذات الموضوع(أطفال الشوارع ) ولكن الفارق بين تلك الاعمال والراوية التي بين ايدينا ينصب في التناول السردي المبهر وخصوبة الخيال وجمالية التعبير الشاعري سيما خلفية الكاتبة كشاعرة واعلامية وناشطة في العمل العام ..وعموما أن تشابهت الاسماء والعنوانات وحتى المواضيع فلا ضير في ذلك حيث يتميز المنجز الابداعي للمؤلفة رانيا مامون بمعالجة المشكل من الداخل بالغوص في ثنايا الفئة المستهدفة بينما الاخرون ـ حسب علمي ـ لم يغادروا محطة الوصف واكتفوا بالتناول الخارجي لوصف الظاهرة ...لعل بعض النقاد يتطرقون في معالجاتهم النقدية لفكرة التناص وهي فكرة ليست معيبة ،والدليل في قول عنترة بن شدّاد :
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ**************** أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
في البيت السابق إشارة واضحة إلى أنّ عنترة بن شداد العبسي ، يعترف بأنّ من سبقه من الشعراء لم يتركوا مجالًا أو موضوعًا لم يتحدثوا فيه، وأنّه في قصيدته يُريد أن يتحدّث بما تحدّثوا عنه لكن بطريقته وأسلوبه، والتناص ليس منغصة ،و لا نقطة ضعف في النص ، ولا يعتبر سرقة ادبية في النقد الحديث لم بل هو شيء متوقع ، علاوة على ذلك أصبح مؤشر إلى سعة اطلاع الكاتب ومعرفته الثقافية وقراءاته المُتعدّدة، بل إنّ الكاتب المُتمكّن هو الذي يستطيع استحضار النصوص السابقة لنصّه بالشكل الذي يخدم نصّه ،فالتناص (Intertextuality)، هو العلاقة التي تربط نصًّا أدبيًا بنصٍّ آخر أو استحضار نص أدبي داخل نص أدبيّ آخر، وهو مُرتبط بوجود علاقات بين النصوص المُختلفة، ويقوم على فكرة عدم وجود نص بدأ من العدم فكلّ نص موجود هو مُعتمد في وجوده على نص آخر إمّا في الفكرة وإما في استخدام التراكيب والألفاظ.
ومن هذا المنطلق يمكنا القول أن هناك الكثير من الأعمال تناولت قضايا المشردين وأطفال الشوارع كل يدلي بسرده من وجهة نظره الخاصة وما ينقدح في ذهنه من رؤى واختيارات ومقاربات ،فمثلا محليا نجد الكاتب بركة ساكن (مخيلة الخندريس ) ،و الدكتور أبكر آدم اسماعيل في (رواية الطريق الى المدن المستحيلة) ،و ما كتبه الروائي السوداني منصور الصويم عن أطفال الشوارع في رواية "ذاكرة شرير"... عربياً فإن الموضوع مطروق كثيراً في تجارب إبداعية مختلفة لعل أبرزها رواية (الخبز الحافي) للمغربي محمد شكري، التي نشرت في 1972 وترجمت إلى 38 لغة و التي لامست عالم التشرد بجرأة جعلتها ممنوعة في بعض البلدان، كما يمكن الاستشهاد " ومرثية أطفال الشوارع "للشاعر المغربي بن يونس،وقبل اولئك عالميا يعد الكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز من أوائل الكتَّاب الذين رصدوا هذه الظاهرة، ولفتوا الأنظار إليها ف رواية( أوليفر تويست)، وهي أول رواية يصور فيها ديكنز الشرور الاجتماعية والظروف الرهيبة في الملاجئ والإصلاحيات، والرواية تصور عالم لندن الإجرامي الخفي على نحو حي، حيث الصراع بين الخير و الشر
وبالخلاصة يتبين أن الفرق الجوهري بين عملها الابداعي الموسوم(ابن الشمس) وبين الأعمال الروائية التي تناولت ذات الموضوع هو المعايشة والانغماس في حياة ابناء الشمس ،كما أنها تتميز بتغلغلها المباشر في ثبج المشكلة وقدرتها الباهرة في اختراق عالم المشردين ومعايشة تجربتهم بحميمية واستبصار واستنارة بعيدا عن الخوف والتوجس فكان هذا العمل الباذخ الفريد على عكس تجارب الاخرين التي عالجت المشكل من زوايا اكاديمية او توصيفية ,,فهنيئا لها ولنا بمنحنا بطاقة الدخول الى هذا العالم المنسي والمجهول
إن أروع انجاز تمكنت رانيا مأمون من تحقيقه في سردها الشفيف هو الاحاطة الواعية بالواقع السوداني الأصيل بكل تناقضاته وبكا ما فيه من إيجابيات وسلبيات بلغة جزلة عذبة سارحة ، اندياح فني دقيق وبديع يحي في بيد أرواحنا مشاعر البهجة وازاهير البقاء
حيث تتميز الكاتبة (رانيا مأمون) بجرأة متناهية تقتحم كهوف التابوهات المحرمة، ربما كان لخلفياتها النضالية كناشطة في حقوق الانسان ، وكإعلامية مستنيرة أثرا في تكوينها الانساني ،علاوة على ذلك نشأتها في مدينة ود مدني وهي واحدة من المدن التي تحتفي بالإبداع والفعل الحضاري النبيل كل تلك العوامل ساهمت في دفع رانيا مأمون الروائية خوض غمار تجربة متفردة تحيط بها الصعاب ،وتحاصرها المتاعب والمشقة ، ما أعظم الثقة التي تتمتع بها الكاتبة!!وما أجمل الطرح النقدي الجميل ! حيث تنداح ملكاتها وقدراتها الابداعية في محاولة ذكية للتوغل في دهاليز عالم يلفه الصمت والابهام من كل ناصية وصوب، صمت مطبق يماثل صمت القبور ،عالم يتسربله التجاهل وضالة الوازع الاجتماعي، وضمور الشعور الانساني ،إنه عالم أبناء الشوارع المنتشرين في كل الاركان والمكبات ومجاري الصرف الصحي والازقة ، لست أدري من أطلق عليهم هذا الاسم البئيس(الشماسة)؟
هل هم انفسهم أم أن السابلة درجوا على ذلك ،وهي لفظة توحي بأن هذه الفئة معزولة ومنبوذة ومغضوب عليها بلا ذنب جنته غير أنها تعاني التشرد والمشي في هجير الشمس حفاة عراة الا من اسمال ممزقة ومتسخة ،ومن المؤكد دون كثير تفكير هم حصائد ونتاجات الجفاف البيئي والفقر والتدهور الامني والاقتصادي والموت المجاني ،وهم ثمرة السادة أو قل القطط السمان الغارقة حتى النخاع في الشهوات والنزوات والاستغراق في حب الذات الذين سرقوا القوت.
تمتلك (رانيا مأمون) لغة قصصية مصقولة، ونسيجها السردي مُصفى لا تعكره تلك الزوائد اللفظية التي تغري الكثيرين بالاسترسال وإثقال النص بالترهات تحت مبرر ما يسمى بجماليات اللغة الشعرية. ما هو مهم أن تؤدي اللغة أغراضها الجمالية بحسب الحاجة العضوية للنص دون زيادة أو نقصان، وأي تزيد لا حاجة له سيربك النص ويؤذيه.
عتبة الاهداء:
تعد عتية الاهداء واحدة من العتبات النصية التي تستلزم التوقف عندها تأملا وقراءة في سياق مقاربة النص وتحليله للوصول الى كنه النص ،ومعرفة الدوافع التي اعتماد صياغته ومنها تكتسب عتبة الاهداء كإشارة تعكس لنا مشاعر الكاتب وتجاربه وخبراته .
و الإهداء كبوابة حميمة دافئة من بوابات النص الأدبي، و قد يرد على شاكلة اعتراف و امتنان و شكر و تقدير و رجاء و التماس إلى غير ذلك من الصيغ الإهدائية التي يؤدى فيها البعد الوجداني الحماسي و الحميم دوره المميز “. وبحسب ما يرى جيرار جينيت Gérard Genette فإن الإهداء يهدف إلى خلق نوع من صلات الأخوّة و روابط المودة و تمتين عراها بين المهدي و المهدى إليه .كذلك فعلت رانيا هارون حين كتبت: "إلى الشجرة والثمرة ،أمي فاطمة، وابنتي رغد....فإذا قرأنا الاهداء من منظور انساني نلحظ كأنما هو إشارة بطريقة مباشرة لحالتين نابعتين من واقع مختلف ومتناقض فهناك نستشف الدفء والتماسك الاسري وتواصل الاجيال بينما نجد في الراوية الحالة المقابلة وهي التدهور الوشائجي والذي نتج عنه اطفال الشوار
الشخصيات :
ظاهرة الشماسة بكل معاناتها هي ظاهرة تفضح الاختلال الطبقي ،وما جاء في حيثيات الراوية محاكمة وادانة لاعوجاج النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي في السودان هذا البلد الجميل المبتلى بأراذل الناس الذين هم كالحيتان المتوحشة قضوا على الاخضر واليابس ،وافتضاح للنظم السياسية المتمرغة في مستنقعات الفساد والانحرافات الاخلاقية والانحلال البنيوي في تركيبة المجتمع . .
جمال بطل الرواية وهو الشخصية المحورية ، وهو من أبناء الشوارع، نعايش عبر الرواية قصة تشرده تشرده بتفاصيل غاية في الرصد والدقة بداية من خروجه من البيت وحتى خاتمته الكارثية التي استقرت في مشرحة الأموات ،وهو أي جمال رغم الحيوات التي التقطتها عدسة الكاتبة باحترافية ووعي زائدين ،لم تجد من يزرف دمعة عليها ولا حتى السؤال عنه إنها منتهى المأساة تموت وتندثر .
هو ذات الشخص الذي أحب الحياة وجاهد ليندمج فيها ولكن قوى الشره وحراس الرذيلة وعديمي الضمير والاخ لاق حرموها منها.... جمال الذي أحب ابنة رب العمل الثري، وكان نصيبه الطرد من العمل والعودة لحياة التشرد بعد المرور بالسجن والتعذيب لمجرد تفكيره في الاقتران والتصاهر بأسرة تعلوه طبقة كأنما ارادت الكاتبة ان تقول هذا الذي حدث احد تجليات التمايز الطبقي البغيض الذي يقتل الحب والخير والحق والجمال والبهاء ، ثم تكون الخاتمة المأساوية لجمال بان يترجل من الحياة مقتولا وينقل الى المشرحة ، ولا احد يسأل عنه ،ولا أحد يبحث عن الاسباب كيف مات ؟من قتله ؟ فهو عندهم أي المتدثرون بتوت الوهم والنقاء العرقي الزائف نكرة وابن شوراع ، فقد دفع ثمن تطلعه
الشخصية الثانية هو كرم أحد المتشردين ، حارس المشرحة الذي يعيش هو الآخر على هامش الحياة، كرم شخصية غريبة الاطوار ذات سلوك سايكلوجي يتسم بطايع الغرائبية فهو ينحت حكايات من نسج خياله ويتوهم حياة أخرى غير موجودة في الواقع فهو شخص منكفئ على ذاته قد يصل حد الحالة الانطوائية ..فهو ينحدر من أسرة في اسفل السلم الاجتماعي الظالم ...يعيش في عتمة اختيارية يشعر بالأنس والامتلاء والدفء في محيطها هروبا من عالم الواقع المرعب، لا اصدقاء له عدا امه وكلبه ،ولكن للأسف فقد سامية الشخصية التي احبها بصدق وفقد كلبه ومن قبل مستقبله الذي كان يحلم ويمنى نفسه ان يكون مهندسا او طبيا ...تبخرت كل احلامه وتناثرت امانياته وتطلعاته ليقبع في غرفة الموتى المشرحة حارسا للموتى يؤانسهم وهو المدمن بقراءة الاذن ،يصنف الناس شعورا وفكر وخلفليات وفقا لشكل الاذن مما يعجل بمنحة بطاقة مجانية لينضم مع نزلاء مصحات الامراض النفسية والعقلاء.
إبراهومة صديق جمال ورفيقه في رحلة التشرد، هو ابن شمس آخر يحاول أن يجد لنفسه مكاناً تحت الشمس، ويبتسم له الحظ نوعاً ما، حين يحب فتاة تنتمي إلى طبقة مسحوقة مثله، هي نبقة بنت حواية بائعة الشاي، وتنتهي قصته معها بزواج وإنجاب واندماج في الحياة من جديد بعد تشرد طويل رغم أنه كاد يدفع حياته ثمناً لذلك الحب حين غرر بالفتاة باسم الحب، وحبلت منه دون رباط شرعي، وهنا نكتشف حواء (حواية) ست لشاي الانثى الفقيرة بائعة الشاي التي تتصف بالشراسة وقوة الحسم والحزم، كيف تحولت الى طاقة انسانية تهب الحياة للأخرين وتقدم الملاذ للعروسين (ابراهومة ونبقة) بعد أن طردا من البيت .
ويتصاعد خط الصراع الحوار والمشاهد والصور في صلب الراوية من خلال شخصيات متعددة طريفة ومرسومة بصورة....فهناك ابو زيد الذي يمارس اللواط مع سالم صاحب المقهي ، وسالم يجسد صورة التسلط والاستبداد والقهر ..وايضا عم محجوب صاحب المطعم الذي يمثل السقوط الاخلاقي وعدم المروءة ... والدينمو هو الشخص الذي يقوم بأعمال انسانية في احضار المأذون وتحمل نفقاته ...ومحاسن تلك الانثى اللعوب الخؤون التي تقدم جسدها لا رواء شبقها الجنسي ضاربة عرض الحائط بالعفة والعفاف ,..وللأسف امثالها كثر ..ربما تكون هي ضحية زوجها المغترب أو أرملة المهم أنها وجدت في جمال ما يشفي غليلها
اللغة في الرواية:
اللغة في الراوية لغة سلسلة جزلة تنساب في هارمونية وجمال حيث تتوزع بين الفصحى البسيطة غير المتقعرة ،وبين الدارجة في مزج مبهر ،وهذا يحسب لقدرة الكاتبة في خلق الموازنة فضلا عن ذلك فيهي تعبر عن صدقية وشفافية ،لانه ليس من المعقول ان يتحدث ابناء الشوارع الا من خلال وسيلة تناسب سقوفهم العلمية والثقافية فكان لهم براءة اختراع مصطلح لغة الراندوك وهي منتج خالص انتجتهم قريحتهم وذهنيتهم المتقدة المتيقظة دائما بغية توفير الحماية لهم من عداوة وبغض المجتمع
اتسمت اللغة في سياقتها على مفردات رقيقة ورشيقة تناسب الموضوع من حيث التناول والطرح والافصاح كل حسب مقامه فهناك اللغة الفصحي التي يصنعها الراوي العليم واخرى يحتفي بها اولاد الشوارع ،مما يدلل على ان الكاتبة تمتلك ادوات وتقنيات سحرية وثقافية ومخزون لغوي باذخ زاخر بالمعاني
وقد استخدمت الكاتبة حزم من الاساليب البلاغية تمثلت في التشبيهات والمجازات اللغوية والاستعارات كما احتفت اللغة برشاقة السرد والتصوير الدقيق للمشاعر والافكار في قالب من الموضوعية والاتزان وان كان تدخل الكاتبة واضحا في الحوارات الا ان ذلك لا يقدح في قيمة وثراء الراوية ورسالتها المقصودة
الفضاء المكاني والزمان :
إن العمل السردي على وجه العموم هو فن يهتم بالزمان والمكان باعتبارهما عنصران من أدوات العمل الأدبي والفني ، فثمة علاقة ارتباطية بينهما ومن ذلك الارتباط نشأ مصطلح "الزمكانية"(chronotop (والذي هو في الأصل منحوتا من مصطلحي المكان والزمان. فالسرديات تهتم على وجه الإجمال بالنص السردي باعتباره بنية مجردة... وهي تهتم به من جهة "نصيته" التي تحدد "وحدته" وتماسكه وانسجامه في علاقته بالمتلقي
السردية المكانية : كل الأشياء في العالم الخارجي تشكل مكانا ، أي ذات امتداد ، وبينها وبين بعض مسافات ولا يتداخل بعضها في بعض، فالمكان في حياة الإنسان قيمته الكبرى ومزيته التي تشده إلى الأرض ، ولا غرو فالمكان يلعب دورا رئيسيا في حياة أي إنسان. إن المكان له تأثير كبير في حياة البشر فكل شيء في الحياة إلا ويدور داخل حركة المكان، فالمكان لغة هو الموضع ، والجمع أمكنة.
وما ان تبدا الغوص في متن الراوية والا و ن تتجلى مدني السمراء الخصيبة بكل جماليتها ومعطياتها ... من اسواق ومقاهي واناس سمر خضر الدثار والشعار ..فلقد كانت عدسة الكاتبة البانورامية بكل ذكاء ترصد تلك المشاهد بتفاصيل مذهلة وحبيبة ودقة متناهية للحياة الحافلة بكل متضاداتها حتى اوكار ابناء الشمس مسلطة الضوء على حياتهم من طرد ولعنات وممارستهم للأعمال الهامشية في الشارع ......إن المكان في الرواية يتطابق مع مضمون الراوية مع موضوع الرواية، وهو غياب العدالة والظلم والحرمان الذي يواجه أبناء الشمس في الحال والمال ...فنهاية جمال بموته الغامض يغ=عبر عن عمق الازمة التي سلبت جمال حق الحياة بكرامة وحتى الموت بكرامة وبالرغم من ان الواقع الذي يعيشونه ليس من صنعهم بل هم ضحايا أوضاع لاختلالات اجتماعية وسياسية وعنصرية وطبقية ....فأحيانا تجد نفسك في وضع ليس من صنعك فتتساءل كيف حدث ذلك وهو ما حدث لأطفال الشوارع
الخاتمة
لكم كانت رانيا كاتبة الراوية شجاعة ومصادمة وجسورة حين فكرت في كتابة هذه الراوية الرائعة التي اتسمت بالصدقية والتصالحية مع الات والضمير بدأ من حياة الشخوص المتناقضة وتعدد الاصوات مرورا بحياة الشمس وتفاصيلها التي لا يعرفها الا من انغمس في حياتهم او تلصص عليهم او تودد اليهم ليعرف الكثير عن عالمهم المجهول الذي لا يحبون ان يشاركهم فيه احد ...فالراوية اخترقت هذا الطوق الصلب وخرجت بمرافعة انسانية ماتعة وماجدة تكشف سوءات من يدعون الانسانية والحرص على حياة الناس وفي ايديهم تتكدس السلطة والثروة ولا يبذلونها في رفاهية المجتمع ورعاية ابناء المستقبل فلو تتابع هذا النهج واستطال لن ينتج الا امة خائرة خاسرة تنحدر للتلاشي والهلاك ،وهنا يبرز مطلبا جذريا هو لا بد من تحقيق العدالة الاجتماعية حتى ينضبط ايقاع الحياة وينتشر العدل والمساواة والانصاف فكل الحضارات التي سادت ثم بادت كانت نتيجة لانحطاطه الخلقي والقيمي
من خلال السرد يتمكَّن الكاتب من إخراج تجربته من الأطر المكانية والزمانية المحدودة وسكبها في ذاكرة لا نهائية الاتساع وهي الذاكرة البشرية كلها، ومن خلال هذا السرد يدخل القارئ في عوالم أخرى مختلفة ثقافيًّا ،كما أن توظيفه للتقنيات الحديثة في البناء الفني للرواية يكسبها ابعادا من الجمال والصفاء والعذوبة والمقبولية ،وقد فعلتها (رانيا) وبزت فيها رصفائها في التجريبي والتوصيف والاسترجاع والاستباق والربط الواقعي بين مكونات العمل
فالراوية والتي تنوعت فيها بالعنوانات والحوامل الأدبية هي بمثابة تلميحات ذكية ،ورتج قوية (باب التيه، باب الحبّ، باب الوهم ) التي تجسد الوحدة الموضوعية الروائية، والدلالة السابرة النابعة والمنبثقة من مكونات واقعية استيهامية غرائبية فانتازية . فالرواية تبدو عبارة عن وثيقة ادانة لممارسات المجتمع وتناقضاته ومشاكله وقضاياه المسكوت عنها. إلا أنها من جهة ما تبدو فضاءات مرحة ومبهرة تظهر تجلياته في أوهام الشخوص وهي تخوض في أزمات وتراجيديا النفس الخاسرة، ويبدو الوطن وانسانه بسماواته المعتمة في ظلال النص منهوك القوى وخائراً، وجغرافيته مبعثرةٌ بين حلم المهمشين بكل فئاتهم بالحب والخبز والامان ، وفي مقابل وطن مضعضع القوى مسلوب الارادة يعجز عن ادارة معركته بوعي في ظل في صراعات ذاتية برجماتية ذاتية ، حيث في حقب التفكك والفوضى والفساد والسجون والاستغلال والحروب والتهميش والدين والطائفية واللادولة والايديولوجيا المحنطة في الكتب، منذ عهود الازمنة التليدة ، والاقصاء والاخصاء، لذلك كانت أزمات الشخوص الروائية في النص أزمات بنيوية، وفي النهايات التي ارادتها الكاتبة لشخصياتها المحورية في نهايات الرواية كأنما أراد أن يضيف عليها مزيدا من القبح والظلامية والخوف والهلع والامل الكاذب، وفي تمظهرات رمادية صيرتنا وشخوص الرواية جميعا نحيا داخل سطور جغرافيا وطن وبقايا أنسان يقبع في أقصى درجات قاع سراديب بلادنا الواقعة بين الطين والخراب وهو مبعد من المشهد كليا ومن حلبة الصراع الاجتماعي وعلى هامش الحقل يبدو منزوياً ؛أدركنا ضعفنا الكامن في اعماقنا و وحشيتنا حين يغيب ما يسمى بالإنسان ويظهر ما يسمى بالبشر. شكرا (رانيا)
واخيرا ان كان متاحا لنا ذلك ان نستعير مقولات النقاد حول البناء الدرامي للنص الادبي حيث يقولون أن البناء الدرامي في الرواية يتكون من عناصر عدة وهي : الحبكة ، والحدث الدرامي، وحركة الشخوص والزمن والمكان ، والمفارقة الدرامية ، والحوار واللغة ،أي أن هناك مجموعة من العناصر التي يجب توفرها في النص الدرامي مثل الصراع الداخلي ، والشخصيات ووصفه بدقة ووصف تطورها والحركة ، والمكان والزمان وتطورهما ، التشويق ، عنصر المفاجأة ، الانفعالات ، وكل هذه العناصر توفرت في رواية ابن الشمس للكاتبة المبدعة (رانيا)
ثمة ملاحظة أخيرة تتمثل في عبارات جميلة نحو: حواف الوقت ....وجهه محايد ...تنزلق على حاجبيه بلورات شفافة صغيرة مالحة ص15،...جرف الوقت كل رغبة ...وكثير من الجمل ،فهي تدل على عمق ثقافة الكاتبة وثراء معجمها اللغوي .
ولعل في عتبة الاهداء ما يكشف عن العلاقة بين الشجرة والثمرة واستمرارية الحياة وتعاقب الاجيال ،وفي تقديري ان من خلال السطور ومجريات الاحداث في النص نجد أن الموت وهو اليقين الحقيقي يتشكل في مستويات مختلفة ، كأنما أرادت الكاتبة ان تتناول فلسفة الموت برؤية مغايرة بعيدا عن المفهوم السائد كتجربة مفجعة ومحزنة وحولته الى راحة واستقرار مجسدا في استمتاع كرم بمخاطبة الموتى في المشرحة ....جمال مات وسالم و وعزيزة ام سمية وكلب جمال لم يكن ذلك للتسلية او لمقتضيات الراوية بل هو رسالة قوية تحضنا على أن ننظر لحقيقة الموت كمر حتمي يقتضي الاستبصار وحسن التعامل .
د/ صلاح الدين أببكر
* رواية "ابن الشمس" للكاتبة السودانية: رانيا مأمـون - دار العين للنشر الطبعة الأولى 2013