د. سيد شعبان - لمن يكتب الأديب؟

سؤال يلح على خاطر الكاتب ويدفع به إلى البحث عن إجابة مغايرة، في ظني أنه يكتب ليرصد الواقع بكل تغيراته ونتوءاته، يسجل لكنه ليس آلة صماء تلتقط صورا، قلم يخايل في مهارة حتى لا يقع في شرك الملل والتكرار.
هو ليس بحامل مبخرة في بلاط السلطان يهادنه أو يخادعه بل يظل بعيدا حيث تتسع الرؤية وتتكشف الحكاية، وقليل من ينجو من هذا الشرك.
إنه ذات تدون فتبدع من تلك الأجزاء المتناثرة لوحة سردية من قصة قصيرة أو رواية أو مقالة نقدية، يراهن على وعي القاريء الذي يعاصر الحدث أو ذلك الذي يأتي فيرى عالما مغايرا.
هناك أعمال إبداعية بلغت الذروة فنا وسردا؛ هل تنكر أعمال المتنبي وروائع شوقي وإبداع العقاد والمازني في العربية ونجيب محفوظ وفنه المتراكم؛ ماركيز ومائة عام من العزلة والحب في زمن الكوليرا؛ الطيب صالح وموسم هجرته الوحيد إلى الشمال.
انظر إلى كليلة ودمنة وكيف خلص السارد إلى ما يريد في رمز شفيف وبلاغة متراقصة؛ وإن لم ينج ابن المقفع من السيف رغم كل ما فعله دمنة وما أرشده إليه كليلة!
قدر الأديب قلمه يزامر به في الحي يراقص الحروف بدلا من القرود؛ بؤنسن الفكرة ويزاوج بفنه بين المتعة والفن.
يكتب ليأتي اللاحقون فيقولوا مر من هنا إنسان هذه أوراقه وتلك صحائفه؛ ترى كم من الأعمال تخطفتها يد الحرق والغرق في مساعر النار أو معابر لجند التتر في كل عصر؟
ثمة فرق بين الأديب والمؤرخ فلا يعقل أن يكون الأديب أداة تسجيل في محاضر البلاط أو كاتب تقارير في الغرف السرية؛ إنه لسان هؤلاء الجوعى ورغيف خبزهم دون أن يدخلهم الحظيرة مخدرين؛ يصدق مع زمنه ويطالع غده بفنه الذي وهب إياه.
هذا زمن السرد العربي بكل تناقضاته وتلازماته، دواعي الكتابة أكثر مما يراهن عليه المتشائمون الذين يرون السقوط قدرا لامفر منه.
إنها لعبة اللغة وبراعة الأبجدية التي تتحمل أقلاما مختلفة وعقولا متباينة، شرط ألا تستبد بالكاتب فكرته فينسى قواعد الحكي وفنونه من مفارقة وتصوير وإجادة قص.
قدرة على التخيل تتملك الأديب، حافلة تسير فيجعلها مسرحا لحكاية؛ يمر بالدرب الأحمر فيرتد إلى القلعة باحثا عن المملوك الذي قفز بجواده ونجا من المذبحة، سرداب فيراه دار المهدي الذي ينتظره أتباعه يخرج راكبا حماره، يقترب من أم هاشم فيتذكر الحسين وكربلائه.
يشاهد ساكن البيت الأبيض وهو يستلب الدول أشياءها؛ حاو بارع ينقصه أن يقول حلا حلا !
كل هذه دوافع للكتابة يعجز غير الأديب أن يصنع منها ألف حكاية يتسلى بها القابعون في المتاهة.
إن كتب لنفسه فذلك القيد الذي لا نجاة منه؛ يظل دائرا حول ذاته يراها الأنموذج الذي يجب أن يحتذى، مؤكد أنه سيتلاشى مثل حبة سكر في شلال هادر من ماء يحوطه فيغرقه.
يجدر بالكاتب أن يكون أمينا مع قلمه فلا يبعه بالذهب أو المقعد الوثير؛ بعضهم يخادع القاريء؛ يدلس عليه بما أوتي من سحر، يفعل هذا ويعلم أنه كاذب لكنه يسدر في غيه؛ يتوهم القراء تابعين لا أصحاب عقول تعي وتفهم.
دواعي القول والكتابة متباينة فالبارع من الأدباء من يصنع عوالم مشاغبة للعقل، تكون بمثابة المصباح في ليل العتمة الذي يحاصر شمس الصباح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى