هَالَنِي ما بِتُّ أراهُ من هَرْولة كثيرٍ من الكُتَّاب الناطقين باللغة العربية، وهي هرولةٌ لا تخلو من لهْفةٍ حتى لا أقول "لهْطة" بتعبيرنا الدَّارج، إلى ترجمة أعمالهم للغات العالم الأجنبية، خصوصاً تلك الأبْجدِيَّات الشَّقراء التي يُصطَلح على تسْميتها باللُّغات الحيّة، لا أعرف هل تُسمَّى كذلك لحيويَّتِها كعملة رائجة في سوق الثرثرة العالمية، أو لأعيُنها الزُّرْق مفتوحة الأفق شاسعاً لكل ناشئٍ مُتعطِّشٍ لِلعْقِ عسل الشهرة، ثم الاستحواذ على الطَّبَق، أو لأنَّ لغتنا العربية أصبحت تُعْتبر من المآثر التاريخية المُتراكمة بمراقِد الموتى، ولا تستحقُّ أن تُزار بين السياحة الأدبية والأخرى إلا كما تُزار القبور !
وكبُرَ هوْلي وأنا أنظر إلى الإقبال مُنقطِع النَّظير والنَّفير لأفواج الكُتاب والشعراء، على ركوب هذه الموجة في ما يُشبه الهجرة السرية، حتى خشيتُ أنْ يفُوق غرقى يَمِّ الكتابة الخطير قبل بلوغ الضِّفة الأخرى، أولئك الذين يبْتلعهم البحر يومياً وهم يُهاجرون دون طوْق نجاة نحو المجهول، ولا يختلف الغريق هنا عن الغريق من حيث الهدف، كلاهما إمَّا يبحث لبطنه أو كلمته في جغرافية لا تتجاوز سطرين، عن جنسية تضمن مع العُشِّ الدافئ لُقْمة العيْش !
ولأنِّي لا أهْتمُّ في جدل الثُّنائيات النقْدية إلا بالجانب الذي يُسْعِف تجربتي الأدبية، فأنا أُفضِّل التأثير بِلُغتِي الأُمِّ عِوض التَّأثر بِلُغة الآخر، ليس ثمة ما هو أشقُّ على نفس الكاتب، من أن يَخُطَّ الكلمة حسب المقاس وهُو يتحيَّن أقرْب فُرصة لِيَحْزمها في حقيبة لغة أخرى، وليْتَها ذات خَدَرٍ لذيذ يُفْقِد الوعي، كُنّا وجَدْنا لمُهرِّب الحشيش المغشوش خارج البلد في صِيغة الشِّعر أو النَّثْر كُلَّ العُذْر، ماذا يُجْدي أن تنْجرف كالتُّرْبة الهشّة من الجذور مع هذه الحركة التَّرْجمية الضَّيِّقة، ماذا تنْفع وهي لا تتجاوز الأفراد إلى مركز وطني ثقافي يُعْنَى بشؤون التَّرجمة دون تحيُّز أو محْسوبية، الأمر أشبه بباعة مُتجوِّلين عبر دُول العم سام يُنادون على بضائعهم في الشارع العام بأكثر من لغة، لا أسْتخِفُّ بالمجْهُود الشخصي للتسويق أو التَّدْويل النصي، ولكن أكْرَه أنْ يُقْحِم المَرْء إنْتاجه الأدبي في سِباقٍ لا يسْتوي في إيقاعه الأرنب والسُّلحفاة، أكره أن يَخْتلَّ السَّيْر الطَّبيعي للْإبداع بأنْ أتلفَّت بين حين وآخر للخلْف، كأنِّي أُحدِّد موقعي في ركْبِ الكِتابة أو قافلتها، ثم اُلَوِّي أُذُني بكفِّي وأُصيخ السَّمْع هل بلغ صيتي أمريكا أو الصين، أليْسَ يكْتب المرء فقط تلبيةً لِنداءٍ داخلي يُصدِّقه ولوْ كان يَكْذِب !
هل كان ابن رشد الذي كما أحْرق التَّطرُّف كُتبه احترق قلبه ومات كمداً، يَعْلم أنَّه سيأتي زمانٌ يرْتفِع فيه اسمه خفّاقاً على واجهة أكثر من مركزٍ فكري في أوروبا، ثمَّ ما المُخْتلِف في المُتنبِّي ومحمود درويش ونجيب محفوظ ومحمد زفزاف.. أصبحوا بقُدْرة إبداعٍ مُسْتوطِنين في أكْثر من لُغة عالميِين أو كونيِين، لم يَعْقِدوا صفقاتٍ أو يتبادلوا المصالح نظير تذويب أعمالهم في عملة لغوية رائجة في السُّوق، لكأنَّ كتاباتهم تَرْجَمتْ نفْسَها بِنفْسِها بِقوَّة مَقْرُوئيتها في الرُّقعة المحلِّية الضَّيِّقة، تماماً كذلك الشَّاعر الجاهلي الذي طبقت شُهرته الأمْصار ووصلت للروم والسنْد والهند، وهو مُجرد ناطقٍ شِعْري لإحدى القبائل المَعْزُولة عن العالم، دائماً على صهوةٍ ويسْتوطِن الصَّحراء !
لا أنكر أنَّ للترجمة فوائد جمّة، من حقِّ الكاتب أن يَقْلَق على بنات أفْكَاره الموؤودة في المَهْد، أن يَقْفِز بِزَانة التَّرجمة عالياً من عصْر يراه مُنحَطّاً مُظلِما إلى بلدان الأنوار، من حقِّ الكاتب أن يَقيس بالتَّرجمة إلى لغات أخرى، حجم ظِلِّه على امتداد خطوط الطُّول والعَرْض في الكرة الأرضية، من حقِّه أن يسْترد مع الأنفاس قيمته بعيداً عمَّن لا يعيرها وزْناً وهُو يُلقي بكتاب، من حقِّه أنْ يتعدَّد ويتمدَّد في كل أبْجدِيات الاتِّحاد الأوروبي، أليْس أفْضْل من أن تتعدَّد عُقَدُه النَّفسية في مُجْتمع يبْنِيه للمجهول وهو أشْهر من نارٍ يَنْدلع في القلمْ، أمّا أنا فليس من حقي إلا أن أقرْفص على الطريقة الطَّاوية، وأطْرُد من تفكيري هذه الظاهرة التَّغْريبية، فهي لا تُسمِنُ إلا مَنْ يعاني مِن جُوعٍ مُزْمِن، ولكنَّها في ذات النَّهْش تَسْتدِرُّ بالضَّحِك أغْزَر الدموع، لا أعْرف لِمَ ذكَّرتني هذه الظاهرة التَّغْريبية بـ "غزو الغرب" وهو عنوان مُسلْسل كوبوي أدْمنتُ حَلقَاته حين كنت يافعاً، ربما لأنَّ الطريقة التي تُدبَّر بها هذه العمليات التَّرجمية للبعض (...) في الخفاء، لا تخْلُو من شُغْل عصابات أضْيق من أنْ يتجاوز في تأثيره الثقافي الدائرة!
................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 22 شتنبر 2022.
وكبُرَ هوْلي وأنا أنظر إلى الإقبال مُنقطِع النَّظير والنَّفير لأفواج الكُتاب والشعراء، على ركوب هذه الموجة في ما يُشبه الهجرة السرية، حتى خشيتُ أنْ يفُوق غرقى يَمِّ الكتابة الخطير قبل بلوغ الضِّفة الأخرى، أولئك الذين يبْتلعهم البحر يومياً وهم يُهاجرون دون طوْق نجاة نحو المجهول، ولا يختلف الغريق هنا عن الغريق من حيث الهدف، كلاهما إمَّا يبحث لبطنه أو كلمته في جغرافية لا تتجاوز سطرين، عن جنسية تضمن مع العُشِّ الدافئ لُقْمة العيْش !
ولأنِّي لا أهْتمُّ في جدل الثُّنائيات النقْدية إلا بالجانب الذي يُسْعِف تجربتي الأدبية، فأنا أُفضِّل التأثير بِلُغتِي الأُمِّ عِوض التَّأثر بِلُغة الآخر، ليس ثمة ما هو أشقُّ على نفس الكاتب، من أن يَخُطَّ الكلمة حسب المقاس وهُو يتحيَّن أقرْب فُرصة لِيَحْزمها في حقيبة لغة أخرى، وليْتَها ذات خَدَرٍ لذيذ يُفْقِد الوعي، كُنّا وجَدْنا لمُهرِّب الحشيش المغشوش خارج البلد في صِيغة الشِّعر أو النَّثْر كُلَّ العُذْر، ماذا يُجْدي أن تنْجرف كالتُّرْبة الهشّة من الجذور مع هذه الحركة التَّرْجمية الضَّيِّقة، ماذا تنْفع وهي لا تتجاوز الأفراد إلى مركز وطني ثقافي يُعْنَى بشؤون التَّرجمة دون تحيُّز أو محْسوبية، الأمر أشبه بباعة مُتجوِّلين عبر دُول العم سام يُنادون على بضائعهم في الشارع العام بأكثر من لغة، لا أسْتخِفُّ بالمجْهُود الشخصي للتسويق أو التَّدْويل النصي، ولكن أكْرَه أنْ يُقْحِم المَرْء إنْتاجه الأدبي في سِباقٍ لا يسْتوي في إيقاعه الأرنب والسُّلحفاة، أكره أن يَخْتلَّ السَّيْر الطَّبيعي للْإبداع بأنْ أتلفَّت بين حين وآخر للخلْف، كأنِّي أُحدِّد موقعي في ركْبِ الكِتابة أو قافلتها، ثم اُلَوِّي أُذُني بكفِّي وأُصيخ السَّمْع هل بلغ صيتي أمريكا أو الصين، أليْسَ يكْتب المرء فقط تلبيةً لِنداءٍ داخلي يُصدِّقه ولوْ كان يَكْذِب !
هل كان ابن رشد الذي كما أحْرق التَّطرُّف كُتبه احترق قلبه ومات كمداً، يَعْلم أنَّه سيأتي زمانٌ يرْتفِع فيه اسمه خفّاقاً على واجهة أكثر من مركزٍ فكري في أوروبا، ثمَّ ما المُخْتلِف في المُتنبِّي ومحمود درويش ونجيب محفوظ ومحمد زفزاف.. أصبحوا بقُدْرة إبداعٍ مُسْتوطِنين في أكْثر من لُغة عالميِين أو كونيِين، لم يَعْقِدوا صفقاتٍ أو يتبادلوا المصالح نظير تذويب أعمالهم في عملة لغوية رائجة في السُّوق، لكأنَّ كتاباتهم تَرْجَمتْ نفْسَها بِنفْسِها بِقوَّة مَقْرُوئيتها في الرُّقعة المحلِّية الضَّيِّقة، تماماً كذلك الشَّاعر الجاهلي الذي طبقت شُهرته الأمْصار ووصلت للروم والسنْد والهند، وهو مُجرد ناطقٍ شِعْري لإحدى القبائل المَعْزُولة عن العالم، دائماً على صهوةٍ ويسْتوطِن الصَّحراء !
لا أنكر أنَّ للترجمة فوائد جمّة، من حقِّ الكاتب أن يَقْلَق على بنات أفْكَاره الموؤودة في المَهْد، أن يَقْفِز بِزَانة التَّرجمة عالياً من عصْر يراه مُنحَطّاً مُظلِما إلى بلدان الأنوار، من حقِّ الكاتب أن يَقيس بالتَّرجمة إلى لغات أخرى، حجم ظِلِّه على امتداد خطوط الطُّول والعَرْض في الكرة الأرضية، من حقِّه أن يسْترد مع الأنفاس قيمته بعيداً عمَّن لا يعيرها وزْناً وهُو يُلقي بكتاب، من حقِّه أنْ يتعدَّد ويتمدَّد في كل أبْجدِيات الاتِّحاد الأوروبي، أليْس أفْضْل من أن تتعدَّد عُقَدُه النَّفسية في مُجْتمع يبْنِيه للمجهول وهو أشْهر من نارٍ يَنْدلع في القلمْ، أمّا أنا فليس من حقي إلا أن أقرْفص على الطريقة الطَّاوية، وأطْرُد من تفكيري هذه الظاهرة التَّغْريبية، فهي لا تُسمِنُ إلا مَنْ يعاني مِن جُوعٍ مُزْمِن، ولكنَّها في ذات النَّهْش تَسْتدِرُّ بالضَّحِك أغْزَر الدموع، لا أعْرف لِمَ ذكَّرتني هذه الظاهرة التَّغْريبية بـ "غزو الغرب" وهو عنوان مُسلْسل كوبوي أدْمنتُ حَلقَاته حين كنت يافعاً، ربما لأنَّ الطريقة التي تُدبَّر بها هذه العمليات التَّرجمية للبعض (...) في الخفاء، لا تخْلُو من شُغْل عصابات أضْيق من أنْ يتجاوز في تأثيره الثقافي الدائرة!
................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 22 شتنبر 2022.
Mohamed Bachkar
Mohamed Bachkar is on Facebook. Join Facebook to connect with Mohamed Bachkar and others you may know. Facebook gives people the power to share and makes the world more open and connected.
www.facebook.com