أ. د. عادل الأسطة - موتيفات وأفكار في الأدب الفلسطيني (موتيف العودة)

من أين جاءتني هذه الطريقة في الكتابة ؟
( عن عودات الفلسطينيين في النصوص الأدبية : مقاربة تقوم على التداعي ) .

في 1981 ماتت عائلة من مخيم بلاطة في السعودية ، وقد جرفها السيل .
كنت في تلك الأيام قرأت رواية ( جوزيف كونراد ) " قلب الظلام " التي أعرتها إلى كاتب صديق ولم يعدها ، ولاحظت التشابه بين بطلها الذي سافر إلى إفريقيا بحثا عن الذهب ، وبين الفلسطينيين في رحلة بحثهم عن رزق أبنائهم ، وسيموتون في المنافي ، ولا ادري لم لم أتذكر غسان كنفاني وروايته " رجال في الشمس " .
عموما حفلت الكتابة يومها ببعد ثقافي أيضا ، وكان عنوان المقالة " كروتز الفلسطيني ...من أبها إلى .. مخيم بلاطة "، و ( كروتز / كورتيسة ) هو بطل رواية ( كونراد ) ... ذهب ليبحث عن الذهب ، فمات في إفريقيا وكانت خطيبته تنتظره والثروة .
23 / 2 / 2016/
على هامش وداع أم فايز ... تداعيات أدبية :
عادل الاسطة
1. على هامش وداع أم فايز : عائد إلى حيفا ، إلى يافا ، إلى ...
الأسبوع الماضي ماتت أم فايز ، ولا أعرف متى رأيتها أول مرة . كان لزوجها بقالة في المخيم ، وأحياناً كنت أشتري منها . وقبل التوجيهي بعام ، أي في 1971 غدوت وابنها بسام صديقين ، وتوطدت علاقتي بابنها راضي ، ولما لم يكن لي غرفة ، في بيتنا في المخيم ، لأدرس فيها ، فقد وجدتني أدرس في شقة إسماعيل ابن أم فايز ، مع بسام . كان إسماعيل اشترى الشقة ولمّا يسكنها ، وأنفق فيها بسام وقته يستعدّ للتوجيهي . تلك الأيام كنت أدرس في الشوارع ، وفي مزرعة قرب المخيم .
ما بين 1972 و 1976 تزاملت مع بسام وراضي في الجامعة الأردنية . درس بسام الأدب الإنجليزي ، ودرس راضي التربية والأدب الإنجليزي ، ودرست أنا الأدب العربي ، وبقينا أصدقاء وجيراناً أيضاً . وفي العام 1975 نكبت أم فايز بابنيها : فايز وإسماعيل ونجا ابنها نضال ؛ فقد فقدتهما بسبب حادث طرق ، حيث كانا متوجهين إلى عملهما في فلسطين 1948 ـ إسرائيل ( ؟ ) . وأخذت أم فايز تربي أحفادها ، وبدأت أزورها كلما سنحت لي فرصة ، وكلما عاد بسام من السعودية ، ثم انقطعتُ عن زيارتها منذ 1987 ، ولم أنقطع عن السؤال عنها وعن أخبارها حتى قبل وفاتها بفترة قصيرة .
الأسبوع الماضي ماتت أم فايز ، ولعلها آخر اللاجئين الذين أعرفهم ممن كانوا واعين عام النكبة 1948 ، ولما سألت ابنها عن عمرها قال لي : 89 أو 90 عاماً . ولا أعرف إن كان ، الآن، في مخيم عسكر من عمره أكثر من تسعين عاماً .
لما أخذت أم فايز تربي أحفادها بدأت أقارنها بأم سعد في رواية غسان كنفاني : نساء صابرات يحتملن قسوة الحياة حقاً ، ويعشن . يربين الأولاد والأحفاد ويواصلن حلمهن الذي قد يتبدل ويتغير مع مرور الأيام ، ولكن بعض أحلام اللجوء تبقى حية مشتعلة .
« الكبار يموتون ، والصغار ينسون . ». يقول بعض القادة الإسرائيليين . وأنا أعزّي في وفاة أم فايز التقيت بابنها راضي الذي أنفق من عمره سنوات في السجن ، وتزوج من قريبته في أم الفحم ، واستقرّ هناك ، وهو شاعر ومعلم ، وسألته عن عودته وإن كان مسروراً ، وفوجئت بأنه يتمنى لو أنه بقي في الضفة . هل تحدثت معه عن رجوع العائدين إلى المنفى : رشاد أبو شاور وفاروق وادي وإبراهيم العبسي و .. و .. فيصل حوراني ، وخليل السواحري و .. و .. .
بعض هؤلاء عاد إلى الضفة مع اتفاقات ( أوسلو ) ، وسوّى أموره المالية ولم ترق له أوضاع الضفة الغربية وغزة ، وآثر الإقامة في المنفى .
هل خاب توقعهم ؟
هل توقعوا شيئاً آخر ؟ انتظروا شيئاً آخر ؟ ثم وجدوا هُوّة سحيقة بين المتوقع والواقع ؟
هل حلمهم بالعودة يعني العودة الجماعية لا الفردية ؟
لم يتكيف بعض العائدين مع الواقع وعاد من حيث أتى .
سأقترح على الشاعر راضي عبد الجواد أن يكتب حكايته نثراً . أخذ يقرأ على مسامعي بعض قصائده عن العودة وخيبته منها ، وأخبرته أن النثر أقدر على التواصل مع الآخرين ، من الشعر ، في الجانب الذي عاشه ، علماً بأن درويش عبّر شعراً في « لا تعتذر عمّا فعلت » ( 2003 ) عن عودته ، وزيارته حيفا والجديدة والبروة . ويبدو أنه أدرك أن النثر مجال أرحب من الشعر فعاد وكتب « في حضرة الغياب ».
اقتراحي وحديثي مع الشاعر دفعا بي إلى تذكر نصوص العودة ، منذ قصائد أبي سلمى « سنعود » ( 1953 ) حتى آخر رواية قرأتها « مصائر » والرواية التي أقرأ فيها « حياة معلّقة » ( 2013 ) .
كتب غسان كنفاني « عائد إلى حيفا » عن بطل يعود ، بعد الهزيمة ، زائراً ، وأيقن هذا ( سعيد. س ) أن العودة الحقيقية لن تكون هكذا ، وتمنى أن يكون ابنه خالد التحق بالمقاومة ليعود منتصراً . هكذا يخاطب سعيد ابنه خلدون / دوف : « ذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب » .
في 1971 استشهد أبو علي إياد أحد أبرز قيادات فتح ، ورثاه محمود درويش بقصيدته « عائد إلى يافا » :
« ونام /
ولم يلتجئ للخيام / ... وما كان لاجئ/
هي الأرض لاجئة في جراحه /
وعاد بها . » .
منذ ( أوسلو ) 1993 كثرت النصوص التي أتى فيها أصحابها على العودة شعرا ونثرا وخصصت لها كتابا هو « أدب المقاومة ... » ( 1998 ) وكتب يحيى يخلف « نهر يستحم في البحيرة » ( 1997 ) وزار سمخ وشعر بطله بالخيبة ، وعاد فيصل حوراني ورشاد أبو شاور وفاروق وادي وكتبوا نصوصاً عن تجربتهم .
أراد محمود درويش ، بعد أوسلو ، العودة إلى حيفا ، ولكن الشروط التي وضعتها إسرائيل ، خجل أميل حبيبي من نقلها للشاعر ، كما كتب الشاعر في « حيرة العائد » ( 2007 ) . وفي « في حضرة الغياب » أتى درويش على عودة أهله ، بعد 1948، تسلُّلاً . وكان أميل في « المتشائل » عبّر عن تجربته في العودة ، وذهب إلى أن حياة بطله العائد تسلُّلاً ، إثر قيام دولة إسرائيل ، كانت بفضل حمار . أطلق الجنود النار على سعيد فأردوا الحمار قتيلاً ونجا سعيد .
هل خلت نصوص أخرى كثيرة من حلم العودة أو من الكتابة عن عودات فردية ؟
الموضوع يحتاج إلى مزيد من الحفر .
2 . " وإذا رجعتم .. فلأيّ منفى ترجعون ؟ "
وأنا أزور مخيم عسكر القديم ، وأُمعن النظر في المحلات التي أقيمت على الشارع ، وفي المشاة الذين أعرف قسماً منهم ، وهم أصدقاء قدامى ، ومنهم من هو أكبر سناً مني ، يخطر ببالي السؤال التالي :
- تُرى لو تحقق لهؤلاء حلم العودة وعادوا ، فهل سيعودون إلى مدنهم أو قراهم التي انحدروا منها أو انحدر منها آباؤهم ، أم أنهم سيفضلون إقامة مدن وقرى جديدة يتجاورون فيها ؟
ما من مخيم فلسطيني ، فيما أعرف ، ضمّ فقط مواطني مدينة واحدة أو قرية واحدة . إنه ، غالباً ، يضم شتاتاً من أبناء قرى ومدن مختلفة . فمخيم عسكر الذي ولدتُ فيه ، فيه من أهل يافا وحيفا واللد والرملة والبروة وعرب أبو كشك وفجّة و .. و ... وتصادق هؤلاء وتصاهروا وغدت بينهم علاقات ربما أقوى من علاقات بعض الإخوة الذين تفرّقوا أيدي عرب إثر النكبة ، وهو ما نلحظه في رواية كنفاني " ما تبقّى لكم " وفي رواية عاطف أبو سيف " حياة مُعلّقة " وفي روايات أخرى بينهما .
حقاً هل سيعود أهالي مخيم عسكر مثلاً كل إلى مدينته أو قريته أم أن أهل المخيم سيفضلون إقامة قرية جديدة يقيمون فيها معاً ؟
هل في السؤال من الخيال مثل ما في حلم العودة من الخيال ؟
مرة تحدثت ومحمود درويش وأتينا على موضوع العودة ، فقال لي إنه تخيّل العودة في قصيدته " مأساة النرجس .. ملهاة الفضة " 1990) حين كتب :
" عادوا.
عادوا من آخر النفق الطويل إلى مراياهم.. عادوا
عادوا ليحتفلوا بماء وجودهم ، ويرتبوا هذا الهواء
ويزوجوا أبناءهم لبناتهم ، ويرقصوا جسداً توارى في الرخام
ويعلقوا بسقوفهم بصلاً ، وبامية ، وثوماً للشتاء ".
وكان الشاعر ، بعد الخروج من بيروت 1982، وبعد أحداث صبرا في أيلول ، كان ترك صبرا تسأل المقاومين الراحلين السؤال التالي :
" لم ترحلون
وتتركون نساءكم في بطن ليل من حديد ؟ " وتبع هذا السؤال أسئلة أخرى هي :
" كم مرة ستسافرون
وإلى متى ستسافرون
ولأي حلم
إذا رجعتم ، ذات يوم ، فلأي منفى ترجعون؟ لأي منفى ترجعون ؟ " .
وشكلت الكتابة عن العودة في شعره ونثره مادة خصبة تستحق المتابعة . حين عاد إبراهيم أبو لغد جثة إلى يافا ليدفن فيها ، كتب درويش عن هذه العودة " لقد أنجز إبراهيم حق العودة بطريقته الخاصة . كان حالماً ، لا واهماً . ولكن في عودته الفردية دلالة أخلاقية وتعبيراً عن التزام بمصير شعب اعتز بالانتماء إليه " .
وحين تحرر الجنوب اللبناني في أيار 2000 ، كتب الشاعر عن فرح جماعي بعودة جماعية ، لا عن فرح فردي . وفي " المنفى المتدرّج " كتب عن عودته هو إلى رام الله ، لا إلى الجليل ، ورأى فيها عودة زائر " يعود الزائر بعدها إلى توازنه الصعب بين منفى لا بد منه ووطن لا بد منه... ولم أعد بعد " .
في النصوص الأدبية التي أنجزت بعد ( أوسلو ) طرق موضوع العودة أدباء كثر ، وكان كثيرون من هؤلاء من مناطق فلسطين المحتلة في العام 1948 ، بل إن منهم من كان لبنانياً ولم يعد إلى فلسطين كإلياس خوري الذي كتب في " باب الشمس " ( 1998 ) عن عودة أم حسن اللاجئة لزيارة بيتها في الكويكات . عادت زائرة ، وحين استغربت ( ايملا اكويك ) اليهودية اللبنانية من أم حسن ، إذ كيف تترك بيروت لتعود إلى قرية ، تجيبها أم حسن :
" بس أنا لا أعيش في بيروت . أنا أعيش في المخيم ، والمخيم مجموعة قرى مكدّسة فوق بعضها بعضاً " .
في كتابه " أرض الغزالة " ( 2003 ) يأتي حسن خضر على ما قاله له إلياس مرقص الذي تعلّم منه حسن الكثير ، وكنّ له احتراماً كبيراً ، بل إنه رأى فيه مثالاً احتذاه . كان إلياس ترك الحزب الشيوعي واختطّ لنفسه طريق المعرفة كقائد له في الحياة ، فقد رأى قادة كثرا غدوا عبيد شعاراتهم ، وحين كان حسن ينتمي إلى الجبهة الشعبية تحاور معه إلياس وأتى على سيرة الحكيم حبش باعتباره نموذجاً من هؤلاء القادة الذين يرفعون شعار العودة :
" أمينك العام يحب النضال . لو جاء شخص ما ووضع فلسطين بين يديه : خذ ها هي فلسطين . سيصيبه الرعب من احتمال حياة بلا نضال . سيقول : لا أريدها وأريد النضال . ( ما بديش . بدي أناضل ) ( ص83 ) .
وليد دهمان/ ربعي المدهون في رواية " مصائر " ( 2015 ) يزور فلسطين بجواز سفر بريطاني لينفذ رغبة إيفانا بنقل رمادها إلى عكا ، وتسحره حيفا وعكا ، وتقترح عليه زوجته جولي ، ابنة إيفانا ، العودة ، وهو لم يكن يريد هذا ، وحين تعيد إثارة السؤال عليه ، وهما أيضاً في المطار يغادران :
" هل اتخذت قراراً بخصوص ما اقترحته عليك قبل دخولنا إلى المطار.. أو فكرت فيه ؟ "
يجيب :
نناقشه حين نصل . وربما يفصح الجزء الثالث من روايات المدهون عن قرار بطله .
إن العودة التي تحققت لأبطال روايات كثيرة ، وهي عودة زيارة لا أكثر ، تعيد ما أثرته في بداية هذا المقال ، تترى لو تمكن هؤلاء من العودة فهل سيعودون ؟ أم أنهم سيتصرفون تصرف كتاب معروفين ذكرتهم في مقال الأسبوع الماضي : عادوا ، ولكنهم عادوا إلى حيث كانوا قبل 1993 ـ أي إلى المنفى !!
3 - شتات العائلة وبركات الصهيونية :
" حياة معلّقة " :
وأنا أقرأ رواية عاطف أبو سيف " حياة معلّقة " ( 2013 ) تذكّرت رواية ( ثيودور هرتسل ) " أرض قديمة ـ جديدة " ( 1902 ) وتذكرت عائلتيْ أبي وأمي وما ألمّ بهما في أثناء نكبة 1948 وما تلاها .
في رواية ( هرتسل ) يسأل المسيحي ( كينغز كورت ) العربي رشيد بك، بعد أن يتحدّث اليهودي ( شتاينك ) عن الاستفادة التي جناها سكان البلاد العرب من قدوم الصهيونية ، وموافقة رشيد بك على كلامه، يسأل ( كورت ) رشيد بك السؤال التالي :
" ألم تنهدم مكانة سكان بلاد إسرائيل القدامى بسبب هجرة اليهود ؟ ألم يضطروا إلى مغادرة البلاد ؟ إنني أقصد الأكثرية الساحقة ، فقد يكون ثمة أفراد استفادوا ، ولكنهم لا يُتخذون مقياساً ! ". وهنا يجيب رشيد :
" أي سؤال هذا! لقد كان هذا الأمر بركة لنا جميعاً ، وفي الطليعة ، طبعاً ، أصحاب الأملاك الذين باعوا أراضيهم بأسعار عالية للمجتمع اليهودي ، أو الذين حافظوا على أراضيهم بانتظار أسعار أعلى ، فأنا شخصياً قد بعت الأراضي لمجتمعنا الجديد، وعلى هذا فقد وجدت خيراً عميماً " .
وفي استذكار ما ألمّ بأبي وعائلته ، وأمي وعائلتها ، إثر نكبة 1948 عدت إلى أعوام خلت .
في 60 ق 20 عرفت أن لي أبناء عم في الشام ، وتعرفت إليهم ، فقد جاؤوا لزيارتنا في المخيم ، وسأزورهم في 1975 حين أزور دمشق .
وبعد هزيمة حزيران 1967 تعرفت إلى عمتي رئيسة التي زارت إخوانها في الضفة ، بعد انقطاع 19 عاماً ، فقد هاجرت هي وزوجها إلى غزة ، وسأتعرف إلى أبنائها وبناتها وسأزور غزة التي ربما ما كنت لأزورها لولا وجودها هناك ـ هذه " بركة " من " بركات " حرب 1967.
مات عمي في الشام ، في بدايات هذا القرن ، ولم يحضر جنازته أي من إخوته ، وسيموت لي عم آخر في عمان ، وسنعرف عن خبر موته من الآخرين . وعمي هذا الذي توفي في عمّان له ابن يقيم في مصر منذ 1948 ، فقد هاجرت زوجة عمي إلى هناك حيث أهلها ، ولم نتعرف إلى ابنه ، على الرغم من أن أخي حاول البحث عنه . هل اختلفت أحوال عائلة أمي ؟
أيضاً، في 60 ق 20 تعرفت إلى خالتي فاطمة التي استقرت بعد النكبة في دمشق مع زوجها السوري ، كما تعرفت إلى بعض أبنائها الذين زارونا في تلك الفترة ، وحين زرت الشام في 1975 زرت خالتي وتعرفت إلى من لم أتعرف إليه من أبنائها ، وقد ماتت خالتي ، دون أن يشارك كثيرون من أقربائها المقيمين في الضفة في جنازتها . وكل هذا ، أيضاً ، من " بركات " قيام دولة إسرائيل التي تحدث عنها العربي المتخيل في رواية ( هرتسلو) : رشيد بك الذي رحب بالمشروع الصهيوني .
وأنا أقرأ رواية " حياة معلّقة " وأُتابع ما آلت إليه أسرة نعيم تذكرت ما سبق وتذكرت نصوصاً أدبية كثيرة صوّر كتابها شتات العائلات الفلسطينية .
لسميرة عزام قصة عنوانها " عام آخر " شخصيتها تقيم في لبنان وابنتها تقيم في الناصرة ، وكلما جاءت الأم لتقابل ابنتها ، على بوابة مندلباوم ، اعتذرت البنت ، لأن هناك ما يحول دون اللقاء : الولادة ومرض الزوج و.... . ولغسان كنفاني غير عمل أتى فيه على فكرة الشتات أبرز هذه الأعمال " ما تبقّى لكم " 1966 . الأم تهاجر من يافا إلى الأردن ، والبنت مريم وأخوها حامد يهاجران إلى غزة ، فيما يستشهد الأب في يافا . هذه، أيضاً ، " بركة " من " بركات " المشروع الصهيوني .
وفي " سداسية الأيام الستة " يُصوّر أميل حبيبي لقاء العائلة إثر حرب حزيران ، وهو ما بدا في قصة " حين سعد مسعود بابن عمه " ، وإذا كانت حرب 1948 فرقت بين الإخوة ، واحد في الناصرة والثاني في مخيم جنين ، وهذه صورة من صور شتات العائلة ، فإن حرب 1967 مكنت أبناء العمومة من الالتقاء .
ولا تخلو رواية " المتشائل " من الإتيان على نوع آخر من الشتات له دلالته الرمزية ، فنكبة 1948 فرقت بين الحبيبين : سعيد ويعاد .
ربما من آخر الأعمال الأدبية ، قبل " حياة معلّقة " التي أبرزت فكرة الشتات روايات يحيى يخلف " ماء السماء " و " جنة ونار " ـ لم أقرأ الأخيرة وقرأت عنها ـ وروايتيْ سامية عيسى " حليب التين " و" خلسة في كوبنهاجن " ، وفيهما تتسع رقعة المنفى ، وليعذرني روائيون آخرون كتبوا عن الفكرة نفسها .
تجسّد رواية " حياة معلّقة " هذه الفكرة ، وتكاد تتوازى ، جزئياً ، في هذا الجانب، مع رواية " ما تبقّى لكم " .
الهجرة تتم من يافا ، وبعض أفراد العائلة يستشهدون في حرب 1948 ، وآخرون يقيمون في غزة ، وقسم يقيم في الأردن أو في بيروت أو .. أو ... . ( سأعرف أن أسرة عاطف أبو سيف من يافا ، وأن ما ألمّ بأسرة أهلي ألمّ بأسرة والده ) .
من الشخصيات الرئيسة في رواية عاطف يافا ، وهي من مواليد غزة ، خلافاً لأبيها الذي ولد في يافا المدينة ، وفي العام 1948 تفرّقت العائلة أيدي عرب ، على رأي أميل حبيبي ، ولم يعد والد يافا نعيم يعرف شيئاً عن أخيه الأوسط .
وحين تقرر يافا زيارة بيروت زيارة عمل تبحث هناك عن عمها ، وتزور المخيمات ، مع نادر المقيم في لبنان ، ليساعدها في البحث .
وستحصل الدهشة حين يكتشفان أنهما أبناء عم ، وهكذا يقرران الزواج. " فالحاج توفيق سرحان سيقول ليافا إنه هاجر للبنان مباشرة عند النكبة ، وعرف بعد ذلك أن أحد إخوته يعيش في مخيم الوحدات قرب عمّان وأن ( أخاه ) الآخر يعيش في الضفة الغربية ثم انقطعت أخبار الأخ الثاني منذ ثلاثين سنة ...... وعليه لم يعد نادر فقط حبيبها وخطيب المستقبل ، بل ، أيضاً ، ابن عمها . " ( ص229 ) ، وهذه النهاية السعيدة للبداية الأليمة هي ، أيضاً ، من " بركات " المشروع الصهيوني . هل كنا سنعثر على نهاية كهذه إلاّ في رواية ( فولتير ) : " كنديد " ورواية حبيبي " المتشائل " ، وهذه ، أيضاً، " بركة " من " بركات " أبناء العمومة !! كما رآها ( هرتسل ) وأوردها على لسان رشيد بك !
4 - لقاء العائلة :
بركات الانتداب والهزيمة
في دراسته الشعر الفلسطيني يأتي د . إحسان عباس على سياسة الانتداب البريطاني ، ويذكر مثالبها ومحاسنها ، ومن اﻷخيرة إنشاء المدارس وتشجيع اﻷحزاب وإقامة النوادي وإصدار الصحف وتعبيد الطرق و .... ولم يذكر د.عباس لم / جمع شتات العائلة بعد 1948. وهذا من بركات الانتداب .
في تموز 1967 تعرفت إلى بنات عم أمي : ليلى ونجاح ، وإلى أخيهما محمد أيضا . زار هؤلاء أقاربهم في نابلس ، والتم شتات العائلة ، كما حدث في قصة آميل حبيبي " حين سعد مسعود بابن عمه " .، وسعدت العائلة وتبادلت الزيارات ، بل وتقاربت أكثر وأكثر من خلال الزواج ، فقد تزوج أحد أبناء ليلى من ابنة خالتي أم عارف . وهذا من بركات الهزيمة .
وفي أثناء إتيان أمي على سيرة ابنتي عمها عرفت أنهما هاجرتا من يافا عام 1948 مع عمهما إلى نابلس ، وأقامتا فيها لفترة من الوقت ثم عادتا إلى يافا لتقيما مع أبيهما الذي كان شرطيا -على ما أذكر - مع قوات الانتداب ، وظل في وظيفته ولم يهاجر ، وتمكن من لم شمل عائلتهه ، فعادت إليه بقية أسرته . هذا من بركات عمله مع شرطة الانتداب .
إن آل أبو العافية أصحاب الفرن الشهير في يافا ، وأصحاب المطاعم هم أبناء ابنة عم أمي التي زارتنا مرارا ، وكان اللقاء معها وديا جدا ، وأظن أنها ما زالت تقيم في يافا ، ولو كانت أمي على قيد الحياة لسألتها .
عودة ابنتي عم أمي وأخيهما ولم شمل عائلتهم كانت عودة فردية ، لطالما حفل اﻷدب الفلسطيني بالإتيان عليها . كانت حلما عبر عنه الشعراء ، كما في قصيدة أبي سلمى " سنعود " 1951 ، وكما في قصيدة فدوى طوقان " نداء اﻷرض " 1955 ، وفي هاتين القصيدتين تعبير عن حلم العودة :
" ويسألني الرفاق : ألا لقاء وهل من عودة بعد الغياب ؟"
ويجيب أبو سلمى :
" أجل سنعود ، ستعود آلاف الضحايا ".
ومات أبو سلمى في الغربة 1980 ولم يعد .
وتكتب فدوى عن لاجيء استبد به الحنين ، ذات ربيع ، فتسلل إلى أرضه ليموت على ثراها ، وهذا ما كان له ، فقد رصده الجنود وأطلقوا عليه النار ومات . لم ترق له حياة المنفى ، فآثر العودة تسللا .
حتى اﻷدبيات الفلسطينية في اﻷرض المحتلة في العام 1948 حفلت بالكتابة عن عودات فردية ، تسللا أو زيارة . كانت قصة حنا ابراهيم في مجموعته " أزهار برية " " سارة " تصور شكلا مماثلا للعودة التي تحققت مع ابنتي عم أمي وأخيهما ، ولكن المرأة تعود متسللة وتطرد إلى خارج الحدود ، ثم يقتلها الجنود بحجة أنها مخربة ، وهي كذبة تكتشفها سارة التي لم تعد تؤمن بصحافة دولتها .
في رواية حبيبي تعود يعاد زائرة فتطرد إذ أرادت البقاء ، وتأتي ابنتها يعاد الثانية لتزور أخاها السجين /الفدائي . لقد عادت زائرة ، ولكنها ستغادر .
لغسان كنفاني قصة مبكرة عنوانها " درب إلى خائن " بطلها يعمل في الكويت ويقرر أن يعود إلى اللد ليقتل قريبه الخائن المتعاون مع الاحتلال ، ولكنه يسجن في اﻷردن .
وسيكتب نبيل ابو حمد ، وهو لبناني من أم فلسطينية ، فيما بعد العام 2000 رواية " العطيلي " ، ويأتي فيها على شحاد فلسطيني كان أودع نقوده لدى صديقه اليهودي حاييم .
العطيلي يعود متسللا من أجل نقوده .
وآخر العودات كانت عودة القاص والروائي توفيق فياض الذي أبعد من وطنه في العام 1974.
لم يعد فياض من خلال ( اوسلو ) ، وإنما رفع قضية من خلال محام وعاد .
هل نعيد ذكر عودات كتاب بعد 1993 ؟محمود شقير وخليل السواحري ومحمود درويش واكرم هنية ويحيى يخلف و ..و ..و .. وهل تعد عودة هؤلاء مختلفة عن عودة الأولين ؟
هل تدرج تحت باب " عودة جماعية " ، لا " عودة فردية " ؟
هل هي عودة دق جدران الخزان ، حيث ظلت م.ت.ف منذ 60 ق 20 تدق من أجل العودة ، فحققت جزءا منها كان موضع إشكال .
حمل الشتات معه بذور العودة ، واختلفت هذه العودة واتخذت الأشكال التي أوردتها ، وكانت كلها عودات تعبر عما يعتمل في داخل الفلسطيني اللاجيء المنفي ، وربما ما زال حلم العودة يراود فلسطينيين كثيرين .
آخر شكل من أشكال العودة كان ، في الأدب ، هو عودة وليد دهمان ، الشخصية المحورية في رواية ربعي المدهون " مصائر " 2015 .
عاد وليد دهمان بجواز سفر بريطاني ، وعودته تشبه عودة المؤلف نفسه ، فقد حصل ربعي على الجنسية البريطانية وزار فلسطين بواسطتها .
هنا نعود إلى الدكتور ابراهيم أبو لغد الذي عاد إلى يافا أخيرا بواسطة الجنسية الأميركية التي بواسطتها عاد إلى رام الله وبير زيت . ومثل أبو لغد زار ادوارد سعيد وهشام شرابي وآخرون فلسطين .
في " حيرة العائد " يتساءل محمود درويش إن كان عاد أصلا ، فوطنه هو الجليل ، ولكنه لم يعد إليه ، والتم شمله مع أمه ، ولكن لساعات فقط . وهذا كله ببركات .... الخ .. الخ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى