مصطفى فودة - قراءة فى رواية شقى وسعيد للروائى حسين عبد الرحيم جحيم الذاكرة والشفاء بالكتابة

شقى وسعيد هى الرواية الرابعة للروائى حسين عبد الرحيم والذى ولد فى 25 مايو1967 بمدينة بورسعيد ، وقد صدرت الرواية عن دار خطوط وظلال بالأردن عام 2021 فى 158 صفحة .
يجمع عنوان الرواية بين لفظين متقابلين هما شقى وسعيد وقد يشيرإلى الشقاء والسعادة للرواى فى رحلته فى الحياة ، وقد يشير إلى دلالة أخرى وهى الراوى باعتباره شقيا وقد عاش فى حارة سعيد بمدينة طلخا بعد نزوحه واسرته إليها عقب حرب 1967 والتى كانت سببا فى شقائه وغير بعيد الدلالة الساخرة والتهكمية فى اسم حارة سعيد والتى كانت سببا فى شقائه .
تتعرض الرواية إلى ثلاث مراحل زمنية ومكانية يمر بها الراوى وهو الشخصية الرئيسية فى الرواية واسمه الحسين ، المرحلة الأولى تبدأ منذ ولادته قبل حرب 67 بأيام قليلة بمدينة بورسعيد والمرحلة الثانية بعد الهزيمة فى الحرب ومانتج عنها من تهجير أبناء بورسعيد ونزوحه وأسرته إلى 18 حارة سعيد بطلخا محافظة الدقهلية ثم تعرفه على جارته أم هاشم والتى تكبره بأكثر من عشر سنوات حيث تنشأ بينهما علاقة حب مركبة هى تراه مثل أخيها أحمد الكسيح وهو يراها مزيج من الأنثى الشهية والجمال النورانى والملائكى ، يغار عليها من ممدوح الكواء الذى يراه شريرا ويحذرها منه عدة مرات، وتأتى المرحلة الثالثة وهى عودته وأسرته إلى ديارهم فى بور سعيد مرة أخرى إلى أن توفيت أمه بالمستشفى وهو فى الخمسين من عمره بسب مشاجرة بين ابنيها ووقوفها كحاجز بينهما مما تسبب فى حدوث نزيف بها .
ماتت أمى
ماتت الصديقة
بدأت الرواية بتلك الصيحة الحزينة وكأنها صيحة فى البرية تؤذن بانتهاء كل شئ ، كل شئ انتهى، ثم ينطلق الراوى بوعيه وهو فى العقد الخامس مسترجعا شريط حياته مع أمه فى البعد والقرب والحب والكره لمدة عقود خمسة من حياته ويطلق عليها شخصيات خمسة بداخله ، حتى يعود فى نهاية الرواية إلى ما بدأ به وهو موت الأم وتجهيزها للدفن فى إحدى مستشفيات بورسعيد ، فكان أسلوب بناء الرواية دائريا وهو يشابه رحلة الحياة الحزينة على الارض .
فُتن الراوى الحسين بأمه وكانت علاقته بها معقدة جمعت بين الحب والشغف وبين الكره والبغض ، فأسهب فى وصف جمالها بصفات حسية فى مواطن كثيرة بالرواية " جميلة أمى فتية الصديقة ...بعينيها الخضراوين وشعرها الأصهب الطويل ، يرتج قرطها ، ترن السلسة الذهبية ، غليظة براس ثعبان عينه حمراء ، تتدلى من نحرها حتى ما بين ثدييها البيضاوين ص19....بهية أمى ، فتية غندورة ، ممشوقة القوام ، شعرها المسترسل يضئ فى ليل السواد.... أشم رائحتها الجميلة ، أريج عطر أنفاسها وهى تلقمنى صدرها فأستعيد نشوة سرسوب اللبن الساقط فى فم الطفل ..... وأنا أضغط على حلمة الثدى فى نهم وجوع لاشتم رائحة الفانيليا بأريج نافذ تخرج من صدرها "ص39، ولكنه فى مواضع أخرى عبر عن كراهيته لأمه "أكره الصديقة " ص26 ...أتذكر الصديقة أمقتها ص91" ، كانت علاقة الراوى بأبيه مزيج من الفتور والكراهية لغياب أبيه عنه طويلا ولقسوته عليه وضربه وربما لغيرته أيضا على أمه من أبيه " ومن هنا كانت علاقة الراوى بأمه وبأبيه علاقة بها صدى من الأوديبية حتى أنه يتخيل انه يهوى على رأس أبيه بالبلطة ص138.
كان للراوى علاقة مركبة أخرى بفتاة - أم هاشم - تكبره بأكثر من عشر سنوات كانت جارتهم فى حارة سعيد من مدينة طلخا والتى استقر فيها مع أسرته بعد تهجيرهم من بور سعيد ، كانت تقيم مع أبيها صفوان الغائب عن البيت لفترات طويلة ومع أخيها أحمد الكسيح والذى يعود يخرج فى الصباح الباكر ويعود ليلا ومع خالتها أم حامد والتى غاب عنها ابنها حامد فى العراق منذ عدة سنوات وتنتظرعودته ناظرة الى القمر السابح فى السماء وكأنه معادل لابنها الغائب ، كانت أم هاشم تحب الراوى وترتاح وتأنس به كأخيها وكأبيها صفوان وتحدثه بأنها لو تزوجت تتمنى أن تنجب طفلا مثله وتسميه الحسين ، وهو ينظر إليها بحب وبمزيج من الوجد والعشق ، يشتهيها ويحلم بها كأنثى مكتملة الانوثة وكملكة للجمال الملائكى الطهور " لاحت بملامحها الفاتنة المثيرة وقت أن تدلت بثدييها لتضعهما بخفة وغنج فوق برواز النافذة وأنا المشدوه بما أرى ، أخترق جسدها الممشوق وهى تغلق الشباك ص35... أشتم رائحة ونس ونور يسرى فى الحواس بنشوة تتجلى بروحى ص53" ، يغار عليها من ممدوح الكواء الذى ينظر إليها بإشتهاء وهى كذلك تحادثه بغنج ودلال لعله يتزوج منها ويوهمها بالزواج ، وكم حذرها الراوى منه ومن نظراته الشريرة إليها حتى وقعت الواقعة واستطاع ممدوح الكواء تتبع أم هاشم بمسجد البازات بعد صلاة الجمعة وخلو المسجد من المصلين من أن يدخل ميضة السيدات والتى كانت تملأ بها القلل وأحكم غلق الباب ورغم صراخها ومقاومتها وطلب استغاثتها من الراوى والناس إستطاع فى مشهد مريع إغتصاب أم هاشم وفض بكارتها بالقوة وإحداث جروح فى سائر جسدها بعد مقاومتها له وصراخها دون مجيب أو منقذ وعجز الراوى عن انقاذها منه لصغر سنه وإحكام إغلاق باب الميضة ، وعند عودتها للبيت منهكة ويائسة قامت باحراق نفسها خوفا من الفضيحة والعار الذى لحقها ، ولا يزال يسمع الراوى تأنيبها له مما أدى إلى إنهياره نفسيا وعصبيا ولا يزال يحلم بضرب المكوجى ببلطة تحملها إحدى شخصياته الخمسة الموجودة بداخله .
اكتشف الراوى خلاصه من العذاب الذى سببه موت أم هاشم أثناء أدائه امتخان اللغة العربية فى موضوع التعبير والذى كان " اكتب عما تراه فى الحياة ، عما تحب وتهوى ، عن ما يعجبك ومالا يعجبك ...سأكتب عن حياتى ، عن والدىّ ، عن أمى الصديقة ، عن أم هاشم ، عن هؤلا الخمسة الذين يسكنوننى " وظل يستعيد كلمات أكتب ، استعيد ما جرى ، ومن هنا كانت الكتابة بمثابة مطهر من جحيم الذكريات ومشفى من الآلام المفرطة والهواجس والخيالات التى اجتاحته بعد أغتصاب وموت أم هاشم .
ثمة إشارات لأحداث قومية سياسية وعسكرية وفنية حدثت فى مصر اتخذها الراوى كعلامات وتأريخ على مرور الزمن بالراوية وقد مزجت الأحداث القومية بالاحداث الشخصية للراوى ، فقد ولد الراوى قبل حرب 67 " وعند قيام الحرب "أبى يزفر ويسب الدين للحرب ويلعن ناصر وعامر " و السائق حسن جنزير يزعق وحده فى هول ويردد " ستة وخمسين تانى يا ولاد الكلب " مشيرا الى بور سعيد التى دُمرت مرتين فى حربين متتاليين 56 و67 ، وبعد الهزيمة انتقل الراوى وأسرته الى حارة سعيد بمدينة طلخا وثم إشارة إلى فيلم شهير اسمه شئ من الخوف والذى عرض عام 1969والذى كان يعرض بعبد الناصر بعتريس وكان الراوى يشبه أمه بشخصية فؤادة فى هذا الفيلم، وأشارت الرواية كذلك الى وفاة الرئيس جمال عبد الناصرعام1970وجنازته المهيبة بملايين المصريين مرددين " ياجمااااال ياحبيب الملايين " ، ثم موت عبد الحليم حافظ عام 1977 وانتحار كثير من الفتيات حزنا عليه ، ثم الاشارة إلى معاهدة السلام مع اسرائيل وكانت فى عام 1979 .
هناك شخصيتان توقفت أمامهما أولهما شخصية عم عابدين تلك الشخصية المعطاءة دائما فى كل وقت وحين للمحافظة على أعراض النساء من المتعرضين لهن تقول له الصديقة " كن قريبا من البنات يا عابدين " ، وهى شخصية ترمز إلى الضمير الوطنى وطاقة الامل والنور إذا إدلهم الظلام فى الوطن ، أم الشخصية الثانية فهو" فهمى المخبول الذى لم يستطع تحمل قيام الحرب تقول أم هاشم مسكين من بعد الحرب وهو على هذا الحال ، وهو مقابل لشخصية عم عابدين الشخصية الصلبة المعطاءة وهذا يظهر غنى الرواية بالشخصيات الدالة .
كان أسلوب السرد فى الرواية مشهدى أشبه بالمشاهد السينمائية حيث استخدم الكاتب التقنيات السينمائية بحرفية واقتدار مثل تصوير المشاهد والفلاش باك واسترجاع الماضى والقطع بين المشاهد( المونتاج) ، وعلى سبيل المثال مشهد أغتصاب أم هاشم من ممدوح المكوجى بميضة المسجد هو مشهد سينمائى بامتياز به الصراخ والحركة والمقاومة والجروح والدماء ، ومشهد الاقامة فى فصول المدرسة حيث تم تسكين عشرة أسر بكل فصل ووضع الملايات كحاجز بين الأسر مشهد سينمائى بامتياز أيضا .
كان تقنيات الاسترجاع و حديث النفس ( المنولوج الداخلى) تقنيات رئيسية فى الرواية منحتها الحداثة والجاذبية والتشويق ، عبر الراوى بضمير المتكلم ولكنه أعطى لبعض الشخصيات مساحة للتعبيرعن نفسها بأصواتها مثل الصديقة وأم هاشم وأبيه وعم حسنين وغيرهم .
أما اللغة فقد كانت تعبيرية فائقة محملة بالحزن والألم وهواجس البطل وكانت الجمل قصيرة ، كما كثر التعبير بالفعل المضارع لاستحضار الحدث أمام القارئ ، كانت اللغة جمالية مستخدمة مظاهر الطبيعة مثل السماء والشمس والقمر والنجوم والغمام والمطر والرياح والبرق والطيور والغربان وغيرها ، كما عبرت الرواية بالغناء والأمثال الشعببية عن الشعور الوجدانى للشخصيات " ياحمام روح قوام لحبيبى ، ياحمام دا الغرام زود لهيبى "
أما الحوارفكان دالا ومعبرا عن الشخصيات وبلغتها وكان أغلبه بالعامية وكان فى بعض الأحيان طريفا وبه مفارقة مما كسر من حدة الحزن فى الرواية وأدخل على القارئ بعض البهجة فمثلا حوارأم هاشم الى الحسين
-انت بتتكسف يا حسون
ألمح ظلى فى ننى عينيها فتسالنى
هل تعرف الحسون ؟
إنه الطائر فى السماء لا ينزل الارض ابدا
أضحك وتضحك خالتها وتقول فى وداعة
جاءك رفيق ليؤنس وحدتك ص45
والمفارقة فى قول أبيه لزوجته الصديقة
"لولا الصلاة والحشيش ما صطبرت على هذه الرحلة" ص105
حفلت الرواية ببعد روحى عميق فتحدث الراوى عن ابتهالات الشيخ محمد عمران وأثرها على روحه " إلهى إن يكن ذنبى عظيما فعفوك يا إله الكون أعظم" تسقط دمعاتى بغزارة ، كما استشهد الراوى ببعض الآيات القرآنية مثل " والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين" كما استمع الراوى للتلاوة الخاشعة الآتية من الخارج واصفا إياه فى صوت سماوى "وهزى اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا " متذكرا ومشيرا إلى أمه الصديقة .
ختمت الرواية بمشهد حزين بموت الأم ، كما بدأ المشهد الأول بالرواية ، ماتت ، ماتت الصديقة ودخول أبنائها عليها وهى مسجاة يلقون عليها نظرة الوداع " رفرف جسد أمى ، غابت الشمس فى سماء بور سعيد ...."

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى