ملأوا علينا هذه الأيام المسامع وعمَّروها مِنْ كل المنابع بمفهوم (التنمية)، حتى الْتبس الفهْم ولم نعُد نعرف معنى لهذه الكلمة، كيف لا وقد أصبحت عالية التَّردُّد كضربات الصَّنْج بالصَّنْج في الخطب النارية، بينما لا يتنامى على أرض الواقع إلا الذي على بالي وبالك.. يؤجج المواجع، تكاد هذه التنمية الكاذبة تطوِّق بحبل قصير في عقدة واحدة، كل ما ينْتظِم المجتمع سياسياً واقتصادياً وحقوقياً وثقافياً، والحقيقة أن العقدة الأعمق، هي ما يتغرَّزُ في أنفس تُغرِّرُ بمشاعرها التنمية، هل ثمة عنفٌ أفظع من خطاب يؤسس لعلاقة كالتي بين الجار والمجرور.. ولكن إلى الهاوية !
لا أعْرف أنْ أتَحايل على الكلِمات لِأُقُوِّلَها ما لا يَحْتمِلُه واقع الحال، لا أعْرِف كيف أتحدَّثُ عن التَّنمية الثقافية والنَّبْتة لا تنمو بدون بذور في تُرْبة خصبة، يجب الإقْرار أننا نعيش في وسط لا ثقافي فقير، أوَ ليس من مظاهر الثقافة بالمنظور الكلاسيكي، رواج حركة الكتاب ومُنْتديات السينما والمسارح ومعارض الفُنون والمتاحف والأدب والموسيقى إلى آخر الطرب.. إنَّ هذه العناصر التي تُشكِّل مَظْهراً حضارياً في السُّلوك الاجتماعي، أصبحت للأسف ضَرْباً من النُّوسْطالجيا الذي يَسْتدِرُّ أدْمُع الحنين للزمن الجميل، لقد طُوِيت القاعات على شساعتها وانفتحت الحواسيب على ضيْقها، هنا المِنَصَّات الإلكترونية تَعْرض أحدث الأفلام المُقَرْصَنة، تُوفِّر عناء التنقل وتحْفَظ الجيب من الجفاف والتَّمَحُّل، هنا روتيني اليومي تحت الحزام ..هل ثمّة ما يَسْتحق الفُرْجة بجمهور غفير أفْضل من الاطِّلاع على أسرار البيوت، هنا شبكة (تيك توك) خشبة مفتوحة للجميع، تتراوحُ أنْشِطتُها بين استعراض المواهب واقتراف المصائب، ولكن حين يدخل قِطٌّ في الخَط يتفوَّق بعدد المُشاهدات واللايكات، لوْ عاش «جورج أورويل» في زمننا الأغْبر، لأعاد كتابة «مزرعة الحيوان» بعد أن اتَّسَع الإسطبل وشَمَل الإنسان !
هل يجِب التَّنكُّر لهذه الأشكال التعبيرية الإفتراضية ونُسْقِطها من حساب الشَّأن الثقافي، أوَ ليس تُساهِم بقسْطٍ وفير في الناتج الخام من الاقتصاد الوطني، فهي وكما يَعْلم أبسط بائع للهواتف الغبيَّة، وثيقةُ الصِّلة بقِطاع الاتصالات التي تجاوزت السلكية واللاسلكية إلى الأنترنيتية، إنَّ هذه الثَّقافة الجديدة والتي تزيد في تعميق نظام التَّفاهة، تُدِرُّ من الأموال في الدقيقة مواسير غير مُنْقطِعة الصَّبيب، هنا تَكْمُن التنمية الثقافية بكل أوزانها سواءً الثقيلة أو الخفيفة، وقدْ تظهر عائداتُها حتى لا أقول نِعْمتُها على الفرد في ظرف مقْطَع فيديو على الانستغرام أو فيسبوك، إنّها التنمية الثقافية التي لا تسْتدعي من المواطن الإنْفاق لِيُلبِّي حاجياته الروحية والفكرية، بل ثمة من الخبراء من يُدْرِج هذا القَدَر الحتْمي في إطار «الاقتصاد الرقمي»، رغم عشوائيته الأشْبه بالسَّكن الذي لا يخضع لهندسة أو تصميم، فقط يطفو على السَّطْح العمومي كيف ما اتَّفَق، ولا يهمُّه وهو يُشْبعُ النوازع المكبوتة أنْ يُلوِّث السمع والبصر، لا يُهمُّه أن يُعمِّمَ التَّشابُه ليتنامى بأُحادية التفكير قطيع البقر !
ومِمَّا يزيد في كساد السوق الثقافية وبَوَارها على أرض الواقع، عدم تفعيل المساطر القانونية التي تكْفل الحُقوق للمشتغلين في صناعة مُخْتلف الاقتصاديات الثقافية، أغلب أدبائنا ومفكرينا وفنانينا مِمَّن يَلُوحون كالأنجم في السماء، سُرعان ما ينطفئون في أول أزمة صحية، ويكتشف الجميع أنَّهُم فقراء لا يمتلكون حتى مصاريف العلاج، كيف إذاً يمكن التَّشَدُّق باقتصاد الثقافة في البلد، ونحن لا نتوفَّر على إطار قانوني صريح يُنظِّم كل الأشكال التعبيرية في مِهنٍ تحْظى بالاعتراف الرَّسْمي، هل ثمة من يحْمل مهنة كاتب أو مُمثِّل أو فنان تشكيلي في بطاقته الوطنية، كيف تتحقَّق التنمية الثقافية ومَنْ يُنْتج أشكالها التعبيرية نَعتبر إنجازه مَهْما كان عظيماً يُشرِّف البلد، مُجرَّد هِواية لا تُغْني ولا تُسْمِن من جوع، لا أنْكر أنَّ مُبدعينا شبعوا حتَّى التُّخْمة من خطاب الألْقاب المعْسُول، فهذا المفكر العظيم، وتلك الفنَّانة القديرة، وذاك الأديب الأريب الكبير.. وكل هذا وتلك وذاك لنْ يُفيد إلَّا في تضْخيم الرأسمال الرمزي، قد يُنْعِش القلب بالزَّهْو المُؤقَّت ولكنه لا يَصِل للجيب !
يُقال إنَّ الشّيطان يَكْمن مُتربِّصاً في التفاصيل، وأقُول إنَّ نفْس الشَّيطان ينْتعِشُ حيث يوجد انحِلالٌ في القِيم، يُشجِّع الانتهازي والوصولي والمُتسلِّق، على حساب المُثقَّف الحقيقي الذي ينْأى بنفسه عن مُناخٍ أفْسَدتْه الشُّبُهات، يُوثِر التَّواري في الظِّل على أنْ يحْترِق، كيف لا والوضْعُ الثقافي يشْتغِل في ظروف غامضة بدون قوانين تكْفل الحقوق والواجبات بين جميع الأطراف، لا يُمْكن أن نتبيَّن ولو في وضَح النهار، الخيْط الناظم بين مُنْتِجي الثقافة أو مُسوِّقيها أو مُسْتهلِكيها بالصُّدفة، من أينَ مع هذا الجُمود المُلْتبِس حتى لا أقول البرود العاطفي، يُمْكن أن ترتعش عجلة التَّنمية الثقافية ولو بأبْسط حركة، عِلماُ أنّ مفهوم التنمية في نشْأته الأولى، كان انعكاساً لحركة التعليم العمومي والناس والثقافة، هكذا تتجاوز التنمية الثقافية حدود التسمية، تتجاوز الخطاب السياسي الذي يجعلها مُناسباتية جوفاء، تطفو خفيفة كالزيت على سطح نشرات الأخبار، وغيرها من التقارير الإعلامية، لقد أصبحت كلمة (التنمية) عندنا قويَّة التَّردُّد حتى في بعض الأغاني الوطنية، وغالباً ما تُسْعِف الألسنة على التودُّد لِكسْب بعض الرهانات السياسية المُؤقَّتة، وما شِدّة تكرار هذه الكلمة في واقع موبوء يُكرِّس التخلُّف الاجْتِماعي، إلا تعبير اليائس عن الأزمة !
....................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 20 أكتوبر 2022
لا أعْرف أنْ أتَحايل على الكلِمات لِأُقُوِّلَها ما لا يَحْتمِلُه واقع الحال، لا أعْرِف كيف أتحدَّثُ عن التَّنمية الثقافية والنَّبْتة لا تنمو بدون بذور في تُرْبة خصبة، يجب الإقْرار أننا نعيش في وسط لا ثقافي فقير، أوَ ليس من مظاهر الثقافة بالمنظور الكلاسيكي، رواج حركة الكتاب ومُنْتديات السينما والمسارح ومعارض الفُنون والمتاحف والأدب والموسيقى إلى آخر الطرب.. إنَّ هذه العناصر التي تُشكِّل مَظْهراً حضارياً في السُّلوك الاجتماعي، أصبحت للأسف ضَرْباً من النُّوسْطالجيا الذي يَسْتدِرُّ أدْمُع الحنين للزمن الجميل، لقد طُوِيت القاعات على شساعتها وانفتحت الحواسيب على ضيْقها، هنا المِنَصَّات الإلكترونية تَعْرض أحدث الأفلام المُقَرْصَنة، تُوفِّر عناء التنقل وتحْفَظ الجيب من الجفاف والتَّمَحُّل، هنا روتيني اليومي تحت الحزام ..هل ثمّة ما يَسْتحق الفُرْجة بجمهور غفير أفْضل من الاطِّلاع على أسرار البيوت، هنا شبكة (تيك توك) خشبة مفتوحة للجميع، تتراوحُ أنْشِطتُها بين استعراض المواهب واقتراف المصائب، ولكن حين يدخل قِطٌّ في الخَط يتفوَّق بعدد المُشاهدات واللايكات، لوْ عاش «جورج أورويل» في زمننا الأغْبر، لأعاد كتابة «مزرعة الحيوان» بعد أن اتَّسَع الإسطبل وشَمَل الإنسان !
هل يجِب التَّنكُّر لهذه الأشكال التعبيرية الإفتراضية ونُسْقِطها من حساب الشَّأن الثقافي، أوَ ليس تُساهِم بقسْطٍ وفير في الناتج الخام من الاقتصاد الوطني، فهي وكما يَعْلم أبسط بائع للهواتف الغبيَّة، وثيقةُ الصِّلة بقِطاع الاتصالات التي تجاوزت السلكية واللاسلكية إلى الأنترنيتية، إنَّ هذه الثَّقافة الجديدة والتي تزيد في تعميق نظام التَّفاهة، تُدِرُّ من الأموال في الدقيقة مواسير غير مُنْقطِعة الصَّبيب، هنا تَكْمُن التنمية الثقافية بكل أوزانها سواءً الثقيلة أو الخفيفة، وقدْ تظهر عائداتُها حتى لا أقول نِعْمتُها على الفرد في ظرف مقْطَع فيديو على الانستغرام أو فيسبوك، إنّها التنمية الثقافية التي لا تسْتدعي من المواطن الإنْفاق لِيُلبِّي حاجياته الروحية والفكرية، بل ثمة من الخبراء من يُدْرِج هذا القَدَر الحتْمي في إطار «الاقتصاد الرقمي»، رغم عشوائيته الأشْبه بالسَّكن الذي لا يخضع لهندسة أو تصميم، فقط يطفو على السَّطْح العمومي كيف ما اتَّفَق، ولا يهمُّه وهو يُشْبعُ النوازع المكبوتة أنْ يُلوِّث السمع والبصر، لا يُهمُّه أن يُعمِّمَ التَّشابُه ليتنامى بأُحادية التفكير قطيع البقر !
ومِمَّا يزيد في كساد السوق الثقافية وبَوَارها على أرض الواقع، عدم تفعيل المساطر القانونية التي تكْفل الحُقوق للمشتغلين في صناعة مُخْتلف الاقتصاديات الثقافية، أغلب أدبائنا ومفكرينا وفنانينا مِمَّن يَلُوحون كالأنجم في السماء، سُرعان ما ينطفئون في أول أزمة صحية، ويكتشف الجميع أنَّهُم فقراء لا يمتلكون حتى مصاريف العلاج، كيف إذاً يمكن التَّشَدُّق باقتصاد الثقافة في البلد، ونحن لا نتوفَّر على إطار قانوني صريح يُنظِّم كل الأشكال التعبيرية في مِهنٍ تحْظى بالاعتراف الرَّسْمي، هل ثمة من يحْمل مهنة كاتب أو مُمثِّل أو فنان تشكيلي في بطاقته الوطنية، كيف تتحقَّق التنمية الثقافية ومَنْ يُنْتج أشكالها التعبيرية نَعتبر إنجازه مَهْما كان عظيماً يُشرِّف البلد، مُجرَّد هِواية لا تُغْني ولا تُسْمِن من جوع، لا أنْكر أنَّ مُبدعينا شبعوا حتَّى التُّخْمة من خطاب الألْقاب المعْسُول، فهذا المفكر العظيم، وتلك الفنَّانة القديرة، وذاك الأديب الأريب الكبير.. وكل هذا وتلك وذاك لنْ يُفيد إلَّا في تضْخيم الرأسمال الرمزي، قد يُنْعِش القلب بالزَّهْو المُؤقَّت ولكنه لا يَصِل للجيب !
يُقال إنَّ الشّيطان يَكْمن مُتربِّصاً في التفاصيل، وأقُول إنَّ نفْس الشَّيطان ينْتعِشُ حيث يوجد انحِلالٌ في القِيم، يُشجِّع الانتهازي والوصولي والمُتسلِّق، على حساب المُثقَّف الحقيقي الذي ينْأى بنفسه عن مُناخٍ أفْسَدتْه الشُّبُهات، يُوثِر التَّواري في الظِّل على أنْ يحْترِق، كيف لا والوضْعُ الثقافي يشْتغِل في ظروف غامضة بدون قوانين تكْفل الحقوق والواجبات بين جميع الأطراف، لا يُمْكن أن نتبيَّن ولو في وضَح النهار، الخيْط الناظم بين مُنْتِجي الثقافة أو مُسوِّقيها أو مُسْتهلِكيها بالصُّدفة، من أينَ مع هذا الجُمود المُلْتبِس حتى لا أقول البرود العاطفي، يُمْكن أن ترتعش عجلة التَّنمية الثقافية ولو بأبْسط حركة، عِلماُ أنّ مفهوم التنمية في نشْأته الأولى، كان انعكاساً لحركة التعليم العمومي والناس والثقافة، هكذا تتجاوز التنمية الثقافية حدود التسمية، تتجاوز الخطاب السياسي الذي يجعلها مُناسباتية جوفاء، تطفو خفيفة كالزيت على سطح نشرات الأخبار، وغيرها من التقارير الإعلامية، لقد أصبحت كلمة (التنمية) عندنا قويَّة التَّردُّد حتى في بعض الأغاني الوطنية، وغالباً ما تُسْعِف الألسنة على التودُّد لِكسْب بعض الرهانات السياسية المُؤقَّتة، وما شِدّة تكرار هذه الكلمة في واقع موبوء يُكرِّس التخلُّف الاجْتِماعي، إلا تعبير اليائس عن الأزمة !
....................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 20 أكتوبر 2022