عمر أبو القاسم الككلي - سرير اللغة، أسرة الواقع.. قصة

الجذر اللغوي الذي تَكون منه مفردة “سرير” وهو “سرر” تشتق منه أيضا مفردات “سر” (جمعها أسرار، ومن معانيها: الجماع وذكر الرجل) و “مسرة” (جمعها مسرات) و ” سرور” (لا جمع لها).

ذلك يتضمن فرضية أن السرير مجال نشاط السر ومسرح السر وأنه مرتبط بالمسرات المولدة للسرور.

وهو قد تكون مرت في حياته أسرار ما ذات علاقة بمسرات (كفضالة الزيت في الخابية) منتجة لسرور ما (كالفاكهة المعطوبة) تتصل بالسرير، أو بما يفترض أن يجري فيه.

ذلك أن علاقته بالسرير علاقة متفردة، عن جدارة..

ففي طفولته وصباه وردح من شبابه، لم يكن ينام على سرير. وكان يحلم بأسرار ومسرات تجري كلها فوق أسرة وثيرة ناعمة غارقة في ضوء خفر وسنان في حجرات مفعمة بعطر رهيف يضع المرء على الصراط الفاصل بين الانتعاش والخدر حتى ليكاد يستشعر رسيس اللذة ولو لم يماسسه جسد، مع شريكات يانعات الثمار عذبات الأسارير سخيات السرائر.

أول علاقة له مع السرير دامت ما يزيد عن شهر وقعت عندما كان في حوالي الثامنة عشر من عمره حين أخذت الدولة لأسباب غير معلنة ، وغير مفهومة بالنسبة له (آنذاك) تلتقط أعدادا من الشباب وتضعهم في ثكنة عسكرية. عندها نام على سرير لم يكن راغبا في أن تدوم علاقته به.

بعد ذلك بسنة أو اثنتين، اتصلت حياته بالسرير في القسم الداخلي بالجامعة. لم يكن يعتني بترتيب سريره، فكان يبدو (كما وصفه في قصيدة له) “كخرابة في عمق الصحراء”، وكان، في مواجهة تعريض أصدقائه، يعلل إهماله هذا بالقول بأن “السرير الفردي نعش وثير، والمرء لا يرتب نعشه، حتى وإن كان وثيرا”. وكان يقول بأن “السرير الفردي زنزانة تحبس الجسد وتشرد الروح”.

من هذا “النعش الوثير” انتقل إلى نعش أقل وثارة.

من زنزانة السرير انتقل إلى سرير الزنزانة.

في الأيام الأولى كانوا ينامون في توقيف الشرطة على حشية لا بأس بحالتها وكفاءتها في الإيفاء بالمطلوب منها.

وعندما ألقوا في السجن لم يمنحوا سوى بطانيتين لكل فرد. كان الوقت في عز الشتاء (شهر 1) و كان السجن يجثم وسط خلاء أجرد. فسواء افترش بطانية وتغطى بأخرى، أو افترشهما معا، أو تغطى بهما الاثنتين، فسيظل ضحية برد شديد يحول بينه وبين النوم، حتى تأتي شمس الضحى – إن أتت – لتبعث في الزنزانة دفئا يتضافر مع دفء البطانيتين في إدخاله في حالة يشملها مفهوم النوم.

في الليلة العاشرة منحوهم فراشا اسفنجيا (و في اللسان: الفراش الزوج، والفراش المرأة، والفراش ما ينامان عليه) . فنام نوما مريحا وعميقا.

عند الفجر، أيقظوهم لنقلهم إلى سجن آخر.

(بعد ذلك سيكتب واحد منهم – خطر له أن يمارس كتابة القصة – قصة عن هذه الرحلة تبدأ بهذه العبارة:

“عند الفجر رحلوا، كان النهار داكنا”)

لما وصلوا السجن الآخر، في نهاية رحلة دامت حوالي ثماني عشرة ساعة قضوها بكاملها تقريبا في “صناديق” ضيقة، وأدخل كل واحد منهم إلى غرفة، فرح بوجود السرير المرتب المغطى بملاءة بيضاء نظيفة وعليه بطانية ومخدة موضوع عليها منشف وإلى جانبه كوميدينو متقادم فوقه صحن وكوب قديمان، كلاهما من البلاستيك، وملعقة. تبول وشرب من الصنبور مباشرة، ثم نزع حذاءه وارتمى على السرير بكامل ملابسه ليستغرق في نوم عميق حتى الصباح.

فيما بعد، علم أن القسم الذي وضعوا فيه كان مخصصا للنساء وأنهن نقلن منه صباح وصولهم.

النساء، إذن، قمن بترتيب الأسرة قبل مغادرتهن.

أخذ يتصور المرأة التي هيأت (له) السرير. شابة (ينبغي أن تكون) ذات جسد زاخر غضر وروح تواقة. لابد أنها فرحت عندما علمت أنها ستهيء السرير (ربما هو ذات السرير الذي كانت تنام عليه) لرجل. لعلها بادرت إلى الاستحمام وتعطرت بما هو متاح ولبست ملابس نظيفة قبل أن تشرع في تهيئة السرير. لابد أنها كانت تتساءل، وهي تقوم بهذه المهمة، أي نوع من الرجال سينام عليه. تتصور شابا وسيما في فورة شبابه متخيلة أنها ستشاركه إياه ولن يضيق بهما.

فتش عن أثر يمكن أن تكون قد تركته في السرير: شعرة مثلا. تشمم المخدة والملاءة عساه يلتقط بقايا رائحتها. نشر جسده على كامل السرير عله يرصد شيئا من أنفاسها ودفئها وطاقة جسدها التي ظل السرير يتشربها مدة طويلة ربما دامت سنوات. من المتوقع أن يمكث هنا طويلا هو الآخر وسيتشرب السرير كثيرا من حرارة وطاقة جسده فيمتزج ما بثه الجسدان. فكر في أن يمنحها اسما نسائيا من الأسماء التي تعجبه. لكن ما نفع الاسم. يكفي أن يسميها بضمير الغائب: هي. أو فليمنحها اسما حركيا. سريريا بالأحرى (يتضمن سرا ومسرة). ليكن اسمها: التي هيأت السرير. إنه اسم منسوب إلى فعل من أفعالها. فعل دخل دورة العالم السري لرجل مضفيا على ظروفه القاحلة رونقا ما. يتصورها تستلقي على سريرها في قسم النساء عازلة نفسها عما يحيط بها تفكر في الرجل النائم الآن على سريرها الذي هيئته لاستقباله. تضطجع على أحد جانبيها تحتضن مخدتها وهي تتمطى، بفعل طاقة شهوتها، بأقصى ما يمكن لجسدها مغمضة عينيها عاضة على شفتها السفلى ضاغطة ساقيها على بعضهما متصورة أنها تشاركه ذلك (هذا) السرير…فتستجيب للخيال وتتفتح براعم الجسد، ويشتد نزيف جراح الروح. (لكأن الروح، وقد أوهمت الجسد وألهته، تتفطر مما اعتراها من ندم).

أصبح، مع الوقت، يحس أن بينهما ما يحوز وجودا خارج دنيا التخيلات والتهيوءات. شيئا يشكل أساسا لعلاقة ممكنة (غير محتملة). صحيح أنهما لا يعرفان بعضهما. لكنهما لا يجهلان بعضهما تماما. فهي تعرف الزنزانة التي تحبس جسده والسرير الذي يحتمله ويمكنها (في ظروف أخرى) أن تأتي إلى إدارة القسم و تقول: أريد مقابلة الرجل الموجود الآن في الزنزانة الواقعة في نهاية الممر الذي على اليسار. فيخرجونه إليها ويتقابلان. وبإمكانه، هو الآخر، أن يذهب إلى إدارة قسم النساء ويقول: أريد مقابلة المرأة التي هيأت السرير الموجود في الزنزانة الواقعة في نهاية الممر الذي على اليسار في القسم الذي أصبح الآن قسم المساجين السياسيين. فيخرجونها إليه ويتقابلان.

بعد ذلك نقلوا إلى سجن آخر كانت أسرة زنازينه كل سريرين فوق بعضهما وكان نصيبه السرير العلوي. كان سطح الأسرة لوحا من المعدن. فظل، لوقت طويل، يستلقي على ظهره في نوم متقطع، خشية أن يسقط أثناء تقلبه وهو نائم. بعدها أصبح يشعر أن بإمكانه أن ينام على سطح مسطرة دون أن يخشى السقوط.

على الحائط، بجانب سريره، كتب “السرير زورق لا يبحر إلا في الأحلام”.

ولكنه، حتى في الأحلام، لم يكن ليبحر.

إذ لم تكن هناك أحلام.

لم تكن هناك، غالبا، غير كوابيس تجعله يصرخ موقظا النائمين معه.

في أفضل الأحوال كانت هناك أحلام كطعام السجن الذي ليس من النادر أن يأتي مالحا أو غير مكتمل النضج أو مختلطا (مخلوطا؟) بالتراب أو بأكثر من صفة من هذه الصفات أو بها جميعا.

كان كثيرا ما يرى في (أحلامه) أنه قد خرج من السجن وأنه يعاد إليه. وصار الآن كثيرا ما يرى في أحلامه أنه أعيد إلى السجن (سجن أقسى وأشد همجية من الأول) ولا يخرج منه. ودائما يتذكر قول ابن سينا عندما أدخل السجن:

دخولي باليقين، كما تراه،

وكل الشك في أمر الخروج.

لكأن عقله الباطن طوح بالرغبات المكبوتة بعيدا، قاصرا وظيفته على كونه محتشدا للمخاوف المنفلتة.

بعد زواجه، صادف أن سرير الزوجية من النوع الذي يتكون سطحه من ألواح مستعرضة سائبة. ولعدم دقة النجارين (المحليين) في ضبط المقاس وقاعدة الارتكاز، كانت الألواح كثيرة السقوط بشكل يقض المضجع.

ومن ألاعيب اللغة ومفارقات الواقع أن ما يمكن أن يكون مقلوب كلمة “سري” ، وهي “رسيس”، تعني، عندما تجيء صفة، “ثابتا”.

وإذن، فحتى السرير الذي كانت علاقته به، إلى درجة ما، باختياره..لم يكن رسيسا.


انتهت يوم 24| 4 | 2001




أعلى