أ. د. عادل الأسطة - "ما تبقى لنا" من يافا: سعاد العامري و"بدلة إنكليزية وبقرة يهودية"

بعد نشر مقالي: "بلبل فلسطين في بيت جدي: النكبة والجنون وزياد خداش" (١٦ / ١٠ / ٢٠٢٢) أخذت أسأل عن صورة عمي للتأكد من أنه كان فيها بصحبة محمد عبد الوهاب أم لا . لم أعثر على الصورة ، فقلت لم يتبق لنا من يافا شيء ، فحتى بيت جدي في حي النزهة ، كما أعلمني أبي الذي زاره بعد ١٩٦٧ مرارا ، وكما أبلغني مواطن نابلسي استأجر غرفة جانبية منه ، جرف وأقيمت على أنقاضه محطة محروقات ، وتذكرت نهاية رواية سعاد العامري " بدلة إنكليزية وبقرة يهودية " المكتوبة في ٢٠٢٠ والصادرة ترجمتها العربية في ٢٠٢٢ . ( وأنا أراجع أرشيف كتاباتي لاحظت أنني كتبت في ملحق الأيام " اليوم الثامن " في ١٢ تموز ٢٠٠١ تحت عنوان " كوشان بيت جدي " ) .
تنتهي الرواية بزيارة سعاد لصبحي الذي صار في العام ٢٠١٨ في ال ٨٨ من عمره ، في غرفته المتواضعة في جبل المريخ في عمان ، وتسأله عن البدلة وعن محبوبته شمس التي صارت في ال ٨٥ وتزوجت من أخيه أمير الذي بقي في يافا ، فيجيبها ، بعد أن أخرج خرقة رمادية مخططة بالأحمر :
- " هاد كل اللي بقيلي من فلسطين "
- " وشو بالنسبة إلى شمس ؟ "
- " صحيح إني ما رجعت شفت شمس بحياتي ، لكن هادا ما بيعني إني ما كنت أفكر فيها طول هاي السنين ..... كل اللي بقدر أقوله إني سعيد إنها ضلت في العيلة ... كل واحد ونصيبه في هالدنيا " .
وقصة صبحي وبدلته ، وكذلك قصته مع شمس ، قصة . فمن هو ؟ وما هي قصته التي بنيت عليها الرواية ؟
على الغلاف نقرأ " رواية مقتبسة عن قصة حقيقية " وقد كتبت باللغة الإنجليزية وترجمتها الكاتبة مع الكاتبة هلا شروف إلى العربية ، وأهدتها سعاد " إلى أبي ، وإلى اللاجئين جميعهم الذين قضوا في الشتات منتظرين العودة إلى الوطن " ، وبعد صفحة الإهداء أوردت الكاتبة الملاحظة الآتية :
" هذه الرواية مبنية على مقابلات شخصية ، أجريتها سنة ٢٠١٨ مع صبحي ( ٨٨عاما ) المقيم الآن في عمان ، وشمس ( ٨٥عاما ) المقيمة في يافا " .
وتبدأ تقص قصة صبحي ابن الخامسة عشرة الذي عمل في كاراج مصطفى الميكانيكي ابتداء من تموز ١٩٤٧ وتنهي قصها بلقائها مع شمس في يافا في كانون الثاني ٢٠١٨ ، ويتركز القص على فترات زمنية محددة وتكون هناك فجوة زمنية طويلة جدا ما بين العامين المذكورين لا نعرف فيها الكثير عن حياة صبحي في المنفى وشمس في يافا ، وتمتد هذه الفجوة الزمنية منذ ٥٠ القرن ٢٠ إلى العام ٢٠١٨ ، فلا نقرأ عن ستين عاما تقريبا من حياة كل منهما إلا أقل القليل ، قياسا لما نقرؤه عن حياتهما في العام ١٩٤٧ وعام النكبة ١٩٤٨ والأعوام القليلة التي تليه .
صبحي يختار أن يكون ميكانيكيا في كاراج مصطفى ، لا مزارعا كأبيه اسماعيل ولا صيادا كجده .
في موسم النبي روبين اليافاوي المشهور يحب صبحي شمس ابنة خليل السقا المزارع التي تصغره بثلاثة أعوام ، وهي من سلمة ، ويتخذ قراره بالزواج منها ، ولكن الأحداث تتسارع وتحدث النكبة وتتشتت العائلات الفلسطينية ولا يتزوجان ، فهو يهاجر وهي تقودها الظروف إلى البقاء في يافا ، فتتزوج من أخيه أمير الذي قدرت له الأحداث أن يظل في يافا .
ما هي قصة البدلة الانكليزية والبقرة اليهودية ؟
عندما كان صبحي ميكانيكيا في الكاراج انتدبه معلمه مصطفى ليذهب مع الخواجا العصامي ميخائيل إلى بيارته ليصلح له ماطور ضخ المياه ، ويعده ميخائيل بأنه إن نجح في إصلاح المضخة أن يكرمه ببدلة انكليزية يكون ثمنها ٨ جنيهات فلسطينية يوم كانت أجرة صبحي في اليوم ٣٠ قرشا ، ويصلح صبحي المضخة فينقذ موسم البرتقال لميخائيل ويحصل على البدلة التي يلبسها متباهيا بها ، مقررا أن تكون بدلة عرسه يوم يتزوج شمس ، ويظل تفكيره منحصرا في البدلة ذات الصوف الإنجليزي الفاخر وفي محبوبته شمس ، وينتهي حلمه بالإخفاق فلا يتحقق .
وأما قصة البقرة اليهودية التي اقترن دالها في العنوان بدال البدلة فقصتها قصة قررت مستقبل شمس وأخواتها .
في خضم أحداث النكبة وما نجم عنها من تشرد وشتات وجوع يسرق بعض الفلسطينيين ، ومنهم خليل السقا والد شمس ، بقرة من مستوطنة ويذبحونها ويطعمون الناس الجياع ، وتكون النتيجة اعتقال اليهود من ذبحها ، وهكذا تجد شمس نفسها وأختيها بلا أب وبلا أم أيضا ليرعاهما الشيوعيان عبد المصري ورفقة اليهودية حتى خروج خليل من السجن وبحثه عن بناته ولقائه بهما وتزويج شمس من أمير شقيق صبحي ، وتستقر شمس في يافا وتعمر وتعيش مع أحفادها .
من خلال الرواية التي تروى بأسلوب الحكاية المشوق نتعرف إلى يافا وحياة سكانها قبل العام ١٩٤٨ ، ويافا هي مدينة والد سعاد المربي محمد أديب العامري ، ويبدو أن إلمامها بتفاصيل حياة المدينة إلماما يقترب من إلمام من عاش فيها يتكيء بالدرجة الأولى على أحاديث والدها وذكرياته في يافا التي أقام فيها وهجر منها وزارها بعد هزيمة ١٩٦٧ ، وعندما زار بيته لم تأذن له المرأة اليهودية بدخوله وأغلقت الباب في وجهه وهددته باستدعاء الشرطة إن ألح وكرر الطلب .
تأسرك سعاد بأسلوبها في القص وتزودك ببعد معرفي عن يافا وأهلها وموسم النبي روبين فيها ، وهي بذلك تواصل مشروعها الكتابي الذي بدأ بكتابها " شارون وحماتي " و" مراد مراد " ف " دمشقي " وإذا كانت الأخيرة عن دمشق مدينة أمها فإن " بدلة إنكليزية.. " عن مدينة أبيها التي جاورتها مدينة تل أبيب ، وما تزودنا به من كتابة عن المدينة الفلسطينية قبل ١٩٤٨ هو ما افتقدته الرواية الفلسطينية التي كتبها الرواد ونشروها قبل ١٩٤٨ .
كانت يافا مدينة مزدهرة فيها المقاهي ودور السينما ولم يكن أهلها منغلقين ، بل إن قسما منهم كان منفتحا على الجيران اليهود وهو ما قرأناه في قصة نجاتي صدقي " العابث " وما كان أبي يرويه لي .
المساحة محدودة والكتابة تطول ولعلني أقارب العلاقات الأسرية في الرواية في مقالات لاحقة . لعلني !
الاثنين
١٦ / ١٠ / ٢٠٢٢ .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى