هل الإنسان مسير أم مخير مجبور مشهور ام مختار غير مجبور، وما الدليل على أقوال كلا الفريقين؟
سؤال قديم جديد متجدد يلوح للإنسان في كل عصر، وفي كل مصر، وقد لغط الناس فيه كثيراً، وتكلموا عليه مليا، فالنزاع في هذا الصدد مشهور، والعجيب أنه لايزال مثاراً على الساحة حتى يومنا هذا.
ان كبار الأئمة والفلاسفة، والاعلام المرموقين المبرزين قد بسطوا القول لكن لانزال في البئر بقية لنازح.
لكن وجهة الخطر الفادح الجسيم الذي ينطوي عليه هذا اللغط هو اتصال هذا اللغط والتخليط بالعقيدة مما يترتب عليه من الأخطار البليغة ما لا حصر له من الفساد والإفساد والتغليظ المخوف منه على سلامة الاعتقاد وسلامة المصير.
القول الفصل، وفي ايجاز شديد أن الانسان مسير في أشياء وأحوال. وهو مختار في أشياء وأحوال أخرى، وليس مسيرا على الاطلاق في كل الأحوال، ولا مختار كل الأحوال.
وأراد بعض المتكلمين أن يقرب المسألة فقال : إن الانسان مخير فيما يعلم، مسير فيما لا يعلم، وهذا الزعم واسع فضفاض لا يسوغ القول به، لأن قاعدته محصورة غير مطردة، وفي تعميمها خطر فادح، وخطأ فاحش.
ثم أراد أن يهذب هذا القول فقال : ولما كان علمه قليلا - بنص القرآن - كان مسيرا في الأغلب أكثر منه مختاراً.
وهذا القول الفلسفي المنطقي مقبول وسائغ على سبيل التندر والفذلكة، لكنه يجافي الحقيقة، بل ويعارضها تماما.
من المتعذر تماماً بل من المحال الزعم بأن الانسان مخير، وكذلك القول بأنه مسير لكن الحق أنه مسير في أشياء مخير في أخرى ولو كان مسيرا في كل الأحوال لما ساغ ولما جاز ابدأ أن يكون مسؤولا عن شيء إذ إن الاختيار بين البدائل هما مناط المسؤولية .. فلا يمكن أبدأ بحال أن تكون مسؤولا عن شيء قارفته أو ارتكبته عن قسر وارغام إذ إن الارغام والاستكراه يطرحان المسؤولية عن المقارف والمرتكب للفعل.
وهذه من أمهات القواعد والأصول الشرعية المفروغ منها .. ولذلك كان الانسان حرا في أن يعتقد ما يشاء، قال تعالى : * لا إكراه في الدين فإن مهمة الرسل البلاغ والتبيين، والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة في غير قهر ولا فسر ولا استكراه ولا حمل على دين الله عنوة ...
إنما بالاختيار الحر المطلق، وذلك حتى يكون الانسان مسؤولا مسؤولية كاملة عن اختياره الذي انتهى اليه بمحض ارادته من غير حمل عليه.
ولا تصح أبدأ مساءلة المكره على أمر لم يكن أراده، لأن في محاسبته ظلما وعدواناً صارخا .. وهذا الظلم تتنزه عنه الشريعة السمحة الغراء.
إن الله سبحانه وتعالى أجل وأعظم وأكرم من أن يحاسب عباده على ما لا يطبقون، وكذلك على ما أجبروا عليه ولم يكونوا متعمدين له، قاصدين إياه.
المكلف حر حرية مطلقة في أن ينظر إلى المرئيات أو لا ينظر، وكذا حر في أن يأكل أو لا يأكل، ويشرب أو لا يشر فكل فعل من هذه الأفعال مرهون برغبته الذاتية في ذلك.
لكن لا سيطرة للانسان على قلبه ولا رئتيه، فهو عند النوم وهو الوفاة الصغري، يكون غائباً عن الوجود تماما، منفصلاً عن الوجود، ومع هذا فإن قليه لا يتوقف عند النوم، وكذلك الرئتان وعملية التنفس لا يمكن أن تتوقف لحظة واحدة، كذا الكبد يمارس عمله في النوم واليقظة على حد سواء في اختزان الدهون، ومعادلة السموم، وتخليق كثير من المواد البيولوجية الحساسة ذات الأثر الظاهر في حياة الكائن، الأمر نفسه يحدث للكلى والجهاز البولي والمعدة والأمعاء والجهاز الهضمي وغيره من الأجهزة والأعضاء الحيوية النشيطة، التي لا حياة بدونها، ومع توقفها تتوقف الحياة.
قال تعالى : * إلا من أكره وقلبه مطمئن بالایمان » «سورة النحل - الآية 106 ... قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر إذ عذبه المشركون عذابا أليما حتى أعطاهم ما أرادوا منه مكرها مقهورا عليه، فقال الناس : إن عماراً كفر .. فقال رسول الله ﷺ : إن عماراً مليء إيمانا من فرقه إلى قدمه.
واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله ، وهو يبكي، فقال له رسول الله ﷺ : كيف تجد قلبك قال عمار : مطمئنا بالايمان، قال : إن عادوا فعد. (انظر التفسير الكبير للفخر الرازي ١٢١/٢٠ بتصرف).
وقال رسول الله ﷺ «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقد أخرجه الإمام السيوطي في الجامع الصغير، عن ثوبان ٤٤٦١/٢۷۳/۱ وصححه، فالاستكراه موجب للعفو.
كذا قال عليه الصلاة والسلام : «رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق (وفي رواية : عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرا) وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وقد رواه أبو داود في السنن والحاكم في المستدرك والامام أحمد في المسند، والسيوطي في الصغير ۲۷۳/۱/٤٤٦٣ ومؤدي هذا الحديث الشريف أن المجنون (غائب العقل) مثله تماماً مثل الطفل الذي لم يدرك الحلم، مثل النائم حيث لا قدرة له على الاختيار بين البدائل، من ثم يفتقد موجب ذلك حيث ان مدار الاختيار على العقل ومتى غاب العقل تعطلت هذه الخاصية فيه، ومتى عجز عن ذلك كان معذوراً ولم يكن مأخوذاً بجرمه ولا مجزيا بجريرته .. وهذا من حسن الشريعة الاسلامية وعدلها وقسطها.
يعمد كثير من الناس إلى القول بالتسيير والجبر في كثير من المسائل للهروب من المسؤولية والتحرر من التكليف مستدلين باستدلات خاطئة، ويقيسون بأقيسة فاسدة، ومحتجين بالقضاء والقدر .. وفي كل هذه الأحوال يصادمون الحق، ويمرقون من سبيل النجاة بتأويلات متكلفة، وتبريرات مدخولة فاسدة.
إن الاحتجاج بالقدر جريمة نكراء والقول بالتسيير لا يختلف عنها شيئاً، وفي كلا القولين إضرار فادح وخطر جسيم على عقيدة الانسان، بل على مصيره وعلى درجته عند الله تعالى.
إن وجهة الفساد أن الانسان المحتج بالقدر وكذا بالتسيير يستطيع أن يفعل ما يشاء كيفما يشاء وقتما يشاء من غير حسيب أو رقيب، وعند سؤاله ومحاسبته على ذلك يقول : لقد كان قدراً أن أفعل ذلك وليس لي من الأمر شيء .. ولو أراد الله ألا أفعل ذلك ما فعلته .. وهذا القول المدهون، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب لانطوائه على التحلل من التكليفات، والتحرر من الضوابط الشرعية المرعية، بهذه الدعوى الباطلة المدخولة.
ولو أن الأمر كان مصروفاً وموقوفاً على أفناء الناس وعوامهم ودهمائهم لكان الأمر أيسر، وأهون نسبيا، ولكن نقرأ في كتب بعض المؤلفين القدامي شيئا من هذا، وهم من العلماء المتبوعين.
ولا نستطيع أن نقدح في علم عالم ولا في اجتهاده إلا بدليل بات مقطوع به.
لكن على الجملة لابد أن يكون العالم الذي يحتج بشيء من هذا ـ لابد أن يكون متأولا، وبهذا التأويل يكون معذورا والمجتهد المخطىء لا يحرمه الله سبحانه وتعالى من أجر؛ لكن كل الذي نرجوه ونطمع فيه ونطمح اليه ألا يكون التأويل مسلكا لكل من يريد التحول عن الحقيقة إلى غيرها بغير موجب ولا مسوغ لذلك .. إذ إن التأويل مشروط ومقيد وليس مطلقاً وهو لا يكون إلا إذا اقتضته ضرورة ملحة .. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الحمل على الظاهر مستحيلاً تماماً.
لذلك فإننا نستطيع القول بأن الانسان له مطلق الرأي والحرية في اختيار عقيدته، وهذه الحرية مكفولة لا يقيدها قيد، ولا يحصرها حاصر.
قال تعالى : * وما جعل عليكم في الدين من حرج - سورة الحج - الآية ۷۸». وقال أيضا : * وهـديـنـاه الـتـجـدين - سورة البلد - الآية 10.
والنجدان : هما طريقا الخير، والشر، على ما ذهب اليه ابن مسعود والحسن ومجاهد وابن زيد، والمشهور عن ابن عباس رضى الله عنهما ـ وقد روى ابن عباس في رواية أخرى عنه ووافق عليها علي وابن المسيب والضحاك وهي أن النجدين هما الثديان، والأول أيده ابن قتيبة وهو الراجح والله أعلم (راجع القرطبي ٦٥/٢٠ والطبري ١٢٧/٣٠ والبحر المحيط لأبي حيان ٤٤٦/٨) وقال ابن مسعود : (النجدين) : الخير والشر، كقوله تعالى : « إنا هديناه السبيل إما شاكرا واما كفورا - سورة الانسان - الآية ٣، (انظر مختصر ابن کثیر ٦٤١/٣).
هذه الآيات ونظائرها تدل دلالة قاطعة على أنك أيها الانسان مجزي بعملك ان خيرا فخير، وإن شرا فشر، وما أبرىء نفسي .. بل إنني لأنصح نفسي وأبدأ بها وإياكم أن نستعين بالله ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سیئات أعمالنا، ونتوكل عليه، ونلوذ برحابه ونضوي إلى جنابه فمن استعان به أعانه، ومن استعاذ به أعاذه، ومن لجأ اليه فهو حسبه وحسيبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكملة المقال فى التعليقات
اللهم تقبل من أبى
صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين
سؤال قديم جديد متجدد يلوح للإنسان في كل عصر، وفي كل مصر، وقد لغط الناس فيه كثيراً، وتكلموا عليه مليا، فالنزاع في هذا الصدد مشهور، والعجيب أنه لايزال مثاراً على الساحة حتى يومنا هذا.
ان كبار الأئمة والفلاسفة، والاعلام المرموقين المبرزين قد بسطوا القول لكن لانزال في البئر بقية لنازح.
لكن وجهة الخطر الفادح الجسيم الذي ينطوي عليه هذا اللغط هو اتصال هذا اللغط والتخليط بالعقيدة مما يترتب عليه من الأخطار البليغة ما لا حصر له من الفساد والإفساد والتغليظ المخوف منه على سلامة الاعتقاد وسلامة المصير.
القول الفصل، وفي ايجاز شديد أن الانسان مسير في أشياء وأحوال. وهو مختار في أشياء وأحوال أخرى، وليس مسيرا على الاطلاق في كل الأحوال، ولا مختار كل الأحوال.
وأراد بعض المتكلمين أن يقرب المسألة فقال : إن الانسان مخير فيما يعلم، مسير فيما لا يعلم، وهذا الزعم واسع فضفاض لا يسوغ القول به، لأن قاعدته محصورة غير مطردة، وفي تعميمها خطر فادح، وخطأ فاحش.
ثم أراد أن يهذب هذا القول فقال : ولما كان علمه قليلا - بنص القرآن - كان مسيرا في الأغلب أكثر منه مختاراً.
وهذا القول الفلسفي المنطقي مقبول وسائغ على سبيل التندر والفذلكة، لكنه يجافي الحقيقة، بل ويعارضها تماما.
من المتعذر تماماً بل من المحال الزعم بأن الانسان مخير، وكذلك القول بأنه مسير لكن الحق أنه مسير في أشياء مخير في أخرى ولو كان مسيرا في كل الأحوال لما ساغ ولما جاز ابدأ أن يكون مسؤولا عن شيء إذ إن الاختيار بين البدائل هما مناط المسؤولية .. فلا يمكن أبدأ بحال أن تكون مسؤولا عن شيء قارفته أو ارتكبته عن قسر وارغام إذ إن الارغام والاستكراه يطرحان المسؤولية عن المقارف والمرتكب للفعل.
وهذه من أمهات القواعد والأصول الشرعية المفروغ منها .. ولذلك كان الانسان حرا في أن يعتقد ما يشاء، قال تعالى : * لا إكراه في الدين فإن مهمة الرسل البلاغ والتبيين، والدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة في غير قهر ولا فسر ولا استكراه ولا حمل على دين الله عنوة ...
إنما بالاختيار الحر المطلق، وذلك حتى يكون الانسان مسؤولا مسؤولية كاملة عن اختياره الذي انتهى اليه بمحض ارادته من غير حمل عليه.
ولا تصح أبدأ مساءلة المكره على أمر لم يكن أراده، لأن في محاسبته ظلما وعدواناً صارخا .. وهذا الظلم تتنزه عنه الشريعة السمحة الغراء.
إن الله سبحانه وتعالى أجل وأعظم وأكرم من أن يحاسب عباده على ما لا يطبقون، وكذلك على ما أجبروا عليه ولم يكونوا متعمدين له، قاصدين إياه.
المكلف حر حرية مطلقة في أن ينظر إلى المرئيات أو لا ينظر، وكذا حر في أن يأكل أو لا يأكل، ويشرب أو لا يشر فكل فعل من هذه الأفعال مرهون برغبته الذاتية في ذلك.
لكن لا سيطرة للانسان على قلبه ولا رئتيه، فهو عند النوم وهو الوفاة الصغري، يكون غائباً عن الوجود تماما، منفصلاً عن الوجود، ومع هذا فإن قليه لا يتوقف عند النوم، وكذلك الرئتان وعملية التنفس لا يمكن أن تتوقف لحظة واحدة، كذا الكبد يمارس عمله في النوم واليقظة على حد سواء في اختزان الدهون، ومعادلة السموم، وتخليق كثير من المواد البيولوجية الحساسة ذات الأثر الظاهر في حياة الكائن، الأمر نفسه يحدث للكلى والجهاز البولي والمعدة والأمعاء والجهاز الهضمي وغيره من الأجهزة والأعضاء الحيوية النشيطة، التي لا حياة بدونها، ومع توقفها تتوقف الحياة.
قال تعالى : * إلا من أكره وقلبه مطمئن بالایمان » «سورة النحل - الآية 106 ... قال المفسرون : نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر إذ عذبه المشركون عذابا أليما حتى أعطاهم ما أرادوا منه مكرها مقهورا عليه، فقال الناس : إن عماراً كفر .. فقال رسول الله ﷺ : إن عماراً مليء إيمانا من فرقه إلى قدمه.
واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله ، وهو يبكي، فقال له رسول الله ﷺ : كيف تجد قلبك قال عمار : مطمئنا بالايمان، قال : إن عادوا فعد. (انظر التفسير الكبير للفخر الرازي ١٢١/٢٠ بتصرف).
وقال رسول الله ﷺ «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقد أخرجه الإمام السيوطي في الجامع الصغير، عن ثوبان ٤٤٦١/٢۷۳/۱ وصححه، فالاستكراه موجب للعفو.
كذا قال عليه الصلاة والسلام : «رفع القلم عن ثلاثة : عن المجنون حتى يفيق (وفي رواية : عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرا) وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وقد رواه أبو داود في السنن والحاكم في المستدرك والامام أحمد في المسند، والسيوطي في الصغير ۲۷۳/۱/٤٤٦٣ ومؤدي هذا الحديث الشريف أن المجنون (غائب العقل) مثله تماماً مثل الطفل الذي لم يدرك الحلم، مثل النائم حيث لا قدرة له على الاختيار بين البدائل، من ثم يفتقد موجب ذلك حيث ان مدار الاختيار على العقل ومتى غاب العقل تعطلت هذه الخاصية فيه، ومتى عجز عن ذلك كان معذوراً ولم يكن مأخوذاً بجرمه ولا مجزيا بجريرته .. وهذا من حسن الشريعة الاسلامية وعدلها وقسطها.
يعمد كثير من الناس إلى القول بالتسيير والجبر في كثير من المسائل للهروب من المسؤولية والتحرر من التكليف مستدلين باستدلات خاطئة، ويقيسون بأقيسة فاسدة، ومحتجين بالقضاء والقدر .. وفي كل هذه الأحوال يصادمون الحق، ويمرقون من سبيل النجاة بتأويلات متكلفة، وتبريرات مدخولة فاسدة.
إن الاحتجاج بالقدر جريمة نكراء والقول بالتسيير لا يختلف عنها شيئاً، وفي كلا القولين إضرار فادح وخطر جسيم على عقيدة الانسان، بل على مصيره وعلى درجته عند الله تعالى.
إن وجهة الفساد أن الانسان المحتج بالقدر وكذا بالتسيير يستطيع أن يفعل ما يشاء كيفما يشاء وقتما يشاء من غير حسيب أو رقيب، وعند سؤاله ومحاسبته على ذلك يقول : لقد كان قدراً أن أفعل ذلك وليس لي من الأمر شيء .. ولو أراد الله ألا أفعل ذلك ما فعلته .. وهذا القول المدهون، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب لانطوائه على التحلل من التكليفات، والتحرر من الضوابط الشرعية المرعية، بهذه الدعوى الباطلة المدخولة.
ولو أن الأمر كان مصروفاً وموقوفاً على أفناء الناس وعوامهم ودهمائهم لكان الأمر أيسر، وأهون نسبيا، ولكن نقرأ في كتب بعض المؤلفين القدامي شيئا من هذا، وهم من العلماء المتبوعين.
ولا نستطيع أن نقدح في علم عالم ولا في اجتهاده إلا بدليل بات مقطوع به.
لكن على الجملة لابد أن يكون العالم الذي يحتج بشيء من هذا ـ لابد أن يكون متأولا، وبهذا التأويل يكون معذورا والمجتهد المخطىء لا يحرمه الله سبحانه وتعالى من أجر؛ لكن كل الذي نرجوه ونطمع فيه ونطمح اليه ألا يكون التأويل مسلكا لكل من يريد التحول عن الحقيقة إلى غيرها بغير موجب ولا مسوغ لذلك .. إذ إن التأويل مشروط ومقيد وليس مطلقاً وهو لا يكون إلا إذا اقتضته ضرورة ملحة .. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان الحمل على الظاهر مستحيلاً تماماً.
لذلك فإننا نستطيع القول بأن الانسان له مطلق الرأي والحرية في اختيار عقيدته، وهذه الحرية مكفولة لا يقيدها قيد، ولا يحصرها حاصر.
قال تعالى : * وما جعل عليكم في الدين من حرج - سورة الحج - الآية ۷۸». وقال أيضا : * وهـديـنـاه الـتـجـدين - سورة البلد - الآية 10.
والنجدان : هما طريقا الخير، والشر، على ما ذهب اليه ابن مسعود والحسن ومجاهد وابن زيد، والمشهور عن ابن عباس رضى الله عنهما ـ وقد روى ابن عباس في رواية أخرى عنه ووافق عليها علي وابن المسيب والضحاك وهي أن النجدين هما الثديان، والأول أيده ابن قتيبة وهو الراجح والله أعلم (راجع القرطبي ٦٥/٢٠ والطبري ١٢٧/٣٠ والبحر المحيط لأبي حيان ٤٤٦/٨) وقال ابن مسعود : (النجدين) : الخير والشر، كقوله تعالى : « إنا هديناه السبيل إما شاكرا واما كفورا - سورة الانسان - الآية ٣، (انظر مختصر ابن کثیر ٦٤١/٣).
هذه الآيات ونظائرها تدل دلالة قاطعة على أنك أيها الانسان مجزي بعملك ان خيرا فخير، وإن شرا فشر، وما أبرىء نفسي .. بل إنني لأنصح نفسي وأبدأ بها وإياكم أن نستعين بالله ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سیئات أعمالنا، ونتوكل عليه، ونلوذ برحابه ونضوي إلى جنابه فمن استعان به أعانه، ومن استعاذ به أعاذه، ومن لجأ اليه فهو حسبه وحسيبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تكملة المقال فى التعليقات
اللهم تقبل من أبى
صلاته ، وصيامه لك ، وسائر طاعاته ، وصالح أعماله ، وأثقل بها ميزانه يوم القيامة ، وثبِّته على الصراط يوم تزل الأقدام ، واجعله من الفائزين ، وأسكِنه في أعلى الجنات في جوار نبيِّك ومصطفاك ﷺ .. يا رب العالمين