دأب الصهيونيون منذ بداية استيطانهم في فلسطين في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، وهما بداية وصول اليهود الروس إليها، على لوم العرب الفلسطينيين لأنهم عارضوا استيطانهم. وكانت ذروة هذا اللوم في سنوات الانتفاضة الأولى عندما استخدم الرصاص المطاطي الذي يكسر العظام إلى جانب الوسائل الأخرى بأمر من «رابين». وتعالت أصوات الاحتجاج في العالم لاسيما ضداً على قتل الاطفال وتكسير عظامهم، وقالت الدوائر الاسرائيلية غير مرة رداً على الاحتجاجات إن الفلسطينيين يرغمونهم على قتلهم، بينما هم لا يرغبون البتة في ذلك بحكم تمسكهم بأخلاقيات يهودية خاصة؛ ومن هنا فإن المسؤول عن قتل الفلسطينيين صغاراً وكباراً ورجالاً ونساءً هم الفلسطينيون، وزاد شارون على ذلك: أنه لايحق لأحد أن يحاكم اليهود، إذ لا يوجد من يملك هذا الحق الأخلاقي على شعب اضطهد بجرائم مطلقة لا نظير لها في تاريخ البشرية وهي التي منحت هذا الشعب تميزاً مطلقاً يعصمه من أي نقد. وهذه صيغة عصرية لفكرة شعب الله المختار، التي نقضتها المسيحية، وقد طغت بشاعات وفظائع المحرقة لقتل الشعب الفلسطيني واحتلال وطنه بعد اجتثاثه ونفيه.
إن لوم الضحية نزوع عميق عند كل ظالم وجلاد يحاول به تبرير أفعاله وإلقاء الذنب على الضحية، وإن تفاوت الجرم بين ظالم وآخر. ولا يستغرب لذلك قول السلطة التي تدافع عن جرائمها في الجنوب بدخان ثخين من الشعارات الدينية والوطنية والوحدوية. وقد أخذت الأحزاب الاخرى تنتقل بالتدريج من النقد الخجول لاعتصامات الجنوب بدعوى معارضة بعض الشعارات التي رفعت هنا أو هناك مرة أو مرتين، حتى أعلن بعضها صراحة أن السبب هو يد الخارج التي يراها في كل مكان فيخوّن الجنوبيين بالجملة، تماماً كما فعل الديلمي في أيام حرب العام 94، فأعلن سعيد شمسان رئيس الدائرة السياسية في الاصلاح أن «هناك أيادي خارجية تقف وراء هذه القضية»، (الايام 24/11/2007). إن مما يثير الحزن والغضب معاً أن يصاب بعضنا من الرجال والنساء بعدوى لغة العنف والصلف الرسمية، فتقرأ في الأيام، 9/9/2007، قول إحدى السيدات بمناسبة مهرجان عدن بصنعاء الذي أقامه بيت الموروث الشعبي: إنه جاء في أوانه، لأننا بحاجة إلى «إعادة التقاليد» وأننا على أرض واحدة، مع عودة «النزعات المناطقية والأصوات العدوانية والمناطقية». وقد علا منذ اعتصامات الجنوب السلمية كلام الكراهية الأجش مترافقاً وأزيز الرصاص منذ يوم 7/7/2007. إن صفة العدوانية تلصق بالذين سقطوا منذ هذا اليوم، وكان يوم 1/9/2007 استمراراً للخميس الدامي 2/8/2007. وبين هذا الكلام، الذي يفتقر لا إلى الرصانة السياسية العقلانية بل وإلى الخلفية السياسية، مسافة زمنية قدرها ثمانية أيام من 1/9/2007 يوم سقط الشاب صلاح القحوم برصاص السلطة في المكلا.
واتساقاً مع عدوانية الجنوبيين يكونون هم الذين أرغموا السلطة على إطلاق النار القاتل هو المقتول والضحية هو الجلاد!!. إن الأساس الذي يقوم عليه هذا التوحد هو لوم الضحية لأنها قاومت وتقاوم سلطة ترى نفسها إن لم تكن صاحبة حق مطلق كما في لغة شارون، فهي تملك ثقافة حصانة تعفيها من المساءلة، لأنها تحمي مبدأ مطلقاً، هو الوحدة. وهكذا يتوحد الموقفان في لاهوت سياسي بمصطلح «جون آبتر» كثيراً ما يصعب تمييزه عن اللاهوت الصرف، لأنه يمتلك قداسته نفسها وإن في صيغة دنيوية علمانية، ويرفض النسبية التي هي سمة كل جهد بشري فيمنح نفسه صفة الإطلاق،فيخرج من إطار عقلانية السياسة التي أصبحت علماً اجتماعياً مستقلاً عن لاهوت الكنيسة منذ ماكيافيللي.
يصاحب هذا اللون من «الوعي اليومي» (الشهيد مهدي عامل) خفة في استخدام الكلمات تزداد رعونة في واقع اليمن الثقافي. يصف مراسل صحيفة المصدر تشييع شهداء المنصة في الحبيلين: «وحقيقة لم ترفع أية شعارات عنصرية أو انفصالية إذا ما تم احتساب شعار بالروح بالدم نفديك ياجنوب من باب حسن النية». (العدد5، 11/12/2007) ومن الواضح أن سوء الظن الذي قال عنه العرب إنه من حسن الفطن يحميه من حسن النية، فالجنوبيون بالتعريف في نظره يرفعون شعارات انفصالية وعنصرية!! وإذا أمكن فهم مفهوم الانفصالية، فإنه يتعذر فهم الشعارات العنصرية، فهذه سمة لازمت أنظمة عرقية في جنوب أفريقيا والبرتغال، وهي جزء من فاشية تقوم على نظريات عرقية معروفة في الفكر الغربي الحديث والمعاصر ويستحيل أن نجد لها نظيراً في حركة سياسية تطمح نحو حق تقرير المصير في الجنوب أو في فلسطين. إن وراء هذه الخفة فجوات فكرية وثقافية عند صحافيي اليمن السعيد. ولن نناقش هنا باستفاضة أن الانفصال أو الوحدة رأيان سياسيان لا يملك أحدهما بالتعريف أية قيمة فكرية أو أخلاقية بمعزل عن مبدأ المصلحة التي تعزز في النهاية سلامة هذا الموقف أو ذاك وفقاً لتاريخية صارمة لا مكان فيها للاعتبارات العاطفية أو اللاهوتية بنوعيها السياسية والدينية.
إن تجريم مقاومة الجنوبيين السلمية والمشروعة دفاع عن جرائم السلطة وانحياز صريح للوحدة القائمة. يختار صحافي آخر حديث الكراهية، في «النداء» 12/12/2007، وربطه بشعار «لا حزبية بعد اليوم» الذي سمع في الموكب الجليل نفسه، والكراهية هنا مقحمة على السياق وفرضها حكماً مسبقا على النضال السلمي الذي يشنه الجنوبيون من نحو تسعة أشهر وهو حديث كثيراً ما يكون إسقاطاً، كما كان واضحاً في أحاديث الراحل السادات عن الحقد. ويبدو أن رفض الحزبية في هذا السياق هو بالتحديد رفض لوصاية المشترك والذي لم يقل أي طرف فيه كلمة في اتهامات الاصلاح التي بدت سافرة في حديث شمسان، بعد أن كانت عامة في كلام الآنسي، وإنشائية فاقعة في حديث اليدومي عن الاستعداد لكل آفات الوجود في سبيل الوحدة بما في ذلك الموت في سبيلها، لا شك أنه يقصد موت الآخر، كما في تعريف للصهيوني الأمريكي يجعله ذلك الذي يتبرع لترحيل يهودي آخر إلى فلسطين.
واليدومي صاحب مشروع التهجين المشهور الذي يطمح إلى تحسين سلالات الجنوبيين، جزاه الله عنهم خيراً.
إن الخفة في أقصى درجاتها تتمثل في لوم الضحية على هذه الشاكلة وتحجب عنها يد القاتل الملطحة بالدم وعسف الناهبين وقهر جنود القمع وضباطه. وكلها أفعال لها صفات الروتين اليومي. ففي أساسها «القانوني» والخلقي والسياسي نظرة تمييزية، هي التي يمكن أن تكون قريبة بمعنى من المعاني من العنصرية وإن لم تتطابق معها، لأنها تصدر عن ذهنية قبيلية وليست نظرية بالمعنى الدقيق للكملة، وهي تتوحد بمفهوم الحصرية الذي نجده في هذه الذهنية، وتمثلها في شعرنا القديم عمرو بن كلثوم .
بعد صمت طويل يكاد يكون كاملاً عن الكلام المباح في القضية الجنوبية تزحزح كلام الصحافة الحزبية وغير الحزبية من نقطة إلى أخرى، ومع بلوغ أصحاب القضية ذروة جديدة في مقاومتهم السلمية المدهشة التي عمت كل أرجاء الجنوب لتؤكد أنها قضية الجميع وكل واحد وليست راية مجموعة تحن إلى السلطة الضائعة أو فورة غضب عابرة. أصبح الجنوب بدلالته السياسية الكاملة هو القضية، عند هذه النقطة أخذت لغة الصحافة الحزبية وغير الحزبية تعانق الكلام الرسمي في وحدة إيمان تقوم على هرطقة سياسية جامحة ومتغطرسة ليؤكد حلفاً غير مقدس ضداً على شعب يريد ممارسة حقه في تقرير مصيره، وهو حق يتوهم بعض الصحافيين أنه لا يستقيم إلا في وجه الاستعمار الخارجي، بينما يراه آخرون كفراً محضاً وخروجاً عن رابطة الدين أو خيانة وطنية وخروجاً عن صراط الوطن المستقيم، وكل هذا كلام خارج السياسة وذرائع تبرير ايديولوجي، أي ضلال وعي يزيف الواقع باعتماد تصور صاحبه للواقع على أنه مطابق له باسم الدين أو الوطنية أو القومية، إنه كلام مستقل عن الواقع ومطالبه ومتعال عليه لأنه منفصل عنه وعنها. ولذا تبدو أفعال واقوال الجنوبيين متقدمة وناجحة في ميزان الفكر السياسي والممارسة السياسية عند مقارنتها باللغة الرسمية وكلام الصحف الحزبية، وغير الحزبية، وهذه علامة فارقة هي ثمرة وعي سياسي جنوبي تشكل منذ ثلاثينات القرن الماضي، ضفرته الجهود النقابية ثم النقابية السياسية. فالسياسة التي تستند إلى فكر ونظرية، وحتى في سنوات حكم «الاشتراكي» تميزت الحياة في الجنوب بدرجة من التسييس كبيرة هي نتاج مكثف لذلك التاريخ، وإن فت في عضده قيد الحزب الواحد واحتكار التفكير من قبل قلة لا تجيد التفكير السياسي الرشيد، فقذفت بالجنوب في أتون وحدة لم يحن أوانها، فصدق فيها قول قديم: «من طلب الشيئ قبل أوانه عوقب بحرمانه». و«الوعي اليومي» السائد في الكلام السياسي الرسمي والاهلي في الشمال يناصب الجنوب العداء ويريد حرمانه من حق أساسي من حقوق الانسان، ألا وهو حق تقرير المصير، وهو بامتياز حق سياسي وليس معارك للحقوق الثقافية، أو الفدرالية أو ما في حكمهما، كما كان الشعار يفسر احياناً قبل الحرب العالمية الاولى. وأما مؤتمرات حاشد التي توحدت بالدولة فهي أشد ضلالاً من الجميع، اذ تدعي لنفسها وصاية على الجميع، بما في ذلك الجنوب. عظام قبيلي جامح.
إن من يشطح في تنضيد الأوصاف كلما تحدث عن قضية الجنوب، عليه/ عليها أن يترفق بما تبقى من مشاعر الألفة بين الناس، وألا يكون شاعر القبيلة/ السلطة أو كاتبها وهو ينثر تلك الأوصاف، وأن يدرك أن يبدو له جموحاً في الكلام السياسي الجنوبي هو رد الفعل لجموح القتل والإستغلال والإزدراء، وكلها جعلت من وحدة الصفقة التي أنتجت حرب 7/7/94 إلغاءً لكل وحدة قادمة بعد هذا اليوم، رفقاً بالوحدة إن كنتم حقاً حريصين عليها في مستقبل متحرر من الحرب والاستغلال والإذلال، فالوحدة مثل الحرية تكون أو لا تكون، والمواطنة إما أن تكون أو لا تكون، لأن ما خلاها إنما هو «بدون» الشهيرة، ولذا تبدو كلمة المتساوية التي تضاف إليها حشواً لا معنى له. كما أن كل عقد اجتماعي يقبل التجديد دائماً كما يقبل الإلغاء، فالحاكم محكوم بقرار التجديد المتواتر، ولذا «فالسلطة لا تعيش على القوة بل على القبول». وسماع أو قراءة أخبار يوم واحد من أيام الجنوب يؤكد هذا القول الرشيد.
15/12/2007
لو فكر الصحافيون الوحدويون قليلاً في تصريحات نسبت علناً إلى الأحمر الأب -شفاه الله وعافاه- وإلى اليدومي ومشروع التهجين المعلن، ثم أخيراً حديث حكيم المؤتمر عن صومال حضرموت، لوجدوها أقرب إلى عنصرية بدوية ارتجالية، ولكنها في العمق توجه السلوك الرسمي نحو مئات الآلاف من مواطني أكبر حاضرتين في الجنوب، عدن والمكلا، وتعايش وتثاقف المواطنين فيهما يعود إلى نحو أربعة قرون ألم تصل الذهنية القبيلية ذروة بؤسها وقماءتها في الحديث عن البيض البلوشي والعطاس الأندنوسي!!.
***
الوحدة الفورية الاندماجية في وجود القضية الجنوبية
«.. أما عدن كملوها..»
هذه الكلمات وردت في اللقاء الصحافي الذي أجرته «النداء» مع الشيخ سنان أبو لحوم، والصراحة التي وردت في غير حديث له قد تكفر عن جزء من مشاركته في صنع السياسة في الجمهورية العربية اليمنية، التي انتفضت كاملة الضراوة وبشهوة متجددة للنهب والقتل بعد 7/7/94. وفي إشارته إلى أن الشماليين يقدسون الزلط توصيف لأهم مقومات السلطنة في كل عصورها، وإنصافه الجنوبيين جدير بالثناء، ولا أشك في أن السنوات التي قضاها هناك أثرت في نظرته إليهم، وهو يرد الجميل بمثله إلى من استضافوه وكرموه بصدق ولوجه الله في سنوات الشدة عندما لجأ إلى لحج وعدن هروباً من جحيم الإمامة، ومقابلاته الصحافية تستحق تحليلاً خاصاً، وقبل ذلك مذكراته الكاشفة الفاضحة لسجون خرافه «الذات اليمنية».
تذكرت أحاديث الرجل، له طيب العافية وهناء الصحة، وأنا أقرأ موضوعاً كتبه أبو هبة ياسين في الثوري 10/11/2008، فقد قدم مسحاً جيداً لاسيما لما صرف من الأراضي والمواقع في العام 2007، وكلها بأمر الرئيس، وإن وردت كلمة من صنعاء غير مرة في هذا السياق. فالصرف في عدن في يده فقط. وعند الانتهاء من قراءة الموضوع توقن أنهم كملوها فعلاً من معاشيق إلى بير فضل إلى العلم. صرفت عدن قطعة قطعة ديات وأروش. تذكرت ما كتبه المؤرخ المقريزي عن عبث صلاح الدين الايوبي بأراضي وادي النيل وفلسطين، وغرائب أفعال قراقوش الذي كان يخلفه في القاهرة إذا ما غادرها. وفي الكحلاني، المندوب السامي اليماني، ما يشبه أعمال قراقوش من حيث تنفيذ الصرف والبطش وتمكين المؤسسة الاقتصادية وخظر دخول عدن على أتباع الجنوب للمرة الثانية خلال ستة أشهر.
تحدى الكاتب السلطة أن تنشر تقرير الزميل باصرة، رغم أنه لايصدق الرقم الذي أورده التقرير، أي 15 متنفيذاً نهبوا عدن والجنوب. إن مالم يذكره التقرير، أي المسكوت عنه، هو الأخطر ألا وهو أن الرئيس وثلة من الأقرباء والأحباب الأبرار هم بداية كل سطو ونهب، ولذا يبدو أن تعليق الأمل على حل بالقطعة أو بالجملة مع استمرار هذه السلطة وهم قاتل، فكل ما يجري يتم وكأن عدن والجنوب أرض بلا شعب، فتمنح أرضاً وسماءً وبحراً لممثلي قاعدة الحكم الاجتماعية.
كان الاستعمار الكولونيالي يلغي الشعب الذي يستعمره بما هو ذات تاريخية لأنها لم تبلغ الرشد، أما شعار «أرض بلا شعب» فيلغي الشعب بما هو وجود. هذا ما حدث في فلسطين واليمن الجنوبي، ورغم ذلك يشكك عشاق الوحدة الفورية الإندماجية في وجود القضية الجنوبية.
أ. س
11/1/2008
إن لوم الضحية نزوع عميق عند كل ظالم وجلاد يحاول به تبرير أفعاله وإلقاء الذنب على الضحية، وإن تفاوت الجرم بين ظالم وآخر. ولا يستغرب لذلك قول السلطة التي تدافع عن جرائمها في الجنوب بدخان ثخين من الشعارات الدينية والوطنية والوحدوية. وقد أخذت الأحزاب الاخرى تنتقل بالتدريج من النقد الخجول لاعتصامات الجنوب بدعوى معارضة بعض الشعارات التي رفعت هنا أو هناك مرة أو مرتين، حتى أعلن بعضها صراحة أن السبب هو يد الخارج التي يراها في كل مكان فيخوّن الجنوبيين بالجملة، تماماً كما فعل الديلمي في أيام حرب العام 94، فأعلن سعيد شمسان رئيس الدائرة السياسية في الاصلاح أن «هناك أيادي خارجية تقف وراء هذه القضية»، (الايام 24/11/2007). إن مما يثير الحزن والغضب معاً أن يصاب بعضنا من الرجال والنساء بعدوى لغة العنف والصلف الرسمية، فتقرأ في الأيام، 9/9/2007، قول إحدى السيدات بمناسبة مهرجان عدن بصنعاء الذي أقامه بيت الموروث الشعبي: إنه جاء في أوانه، لأننا بحاجة إلى «إعادة التقاليد» وأننا على أرض واحدة، مع عودة «النزعات المناطقية والأصوات العدوانية والمناطقية». وقد علا منذ اعتصامات الجنوب السلمية كلام الكراهية الأجش مترافقاً وأزيز الرصاص منذ يوم 7/7/2007. إن صفة العدوانية تلصق بالذين سقطوا منذ هذا اليوم، وكان يوم 1/9/2007 استمراراً للخميس الدامي 2/8/2007. وبين هذا الكلام، الذي يفتقر لا إلى الرصانة السياسية العقلانية بل وإلى الخلفية السياسية، مسافة زمنية قدرها ثمانية أيام من 1/9/2007 يوم سقط الشاب صلاح القحوم برصاص السلطة في المكلا.
واتساقاً مع عدوانية الجنوبيين يكونون هم الذين أرغموا السلطة على إطلاق النار القاتل هو المقتول والضحية هو الجلاد!!. إن الأساس الذي يقوم عليه هذا التوحد هو لوم الضحية لأنها قاومت وتقاوم سلطة ترى نفسها إن لم تكن صاحبة حق مطلق كما في لغة شارون، فهي تملك ثقافة حصانة تعفيها من المساءلة، لأنها تحمي مبدأ مطلقاً، هو الوحدة. وهكذا يتوحد الموقفان في لاهوت سياسي بمصطلح «جون آبتر» كثيراً ما يصعب تمييزه عن اللاهوت الصرف، لأنه يمتلك قداسته نفسها وإن في صيغة دنيوية علمانية، ويرفض النسبية التي هي سمة كل جهد بشري فيمنح نفسه صفة الإطلاق،فيخرج من إطار عقلانية السياسة التي أصبحت علماً اجتماعياً مستقلاً عن لاهوت الكنيسة منذ ماكيافيللي.
يصاحب هذا اللون من «الوعي اليومي» (الشهيد مهدي عامل) خفة في استخدام الكلمات تزداد رعونة في واقع اليمن الثقافي. يصف مراسل صحيفة المصدر تشييع شهداء المنصة في الحبيلين: «وحقيقة لم ترفع أية شعارات عنصرية أو انفصالية إذا ما تم احتساب شعار بالروح بالدم نفديك ياجنوب من باب حسن النية». (العدد5، 11/12/2007) ومن الواضح أن سوء الظن الذي قال عنه العرب إنه من حسن الفطن يحميه من حسن النية، فالجنوبيون بالتعريف في نظره يرفعون شعارات انفصالية وعنصرية!! وإذا أمكن فهم مفهوم الانفصالية، فإنه يتعذر فهم الشعارات العنصرية، فهذه سمة لازمت أنظمة عرقية في جنوب أفريقيا والبرتغال، وهي جزء من فاشية تقوم على نظريات عرقية معروفة في الفكر الغربي الحديث والمعاصر ويستحيل أن نجد لها نظيراً في حركة سياسية تطمح نحو حق تقرير المصير في الجنوب أو في فلسطين. إن وراء هذه الخفة فجوات فكرية وثقافية عند صحافيي اليمن السعيد. ولن نناقش هنا باستفاضة أن الانفصال أو الوحدة رأيان سياسيان لا يملك أحدهما بالتعريف أية قيمة فكرية أو أخلاقية بمعزل عن مبدأ المصلحة التي تعزز في النهاية سلامة هذا الموقف أو ذاك وفقاً لتاريخية صارمة لا مكان فيها للاعتبارات العاطفية أو اللاهوتية بنوعيها السياسية والدينية.
إن تجريم مقاومة الجنوبيين السلمية والمشروعة دفاع عن جرائم السلطة وانحياز صريح للوحدة القائمة. يختار صحافي آخر حديث الكراهية، في «النداء» 12/12/2007، وربطه بشعار «لا حزبية بعد اليوم» الذي سمع في الموكب الجليل نفسه، والكراهية هنا مقحمة على السياق وفرضها حكماً مسبقا على النضال السلمي الذي يشنه الجنوبيون من نحو تسعة أشهر وهو حديث كثيراً ما يكون إسقاطاً، كما كان واضحاً في أحاديث الراحل السادات عن الحقد. ويبدو أن رفض الحزبية في هذا السياق هو بالتحديد رفض لوصاية المشترك والذي لم يقل أي طرف فيه كلمة في اتهامات الاصلاح التي بدت سافرة في حديث شمسان، بعد أن كانت عامة في كلام الآنسي، وإنشائية فاقعة في حديث اليدومي عن الاستعداد لكل آفات الوجود في سبيل الوحدة بما في ذلك الموت في سبيلها، لا شك أنه يقصد موت الآخر، كما في تعريف للصهيوني الأمريكي يجعله ذلك الذي يتبرع لترحيل يهودي آخر إلى فلسطين.
واليدومي صاحب مشروع التهجين المشهور الذي يطمح إلى تحسين سلالات الجنوبيين، جزاه الله عنهم خيراً.
إن الخفة في أقصى درجاتها تتمثل في لوم الضحية على هذه الشاكلة وتحجب عنها يد القاتل الملطحة بالدم وعسف الناهبين وقهر جنود القمع وضباطه. وكلها أفعال لها صفات الروتين اليومي. ففي أساسها «القانوني» والخلقي والسياسي نظرة تمييزية، هي التي يمكن أن تكون قريبة بمعنى من المعاني من العنصرية وإن لم تتطابق معها، لأنها تصدر عن ذهنية قبيلية وليست نظرية بالمعنى الدقيق للكملة، وهي تتوحد بمفهوم الحصرية الذي نجده في هذه الذهنية، وتمثلها في شعرنا القديم عمرو بن كلثوم .
بعد صمت طويل يكاد يكون كاملاً عن الكلام المباح في القضية الجنوبية تزحزح كلام الصحافة الحزبية وغير الحزبية من نقطة إلى أخرى، ومع بلوغ أصحاب القضية ذروة جديدة في مقاومتهم السلمية المدهشة التي عمت كل أرجاء الجنوب لتؤكد أنها قضية الجميع وكل واحد وليست راية مجموعة تحن إلى السلطة الضائعة أو فورة غضب عابرة. أصبح الجنوب بدلالته السياسية الكاملة هو القضية، عند هذه النقطة أخذت لغة الصحافة الحزبية وغير الحزبية تعانق الكلام الرسمي في وحدة إيمان تقوم على هرطقة سياسية جامحة ومتغطرسة ليؤكد حلفاً غير مقدس ضداً على شعب يريد ممارسة حقه في تقرير مصيره، وهو حق يتوهم بعض الصحافيين أنه لا يستقيم إلا في وجه الاستعمار الخارجي، بينما يراه آخرون كفراً محضاً وخروجاً عن رابطة الدين أو خيانة وطنية وخروجاً عن صراط الوطن المستقيم، وكل هذا كلام خارج السياسة وذرائع تبرير ايديولوجي، أي ضلال وعي يزيف الواقع باعتماد تصور صاحبه للواقع على أنه مطابق له باسم الدين أو الوطنية أو القومية، إنه كلام مستقل عن الواقع ومطالبه ومتعال عليه لأنه منفصل عنه وعنها. ولذا تبدو أفعال واقوال الجنوبيين متقدمة وناجحة في ميزان الفكر السياسي والممارسة السياسية عند مقارنتها باللغة الرسمية وكلام الصحف الحزبية، وغير الحزبية، وهذه علامة فارقة هي ثمرة وعي سياسي جنوبي تشكل منذ ثلاثينات القرن الماضي، ضفرته الجهود النقابية ثم النقابية السياسية. فالسياسة التي تستند إلى فكر ونظرية، وحتى في سنوات حكم «الاشتراكي» تميزت الحياة في الجنوب بدرجة من التسييس كبيرة هي نتاج مكثف لذلك التاريخ، وإن فت في عضده قيد الحزب الواحد واحتكار التفكير من قبل قلة لا تجيد التفكير السياسي الرشيد، فقذفت بالجنوب في أتون وحدة لم يحن أوانها، فصدق فيها قول قديم: «من طلب الشيئ قبل أوانه عوقب بحرمانه». و«الوعي اليومي» السائد في الكلام السياسي الرسمي والاهلي في الشمال يناصب الجنوب العداء ويريد حرمانه من حق أساسي من حقوق الانسان، ألا وهو حق تقرير المصير، وهو بامتياز حق سياسي وليس معارك للحقوق الثقافية، أو الفدرالية أو ما في حكمهما، كما كان الشعار يفسر احياناً قبل الحرب العالمية الاولى. وأما مؤتمرات حاشد التي توحدت بالدولة فهي أشد ضلالاً من الجميع، اذ تدعي لنفسها وصاية على الجميع، بما في ذلك الجنوب. عظام قبيلي جامح.
إن من يشطح في تنضيد الأوصاف كلما تحدث عن قضية الجنوب، عليه/ عليها أن يترفق بما تبقى من مشاعر الألفة بين الناس، وألا يكون شاعر القبيلة/ السلطة أو كاتبها وهو ينثر تلك الأوصاف، وأن يدرك أن يبدو له جموحاً في الكلام السياسي الجنوبي هو رد الفعل لجموح القتل والإستغلال والإزدراء، وكلها جعلت من وحدة الصفقة التي أنتجت حرب 7/7/94 إلغاءً لكل وحدة قادمة بعد هذا اليوم، رفقاً بالوحدة إن كنتم حقاً حريصين عليها في مستقبل متحرر من الحرب والاستغلال والإذلال، فالوحدة مثل الحرية تكون أو لا تكون، والمواطنة إما أن تكون أو لا تكون، لأن ما خلاها إنما هو «بدون» الشهيرة، ولذا تبدو كلمة المتساوية التي تضاف إليها حشواً لا معنى له. كما أن كل عقد اجتماعي يقبل التجديد دائماً كما يقبل الإلغاء، فالحاكم محكوم بقرار التجديد المتواتر، ولذا «فالسلطة لا تعيش على القوة بل على القبول». وسماع أو قراءة أخبار يوم واحد من أيام الجنوب يؤكد هذا القول الرشيد.
15/12/2007
لو فكر الصحافيون الوحدويون قليلاً في تصريحات نسبت علناً إلى الأحمر الأب -شفاه الله وعافاه- وإلى اليدومي ومشروع التهجين المعلن، ثم أخيراً حديث حكيم المؤتمر عن صومال حضرموت، لوجدوها أقرب إلى عنصرية بدوية ارتجالية، ولكنها في العمق توجه السلوك الرسمي نحو مئات الآلاف من مواطني أكبر حاضرتين في الجنوب، عدن والمكلا، وتعايش وتثاقف المواطنين فيهما يعود إلى نحو أربعة قرون ألم تصل الذهنية القبيلية ذروة بؤسها وقماءتها في الحديث عن البيض البلوشي والعطاس الأندنوسي!!.
***
الوحدة الفورية الاندماجية في وجود القضية الجنوبية
«.. أما عدن كملوها..»
هذه الكلمات وردت في اللقاء الصحافي الذي أجرته «النداء» مع الشيخ سنان أبو لحوم، والصراحة التي وردت في غير حديث له قد تكفر عن جزء من مشاركته في صنع السياسة في الجمهورية العربية اليمنية، التي انتفضت كاملة الضراوة وبشهوة متجددة للنهب والقتل بعد 7/7/94. وفي إشارته إلى أن الشماليين يقدسون الزلط توصيف لأهم مقومات السلطنة في كل عصورها، وإنصافه الجنوبيين جدير بالثناء، ولا أشك في أن السنوات التي قضاها هناك أثرت في نظرته إليهم، وهو يرد الجميل بمثله إلى من استضافوه وكرموه بصدق ولوجه الله في سنوات الشدة عندما لجأ إلى لحج وعدن هروباً من جحيم الإمامة، ومقابلاته الصحافية تستحق تحليلاً خاصاً، وقبل ذلك مذكراته الكاشفة الفاضحة لسجون خرافه «الذات اليمنية».
تذكرت أحاديث الرجل، له طيب العافية وهناء الصحة، وأنا أقرأ موضوعاً كتبه أبو هبة ياسين في الثوري 10/11/2008، فقد قدم مسحاً جيداً لاسيما لما صرف من الأراضي والمواقع في العام 2007، وكلها بأمر الرئيس، وإن وردت كلمة من صنعاء غير مرة في هذا السياق. فالصرف في عدن في يده فقط. وعند الانتهاء من قراءة الموضوع توقن أنهم كملوها فعلاً من معاشيق إلى بير فضل إلى العلم. صرفت عدن قطعة قطعة ديات وأروش. تذكرت ما كتبه المؤرخ المقريزي عن عبث صلاح الدين الايوبي بأراضي وادي النيل وفلسطين، وغرائب أفعال قراقوش الذي كان يخلفه في القاهرة إذا ما غادرها. وفي الكحلاني، المندوب السامي اليماني، ما يشبه أعمال قراقوش من حيث تنفيذ الصرف والبطش وتمكين المؤسسة الاقتصادية وخظر دخول عدن على أتباع الجنوب للمرة الثانية خلال ستة أشهر.
تحدى الكاتب السلطة أن تنشر تقرير الزميل باصرة، رغم أنه لايصدق الرقم الذي أورده التقرير، أي 15 متنفيذاً نهبوا عدن والجنوب. إن مالم يذكره التقرير، أي المسكوت عنه، هو الأخطر ألا وهو أن الرئيس وثلة من الأقرباء والأحباب الأبرار هم بداية كل سطو ونهب، ولذا يبدو أن تعليق الأمل على حل بالقطعة أو بالجملة مع استمرار هذه السلطة وهم قاتل، فكل ما يجري يتم وكأن عدن والجنوب أرض بلا شعب، فتمنح أرضاً وسماءً وبحراً لممثلي قاعدة الحكم الاجتماعية.
كان الاستعمار الكولونيالي يلغي الشعب الذي يستعمره بما هو ذات تاريخية لأنها لم تبلغ الرشد، أما شعار «أرض بلا شعب» فيلغي الشعب بما هو وجود. هذا ما حدث في فلسطين واليمن الجنوبي، ورغم ذلك يشكك عشاق الوحدة الفورية الإندماجية في وجود القضية الجنوبية.
أ. س
11/1/2008